مِــــن أجْلهـــم



أيقن منذ البداية ،أنّ البكاء على الأطلال لن يعيد البناء، وأن اليأس والإحباط لن يُنجبا قرشا واحدا .

أحكم القَدَرُ الخناق حوله ،وأجبره على التخلّي عن ثوابت أساسية ،وطّدها خلال ما سلف من عمره المشحون بالكابة. كان مستعدا ،لمزاولة أيّ عمل يعيد رمق الحياة إلى عروق أولاده ،ويُسكت قرقرة أمعائهم، حتى وإن لم يتناسب مع الشهادة التي يحملها وكان يتبجح كلما نهَرَ سائلا، بالقول :

"إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة ."

وكان يصمّ آذان المتسولين، بقصة تقبيل الرسول (ص) ليد الإمام علي (ض) ،عندما عاد من الاحتطاب دامي الكفّين، قائلا له يومها :

"هذه يدٌ يحبها الله ورسوله "

إذاً، فالمقام لم يعد مقام تنظير وفلسفة ،وعليه أن يركب الصعب وينبش الصخر، بحثا عن قوتٍ لعياله .

وقف مع الواقفين ، في رتل طويل أمام مكتب الاستخدام في ميناء( بيروت )،يحدوه أمل عارم للفوز بفرصة عمل .

لم يكن أول الواصلين ،فقد سبقه إلى المكان عشرات الطامحين أمثاله ؛كانوا كتلة بشرية عشوائية، قبل أن تخرج لجنة الفحص لاختيار عدد محدود من العمال ،فما إن زعق رئيس اللجنة آمرا بتشكيل الرتـل، حتى تدافع الرجال ، واحتل الأقوياء منهم مكان الصدارة، فكان نصيب السيد (عماد) ذيل الطابور ؛لكنه فرح أيّما فرح عندما تكاثر الرجال خلفه، فصار في وسط الرتل. حنكته أوحت إليه، أن التكالب على الوقوف في المقدمة لن يعني أفضلية الاختيار لمن سبق ،إذ لا بد من خضوع المتبارين لامتحان يفرز الصالح من الطالح؛ وستجد اللجنة نفسها مجبرة على مضاعفة الشروط المطلوب توافرها في العتّال المناسب.

لم يشأ رئيس اللجنة أن يكون بعيداً عن مسرح الامتحان ،فقد اختار لنفسه طاولة صغيرة نُصبت في مكان ظليل ،وتراخى إلى كرسي فُرجت ساقاه بفعل أرطال اللحم التي أطبقت فوقه. كان أصلع الوجه والرأس ،ضخماً في كل شيء ،تهتز عضلات جسمه كلها حين ينطق، وقد ظلم نفسه إذ لبس سروالاً قصيراً خاكي اللون، فَصَل كرشه المتهدل إلى طبقتين، وترك لصدره الضئيل شرف الاحتواء على الثديين فقط.

تولت عيناه الجاحظتان من خلف نظارته المتربعة فوق أرنبة أنفه مهمة قياس المتباري، والتفرس في دقائق تفاصيله.

بينما تولى مساعده عمليه تحسّس السواعد والعضلات ،ومراقبة حركات المتباري أثناء رفعه (جُرن الكبّة) الصخريّ الثقيل.

فكّر السيد (عماد) في الانسحاب من هذا الابتلاء ،بعد اكتمال المشهد أمامه. حفّزه إلى اتخاذ القرار عدد جَمٌ من الاعتبارات الجوهرية ،ليس أولها تصنيفه مع وزن الريشة، حيث شبهه أحدهم قبل قليل (بفرس النبي) وهو يصافحه ؛فالسيد (عماد) دقيق الساعدين، ضيّق الصدر والوركين، رغم أنه غليظ الصوت، حاد القسمات ؛تلك الميزة التي خلفها في حنجرته عمله في ميناء(حيفا) كمراقب للعمّال، حين كان يجوب أرجاء الميناء مشرفاًعلى تفريغ السفن، مصدراً الأوامر الصارمة، متواجداً غبّ الطلب عند احتدام المعضلات واحتياجها إلى ذكائه المتوقد.

وليس آخر هذه الاعتبارات تحوّله أمام النظارة إلى أضحوكة ،وهو يحاول يائساً زحزحة جُرن الكبّة من مكانه ،أو قبل ذلك حين يتحسّس المُساعد عظامه.

سأل الرجلَ الواقفَ أمامه في الطابور عن وزن الجرن، وعن الطريقة المثلى في رفعه،

فرمقه زميله بنظرة عجلى من رأسه إلى أخمص قدميه قائلاً:

- قنطار يا أستاذ . أما الطريقة ، فمثلك في غنى عن الإلمام بها، أنصحك بالرحيل حتى لا ينفتق سروالك ،وتطقطق عظامك.

- " وهل لهذا الحزام العريض المحيط بالشروال ،علاقة بتقنيات الرفع؟" سأله (عماد) .

رد عليه زميله: " كل شيء له علاقة، السروال نفسه ودكّته المحكمة الربط ،والحزام العريض ،وحبل المسد الملقى على أكتاف الرجال، و الزنود المفتولة ،والأسنان العريضة ،وحبات العرق المتصببة من مسام الجسد ؛كلها عوامل ضرورية لإضفاء صفة الحمّال إلى (البني آدم) ،وليس هذا العطر الأخاذ الذي ضخمت به شعرك ووجهك الحليق الناعم الملمس؛ هل تعمل بائع ورد يا أستاذ؟

- بل شمام ورد أيها المصارع العتلّ.



عدد لا يستهان به من قليلي الحيلة وضعاف الأبدان شرعوا ينسلّون من الرتل ،محتفظين بماء الوجه، مقتنعين بمقولة مفادها "خيركم من عرف قَدْر نفسه".

صارت الحلبة أقرب إلى السيد عماد من ظِلّه، هي المرة الأولى التي يتمنى فيها توقف عقارب الساعة ،و إعلان الأرض إضرابا عن الدوران.

كيف سيواجه هذا الموقف الحرج؟

لو كان ساحراً ،لقلب جرن الكبة إلى هيكل كرتوني ، ولرفعه بإصبع واحدة !! بل لامتهن السحر، وجنى الأموال الطائلة ؛ لكنه إنسان عادي ،قليل الحجم، نزل عند رغبة القَدَر، وارتضى من البلاء ما لا يطيق ،رغم أنه سيُذِل نفسه ،ويصبح مادة للتندر يرويها الخلف عن السلف.

تحسس سرواله الضيّق ، وأيقن بأنه سيغدر به لا محالة ،ويفرقع أمام المتلهّفين لرؤية عورته ؛ عندها فقط ، أدرك سر اختيار العتالين للشروال الواسع.

أزفت الآزفة، ورسا الدور على الشخص الواقف أمام السيد ( عماد )، وقام المساعد بفحص عضلاته رابتاً على كتفه- علامة الرضى والاقتناع - بينما راح السيد عماد يرتجف كالمحكوم بالإعدام ،مقرّبا ركبتيه من بعضهما، ضاغطاً أعضاءه التناسلية منعاً لتسرّب البول؛ وصحا مِن رُعبه ،عندما شاهد زميله يرفع الجرن بكف واحدة وسط التهليل والتكبير ،مشكّلا حالة هي الأولى من نوعها؛ مما جعل المساعد يطلق عليه لقب (شيخ العتالين).

أصبح السيد ( عماد ) قِبْـلةً للناظرين، وللتعليقات الساخرة ،يقذفه بها زملاؤه وحشد المارة الفضوليين ،مما أثار عاصفةً من الضحك لم تستثن أحدا ،حتى رئيس اللجنة، الذي استند إلى الطاولة واقفا لامعان النظر في المتباري ،وكأنه يشاهده لأول مرة ضمن الرتل.

وسمح (شيخ العتالين) لنفسه ،بأن يقف إلى جانب المساعد وهو يهصر ساعد السيد (عماد) بقبضته ،منقلبا على ظهره من شده الضحك.

موقفٌ، أثار حفيظة ( السيد عماد ) ،وأشعل الحنق في داخله ،وأنساه هول اللحظة القادمة، وجعله ينفض ساعده من قبضة المساعد و الغضب ينفخ أوداجه ،متّجها في حديثه إلى رئيس اللجنة:

" أتسمح لي بمصارعة هذا الثور الذي يتهكّم عليّ ؟! " (و أشار إلى شيخ العتالين).

أجابه الرئيس ،وقد راقت له الفكرة، ودغدغه التحدي:" نعم..!! وأعدك بوظيفة مرموقة يا لابس البذلة، إن طرحته أرضا!!

شهق النظارة عجباً ورأفة على المسكين ،الذي زج نفسه في معركة خاسرة ،وتوقعوا أن يمسك شيخ العتالين بتلابيب السيد عماد ،و يرفعه في الهواء بإصبع واحدة كما فعل بجرن الكبة من قبل ،ولسوف يفتله عاليا فوق أصابع كفّه،فتلات دائرية، كما يفعل أبطال السيرك ،قبل أن يرسله كالرمح فوق صفحة الأمواج المتلاطمة .

تحلّق الجمع، وراحوا يهتفون بصوت واحد: " عي ماد عي ماد عماد" ويصفقون ثلاثاً.

وجد السيد عماد نفسه وجها لوجه أمام وحشٍ كاسر ،نشرَ ذراعيه القصيرتين متأهّبا للانقضاض على ( فرس النبي )، ولم يكن بحاجة إلى كبير ذكاء ليدرك أن الحيلة هي مخرجه الوحيد من هذا المأزق ،ثم قال في سرّه :" الهجوم خير وسيلة للدفاع، والمباغتة نصف الطريق إلى النصر" ؛لذا ركز نظرات حادة وخارقة في وجه مٌنازله ،وانطلق كالسهم من تحت إبطه ،مثبتا قدمه خلف قدم خصمه، ودافعاً إيّـاه بيده اليسرى بكلّ ما أوتي من قوة، في حركة واحدة سريعة كانت كافية لطرح شيخ العتالين أرضا،ً وارتطام رأسه المستديرة ، مما سبب له إغماءة خفيفة وذهولاً عارماً.

لم يكتف السيد عماد بهذه الجولة ،إذ راح يستنهض المهزوم في إصرار للجولة الثانية، وسط صرخات التأييد ، وزغردة النساء اللواتي استهواهن المشهد .

اغتنم رئيس اللجنة هذه اللحظة ،ليقف بين المتصارعين معلنا تعيين (السيد عماد) مراقباً على العمال، وتنصيب المهزوم شيخا للعتالين ، قائلا : "الحيلة غلبت القوة ."