ماذا تنتظر؟!..
بقلم زروق طه
وجدت فيه من الشبه ما يجمعنا إلا أنه خليل حليم، رشيد وعليم... شيخا كان، و قد تدفقت لحيته البيضاء من أعلى ذقنه على صدره الرحب..
مهيبا، وقورا، منصت أكثر مما هو محدث، جالسته خلف قضبان من حديد، جالسته على حصير من جريد.. خيرني بين خبز و ماء، ففهمت بالثاني، وقد علمت أن ليس معه لقمة شعير، ومن أناّ له به وقد شدّ صخرا إلى بطنه من أثر الصيام الطويل، متبصر، عائل، كريم، بيد قصيرة..
جعل من السجادة كلبا وفيا، ومن العلم مبتغاه البعيد، و من السجان بوابا، ومن الجلاد إماما يُذكّره بالعلي القدير..
قد طال الصمت هاهنا، فكسرته بالسؤال، وريح الخمر تنبعث من فمي، فكرهت أن تدركه ويعلم أني سكير ويكرهني:
- ما الذي ساقك إلى هذا الدرك ؟... قال: القدر.. قلت: وللقدر أسباب.. قال: '' قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا''...
قلت: وما كتّب الله لك ؟.. قال: الصبر و السلوان..
كذلك معصوم من زلة اللسان وكثرة الشكوى والله المشتكي.. و أردف بصوته الفخم: ما تجد في كأس خمر ؟.. قلت: مُرّ المذاق، عسير البلع وكأن بالحلقوم يأبى نزوله.. وجدت فيه زوال المال وضيق الحال وانحطاط الهمة وذل الناس و ذهاب الجسد وتبذير الوقت و تأنيب القرين وضياع العقل.. لكني وجدت فيه السهو و النسيان..
قال: وماذا بعد ؟... قلت: أرتد لنفسي خائبا.. شاحبا.. ضعيفا.. مُنهارا.. قال: فماذا تنتظر ؟.. قلت: كثرت ذنوبي حتى غرقت و لا أرى لي توبة.. قال: أرفع يداي لله عز وجل فأذكر خطاياي، ثم أنزلهما خيبة، و أذكر أنه غفور رحيم فأرفعهما تائبا مستغفرا، قد قال عز وجل '' قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تيأسوا من روح الله '' ألا ترى أنه كرمهم سبحانه بقوله: '' يا عبادي وهم الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم.. من ظن بالله خيرا يجد خيرا و إن أخطأ، و من ظن بالله شرا يجد شرا وإن أحسن...
ولا يزال يحدثني طول الليل فإذا به يبكي بكاء عميقا حتى بلل لحيته ولم يكتفي إلا والسجان يوقظني على نور صباح جديد بعد ليلة أخرى في هذه الزنزانة..
- أنت يا سكير... انتفض..
التفتُّ يمنة و يسرة ولم أجد غيري..
- من كنت تحدث الليلة، شياطين الإنس أم الجن ؟..
قالها و هو يزيل القيود من يداي.. أردفت:
- بل عملي الصالح يا سجان… فابتسم ساخرا: عملك الصالح ؟.. وكيف هو ؟.. لا شك أنه نحيل.. قلت: هو كذلك يا سجان و إنه ليضمر جوعا شديدا.. ثم هممت بالانصراف وبعد أن وضعت بطاقة التعريف في جيبي وقد كتب عليها أستاذ التربية الإسلامية..