صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 28

الموضوع: مكتبة الحكايات الشعبية

  1. #1
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    Thumbs up مكتبة الحكايات الشعبية

    بقلم الكاتب: د. أحمد زياد محبك

    ساقية من عسل وساقية من سمن



    جرت من باب القصر الملكي ساقيتان، إحداهما من عسل، والأخرى من سمن، فرحاً بشفاء ابن الملك من مرض عضال، ألم به سنوات طويلة، وانداحت الساقيتان في شوارع البلدة وطرقاتها، وأقبل الناس على جمع السمن والعسل في الجرار، ولم يبق أحد في المدينة، لم يختزن من السمن والعسل.

    ولكن عجوزاً تقيم في طرف البلدة، تناهى إليها الخبر متأخراً، ولما خرجت من بيتها تحمل جرتيها، كانت الساقيتان قد نشفتا، ولم يبق فيهما شيء، فراحت تتبعهما، وتجمع ماعلق بحوافهما، وماتبقى في زواياهما، حتى بلغت منبعهما، عند باب القصر، فاكتفت بما ملأت به جرتيها من سمن وعسل، وحملت إحداهما على رأسها، واحتضنت



    الأخرى إلى صدرها، وراحت تتدحرج في مشيتها، عائدة إلى بيتها، وقد نال منها التعب، والإرهاق.

    وكان ابن الملك في شرفته، يرى إليها، فلم يعجبه صنيعها، وظن فيها الطمع والجشع، فلقد ظلت الساقيتان من الصباح إلى المساء، أفلم يكفها ماقد نالت؟ فما كان منه إلا أن حمل حصاة، وقذف بها الجرة التي على رأسها، فسقطت على الأرض، وتحطمت، وساح منها العسل، فقهقه بصوت عال، ضاحكاً منها، فالتفتت إليه، وأخذت تتأمله ملياً، ثم ماكان منها إلا أن رمت الجرة التي كانت تحتضنها، وقالت: "أسأل الله تعالى أن يوقعك في حب سلمى، مثلما أوقعت الجرة".

    فأسرع إليها ابن الملك، ملهوفاً، وسألها: "ومن هي سلمى؟"، فقالت له: "صبية، عيناها عيناك، وفمها فمك، وأنفها أنفك، تشبهك في جمالها وملاحتها، إذ رآها من يعرفك حسبها أنت، وإذا رآك من يعرفها حسبك إياها"، فتلهف ابن الملك إلى لقائها، وقال لها: "هلا دللتني عليها، ياخالة"، فقالت له: "املأ لي الجرتين، أولاً"، فأمر الخدم، فملؤوا لها سبع جرار عسلاً، وسبع جرار سمناً، فقالت له: "إنها في بلد بعيد، بعيد جداً، وراء بغداد، يدعى شيراز..".

    وهمت العجوز بالانصراف، ولكن ابن الملك لحق بها، وتوسل إليها أن تدله على طريق الوصول إليها، فقالت له: "إنها متزوجة يابني، وزوجها كبير الصاغة في شيراز، وهو يغار عليها غيرة شديدة، وقد وضع عليها سبعة أقفال، فليس إليها من سبيل".

    فذهل ابن الملك، وأحس بخفق قلبه يزداد، وشعر برغبة كبيرة في الوصول إلى سلمى، ولقائها، أياً كان الثمن، فلقد وقع في حبها، وكأنما أجاب الله دعاء تلك العجوز.

    ولم يلبث ابن الملك إلا أياماً، تجهز فيها بالخدم والأموال، ثم شد الرحال إلى شيراز، فلما بلغها نزل فيها متنكراً في زي تاجر، وظل يطوف في أسواقها وطرقاتها، ويتعرف على تجارها وأمرائها حتى اهتدى إلى كبير الصاغة فيها، فقصد إليه ذات مساء، وأقبل عليه وحياه، فدهش الصائغ لمرآه، بل ذهل، ولولا الثياب التي يرتديها، ولولا يقينه من أنه قد وضع على زوجته سبعة أقفال، لحسبه زوجته نفسها، فكل شيء فيه يشبهها: الأنف والعينان والوجه والفم، بل الحديث والكلام.

    وقدم الشاب إلى الصائغ جوهرة نادرة، طلب منه أن يصوغ عليها خاتماً، يزين به بنصره، لا يصغر عنه، ولا يكبر، ثم قدّم له ثلاث جواهر هدية، فوق أجرته وطلب منه أن ينجزه في الصباح، وكان الصائغ يعد نفسه في الحقيقة لإغلاق الدكان، والذهاب إلى البيت، ولكنه أمام جود الشاب، لم يستطع الاعتذار، فوعده أن ينجزه له.

    وأغلق الصائغ دكانه، ومضى إلى البيت، فتناول قليلاً من العشاء، وحدث زوجته بأمر الفتى الشاب، ووصفه لها، وأخبرها بما بينها وبينه من شبه، وأكد لها أن ذلك الفتى يكاد يكون هي نفسها، ثم أخبرها بأمر الخاتم، والمجوهرات، ورجاها ألا تشغله في شيء وأكب على صوغ الخاتم، وظل يعمل فيه حتى الصباح.

    وكانت الزوجة تساهر زوجها، وترقبه وهو يصوغ الخاتم، وهي تتخيل ذلك الفتى الشاب، وتتمنى لو تراه، وقد شغلت به شغلاً.

    ولما كان الصباح، انطلق الشاب إلى الصائغ، الذي كان ينتظره في دكانه بقلق واهتمام، فقدم إليه الخاتم، فجربه، فوجده صغيراً، فرده إليه، وطلب منه أن يحتفظ به لنفسه، ثم قدم له جوهرة أخرى، أروع من الأولى، وأثمن، وطلب منه أن يصوغ عليها خاتماً آخر يريده في المساء، ثم قدم له ثلاث جوهرات هدية، بالإضافة إلى أجرته.

    فأغلق الصائع الدكان، من الداخل، حتى لا يشغله أحد، وأكب على صوغ الخاتم، بدقة وعناية واهتمام، فأمضى فيه معظم يومه، حتى إذا حل المساء، قصده الشاب فوجده في انتظاره، فلما قدم إليه الخاتم، جرّبه، فوجده أكبر من بنصره، فرده على الصائغ، وطلب منه أن يحتفظ به لنفسه، ثم قدم له جوهرة ثالثة، أروع من الأولى والثانية، وأثمن، وطلب منه أن يصوغ له عليها خاتماً،

    يريده في الصباح، ثم قدم له ثلاثة جوهرات هدية، بالإضافة إلى أجرته.

    وأقفل الصائغ الدكان، ومضى إلى بيته، وهو في قلق وخجل شديدين، فقص على زوجته ماكان من أمر الشاب، ورده الخاتمين عليه، وتقديمه له الجوهرات الثمينة، هدايا له، فدهشت الزوجة لكرم الشاب، وجوده، وطيبه، ثم تمنت على زوجها أن يسمح لها بتجريب الخاتم الذي صاغه له، وكان أصغر من بنصره، فقدمه إليها، فوضعته في إصبعها، فإذا هو يناسبها، وقد تألق في أنملها وازدان، فسألت زوجها أن تحتفظ به لنفسها، فقال لها: "هو لك"، فحملت الخاتم، ومضت تساهره، وتناجيه، وتتخيل الفتى الشاب فيه، وتتمنى لو تلقاه.

    ومضى الزوج في صوغ الخاتم، فأكب عليه، معظم الليل، وهو يوليه من العناية والاهتمام جل مايستطيع، حتى أنهاه.

    وفي الصباح قصد الدكان، وقعد ينتظر الفتى، فلما أطل عليه، رحب به، وقدم له الخاتم، وهو قلق مضطرب، فوضعه الفتى الشاب في بنصره، فجاء موافقاً له، فشكره، وأثنى عليه، ثم قدم له اثنتي عشرة جوهرة كبيرة، هدية، فدهش الصائغ، ودعا الشاب إلى مشاركته العشاء، فوعده بالحضور.

    وفي المساء قدم الصائغ لضيفه أطايب الطعام، مما أشرفت على إعداده زوجته، نفسها، وأمرت الخدم أن يعنوا به العناية كلها، ثم لما كانت السهرة، أرسلت إليهما مع الخادم كأسين من الشراب، ووضعت في أحدهما منوماً، ونصحت الخادم أن تقدمه إلى زوجها.

    وما إن رشف الزوج شيئاً من كأسه، حتى استغرق في نوم عميق، وقبل أن يتم الضيف كأسه، دخلت عليه سلمى زوجة الصائغ، فدهش كلاهما، وأخذ كل منهما بيد الآخر، وراح يتملى ملامحه، ويطيل فيه النظر، وهو معجب به، مفتون.

    باح كل منهما للآخر بهواه، من قبل أن يراه، وأمضيا معاً ليلة فيها الأنس والنعيم، حتى طلع الفجر، وأشرف الزوج على أن يفيق، فكان لابد من الفراق، وخاف الفتى الشاب ألا يستطيع إليها الوصول، فسألها ماذا يفعل، فنصحت له بالنزول في الغد إلى البازار ، وحضور المزاد، فإن داراً مجاورة لها سوف تباع، وماعليه إلا أن يزيد في ثمنها، حتى يرسو البيع عنده، وعندئذ يمكن لهما أن يتواصلا من خلال ثغرة يحدثانها في الجدار الذي يفصل بين الدارين.

    وكان للعاشقين مادبراه، فقد اشترى الشاب الدار، وأحدث في جدارها خرقاً، يفضي إلى غرفة في دار الصائغ، مهجورة، فكانا يلتقيان، ويتواصلان، وينعمان معاً بطيب اللقاء، والصائغ لا يشك في شيء، وكيف يشك، وهوا لذي وضع على زوجته سبعة أقفال؟!

    وكان الفتى الشاب مايفتأ يزور الصائغ في دكانه، فيجلس معه ويسامره، وكان الصائغ يدعوه أحياناً إلى داره، فيلبي الفتى، وقد توطدت بينهما صداقة متينة، والصائغ لا ينتبه إلى مايدور وراءه في الخفاء، وإن كان قد عرف أن الفتى الشاب هو ابن ملك، وقد استغرب منه طول مقامه في البلد، ولكنه سوغه بالنزهة والفرجة والاستجمام.

    ثم حان يوم كان فيه على الأمير أن يعود إلى بلاده، فقد أرسل إليه والده يعلن عن عزمه على التخلي عن العرش، وتوليته إياه، فحدث سلمى بالأمر، فقالت له: "أرحل معك"، وحين سألها عن زوجها، قالت له: "أتخلى عنه"، ثم عمدت إلى سيف زوجها، وكان قد صاغ قبضته بنفسه، ورصعها بأغلى الجواهر، فقدمته إلى عشيقها، وقالت له: "اذهب إلى زوجي، فشاوره في شرائه".

    وحمل الأمير السيف ومضى به إلى الصائغ، فعرضه عليه، يسأله رأيه، فيه، فهو يريد شراءه، وقد ادعى أن أحد التجار قد عرض عليه شراءه، وما إن رأى الصائغ السيف حتى دهش، ولكنه ماكان ليشك في إخلاص زوجته، وهو الذي وضع عليها سبعة أقفال، فأخذ السيف بين يديه، وقلبه وتملاه، وأدام فيه النظر، وتفحصه، وهو بين شك ويقين، فكان كلما دقق فيه، ازداد به تعرفاً، ولكنه أنكر الأمر، ونصح للأمير بشراء السيف.

    وما إن انصرف الأمير حتى أغلق الصائغ دكانه، وأسرع إلى بيته، وما إن وطئت قدمه أرض الدار، حتى صاح بزوجته، طالباً منها أن تحضر له سيفه، فتظاهرت بالتوعك، وأنكرت عليه صياحه، وقالت له:"سيفك في موضعه، فاطلبه تجده"، ومضى إلى حيث كان قد وضع سيفه، فوجده في مكانه، فخجل وتخاذل، وكتم الأمر، ووارى شكه واضطرابه.

    وفي يوم آخر، قدم الأمير على الصائغ، يعرض عليه عباءة يشاوره في شرائها، وما إن رأى الصائغ العباءة حتى عرف فيها عباءته، فأخذها منه،وتفحصها، وتملاها، فازداد يقيناً بأنها عباءته، ولكنه تجاهل الأمر، وأخفى اضطرابه، ونصح للأمير بشرائها، ثم أغلق دكانه، وأسرع إلى بيته، وفعل مثل مافعل من قبل، حين رأى السيف، ولكنه خرج ثانية مخذولاً، فقد رأى عباءته في موضعها، وكانت زوجته سلمى هي التي دبرت الأمر، مثلما دبرته من قبل.

    ومرت بضعة أيام، كانت الزوجة تتظاهر فيها بالتوعك والمرض، وكان الزوج يعرض عليها إحضار الطبيب، فكانت تنكر عليه أن تسمح لرجل أن يراها، فيزداد بذلك يقيناً بوفائها وإخلاصها، وإن كان يحس أن ثمة أمراً ما غريباً، يشعر به، ولا يستطيع تحديده.

    وذات يوم دخل الأمير على الصائغ في الدكان، يصطحب معه جارية، جاء يشاوره في شرائها، وما إن رأى الصائغ الجارية حتى عرف فيها زوجته، وقد صبغت وجهها، وتنكرت في زي الجواري، فتقدم منها، وأخذ يتأملها، وهو في قلق واضطراب وغضب كبير، ولكنه ملك نفسه، ووارى مايجيش في داخله، ثم عمد إلى المثقب الذي يثقب به اللآلئ، فحمله، وتقدم منها، فأحدث في خديها جرحين خفيفين، وقال لصاحبه الأمير:"إن من عادة المرء إذا اشترى جارية، أن يفعل بها مثل ذلك، علامة"، ثم نصح له بشرائها، وبارك له فيها، وكان الزوج يريد بالجرحين، ترك أثر فيها، يفحمها به، حين يعود إلى البيت.

    ولما مضى الأمير مع الجارية، أغلق دكانه، وأسرع إلى البيت، ولكن زوجته كانت سبقته، فغسلت الصبغ الذي دهنت به وجهها، ومدت الفراش، واستلقت فيه، وما دخل الزوج، ونادها، حتى أخذت تلطم وجهها، وتحدث فيه جروحاً بأظافرها، متظاهرة بالفزع الشديد، من دخوله المفاجئ عليها، وهي في المرض.

    ولما رآها الزوج مجرحة الخدين بأظافرها، لم يستطع أن يتهمها بشيء، فصمت، وخرج مخذولاً ولكنه أدرك الحقيقة وعرف الأمر.

    وأخيراً حان يوم رحيل الأمير، وكان من قبل قد كشف عن شخصه، وزار ملك البلاد، وتعرف إلى كبار الرجال، فتهيأت شيراز لوداعه، ونصبت الأقواس، ورفعت الأعلام، ولم ينسَ الأمير صاحبه الصائغ، فمر به في دكانه، قبل يوم من رحيله، يودعه، وقدم إليه هدايا لا تقدر بثمن، فحزن الصائغ لفراق صاحبه، وندم لشكوكه فيه، وأسف لسوء ظنه في زوجته، وعاد إلى يقينه بوفائها وإخلاصها.

    وحين عاد الزوج إلى البيت في المساء، وأخبر زوجته بعزم الأمير على الرحيل، وصارحها بألمه لفراقه، فأبدت تأثراً خفيفاً لسفره، ولامته إذ لم يسمح لها بأن تراه طوال إقامته في البلد، ثم توسلت إليه أن يسمح لها بمشاركته في وداعه، فأبى، فعرضت عليه أن يأذن لها فقط بالإطلال من نافذة بيتها كيما تراه من بعد، قبل ذهابه، وهو الذي طالما حدثها عن شبهه بها، فوافق على أن لا تطيل المكث في النافذة.

    وكانت سلمى قد هيأت كل شيء، ورتبت الأمور خير ترتيب، فما إن خرج موكب الأمير، وانضم إليه الصائغ لوداعه، حتى رأى زوجته إلى جانب الأمير، فلم يصدق ما رأى، وهو الذي أحكم إغلاق الأقفال السبعة عليها قبل خروجه، كعادته كل يوم، والتفت إلى نافذة بيته، فرأى زوجته واقفة فيها، ولا يظهر من وراء خمارها سوى عينيها، فاطمأن قلبه، ولكنه أعاد النظر إلى موكب الأمير، فإذا زوجته هي بنفسها إلى جانب الأمير، ورجع ببصره ثانية إلى نافذة بيته، فإذا هي تطل من النافذة، فحار في أمره، ولم يستطع أن يغادر الموكب، إذ كان عليه أن يبلغ معه حدود البلدة.

    ولما بلغ الأمير حدود البلدة، ودعه صديقه الصائغ، وعاد إلى بيته كالريح، وارتقى درجات السلم وهو يلهث، وأقبل على النافذة، وإذا فيها دمية خشبية، على هيئة زوجته، وشكلها، قد ألبستها مثل ثيابها، ووضعتها أمام النافذة لخداعه.

    وطاف الصائغ في أرجاء الدار ينادي "سلمى... سلمى... سلمى"، ولكن ما من مجيب.







    الفتى نديم الملك



    كان أحد الملوك قد رأى حلماً غريباً، أفاق عليه مزعوجاً، فأمر الحكماء والعرافين بالاجتماع وطلب منهم تفسيره، وكان قد رأى كلمة "لا" مكتوبة على أحد الألواح، ثلاث مرات، فقدمت له تفسيرات كثيرة، لم يقتنع بأحدها، مما زاد في قلقه واضطرابه، فما كان منه إلا أن صرف الحكماء والعرافين، وطلب من الوزير أن يجد له تفسيراً مناسباً، وإلا قطع رأسه، فاستمهله الوزير، فأمهله ثلاثة أيام.

    ومضى الوزير إلى بيته مهموماً، يفكر ويتأمل، ويشاور ويسأل، ويقلب الأفكار، ويناقشها، وهو لا يستقر على قرار، وظل على هذه الحالة طوال المدة، ولم يصل في نهايتها إلى تفسير معقول، يفضي به إلى الملك، فما كان منه إلا أن خرج من بيته، يجر خطواته جراً، وهو لا يعرف ماذا يفعل؟ هل يعتذر إلى الملك؟ أم هل يسأله الإمهال؟ وكان يمشي بادي القلق، متعثر الخطا، يقدم رجلاً ويؤخر أخرى، مطرقاً، لا يرى ما أمامه، حائر اللب، شارد التفكير، وإذا فتى دون سن الشباب، يعترضه ويسأله عما به، فنظر الوزير إليه، مدهوشاً لجرأته، مأخوذاً بوسامته، وهو لا يستطيع الجواب، فأعاد عليه الفتى السؤال، فرجاه الوزير أن يكف عنه، وحاول صرفه، ولكن الفتى ألح عليه، فوجد الوزير نفسه مسوقاً إلى البوح بما في نفسه، والاعتراف، فحدثه بأمر الحلم، واشتغاله في تفسيره، فأبدى الفتى دهشته من الوزير، وعجب له، كيف يشغل بهذا الحلم، هذا الاشتغال كله، وهو حلم واضح التفسير، ثم قال له، وهو يبتسم:

    - مثل هذا الحلم، لا يستحق مثل هذا الاهتمام، وماتفسيره سوى: أول لا، كل جسمك فيه شعر إلا راحة كفك، وثاني لا: ابن ابنك لك، وابن بنتك لا، وثالث لا عقلك يعجبك، عقل غيرك لا.

    ودهش الوزير لروعة التفسير، وأسرع إلى قصر الملك، من غير أن يودع الفتى، أو يشكره، ولما دخل على الملك، ألقى عليه تفسير الحلم، وهو مزهو معتد، فأعجب الملك بالتفسير أي إعجاب، ولكنه أنكر على الوزير أن يكون هو نفسه صاحب التفسير، وأمره أن يعترف، ويصرح عمن فسره له، وحاول الوزير التملص وراوغ، ولكنه لم يجد في النهاية بداً من أن يحدث الملك بأمر الفتى، فروى له ماكان، فأمره الملك أن يحضره، فصعق الوزير، وطاش صوابه، فهو لا يعرف الفتى، بل لا يذكره، ولو رآه، ولكنه لم يجد بداً من الاستجابة، فطلب من الملك الإمهال، فأمهله ثلاثة أيام.

    ورجع الوزير على الفور إلى الموضع الذي صادفه فيه الفتى، ونظر حوله، فرأى مقهى، يطل على الطريق، فقعد أمام باب المقهى، وأخذ يرقب الطريق، لعله يرى في الناس المارين ذلك الفتى، ومضى اليوم الأول، فلم يمر أحد يشبه ذلك الفتى في شيء، فقلق الوزير، ومر اليوم الثاني، مثل الأول، فازداد قلقه، وثارت شكوكه، ومر اليوم الثالث، من غير أن يرى أحداً ولو فيه بعض الشبه بذلك الفتى، فماكان منه إلا أن مضى إلى قصر الملك، يجر خطاه جراً، مهموماً مكدوداً، لا يعرف ماذا يفعل؟

    وبينما الوزير في الطريق إلى الملك، وهو على تلك الحالة من الهم والانقباض وإذا الفتى نفسه أمامه، يحييه، فذهل الوزير، ولكنه ملك نفسه، وأمسك بيد الفتى على الفور، وأسرع به إلى الملك، من غير أن يحدثه بشيء، والفتى يساير الوزير، وهو لا يعلم على ماذا هو مقبل.

    ولما أدخل الوزير الفتى على الملك، وقدمه إليه على أنه الفتى الذي فسر له الحلم، دهش له الملك، وأخذ بوسامته، وعندئذٍ حياه الفتى تحية إعظام وإجلال، فأعجب الملك بطلاقته وحسن تحيته، فرحب به، وأدناه منه، وعينه على الفور نديماً له، وأفسح له أفضل موضع في مجلسه.

    ومنذ ذلك الحين غدا الفتى مرافق الملك، في كل آن، يأنس به، يطمئن إليه، ويشاوره في كثير من أمره، ويرتاح إليه، ويبوح له بأسراره، ويصحبه في زياراته وجلساته، ويقربه منه، ويدنيه، ويعزه ويكرمه، بل ويقدمه على وزرائه، وكبار رجال بلاطه، وهو مايزال بعد فتى، حتى إنه كان يوكل إليه النيابة عنه، وتمثيله في كثير من الاحتفالات والمناسبات، حتى عرفه أهل المملكة، وطار صيته في البلاد، وعم ذكره في كل مكان، وشهر بما عرف عنه من وسامة وذكاء، وإخلاص ووفاء.

    وفي أحد الأعياد خرج الملك في موكب مهيب، يطوف في طرقات العاصمة، وشوارعها، وقد احتشد الناس في الشوارع والنوافذ والأسطحة، ينظرون إلى الملك ويرسلون إليه التحيات، ويهتفون بحياته، وكان الملك يتقدم هذا الموكب، على جواد مطهم، يتلوه وزيره الأول، ثم نديمه، وكان لايحظى باهتمام الناس أحد بعد الملك، غير الفتى، نديمه، بل إن بعضهم كان لا يعير الملك من الإلتفات والإهتمام، مثل ماكان يعير النديم.

    وبينما كان الموكب يسير، كانت تقف في إحدى النوافذ فتاة حسناء، وما إن مر أمامها الملك، حتى أشارت إليه بإصبع من يدها إشارة خاصة، فهمها الملك.

    ولما مر الوزير، أشارت له بأصبعين من يدها، إشارة خاصة، فهمها الوزير، ولما مر الفتى، أشارت إليه أيضاً بثلاثة أصابع من يدها، إشارة ثالثة خاصة، فهمها الفتى.

    وبعد مضي يوم على الاحتفال، تزيى الملك بزيّ تاجر غريب وخرج من القصر خلسة، في وقت محدد، من غير أن يشعر به أحد، ومضى إلى البيت الذي رأى الفتاة في نافذته، ودق الباب، فخرجت له خادم عجوز، فأشار أمامها بإصبع من يده، مثل الإشارة التي كان قد رآها من الفتاة، فرحبت به الخادم وقادته إلى غرفة، رجته، أن ينتظر فيها قليلاً، وهي لا تعرف من يكون، ولم تلبث أن رجعت إليه تحمل دجاجة مشوية، ورغيف خبز، وكأس لبن، وضعتها بين يديه، وأخبرته أنها سترجع إليه بعد ساعة، ثم خرجت.

    وما إن خرجت الخادم، حتى شمر الملك عن ساعديه، وأتى على كل ماوضعته الخادم بين يديه من طعام، فالتهم الدجاجة، والرغيف، وشرب كأس اللبن، وقعد ينتظر، وهو يمني نفسه، وبعد طول انتظار، دخلت عليه الخادم، فنظرت، فرأته قد التهم كل شيء، فأظهرت بعض الامتعاض، واصطنعت الأسف، ثم اعتذرت إليه، وأخبرته أن السيدة مريضة، وأنها ترغب في زيارته، في موعد آخر، فغضب الملك، ولكنه لم يجد غير الخروج، فحمل نفسه، وخرج ليعود إلى القصر، مغيظاً يجر أذيال الخيبة.

    وفي اليوم التالي، تزيى الوزير بزي تاجر، وخرج إلى نفس البيت، فاستقبل بمثل ما استقبل به الملك، ففعل مثل مافعل الملك أيضاً، فلقي مالقيه الملك، فخرج مغيظاً، يجر أذيال الخيبة.
    التعديل الأخير تم بواسطة _Oni_ ; 22-10-2005 الساعة 07:50 PM

  2. #2
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية

    وفي اليوم التالي استأذن الفتى الملك في الذهاب لعمل له خارج القصر، لن يتأخر فيه، فأذن له الملك، فخرج على الفور إلى البيت الذي رأى الفتاة في نافذته، وقرع الباب، فخرجت له الخادم، فقال لها: فلان، نديم الملك، فرحبت به، وقادته إلى الغرفة حتى كانت قد قادت إليها من قبل الملك ثم الوزير، وقدمت إليه مثل ماقد قدمت إليهما، ثم خرجت. ونظر الفتى إلى الطعام أمامه، ولم يلبث أن عمد إلى رغيف الخبز فقطعه قطعاً قطعاً، وإلى الدجاجة، فعرّقها تعريقاً، فعزل عظمها عن اللحم، وفتت اللحم، وزعه فوق الخبز، ثم صب كأس اللبن فوق الفتات، ثم غسل يديه، وقعد ينتظر، ولما دخلت الخادم، ورأت مافعل، أخبرته أن سيدتها بالانتظار، وقادته على الفور إلى مخدعها.

    وفي المخدع التقته الفتاة، فرحبت به أروع ترحيب، ثم صرفت الخادم، وأغلقت الباب وراءها، فقد وفرت لديها كل ماسيحتاجانه، وأخذت تمر بهما الساعات، وهما في اجتناء ووصال، حتى حل المساء، فرجا النديم فتاته أن تسمح له بالعودة إلى القصر، على أن يعود إليها في اليوم التالي، فأبت عليه إلا أن يبقى الليل عندها، فلم يجد بداً من الاستجابة لطلبها، ولما كان الصباح، رجاها أن تسمح له بالعودة إلى القصر، فلم تسمح له، وهكذا ظلت تمنعه من تركها، حتى مرت بهما سبعة أيام، فأخذ الفتى يتوسل إليها ويرتجيها، ويعدها أن يعود إليها، حتى سمحت له، فخرج إلى القصر على الفور.

    وكان الملك قد قلق على النديم أشد القلق، وثارت فيه شكوكه وظنونه، فلما دخل عليه بعد ذلك الغياب الطويل، تلقاه بالغضب الشديد، وسأله أن يعترف أين كان، فادعى زيارة أهله، فلم يصدقه، فذكر السفر، فكذبه، فذكر المرض، فرده، ثم ماكان منه إلا أن اتهمه بالخيانة، والتعاون مع الأعداء، ورمى به في السجن، حتى تحين محاكمته، ولم يجدِ شيئاً ذكاءُ الفتى، كما لم تنفع في شيء شفاعة الوزير، ولا توسله ولا رجاؤه في أن يعفو عن النديم.

    ولبث الفتى في سجنه شهراً أو يزيد، قلقت الفتاة في الأيام الأولى عليه، وكانت تنتظر عودته، ثم شكت فيه، ولم تلبث أن وصمته بالغدر والخيانة، وتناسته، واصطنعت السلوى عنه، ولكنها لم تستطع أن تنساه، وكانت تتوقع دائماً أن يعود إليها، وترتجيه ولو طيف خيال.

    حتى كان يوم أعلن فيه الملك خيانة الفتى النديم، وأرسل في أنحاء المملكة الرسل، يعلنون الحكم عليه بالإعدام، ويذيعون في الناس جريمته، ويدعونهم إلى اجتماع في يوم محدد، ليشهدوا إعدامه، في إحدى الساحات الكبرى.

    وفي اليوم المحدد ألبس الفتى النديم ثياب الإعدام، وعلق في صدره بيان ذكر فيه جرمه، وهو الخيانة العظمى، وسار به الجند في موكب، يطوف به في الشوارع والطرقات، وقد احتشد الناس ليروا إليه، وفيهم النادم عليه، والآسف على شبابه، وفيهم الشامت به، والناكر له، وفيهم المتفرج الذي لا يبالي شيئاً، وهو يمرّ بهم متحملاً كلماتهم النابية، وإهاناتهم وشتائمهم ونظراتهم، من غير أن يبدي انفعالاً ما، حتى مر به الموكب بالنافذة التي كان رأى فيها الفتاة من قبل، فنظر إليها، فرآها فيها، وهي تنظر إليه، دامعة العينين، وكانت قد أدركت مما صار إليه حاله مبلغ صدقه ووفائه، ولما أصبح تحت نافذتها، قذفته برمانة، أصابته، ثم وقعت على الأرض، فانكسرت، وانفرطت حباتها وتناثرت، فنظر إليها وظل صامتاً، لا يريم، فلم تلبث أن قذفته بزجاجة عطر، فارتطمت بالأرض، وتحطمت، وانتشر شذاها، فنظر إليها ثانية، وابتسم، وأومأ إليها برأسه.




    ولما بلغ موكبه ساحة الإعدام، حيث كان ينتظره الملك نفسه، ليشهد مع الوزير تنفيذ حكم الإعدام فيه، مضى بخطوات واثقة إلى منصة الإعدام، رافع الرأس، من غير أن يبدي انفعالاً، حتى بلغها، وإذا الملك يرسل وراءه الجند، فأحضروه بين يديه، فسأله الملك إن كان يطلب العفو، فأجابه أن "لا" فغضب الملك، ولكنه ملك نفسه، وأدناه منه، بحيث لا يسمعهما أحد، ثم سأله: "أريد أن أعرف أين كنت خلال الأيام السبعة التي غبت فيها عن القصر، قبل أن تشنق"، وعندئذ اعترف الفتى بالحقيقة، فدهش الملك، وأعلن على الفور العفو عن النديم، ففرح الناس بذلك فرحاً، ومشى موكب الملك، والنديم إلى جانبه، وأخذ يطوف بالشوارع والطرقات، والناس يحيون الملك والنديم، وقد تغير كل شيء.

    وفي القصر خلا الملك بالنديم، وسأله أن يشرح له سرّ احتفال الفتاة به، واستقبالها إياه، على حين كانت قد رفضت استقباله، وهو الملك، وكان الملك قد اعترف للنديم بماكان من أمره في زيارته لها، فطلب النديم من الملك الأمان، فأعطاه الأمان، فأخبره بأنه كان قد قسم الخبز، وفتت اللحم، وسكب اللبن، وهو يعني بذلك أنه لن يبوح بشيء، ولو فتت لحمه، وأريق دمه، فأعجب الملك بذكائه، ولكنه سأله: "كيف بحت لي إذن بماكان؟"، فأجابه بأنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن قذفته الفتاة بالرمانة فانفرط حبها، وهي تعني أن أفرط القضية، وبعد أن رمته بزجاجة العطر، وهي تعني أن أنشر الخبر، ولا تبق الأمر مكتوماً، فازداد إعجاب الملك بالنديم، وأدرك سر اعتذار الفتاة عن استقباله، وهو الذي التهم الطعام والشراب، ولم يفقه من الأمر شيئاً.

    ثم ماكان من الملك إلا أن عين النديم وزيراً له، ثم أرسل وراء الفتاة، فزوجه إياها، وأقام لهما في القصر الأفراح، فالتقى المحبان، بعضهما ببعض فسعدا باللقاء، وعاشا في هناءة وسرور، بعد فراق وطول عذاب، وهوان.




    التاجر حسن




    كان في قديم الزمان تاجر كبير، ولم يكن له سوى ابن وحيد، اسمه حسن، فلما كبر التاجر وشاخ، لزم البيت، وحل ابنه محله في السوق، يبيع ويشتري.

    وكان حسن فتى شاباً، مليح الوجه، حلو الحديث، جذب إليه كثيراً من المشترين، وذات يوم قصده درويش يرتدي مسوحاً غريبة، اشترى منه بعض القماش، ثم قعد عنده، وقد أعجبه منه حديثه، وراقه بيعه.

    وبينما كان الدرويش عنده، كانت وفود المشترين تقدم عليه، حتى امتلأت خزانته بالنقود، وهو لا يعرف كيف وفد عليه الرزق؟ حتى إذا حل المساء، وجد أنه باع في السويعات التي مكث فيها الدرويش عنده، ماكان يبيعه من قبل في أيام، فلما حان له أن يغلق الدكان، دعا الدرويش إلى زيارته في اليوم التالي، فوعده الدرويش بذلك.

    ولما كان اليوم التالي، حضر الدرويش، فحضرت معه وفود المشترين، تقصد الدكان أفواجاً أفواجاً، ودام الأمر على هذه الحالة عدة أيام، يأتي الدرويش إلى دكان حسن التاجر، فيبيع في ساعات مكثه لديه، مايبيعه في أسبوع، حتى ضج أصحاب الدكاكين المجاورة، فعقدوا العزم على مراجعة والد حسن في الأمر.

    وأغلق التجار جميعاً دكاكينهم، وحملوا مفاتيحها، وقصدوا إلى دار والد حسن، فلما خرج إليهم ألقوا المفاتيح بين يديه، وأعلنوا اعتزالهم التجارة، فاستضافهم، ودعاهم إلى التحاور، فلما عرف منهم أمر الدرويش، وعدهم أن يمنع ابنه من النزول إلى السوق، وقرر أن يتخذ أجيراً، يعمل في الدكان، بدلاً من ابنه.

    ونفذ والد حسن وعده، فانقطع حسن عن النزول إلى السوق أياماً، كان الدرويش يقصد فيها الدكان فلا يجده، فيعود أدراجه، حتى علم ذات يوم أن والد حسن، هو الذي منع ابنه من النزول إلى الدكان، بسببه هو، فقصد على الفور إلى دار والد حسن، فلما خرج له، عرفه بنفسه، وطلب منه أن يأذن لحسن بالعودة إلى الدكان، فرفض الأب طلبه، فنظر فيه الدرويش نظرة، فإذا هو معلق بين السماء والأرض، فأخذ يصيح، ويقطع الوعود بالسماح لابنه بالعودة إلى الدكان، فنظر فيه الدرويش نظرة، فإذا هو على الأرض.

    وهكذا رجع حسن التاجر إلى الدكان، وأخذ الدرويش يزوره كل يوم، فيقعد عنده، فيبيع في حضوره، مالا يبيعه في أيام، حتى ذاع صيت حسن التاجر في البلد، وملأت شهرته الآفاق، وتناقل حديثه الغادي والرائح، فبلغ ابنة السلطان، فقررت النزول إلى السوق لشراء بعض الثياب من دكان حسن التاجر.

    ونادى منادي السلطان في أصحاب الدكاكين، أن يرسل كل منهم في الغد أخته أو ابنته لتحل محله في الدكان، فقد عزمت ابنة السلطان على النزول إلى السوق.

    فلما سمع حسن التاجر منادي السلطان شاور الدرويش في الأمر، فقال له:"اترك الأمر لي". ثم نصح له أن يكتحل، في اليوم التالي، وأن يتزيى بزي فتاة، وليقعد في الدكان، مدعياً أنه أخت حسن التاجر، ثم همس له: "فلتعلم أن ابنة السلطان ماقصدت السوق إلا من أجلك، فكن ذكياً".

    وفي اليوم التالي اكتحل حسن التاجر، ووضع الخمار وتزيى بزي فتاة، وقعد في الدكان، ينتظر قدوم بنت السلطان.

    ودخل موكب بنت السلطان السوق، يحف به الخدم والعبيد، هي في هودجها كالقمر، حتى إذا بلغت دكان حسن التاجر، نزلت إليه، فقام يحييها، ويرق لها في الحديث، جاعلاً من نفسه أخت حسن التاجر، ولقد دهشت بنت السلطان لجمال الأخت، وقدرت أن أخاها مثلها في الحسن، فتمنت لو تراه.

    وأطالت بنت السلطان المكث عند حسن التاجر، وهو يحادثها ويؤانسها، ويسليها، وهي تنتقي أفخر الثياب، حتى إذا أرادت دفع ثمن ما اشترت، قال لها حسن التاجر، وهو يصطنع دور الأخت:

    - أنا لا أعرف الأسعار، وسوف أسأل أخي، وغداً آتيك لأخذ الثمن.

    فأطرقت بنت السلطان، وتأملت ملياً، ثم أدركت أن من يحدثها هو حسن التاجر نفسه، لا أخته، ولم تلبث أن انقادت إلى نظراته، فحددت له موعد اللقاء، وعرفته بمداخل القصر، وطريقه إلى جناحها فيه.

    ولما كان اليوم التالي تنكر حسن التاجر، ومضى إلى القصر، في الموعد المضروب له، فأذن له بالدخول، فسلك طريقه إلى جناحها، وإذا هو أمام درج، وقف على كل درجة جندي، فاضطرب، وتردد، ولكنه ذكر أنه في زي فتاة، فمر بهم، وقلبه يخفق، حتى بلغ نهاية الدرج، فمضى على الفور إلى الباب الذي كانت قد دلته عليه، فقرعه، فإذ هي في الانتظار.

    وأمضى العاشقان ساعات وساعات، يأنس كل منهما بالآخر ولا يستطيع عنه البعاد، حتى دخل الليل، فكان لابد من انصراف حسن التاجر، فخرج مثلما دخل، بحذر شديد.

    وتكررت زيارة حسن التاجر، لبنت السلطان، حتى أخذ يزورها كل يوم، يحمل إليها أثواب الحرير، متنكراً في زي فتاة، يأتيها في الصباح، فلا يخرج إلا في المساء.

    وكان يقعد في الدكان بدلاً من حسن التاجر صاحبه الدرويش، فكان يبيع ويشتري، محققاً الأرباح، ومنافساً أصحاب الدكاكين الأخرى.

    ومرة ثانية اجتمع أصحاب الدكاكين وتشاوروا في الأمر، فعقدوا العزم على مراجعة والد حسن، فأغلقوا دكاكينهم، وحملوا مفاتيحها، ومضوا إليه، فلما خرج لهم، ألقوها بين يديه، فعجب لهم، فأخبروه أن ابنه لا ينزل إلى الدكان، وأن الدرويش هو الذي يحل محله، فلا يرد عليهم أحد من المشترين، فأنكر والد حسن ذلك، فأخبرهم أن ابنه ينزل كل يوم للسوق، وعندئذ ثارت شكوك التجار وقرّروا أمراً.

    وما كان من التجار إلا أن اختاروا واحداًمنهم، رصد دار والد حسن، حتى إذا خرج حسن التاجر في الصباح، تبعه من وراء وراء، حتى رآه يدخل بيتاً، فكمن له خارجه، وماهي إلا برهة حتى خرجت فتاة، تمشي على عجل، فلبث ينتظر، وانتظر طويلاً، فلم يخرج أحد، فحدس أن الفتاة التي خرجت ليست إلا حسناً، وقد تنكر، فأعاد رصده في اليوم التالي، وحدث نفس ماحدث، فلما خرجت الفتاة، تبعها، وقد أيقن أنها حسن متنكراً، وإذا الفتاة تدخل قصر السلطان، ورجع الرجل إلى التجار يخبرهم، فتشاوروا، فقرروا إخبار السلطان.

    فما كان من السلطان إلا أن أخلى غرفة ابنته، وملأها بالهشيم، ثم أحرقه، فامتلأت الغرفة بالدخان، ولما جاء حسن متنكراً، مرّ بالجند كعادته، ورقي الدرج، حتى بلغ الباب، فقرعه، ثم دخل، فاحتواه الدخان، ودمعت عيناه، وأطبق عليه الجند، فاقتادوه إلى السلطان.

    وعلى الفور أمر السلطان بقطع رأسه، ولكن التاجر حسن رجا السلطان أن يأذن له بالكلام، فأذن، فأخبره، أن له شريكاً في الجرم، ولابد أن ينال معه العقاب، وإذا سأله السلطان من يكون أجابه بأنه الدرويش، من قبل قد أوصاه إنْ هو وقع في مأزق أن يقول مثل ذلك، وعندئذٍ أمر السلطان على الفور بإحضار الدرويش، ودلهم التاجر حسن على بيته.

    وذهب نفر من الجند إلى بيت الدرويش، يطلبونه، فلما دخلوا عليه، رأوه يتنزه في حديقة قصره، فبهتوا لفخامة مارأوا، ثم أخبروه أن السلطان يطلبه، فاستأذن منهم أن يسمحوا له بارتداء ثيابه، فسمحوا له، فقادهم إلى غرفة كي ينتظروه، فدخلوا الغرفة، فإذا هي مليئة بأفخر الثياب العسكرية، وأرقاها، ودعاهم إلى ارتداء مايشاؤون ثم تركهم وخرج، فأقبل الجند على ارتداء الحلل العسكرية الفخمة، والتقليد بالسيوف المرصعة بالجواهر، وتعليق الأوسمة على الصدور، ولكن ماهي إلا هنيهة، حتى غلبهم النعاس، وأخذتهم سنة من النوم، فناموا، ورجع الدرويش، فرآهم ممددين على الأرض، وقد أغفوا فتركهم وخرج، متوقعاً وصول فريق آخر من الجند.

    لقد أحس السلطان بتأخر جنده، فأرسل فريقاً آخر، فلما دخلوا على الدرويش، رأوه في حديقة قصره، متكئاً في مجلسه، وأمامه فواكه مما تشتهيه الأنفس، والغانيات تتبختر حوله، يقمن على خدمته ومنادمته، على حين كانت جوقة من المغنيين والمغنيات تؤدي أجمل الأغاني، وقد انفلتت ثلة من الراقصات، تتمايل على أعذب الألحان، فبهت الجند لما رأوا، وأخذهم الطرب، فوقفوا مشدوهين، يتأملون مايرون، فلما أتم الجوق غناءه، رحب الدرويش بالجند، ودعا كل واحد إلى انتقاء غادة من الغيد، والمضي بها، إلى حيث يشاء، في حديقة القصر، فتهافت الجند على مخاصرة الغيد، والاختلاء بهن تحت الظلال، وعلى المروج، ونظر إليهم الدرويش، وهو يتوقع وصول فريق ثالث.

    وكان السلطان قد أحس أيضاً بتأخير الجند، فأرسل آخرين، فأتوا إلى القصر، حيث دلهم التاجر حسن، فإذا هم في اصطبل، ودخلوا أحد الأكواخ، فإذا هم في مستودع للتبن، ونظروا، فرأوا رفاقهم الجند، مستلقين على أكوام التبن، وهم في أسوأ حال، فواحد ملتف ببردعة حمار، وآخر معلق في عنقه عنان بغل، وثالث مرتد كيس شعير، فصاحوا بهم، فنهضوا، فرأوا ماهم فيه، فدهشوا، ومضوا يبحثون عن الدرويش، وإذا هم في مضمار الاصطبل، حيث تروض الخيول، ورفاقهم الجند مستلقون في هذا المضمار، فوق التراب والطين، وهم في أسوأ حال، فواحد مستلق إلى جانب حمار، وآخر يعانق بغلاً، وثالث قد توسد ذراع كلب ونام، وصاح بهم الجند، فنهضوا مذعورين، وقد بهتوا لما رأوا ثم مضوا يبحثون عن الدرويش.

    ولما رأى الجند الدرويش هجموا عليه، فسلّم لهم، فقّيدوه، ووضعوه في كيس، وحملوه إلى السلطان، ولما صاروا إليه، قصوا عليه ماكان من أمرهم، واعتذروا لتأخرهم ثم ألقوا بين يديه ماحملوه، وإذا هم يلقون مجموعة عظام بالية نخرة، فغضب السلطان وثار، وقرر أن يذهب بنفسه لإحضار الدرويش، فنزل عن كرسي الحكم وصار إلى حديقة القصر، فإذا الدرويش فصاح الجند: الدرويش، الدرويش.

    وبهت السلطان، فأمر، وهو يتلعثم، بقطع رأسه، فقاطعه الدرويش محتجاً، وقال له:

    - لا يحق لك أيها السلطان أن تصدر حكماً في الناس وأنت جنب، فلا بد لك من الاغتسال أولاً.

    وذهل السلطان، وقال للدرويش:

    - أنت على حق.

    والتفت إلى الجند يأمرهم أن يعدوا موكبه للمضي إلى الحمام، ولكن الدرويش أشار إلى البركة في حديقة القصر، وقال له:

    - أمامك البركة، فهي أقرب، هيا فانزل فيها، واغتسل.

    وماكان من السلطان إلا أن خلع ثيابه جميعاً، أمام الجند، فقد وقع تحت تأثير الدرويش، ثم أسرع إلى البركة، وألقى بنفسه فيها، وإذا هو في أرض عراء، لا طير فيها يطير، ولا وحش فيها يسير، فمشى على غير هدى، لا يعرف إلام يصير، حتى نال منه العطش والتعب، فرأى نبع ماء، فأقبل عليه، فعب منه وشرب، فأحس على الفور بشيء من التغير، فإذا هو امرأة، بشعر طويل، وثديين ممتلئين، فحار في أمره، ولم يعرف ماذا يفعل، فمشى حتى بلغ غابة، مليئة بالأشجار، فدخلها، فسمع صوت ضربات الفأس، فمضى إلى حديث الصوت، وإذا حطاب شاب، يكسر جذع شجرة يابس، وما إن رآه الحطاب، حتى أقبل عليه، ومخايل الإعجاب به، تلوح عليه، وهو ينظر إليه نظرات رغبة واشتهاء، فاضطرب السلطان وحار، ولكن ذكر أنه امرأة، فرضي وسلم، فلما عرض عليه الحطاب أن يتزوجه، قبل، في صمت، ومضى يسير وراء الحطاب، ويطيعه في كل ما يأمره به، فكان يجمع الحطب أكواماً أكواماً، وينقله إلى كوخه البعيد، ويعدّ الطعام، ويجلب الماء، ويشعل النار، ويهيئ الكوخ، ويغسل الثياب، ويقوم بواجب المرأة تجاه زوجها.

    ومرت به الأيام والشهور، وهو زوجة للحطاب، حتى كبرت بطنه، واستدارت، وتحرّك الجنين في أحشائه، واستيقظ ذات صباح، وهو في المخاض، وبعد عناء، وضع ولداً، سمّاه "حسن"، ومرت الأيام، وكبر الولد، وحمل السلطان ثانية، ووضع صبياً آخر، سماه "حسين"، ولم تزل الأيام تمر، حتى وضع السلطان ولداً ثالثاً، سماه "حسون"، وكان خلال ذلك كله مايفتأ يساعد الحطاب، في الذهاب إلى الغابة، وتكويم الحطب، ونقله، وإعداد الطعام، وغسل الثياب.

    وذات يوم كان السلطان يحمل كومة حطب، ويهبط بها على صخرة ملساء، وإذا قدمه تزل، فسقط، ووقع على الأرض، واصطدم رأسه بحجرة، ولكن لم يلبث أن نهض، فإذا هو خارج من البركة، فنظر، فرأى الجند والدرويش والتاجر حسن مازالوا جميعاً واقفين، فصاح بهم:

    - ماتعبتم من الوقوف طوال هذا العمر؟ أنجبت أنا حسن وحسين وحسون، وأنتم مازلتم واقفين؟!

    فضحك الجند، وصاحوا "السلطان" جن، جن السلطان، وثبّت الدرويش على السلطان الجنون، وأكده، لخروجه من البركة عارياً، ثم أمر بخلعه، فوافق الجند في الحال، ثم اقترح مبايعة التاجر حسن سلطاناً، فبايعوه، فارتقى التاجر حسن العرش، وتزوج ابنة السلطان، وأصبح هو السلطان، وقرّب إليه كلاً من أمه وأبيه، فأما الدرويش فودعه وارتحل إلى بلاد لا يعلمها إلا الله.





    التعديل الأخير تم بواسطة _Oni_ ; 22-10-2005 الساعة 07:51 PM

  3. #3
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية

    وفي اليوم التالي استأذن الفتى الملك في الذهاب لعمل له خارج القصر، لن يتأخر فيه، فأذن له الملك، فخرج على الفور إلى البيت الذي رأى الفتاة في نافذته، وقرع الباب، فخرجت له الخادم، فقال لها: فلان، نديم الملك، فرحبت به، وقادته إلى الغرفة حتى كانت قد قادت إليها من قبل الملك ثم الوزير، وقدمت إليه مثل ماقد قدمت إليهما، ثم خرجت. ونظر الفتى إلى الطعام أمامه، ولم يلبث أن عمد إلى رغيف الخبز فقطعه قطعاً قطعاً، وإلى الدجاجة، فعرّقها تعريقاً، فعزل عظمها عن اللحم، وفتت اللحم، وزعه فوق الخبز، ثم صب كأس اللبن فوق الفتات، ثم غسل يديه، وقعد ينتظر، ولما دخلت الخادم، ورأت مافعل، أخبرته أن سيدتها بالانتظار، وقادته على الفور إلى مخدعها.

    وفي المخدع التقته الفتاة، فرحبت به أروع ترحيب، ثم صرفت الخادم، وأغلقت الباب وراءها، فقد وفرت لديها كل ماسيحتاجانه، وأخذت تمر بهما الساعات، وهما في اجتناء ووصال، حتى حل المساء، فرجا النديم فتاته أن تسمح له بالعودة إلى القصر، على أن يعود إليها في اليوم التالي، فأبت عليه إلا أن يبقى الليل عندها، فلم يجد بداً من الاستجابة لطلبها، ولما كان الصباح، رجاها أن تسمح له بالعودة إلى القصر، فلم تسمح له، وهكذا ظلت تمنعه من تركها، حتى مرت بهما سبعة أيام، فأخذ الفتى يتوسل إليها ويرتجيها، ويعدها أن يعود إليها، حتى سمحت له، فخرج إلى القصر على الفور.

    وكان الملك قد قلق على النديم أشد القلق، وثارت فيه شكوكه وظنونه، فلما دخل عليه بعد ذلك الغياب الطويل، تلقاه بالغضب الشديد، وسأله أن يعترف أين كان، فادعى زيارة أهله، فلم يصدقه، فذكر السفر، فكذبه، فذكر المرض، فرده، ثم ماكان منه إلا أن اتهمه بالخيانة، والتعاون مع الأعداء، ورمى به في السجن، حتى تحين محاكمته، ولم يجدِ شيئاً ذكاءُ الفتى، كما لم تنفع في شيء شفاعة الوزير، ولا توسله ولا رجاؤه في أن يعفو عن النديم.

    ولبث الفتى في سجنه شهراً أو يزيد، قلقت الفتاة في الأيام الأولى عليه، وكانت تنتظر عودته، ثم شكت فيه، ولم تلبث أن وصمته بالغدر والخيانة، وتناسته، واصطنعت السلوى عنه، ولكنها لم تستطع أن تنساه، وكانت تتوقع دائماً أن يعود إليها، وترتجيه ولو طيف خيال.

    حتى كان يوم أعلن فيه الملك خيانة الفتى النديم، وأرسل في أنحاء المملكة الرسل، يعلنون الحكم عليه بالإعدام، ويذيعون في الناس جريمته، ويدعونهم إلى اجتماع في يوم محدد، ليشهدوا إعدامه، في إحدى الساحات الكبرى.

    وفي اليوم المحدد ألبس الفتى النديم ثياب الإعدام، وعلق في صدره بيان ذكر فيه جرمه، وهو الخيانة العظمى، وسار به الجند في موكب، يطوف به في الشوارع والطرقات، وقد احتشد الناس ليروا إليه، وفيهم النادم عليه، والآسف على شبابه، وفيهم الشامت به، والناكر له، وفيهم المتفرج الذي لا يبالي شيئاً، وهو يمرّ بهم متحملاً كلماتهم النابية، وإهاناتهم وشتائمهم ونظراتهم، من غير أن يبدي انفعالاً ما، حتى مر به الموكب بالنافذة التي كان رأى فيها الفتاة من قبل، فنظر إليها، فرآها فيها، وهي تنظر إليه، دامعة العينين، وكانت قد أدركت مما صار إليه حاله مبلغ صدقه ووفائه، ولما أصبح تحت نافذتها، قذفته برمانة، أصابته، ثم وقعت على الأرض، فانكسرت، وانفرطت حباتها وتناثرت، فنظر إليها وظل صامتاً، لا يريم، فلم تلبث أن قذفته بزجاجة عطر، فارتطمت بالأرض، وتحطمت، وانتشر شذاها، فنظر إليها ثانية، وابتسم، وأومأ إليها برأسه.




    ولما بلغ موكبه ساحة الإعدام، حيث كان ينتظره الملك نفسه، ليشهد مع الوزير تنفيذ حكم الإعدام فيه، مضى بخطوات واثقة إلى منصة الإعدام، رافع الرأس، من غير أن يبدي انفعالاً، حتى بلغها، وإذا الملك يرسل وراءه الجند، فأحضروه بين يديه، فسأله الملك إن كان يطلب العفو، فأجابه أن "لا" فغضب الملك، ولكنه ملك نفسه، وأدناه منه، بحيث لا يسمعهما أحد، ثم سأله: "أريد أن أعرف أين كنت خلال الأيام السبعة التي غبت فيها عن القصر، قبل أن تشنق"، وعندئذ اعترف الفتى بالحقيقة، فدهش الملك، وأعلن على الفور العفو عن النديم، ففرح الناس بذلك فرحاً، ومشى موكب الملك، والنديم إلى جانبه، وأخذ يطوف بالشوارع والطرقات، والناس يحيون الملك والنديم، وقد تغير كل شيء.

    وفي القصر خلا الملك بالنديم، وسأله أن يشرح له سرّ احتفال الفتاة به، واستقبالها إياه، على حين كانت قد رفضت استقباله، وهو الملك، وكان الملك قد اعترف للنديم بماكان من أمره في زيارته لها، فطلب النديم من الملك الأمان، فأعطاه الأمان، فأخبره بأنه كان قد قسم الخبز، وفتت اللحم، وسكب اللبن، وهو يعني بذلك أنه لن يبوح بشيء، ولو فتت لحمه، وأريق دمه، فأعجب الملك بذكائه، ولكنه سأله: "كيف بحت لي إذن بماكان؟"، فأجابه بأنه لم يفعل ذلك إلا بعد أن قذفته الفتاة بالرمانة فانفرط حبها، وهي تعني أن أفرط القضية، وبعد أن رمته بزجاجة العطر، وهي تعني أن أنشر الخبر، ولا تبق الأمر مكتوماً، فازداد إعجاب الملك بالنديم، وأدرك سر اعتذار الفتاة عن استقباله، وهو الذي التهم الطعام والشراب، ولم يفقه من الأمر شيئاً.

    ثم ماكان من الملك إلا أن عين النديم وزيراً له، ثم أرسل وراء الفتاة، فزوجه إياها، وأقام لهما في القصر الأفراح، فالتقى المحبان، بعضهما ببعض فسعدا باللقاء، وعاشا في هناءة وسرور، بعد فراق وطول عذاب، وهوان.




    التاجر حسن




    كان في قديم الزمان تاجر كبير، ولم يكن له سوى ابن وحيد، اسمه حسن، فلما كبر التاجر وشاخ، لزم البيت، وحل ابنه محله في السوق، يبيع ويشتري.

    وكان حسن فتى شاباً، مليح الوجه، حلو الحديث، جذب إليه كثيراً من المشترين، وذات يوم قصده درويش يرتدي مسوحاً غريبة، اشترى منه بعض القماش، ثم قعد عنده، وقد أعجبه منه حديثه، وراقه بيعه.

    وبينما كان الدرويش عنده، كانت وفود المشترين تقدم عليه، حتى امتلأت خزانته بالنقود، وهو لا يعرف كيف وفد عليه الرزق؟ حتى إذا حل المساء، وجد أنه باع في السويعات التي مكث فيها الدرويش عنده، ماكان يبيعه من قبل في أيام، فلما حان له أن يغلق الدكان، دعا الدرويش إلى زيارته في اليوم التالي، فوعده الدرويش بذلك.

    ولما كان اليوم التالي، حضر الدرويش، فحضرت معه وفود المشترين، تقصد الدكان أفواجاً أفواجاً، ودام الأمر على هذه الحالة عدة أيام، يأتي الدرويش إلى دكان حسن التاجر، فيبيع في ساعات مكثه لديه، مايبيعه في أسبوع، حتى ضج أصحاب الدكاكين المجاورة، فعقدوا العزم على مراجعة والد حسن في الأمر.

    وأغلق التجار جميعاً دكاكينهم، وحملوا مفاتيحها، وقصدوا إلى دار والد حسن، فلما خرج إليهم ألقوا المفاتيح بين يديه، وأعلنوا اعتزالهم التجارة، فاستضافهم، ودعاهم إلى التحاور، فلما عرف منهم أمر الدرويش، وعدهم أن يمنع ابنه من النزول إلى السوق، وقرر أن يتخذ أجيراً، يعمل في الدكان، بدلاً من ابنه.

    ونفذ والد حسن وعده، فانقطع حسن عن النزول إلى السوق أياماً، كان الدرويش يقصد فيها الدكان فلا يجده، فيعود أدراجه، حتى علم ذات يوم أن والد حسن، هو الذي منع ابنه من النزول إلى الدكان، بسببه هو، فقصد على الفور إلى دار والد حسن، فلما خرج له، عرفه بنفسه، وطلب منه أن يأذن لحسن بالعودة إلى الدكان، فرفض الأب طلبه، فنظر فيه الدرويش نظرة، فإذا هو معلق بين السماء والأرض، فأخذ يصيح، ويقطع الوعود بالسماح لابنه بالعودة إلى الدكان، فنظر فيه الدرويش نظرة، فإذا هو على الأرض.

    وهكذا رجع حسن التاجر إلى الدكان، وأخذ الدرويش يزوره كل يوم، فيقعد عنده، فيبيع في حضوره، مالا يبيعه في أيام، حتى ذاع صيت حسن التاجر في البلد، وملأت شهرته الآفاق، وتناقل حديثه الغادي والرائح، فبلغ ابنة السلطان، فقررت النزول إلى السوق لشراء بعض الثياب من دكان حسن التاجر.

    ونادى منادي السلطان في أصحاب الدكاكين، أن يرسل كل منهم في الغد أخته أو ابنته لتحل محله في الدكان، فقد عزمت ابنة السلطان على النزول إلى السوق.

    فلما سمع حسن التاجر منادي السلطان شاور الدرويش في الأمر، فقال له:"اترك الأمر لي". ثم نصح له أن يكتحل، في اليوم التالي، وأن يتزيى بزي فتاة، وليقعد في الدكان، مدعياً أنه أخت حسن التاجر، ثم همس له: "فلتعلم أن ابنة السلطان ماقصدت السوق إلا من أجلك، فكن ذكياً".

    وفي اليوم التالي اكتحل حسن التاجر، ووضع الخمار وتزيى بزي فتاة، وقعد في الدكان، ينتظر قدوم بنت السلطان.

    ودخل موكب بنت السلطان السوق، يحف به الخدم والعبيد، هي في هودجها كالقمر، حتى إذا بلغت دكان حسن التاجر، نزلت إليه، فقام يحييها، ويرق لها في الحديث، جاعلاً من نفسه أخت حسن التاجر، ولقد دهشت بنت السلطان لجمال الأخت، وقدرت أن أخاها مثلها في الحسن، فتمنت لو تراه.

    وأطالت بنت السلطان المكث عند حسن التاجر، وهو يحادثها ويؤانسها، ويسليها، وهي تنتقي أفخر الثياب، حتى إذا أرادت دفع ثمن ما اشترت، قال لها حسن التاجر، وهو يصطنع دور الأخت:

    - أنا لا أعرف الأسعار، وسوف أسأل أخي، وغداً آتيك لأخذ الثمن.

    فأطرقت بنت السلطان، وتأملت ملياً، ثم أدركت أن من يحدثها هو حسن التاجر نفسه، لا أخته، ولم تلبث أن انقادت إلى نظراته، فحددت له موعد اللقاء، وعرفته بمداخل القصر، وطريقه إلى جناحها فيه.

    ولما كان اليوم التالي تنكر حسن التاجر، ومضى إلى القصر، في الموعد المضروب له، فأذن له بالدخول، فسلك طريقه إلى جناحها، وإذا هو أمام درج، وقف على كل درجة جندي، فاضطرب، وتردد، ولكنه ذكر أنه في زي فتاة، فمر بهم، وقلبه يخفق، حتى بلغ نهاية الدرج، فمضى على الفور إلى الباب الذي كانت قد دلته عليه، فقرعه، فإذ هي في الانتظار.

    وأمضى العاشقان ساعات وساعات، يأنس كل منهما بالآخر ولا يستطيع عنه البعاد، حتى دخل الليل، فكان لابد من انصراف حسن التاجر، فخرج مثلما دخل، بحذر شديد.

    وتكررت زيارة حسن التاجر، لبنت السلطان، حتى أخذ يزورها كل يوم، يحمل إليها أثواب الحرير، متنكراً في زي فتاة، يأتيها في الصباح، فلا يخرج إلا في المساء.

    وكان يقعد في الدكان بدلاً من حسن التاجر صاحبه الدرويش، فكان يبيع ويشتري، محققاً الأرباح، ومنافساً أصحاب الدكاكين الأخرى.

    ومرة ثانية اجتمع أصحاب الدكاكين وتشاوروا في الأمر، فعقدوا العزم على مراجعة والد حسن، فأغلقوا دكاكينهم، وحملوا مفاتيحها، ومضوا إليه، فلما خرج لهم، ألقوها بين يديه، فعجب لهم، فأخبروه أن ابنه لا ينزل إلى الدكان، وأن الدرويش هو الذي يحل محله، فلا يرد عليهم أحد من المشترين، فأنكر والد حسن ذلك، فأخبرهم أن ابنه ينزل كل يوم للسوق، وعندئذ ثارت شكوك التجار وقرّروا أمراً.

    وما كان من التجار إلا أن اختاروا واحداًمنهم، رصد دار والد حسن، حتى إذا خرج حسن التاجر في الصباح، تبعه من وراء وراء، حتى رآه يدخل بيتاً، فكمن له خارجه، وماهي إلا برهة حتى خرجت فتاة، تمشي على عجل، فلبث ينتظر، وانتظر طويلاً، فلم يخرج أحد، فحدس أن الفتاة التي خرجت ليست إلا حسناً، وقد تنكر، فأعاد رصده في اليوم التالي، وحدث نفس ماحدث، فلما خرجت الفتاة، تبعها، وقد أيقن أنها حسن متنكراً، وإذا الفتاة تدخل قصر السلطان، ورجع الرجل إلى التجار يخبرهم، فتشاوروا، فقرروا إخبار السلطان.

    فما كان من السلطان إلا أن أخلى غرفة ابنته، وملأها بالهشيم، ثم أحرقه، فامتلأت الغرفة بالدخان، ولما جاء حسن متنكراً، مرّ بالجند كعادته، ورقي الدرج، حتى بلغ الباب، فقرعه، ثم دخل، فاحتواه الدخان، ودمعت عيناه، وأطبق عليه الجند، فاقتادوه إلى السلطان.

    وعلى الفور أمر السلطان بقطع رأسه، ولكن التاجر حسن رجا السلطان أن يأذن له بالكلام، فأذن، فأخبره، أن له شريكاً في الجرم، ولابد أن ينال معه العقاب، وإذا سأله السلطان من يكون أجابه بأنه الدرويش، من قبل قد أوصاه إنْ هو وقع في مأزق أن يقول مثل ذلك، وعندئذٍ أمر السلطان على الفور بإحضار الدرويش، ودلهم التاجر حسن على بيته.

    وذهب نفر من الجند إلى بيت الدرويش، يطلبونه، فلما دخلوا عليه، رأوه يتنزه في حديقة قصره، فبهتوا لفخامة مارأوا، ثم أخبروه أن السلطان يطلبه، فاستأذن منهم أن يسمحوا له بارتداء ثيابه، فسمحوا له، فقادهم إلى غرفة كي ينتظروه، فدخلوا الغرفة، فإذا هي مليئة بأفخر الثياب العسكرية، وأرقاها، ودعاهم إلى ارتداء مايشاؤون ثم تركهم وخرج، فأقبل الجند على ارتداء الحلل العسكرية الفخمة، والتقليد بالسيوف المرصعة بالجواهر، وتعليق الأوسمة على الصدور، ولكن ماهي إلا هنيهة، حتى غلبهم النعاس، وأخذتهم سنة من النوم، فناموا، ورجع الدرويش، فرآهم ممددين على الأرض، وقد أغفوا فتركهم وخرج، متوقعاً وصول فريق آخر من الجند.

    لقد أحس السلطان بتأخر جنده، فأرسل فريقاً آخر، فلما دخلوا على الدرويش، رأوه في حديقة قصره، متكئاً في مجلسه، وأمامه فواكه مما تشتهيه الأنفس، والغانيات تتبختر حوله، يقمن على خدمته ومنادمته، على حين كانت جوقة من المغنيين والمغنيات تؤدي أجمل الأغاني، وقد انفلتت ثلة من الراقصات، تتمايل على أعذب الألحان، فبهت الجند لما رأوا، وأخذهم الطرب، فوقفوا مشدوهين، يتأملون مايرون، فلما أتم الجوق غناءه، رحب الدرويش بالجند، ودعا كل واحد إلى انتقاء غادة من الغيد، والمضي بها، إلى حيث يشاء، في حديقة القصر، فتهافت الجند على مخاصرة الغيد، والاختلاء بهن تحت الظلال، وعلى المروج، ونظر إليهم الدرويش، وهو يتوقع وصول فريق ثالث.

    وكان السلطان قد أحس أيضاً بتأخير الجند، فأرسل آخرين، فأتوا إلى القصر، حيث دلهم التاجر حسن، فإذا هم في اصطبل، ودخلوا أحد الأكواخ، فإذا هم في مستودع للتبن، ونظروا، فرأوا رفاقهم الجند، مستلقين على أكوام التبن، وهم في أسوأ حال، فواحد ملتف ببردعة حمار، وآخر معلق في عنقه عنان بغل، وثالث مرتد كيس شعير، فصاحوا بهم، فنهضوا، فرأوا ماهم فيه، فدهشوا، ومضوا يبحثون عن الدرويش، وإذا هم في مضمار الاصطبل، حيث تروض الخيول، ورفاقهم الجند مستلقون في هذا المضمار، فوق التراب والطين، وهم في أسوأ حال، فواحد مستلق إلى جانب حمار، وآخر يعانق بغلاً، وثالث قد توسد ذراع كلب ونام، وصاح بهم الجند، فنهضوا مذعورين، وقد بهتوا لما رأوا ثم مضوا يبحثون عن الدرويش.

    ولما رأى الجند الدرويش هجموا عليه، فسلّم لهم، فقّيدوه، ووضعوه في كيس، وحملوه إلى السلطان، ولما صاروا إليه، قصوا عليه ماكان من أمرهم، واعتذروا لتأخرهم ثم ألقوا بين يديه ماحملوه، وإذا هم يلقون مجموعة عظام بالية نخرة، فغضب السلطان وثار، وقرر أن يذهب بنفسه لإحضار الدرويش، فنزل عن كرسي الحكم وصار إلى حديقة القصر، فإذا الدرويش فصاح الجند: الدرويش، الدرويش.

    وبهت السلطان، فأمر، وهو يتلعثم، بقطع رأسه، فقاطعه الدرويش محتجاً، وقال له:

    - لا يحق لك أيها السلطان أن تصدر حكماً في الناس وأنت جنب، فلا بد لك من الاغتسال أولاً.

    وذهل السلطان، وقال للدرويش:

    - أنت على حق.

    والتفت إلى الجند يأمرهم أن يعدوا موكبه للمضي إلى الحمام، ولكن الدرويش أشار إلى البركة في حديقة القصر، وقال له:

    - أمامك البركة، فهي أقرب، هيا فانزل فيها، واغتسل.

    وماكان من السلطان إلا أن خلع ثيابه جميعاً، أمام الجند، فقد وقع تحت تأثير الدرويش، ثم أسرع إلى البركة، وألقى بنفسه فيها، وإذا هو في أرض عراء، لا طير فيها يطير، ولا وحش فيها يسير، فمشى على غير هدى، لا يعرف إلام يصير، حتى نال منه العطش والتعب، فرأى نبع ماء، فأقبل عليه، فعب منه وشرب، فأحس على الفور بشيء من التغير، فإذا هو امرأة، بشعر طويل، وثديين ممتلئين، فحار في أمره، ولم يعرف ماذا يفعل، فمشى حتى بلغ غابة، مليئة بالأشجار، فدخلها، فسمع صوت ضربات الفأس، فمضى إلى حديث الصوت، وإذا حطاب شاب، يكسر جذع شجرة يابس، وما إن رآه الحطاب، حتى أقبل عليه، ومخايل الإعجاب به، تلوح عليه، وهو ينظر إليه نظرات رغبة واشتهاء، فاضطرب السلطان وحار، ولكن ذكر أنه امرأة، فرضي وسلم، فلما عرض عليه الحطاب أن يتزوجه، قبل، في صمت، ومضى يسير وراء الحطاب، ويطيعه في كل ما يأمره به، فكان يجمع الحطب أكواماً أكواماً، وينقله إلى كوخه البعيد، ويعدّ الطعام، ويجلب الماء، ويشعل النار، ويهيئ الكوخ، ويغسل الثياب، ويقوم بواجب المرأة تجاه زوجها.

    ومرت به الأيام والشهور، وهو زوجة للحطاب، حتى كبرت بطنه، واستدارت، وتحرّك الجنين في أحشائه، واستيقظ ذات صباح، وهو في المخاض، وبعد عناء، وضع ولداً، سمّاه "حسن"، ومرت الأيام، وكبر الولد، وحمل السلطان ثانية، ووضع صبياً آخر، سماه "حسين"، ولم تزل الأيام تمر، حتى وضع السلطان ولداً ثالثاً، سماه "حسون"، وكان خلال ذلك كله مايفتأ يساعد الحطاب، في الذهاب إلى الغابة، وتكويم الحطب، ونقله، وإعداد الطعام، وغسل الثياب.

    وذات يوم كان السلطان يحمل كومة حطب، ويهبط بها على صخرة ملساء، وإذا قدمه تزل، فسقط، ووقع على الأرض، واصطدم رأسه بحجرة، ولكن لم يلبث أن نهض، فإذا هو خارج من البركة، فنظر، فرأى الجند والدرويش والتاجر حسن مازالوا جميعاً واقفين، فصاح بهم:

    - ماتعبتم من الوقوف طوال هذا العمر؟ أنجبت أنا حسن وحسين وحسون، وأنتم مازلتم واقفين؟!

    فضحك الجند، وصاحوا "السلطان" جن، جن السلطان، وثبّت الدرويش على السلطان الجنون، وأكده، لخروجه من البركة عارياً، ثم أمر بخلعه، فوافق الجند في الحال، ثم اقترح مبايعة التاجر حسن سلطاناً، فبايعوه، فارتقى التاجر حسن العرش، وتزوج ابنة السلطان، وأصبح هو السلطان، وقرّب إليه كلاً من أمه وأبيه، فأما الدرويش فودعه وارتحل إلى بلاد لا يعلمها إلا الله.






  4. #4
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية

    عمود من الذهب



    كانت أسرة منكودة ، شقية الحظ، بائسة فقيرة، فالأب يخرج إلى العمل، قبل شروق الشمس، ليعود بعد غروبها، متعباً مكدوداً، وهو لا يستطيع أن يوفر لعياله إلا بعض الحاجات، فكأنه في سعيه وراء الرزق، إنما يسعى على قدميه، وراء فرس هارب منه، والأم توقظ من بعد خروجه الأولاد، فترسل بعضهم إلى الكتّاب، وترسل بعضهم إلى الأزقة والحارات للعب، ثم تخرج هي لتطوف على جاراتها، تسمع قصة من هنا، وحديثاً من هناك، وتنال خلال ذلك فضلاً من طعام، لتعود إلى البيت، قبل الغروب، فتعد للأفواه الجائعة، والأجساد المتعبة، مايمسك عليها رمقها، ويحفظ لها الحياة.

    وعلى هذه الحالة، كانت تمر بالأسرة الأيام، رتيبة مملّة، لا سبيل فيها إلى الخلاص، ولا حيلة، بل إنها لتنحدر بالأسرة من فقر قاس مرّ، إلى فقر أقسى وأمرّ.

    وذات يوم رأت الأم جارة لها في طوق ذهبي، يحلّي عنقها، وهي الجارة التي كانت تشمخ عليها دائماً بغناها، وتفخر أمامها بما لديها من حلي وثياب، والتي لم تكن مثلها في الجمال، فحنقت وتألمت وتذكرت أبويها اللذين زوجاها لرجل فقير معدم.

    ولما رجع الزوج من عمله في المساء، تلقته باللوم والعتاب، وأثقلت عليه، وهي تندب حظها، وتبكي جمالها الضائع، الذي لا يزينه عقد، مثل عقد جارتها، فأدرك الزوج سرّ غضبها، وعرف أمرها، فقال لها:"غداً آتيك بعقد ذهبي"، فجن جنونها، وفرحت فرحاً، ونسيت حالة زوجها، وغفلت عما هم فيه من بؤس وشقاء، وغدت في فجر اليوم التالي إلى جارتها تزف لها وعد زوجها، وتكيد لها، وتباهي أمامها بجيدها الذي يليق به عقد رائع، ثم طلبت منها أن توسع لها طوق ثوبها، ليكشف عن صدرها، ويغدو العقد فيه أكثر بروزاً وظهوراً، بل أكثر بهاء وروعة.

    ورجعت إلى البيت تنتظر أوبة زوجها في المساء، ولما سمعت صوته في الباب، أسرعت إليه بالتهليل والترحيب، وهي تتوقع أن يضع الطوق في عنقها، قبل أن يخطو داخل الدار، ولكنها فوجئت به لا يحمل شيئاً، فوجمت، وأطرقت، في خيبة كبيرة، فلم يجد الزوج بدّاً من مداراتها. فأخبرها أنه رأى أن يشتري لها زوجين من الأساور، تحلّي بهما معصمها، فالأساور في يدها أحلى وأجمل، ففرحت بوعده، ونامت هانئة، وهي تحلم بالأساور.

    وأسرعت في اليوم التالي إلى جارتها، لتخبرها بالأساور التي سيشتريها لها زوجها، وتباهى بها أمامها، وترتجيها أن تقص لها أكمام ثوبها، كي تكشف عن معصميها، فتظهر أساورها، فاستجابت الجارة إلى طلبها، وقد أدركت حماقتها، وكانت تضحك منها.

    وفي المساء كانت تنتظر زوجها، واستقبلته في الباب بفرح كبير، وهي تتوقع أن يقدم لها الأساور، ولكنها فوجئت به لا يحمل شيئاً، ولكي يتخلص الزوج من غضبها ونكدها، أقنعها بأنه سيشتري لها بدلاً من الأساور خلخالين، تزين بهما قدميها، فإذا مشت سمع الجيران لها رنيناً، فصدقت وعده، ورأت أن الخلخالين في قدميها أحلى، وأجمل، وأكثر إغاطة لجارتها.

    ومنذ الفجر، أسرعت إلى جارتها تخبرها بوعد زوجها، وتؤكد لها أن الخلخالين في قدميها، أجمل من الطوق في عنقها، أو الأساور في معصمها، ثم رجتها أن تقص لها طرف ثوبها، كي يكشف عن قدميها، فيظهر الخلخالان، فأجابت الجارة طلبها.

    وفي المساء، انتظرت زوجها، بلهفة كبيرة، ولما دخل عليها لا يحمل شيئاً، خاب أملها، وقعدت حزينة، ولم يجد الزوج بداً من وعد آخر، ينسيها ماهي فيه، ويجد فيه عذراً، من غير أن يذكرها بما هم فيه من بؤس مدقع، فقال لها: "لقد رأيت أن نشتري داراً نرتاح فيها، وهي أفضل من الأساور والخلاخيل والعقود"، فصدقت وعده وفرحت لذلك.

    وخرج الزوج إلى عمله في الصباح، وبينما هو في بعض الطريق، إذ سمع رجلاً ينادي معلناً عن دار كبيرة، ذات غرف كثيرة، مفروشة، بأثمن الأثاث، معروضة للبيع، ولا يطالب شاريها بثمنها إلا بعد أن يسكنها سبعة أيام، فأصغى الرجل إلى المنادي، وتتبع الصوت، حتى رأى المنادي فسأله عن الدار، فدلّه عليها، وأعطاه مفاتيحها على الفور، وأكد له أنه لن يطالب بثمنها قبل أن تمضي على سكناه فيها سبعة أيام، ففرح الرجل، وأخذ المفاتيح، وطار بها إلى زوجته.

    واستغربت الزوجة عودة زوجها، ولكنها ما إن رأت المفاتيح في يده، حتى جن جنونها، فأخذت تزغرد وتنادي الجارات، كي يودعنها، ويشاركنها في نقل ما لديها من متاع إلى الدار الجديدة التي اشتراها لها زوجها.

    وتلقفت المفاتيح، وأسرعت إلى ماعندها من فرش عتيقة تطويها، ومالديها من كراسٍ محطمة تحزمها، ومافي مطبخها من أوانٍ مكسرة تجمعها، وبدأت تهيئ نفسها للانتقال، ولكن زوجها أخبرها أن الدار مفروشة بفاخر الأثاث، وطلب منها ألا تحمل شيئاً معها البتة، فليس عليها سوى الذهاب إلى الدار، وسكناها، فلم تكد تصدق ماسمعت، فأيقظت الأولاد، ومنعتهم من الذهاب إلى ماكان يذهب إليه كل واحد منهم من قبل، ثم قادتهم أمامها، وخرجت وراء زوجها، تحمل صرة ثيابها، التي أبت إلا حملها معها ومضت قاصدة الدار الجديدة.

    وكانت الجارات قد سمعن زغاريدها، وأصواتها، وجلبتها وضجيجها، فوقفن في نوافذهن، يرين إليها، وهي تخرج مع زوجها وأولادها إلى الدار الجديدة، فأخذت تخطر أمامهن، مزهوة بنفسها، وهي تشير إليهن بيدها، مودعة وتدعوهن إلى زيارتها في الدار الجديدة، وهن يتهامسن عليها، ويتغامزن، غير مصدقات مايسمعن، ومايرين.

    ولما بلغ الزوج بأسرته الدار الجديدة، فتح الباب، وأدخلهم فيها، ثم تركهم ومضى إلى عمله، من غير أن يدخل الدار.

    ودهشت الزوجة لما رأت، بل ذهلت، دار كالقصر، بل كجنة الفردوس، باحتها واسعة، فيها بركة كبيرة، تترقرق فيها المياه، تلعب فيها الأسماك، وتحوم على حوافها الطيور، وتظللها شجيرات الورود والياسمين، فتنشر عبقها الناعم اللذيذ، وحول الباحة الواسعة، تمتد الغرف، وهي كثيرة، بشرفاتها، ونوافذها، وقد بدت من وراء النوافذ الستائر الرقيقة الهفهافة، تداعبها النسمات، فتميس، وفي صدر الدار إيوان، تظلله واقية من الخشب الساج، حفرت فيه أحلى النقوش وطعمت بالعاج، وقد مدت في صدر الإيوان أريكة، وبسطت في أرضه سجادة، على حين ترك بابا الغرفتين المطلتين على الإيوان مفتوحين، فبدا أنهما غرفتان للزوار، مفروشتان بأفخر الأثاث.

    والتفتت المرأة إلى أولادها، وضمتهم إليها، وقالت:"انظروا ماذا اشترى لنا أبوكم". وقد ذهلت بما رأت، ودهشت، وملكت عليها الدار عقلها، فنست أن زوجها معدم فقير، وأنه لا يستطيع شراء غرفة من هذه الدار، فليس لديه من ثمنها شيء، ولو درهم.

    ثم أخذت تدخل الغرف غرفة غرفة، تتأملها، وتؤخذ بما حوت من فراش وديباج وأثاث وسجاد، ومما لم تكن تحلم به من قبل، أو تفكر فيه، أو تتمناه، أو لم تكن في الحقيقة تسمع به، أو تعرفه، أو تراه.

    ولما اهتدت إلى الحمام فرحت بها، فأدخلت فيها الأولاد، فغسلتهم، وحممتهم، وأخرجتهم كالورود، وألبستهم مما في الخزائن، من فاخر الثياب، ثم ارتدت هي أجمل مارأته، ونشرت حولها العطور، وماست، وتبخترت، وخطرت في باحة الدار، تتمتع بالأزهار والطيور، وتتمنى لو شهدت جاراتها ماهي فيه.

    ثم لما كان الغداء، أعدّت لأولادها أطيب ألوان الطعام، مما لم تكن قد ذاقته من قبل، أو كانت تسمع عنه في أحاديث الجارات، مما كن هن أنفسهن لا يذقنه إلا في الولائم والمناسبات، فكانت تأكل وتطعم أولادها وتتمنى أن يشاركهم زوجها الطعام، ولكنها كانت تؤمل عودته في المساء.

    وأقبل المساء، ولكن الزوج لم يأتِ، فتسلت عنه وأولادها بالقعود في الإيوان، والتفرج على البركة والأشجار والتمتع بالنسمات العليلة، تنفح عبق الأزهار.

    ثم نعس الأولاد فحملت كل واحد إلى سرير، وغطته بأفخر الأغطية، واطمأنت عليه، ثم قعدت وحدها تنتظر زوجها، ولما تأخّر، وغلبها النعاس، قصدت مخدعها، فإذا سريرها من خشب ساج، وإذا كلتها من لؤلؤ وحرير، وإذا فراشها من دمقس الشام، تفوح في غرفتها الأطايب والبخور، وما هي إلا برهة حتى غلبها النعاس، فنامت.

    ولم تكد تغفى، حتى سمعت صوتاً أجش، غريباً يخيف، يهتف بها سائلاً:"أقوم؟" فلم تجب، فتكرر السؤال، بصوت راعب: "أقوم"؟ فلم ترد، فتكرر ثالثة: "أقوم"؟، وعمّ الصمت، وعادت إلى النوم.

    ثم استيقظت في الصباح، على صوت الأطيار، وقد تسلل النور من خلال نافذتها، رقيقاً هادئاً، تلونه الستائر بأزهى الألوان، فتمطت في فراشها، ولم تنهض، وأمضت فترة الضحى مسترخية، ناعمة بالدفء والنعومة والطيب، حتى غمر نور الشمس الزجاج، فنهضت وأعدت لأولادها الفطور، وأخذت تمضي معهم الساعات في تفرج على الغرف، والتسلي باللعب في باحة الدار، ثم أعدت لهم عند الظهر غذاء شهيّاً، وهي ناعمة مطمئنة، وإن كانت قد شغلت قليلاً على زوجها.

    وفي المساء، انتظرت زوجها، وقد داخلها القلق، وساورتها الشكوك، وذكرت الصوت الأجش الغريب، وسهرت، وطال بها السهر، وقد نام الأولاد، وظلت وحدها، حتى غلبها النعاس، فلجأت إلى فراشها، ونامت، وإذا الصوت الأجش الغريب، الذي سألها في ليلة أمس، يسألها الليلة السؤال نفسه، ثلاث مرات، من غير أن تجيب، وقد فزعت فزعاً، ولكنها لم تلبث أن عادت إلى النوم.

    وأمضت اليوم الثالث، وهي تنعم بما هي فيه من أسباب النعيم، ولكنها شغلت على زوجها وقلقت، ولما كان المساء، ذكرت ذلك الصوت، وفكرت، فحسبت أنه رجل علم بغياب زوجها، فهو يريد بها أذى، فملكت نفسها وعزمت على تحدّيه، فعمدت إلى هراوة غليظة، جعلتها إلى جانبها في السرير، وأمسكت بها، بحيث تستطيع أن تهوى بها على مصدر الصوت، ثم أغمضت عينيها، وباتت تنتظر الصوت، وقلبها يخفق بشدة، ويدها تقبض على الهراوة، بقوة.

    وطرق سمعها الصوت، أجش غريباً يخيف:"أقوم"؟ فلم تتحرك، وشدت يدها على الهراوة، وسألها ثانية: "أقوم"؟ وحبست أنفاسها، فسألها ثانية:"أقوم؟" وطوحت بالهراوة بقوة، مغمضة العينين، تجاه الصوت، فاصطدمت بجسد صلد، ثم سمعت صوت شيء ثقيل، يقع على الأرض.

    فقالت تحدث نفسها: "لقد قتلته"، ثم نهضت بهدوء، ونزلت من السرير، وإذا عمود طويل، ممدد على الأرض، فدنت منه، فإذا هو أصفر اللون، فمالت عليه، بخوف، ثم جسّته، فإذا هو صلد، رطب، له بريق، فتملت فيه، وتأكدت منه، فإذا هو ذهب، وعندئذٍ أدركت سر الدار، فهي مسكونة بالعفاريت، عافها أهلها، وهم راغبون في بيعها، بمافيها، بأبخس الأثمان، وما العفاريت في الحقيقة إلا كنز مرصود لصاحبه، وهي صاحبة هذا الكنز، كما أدركت سرّ غياب زوجها، فهو ينتظر مضي الأيام السبعة، كي يعيدها إلى الدار القديمة،ويرد المفتاح إلى أصحابه، وما عليها هي إذن غير الانتظار، كي تكسر قطعة من عمود الذهب، لتدفع ثمن الدار، وماكان منها إلا أن عمدت إلى ملاءة الفراش، فجذبتها، وغطت بها العمود، وأوت إلى الفراش، ونامت فيه إلى الصباح.

    وأخذت تمضي الأيام التالية في سعادة ونعيم، وهي وأبناؤها، تمتع نفسها بما كانت تحلم به، وتتمناه، بل بما هو أكثر مما كانت تحلم به أو تتمناه.

    وفي صباح اليوم الثامن حضر زوجها، فاستقبلته بترحيب كبير، فأبدى تجهماً وأسفاً، ثم رجاها أن تتهيأ والأولاد لمغادرة الدار، وأخذ يشرح لها حقيقة الدار، وهي تصغي إليه بصبر كبير، ثم ذكرها بحالهم، وبماهم عليه من فقر، وعاتبها في طلبها أن يشتري لها عقداً، كما لامها في تصديقها وعده، ثم اعتذر لها، وأكد لها أنه من الممكن أن يعيشوا في الفقر، بسعادة وهناءة، إن هم قنعوا بماهم فيه، ولم يتطلعوا إلى ماعند الآخرين.

    وكانت الزوجة ماتزال تتحمل الحديث الطويل، بصبر، حتى لم يبق لدى الزوج شيء يقوله، وعندئذٍ قادته إلى مخدعها، ثم وقفت به أمام العمود المغطى، وطلبت منه أن يكشف عنه الغطاء، فتردد، ثم فعل، فإذا هو أمام عمود من الذهب، فدهش لما رأى، فروت له ماكان، ثم طلبت منه أن يكسر من العمود قطعة، ليمضي بها إلى السوق، فيبيعها، ليدفع لأصحاب الدار ثمنها.

    ففرح الزوج بما رأى، وهنأ زوجته، وبارك لها في صبرها، وقد أدرك أن الأسرة قد ودعت عهد الفقر والبؤس والحرمان، وأنها دخلت في حياة السعادة والهناءة والنعيم.

    ولما حمل الزوج قطعة من الذهب، وهم بالمضي بها إلى السوق، نادته زوجته، وهو في الباب، فالتفت إليها يسألها عما تريد، فقالت له: "لا تنسَ أن تشتري لي العقد الذي وعدتني به"، فضحك وقال لها: "سأشتري العقد والأساور والخلاخيل، وأنت لا تنسِ دعوة جاراتك إلى زيارتك، في الدار الجديدة"، ثم خرج، وأغلق الباب وراءه.








    الأخوات الثلاث



    كان في أحد البلاد ملك شاب، وسيم الطلعة، قوي الساعد، ولكنه سريع الغضب، حاد الانفعال، وذات يوم أراد أن يتعرف على أحوال الناس، فأمر ألا يضاء في الليل مصباح، وخرج مع الوزير، متنكراً وبدأ يدور في الأحياء، يتنصت على الأقوال، من وراء الأبواب، ولفت نظره ضوء بيت في طرف البلدة، فمضى إليه، حتى إذا بلغه وقف تحت شباكه المضاء، وأخذ يصيخ السمع إلى مايدور في داخله، وهو في أشد الغضب لمخالفة أصاحب البيت أمره، في إضاءة المصباح.

    وكان في البيت ثلاث أخوات، صبايا، فقيرات، يعملن في غزل القطن، من أجل تأمين لقمة العيش، فقد توفي عنهن والدهن، ولم يترك لهن من المال شيئاً، ولذلك أضأن المصباح، ليعملن، مخالفات أمر الملك، وبينما كان الملك يصغي إلى مايدور في بيتهن، تحت الشباك، كن يتحدثن ويتمازحن ولقد تأوهت الكبرى منهن، وقالت:

    - لو يتزوجني الفران عند الملك، لشبعت من الخبز.

    ثم تأوهت الوسطى، وقالت:

    - آه لو يتزوجني اللحام عند الملك، لشبعت من اللحم.

    فضحكت الصغرى، ساخرة منهن، وقالت باعتداد:

    - أنا، والله، لا أتزوج إلا الملك الشاب، أضربه على خده، فيدير لقدمي القبقاب.

    ولما سمع الملك قولها، أخذه الغضب، وهم باقتحام الباب، والدخول عليهن، ولكن الوزير طيب نفسه،ورجاه أن ينتظر إلى الصباح، ثم عرض عليه أن يرسل وراءهن، لينظر في الغد في أمرهن، وعندئذ طلب الملك من الوزير أن يضع على الباب علامة ليستدل بها الجند على البيت.

    وفي صباح اليوم التالي، أحضر الجند الأخوات الثلاث، فأمرالملك أن يدخلن عليه واحدة واحدة، بادئاً بالكبرى، وكانت أمه حاضرة في مجلسه، فلما رأتها دهشت لجمالها، وتمنتها زوجة لابنها الملك الشاب، على الرغم من مظهرها الزري، وثيابها البالية، ولكن أملها خاب، فلقد سأل الفتاة عن أمنيتها، فصرحت أنها تتمنى أن يزوجها من الفرّان، الذي يعمل في قصره، فأمر لها بذلك، وخرجت محملة بالهدايا.

    ثم دخلت عليه الوسطى، فأعجبت الأم بجمالها الإعجاب كله، على الرغم من مظهرها الدال على فقرها، وتمنتها زوجة لابنها، ولكن أملها خاب، حين سمعتها تتمنى من الملك أن يزوجها من اللحام في قصره، ولقد أجاب الملك طلبها، وأمر لها بذلك، فخرجت محملة بالهدايا.

    وأخيراً دخلت الصغرى، فبهتت الأم أمام جمالها الفتان، وعزمت أن تتخذها لابنها زوجة، أياً كانت أمنيتها، ثم قوى عزمها حين سمعتها تجيب الملك بجرأة يشوبها الخفر والحياء، ولا تخلومن دلال ودلع:

    - أنا لا أتزوج إلا الملك الشاب، أضربه على خدّه، فيدير لقدمي القبقاب.

    ولم يكد الملك يسمع قولها، حتى أمر السياف بضرب عنقها، وقد طاش صوابه، وثار غضبه، وهم بها السياف، ولكن الأم تدخلت، ورجت ابنها أن يمهل الفتاة، فهي صغيرة لا تعقل، فلعلها تراجع نفسها، وتغير قولها، فإن لم تفعل، فليقطع عندئذ رأسها، فأمهلها الملك ثلاثة أيام، ثم توسلت إليه أمه أن يسمح للفتاة أن تقيم عندها، الأيام الثلاثة، فاستجاب الملك لطلب أمه، ومنحها ماسألت.



  5. #5
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية

    وكانت الأم قد أعجبت بالصغرى إعجاباً فاق إعجابها بشقيقتيها، فأخذتها إلى غرفتها، وأمرت بها الخدم، فأخذت إلى الحمام، فغسلت، وخرجت ترتدي أبهى الثياب، وأفخرها، تفوح منها روائح العطور، وهي تتخطر في مشيتها، رشيقة، فاتنة، تحلّي جيدها أغلى الجواهر، لو رأتها أختها لما عرفتها، ولظنتها إحدى أميرات القصر.

    ولقد صرحت الأم لها بأنها تتمناها زوجة لابنها ولكنها أكدت لها أنها لا تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلت، فالملك الشاب سريع الغضب، حاد الانفعال، وليس أمامها سوى ذكائها، وقدرتها على لفته إليها، وإثارة اهتمامه بها، ثم أخبرتها أن ابنها يخلو بنفسه كل يوم، قبل المساء، في شرفة القصر، فما عليها إلا أن تنزل هي إلى حديقة القصر، لتتمشى أمامه، وتبرز له.

    ولما كان الأصيل نزلت الفتاة إلى حديقة القصر، ومضت تتثنى بين الزهور، كأنها إحداها، ويمر بها النسيم، فيحمل في كل الأنحاء شذاها، وهي في رشاقة حركاتها، ورقة لفتاتها، كأنها نسمة من النسمات، تمر بالأطيار، فتغرد لها الأطيار، وتطوف بالأزهار، فتعطف عليها الأزهار.

    وكان ذلك كله يجري تحت بصرالملك الشاب، وهو في شرفة القصر، ففتن بتلك الأميرة الرشيقة، فأرسل الخدم ليدعوها إليه، ولما مضى إليها الخدم، لم يعثروا لها على أثر، إذ كانت قد رجعت إلى غرفتها التي خصتها بها أم الملك، كما رجعت إلى ثيابها البالية القديمة.

    وفي أصيل اليوم التالي خرجت الفتاة إلى حديقة القصر، بأبهى مما خرجت به أمس من ثياب، فتثنت بين الزهور، وتمايلت تحت الظلال، ونشرت في الأجواء أروع العطور، وشدت بأعذب الأشعار، وجرت وراء الفراشات، أرق من الفراشات.

    وكان الملك الشاب في شرفة قصره، كعادته، يراها ويسمعها، وهو بها موله مفتون، لا يعرف من هي؟ ولا من تكون؟ حتى إذا أرسل وراءها الخدم، غابت عن العيون.

    وفي غرفتها بشّرتها أم الملك بافتتان ابنها بها، وصارحتها بأن ابنها قد باح لها بما في قلبه من حبّ لأميرة يراها، ولا يعرف من هي، وهنأتها بما أحرزت من نجاح، ثم تمنت لها أن تحقق في اليوم الأخير، ماتتمناه لها.

    وفي اليوم الثالث هيأتها الأم بأروع مما هيأتها به من قبل، فخرجت إلى حديقة القصر تتهادى في مشيتها، تسحب وراءها ذيل ثوبها الأبيض، ممشوقة القوام، دقيقة الخصر، بجيد أتلع، وشعر مرسل، تنشر حيثما مشت غيمة من عطر.

    وكان الملك الشاب في شرفة القصر، ينتظر، وما إن رآها حتى ناداها، ولما رنت إليه دعاها، فلبت الدعاء، وصعدت إليه في شرفته، وجلست تحادثه وتسامره، وهو يقدم لها أشهى الفواكه، وأطيب الشراب، وقد ذهل بحلو حديثها، عن رقيق جمالها، وهو بها موله مفتون، يقبل حيث لثمت من كأس الشراب، ويستقبل نظراتها ببوح وهيام.

    ومرة كان يناولها كأس الشراب، فتعمدت إفلاتها، من غير أن تشعره بذلك، فانصب بعض الشراب على طرف ثوبها، فأسرع إلى منديله الخاص، يمسح به طرف ثوبها، فماكان منها إلا أن طلبت منه أن يسمح لها بالاحتفاظ بمنديله، فقدمه إليها هدية.

    وطال بهما السمر والحديث، والأكل والشراب، حتى حل المساء، فاستأذنت منه بالانصراف، ووعدته أن تلقاه، فأبى إلا أن يودعها حتى باب الحديقة، ومضى يهبط معها على درج القصر، وبينما كانا يهبطان عليه معاً، افتعلت زلة القدم، من غير أن تشعره بذلك، فسقط قبقابها من قدمها ووقع إلى أسفل الدرج، فأسرع الملك إليه، فالتقطه، ثم صعد إليها، وانحنى ووضعه أمام قدمها الصغيرة، مسحت على خده الناعم الأسيل، بأناملها البضة الرقيقة، فتناولها بين يديه.

    وأمام الباب، كان الوداع.

    ولما كان الصباح، عقد الملك مجلسه، ودعا إليه الفتاة، فدخلت عليه، مع الأم، في هيئتها الأولى، وهي الفقيرة، التي كانت تغزل القطن، فلما سألها عن أمنيتها، أعادت عليه الجواب بأن تتزوج الملك الشاب، تضربه على خده فيدير لقدمها القبقاب، فغضب الملك وأعاد عليها السؤال، فأعادت عليه الجواب نفسه، وعندئذ ثار ثائره، وأمر السياف أن يضرب عنقها على الفور.

    ولكن الملك فوجئ بها وهي ترفع بأناملها البضة الرقيقة، منديله الخاص، وماتزال به آثار من بقع الشراب، فدهش الملك وسألها:

    - ماهذا.؟

    فأجابت: "أنا التي أحضرت لها يوم أمس، من أسفل الدرج، القبقاب، وأنا التي مسحت على خدك بأناملي".

    فأسرع إليها الملك، يعانقها، ويضمها إليه، على مرأى من الجميع، ثم التفت إلى أمه، فشكر لها حسن تدبيرها، وأعلن في المملكة عزمه على الزواج من تلك الفتاة، فأقيمت في المملكة الأفراح، وقرب الملك إليه الفران واللحام، وجعلهما من خالص ندمائه، وكبار مرافقيه، وأفرد لكل منهما جناحاً في قصره.





    الفأرة والذهب



    يحكّى أن ثلاث أخوات فقيرات، ماتت أمهن، فلم تترك لهن سوى المغزل، فكن يغزلن عليه القطن، من أجل أن يعشن، وكن يرسلن كل يوم أختهن الصغرى إلى السوق، لبيع ماغزلن من قطن وشراء مايحتجن من طعام.

    وذات يوم ذهبت الصغرى إلى السوق، كعادتها، فرأت فيه فارة في قفص، يعرضها رجل للبيع، فأعجبت بها، وبخفة حركاتها، وزقزقتها، فاشترتها بثمن ما باعت من قطن، وحملتها إلى البيت فرحة بها، ولكنها فوجئت بأختيها تعنفانها في شرائها الفارة، وتغلظان لها في القول ثم تقدمان على طردها من البيت.

    فخرجت حزينة باكية، تحمل القفص، وفيه فارتها، تنط وتزقزق فسارت على غير هدى، لا تعرف إلى أين تلجأ، فقادتها خطاها إلى قبر أمها، فقعدت في جواره، وراحت تتأمل الفارة، وماهي إلا برهة، حتى أخذتها سنة من النوم، فأغفت، ولما نهضت، وجدت فارتها قد وضعت قطعتين معدنيتين، فحملتهما، وراحت تتأملهما، ولا تعرف ماتفعل بهما؟

    وبينما هي على هذه الحالة، مر بها رجل يحمل على رأسه طبقاً فيه زبيب، ينادي لبيعه، فلما رأته، عرضت عليه القطعتين، ورجته أن يعطيها بهما قليلاً من الزبيب، فلما رأى الرجل القطعتين فرح بهما، فتلقفهما، وناولها الطبق كله، ثم لما عرف أمرها، خلع عباءته، وغطاها بها، ووعدها أن يأتيها بخيمة تنصبها على قبر أمها، لتنام فيها، واعتذر لها لعدم قدرته على إيوائها، لأنه مثلها مشرد، ليس له بيت.

    ولماكان اليوم التالي وضعت الفارة قطعتين أخريين، فأعطتهما الفتاة للرجل، فجاءها بطعام وشراب وكساء وفراش، صار دأب الرجل، يمر بها كل يوم، مساء، فيأخذ القطعتين، اللتين تضعهما الفارة، ويزود الفتاة بكل ماتحتاجه، وهي لا تعلم أن القطعتين المعدنيتين، هما ليرتان ذهبيتان.

    وذات يوم مرّ موكب ابن السلطان بالمقبرة، فرأى الخيمة منصوبة فيها، فعجب لأمرها، وأرسل الجند لاستطلاعها، فعاد إليه بالفتاة والفارة، فلما سألها عن أمرها، حكت له حكايتها كاملة، وعرضت عليه القطعتين، فأخذهما منها، ومضى يتأملها، غير مصدق، ثم عرض عليها أن يصحبها إلى قصره، لتقيم عنده، فترددت في أوّل الأمر، ثم قبلت.

    وفي القصر، أفرد لها ابن السلطان جناحاً، وخصها بالخدم، يسهرون على راحتها، ويوفرون لها أسباب العيش الهنيء، واستمرت فارتها تضع لها كل يوم قطعتين من الذهب، يأخذهما ابن السلطان.

    وكانت الحالة قد تردّت بأختيها، فباعتا المغزل، وأكلتا بثمنه أياماً، ثم اضطرتا إلى سؤال الناس لقمة العيش، فكانتا تطوفان في الطرقات تطلبان من الناس العطاء، وتعودان إلى البيت، في المساء، لتجتمعا بعد تشرد، وتقتسما ما التقطتا.

    وذات يوم كانت الصغرى في نافذة القصر، تتفرج على البلد والناس، وتتذكر شقيقتيها، رأت بائسة فقيرة، تتجول بين الناس، وتمد يدها بالسؤال، فراحت تتأملها، حتى إذا دنت من القصر، عرفت فيها أختها، فأسرعت إلى الخدم تأمرهم بإحضارها.

    ولما دخلت عليها أختها، رقت لحالها، وحزنت لما صارت إليه، فأعطتها بعض الثياب، وحثتها على المضي لإحضار أختها، كي تقيما معها، في جناحها بالقصر.

    ولما حضرت أختاها، وشاهدتا ماتنعم به أختهما من عزة ورفاهية، داخلهما الحسد، وعشش في قلبيهما البغض للفارة، والحقد على أختهما، التي نالها من الحظ، بسبب الفأرة، مالم ينلهما، فأضمرتا لها الأذى، ولكنهما أظهرتا الحب والوداد.

    ومرت عليهما أيام كانتا تنعمان فيها بما تغدقه عليهما الأخت من خيرات، وبما ترفل به ثلاثتهن من نعيم، ولكنهما كانتا تتحينان الفرص، كي تغدرا بها، وذات يوم سافر ابن السلطان إلى بلد قريب في زيارة قصيرة، فاغتنمت الأختان الفرصة، واقترحتا عليها أن يذهبن إلى الحمام، فوافقت.

    ومضت الأخوات إلى الحمام، فأمضين فيه وقتاً، ثم ادّعت إحدى الأختين أنها نسيت في البيت شيئاً، وأن عليها أن تذهب لإحضاره، فخرجت من الحمام، وأسرعت إلى القصر، ثم عمدت إلى الفأرة، فخنقتها، ثم رجعت إلى الحمام.

    ولما خرجت الأخوات من الحمام، ورجعن إلى القصر، أسرعت الصغرى إلى الفارة تطمئن عليها، فوجدتها مخنوقة، فعرفت على الفور أن أختها هي التي قامت بخنقها، فحزنت، وبكت بكاءً مراً، وعمدت إلى ركن في حديقة القصر، فحفرت فيه حفرة، دفنت فيه الفارة، والتقطت من الأرض غصناً يابساً، فغرسته فوق قبرها علامة، حتى يرجع ابن السلطان، فيراها.

    ولبثت بضعة أيام تكظم غيظها، وتخفي حزنها أمام أختيها، حتى رجع ابن السلطان، فأخبرته بما كان، فزود أختيها بالمال والثياب، وطلب منهما أن تغادرا القصر، على أن تزورا أختهما حين ترغبان.

    وأخذت الأخت بعد ذهابهما تزور كل يوم قبر فارتها وتبكيها بدموغ غزيرة، وذات يوم فوجئت بالغصن اليابس الذي غرسته فوق القبر، علامة، قد بزغت فيه براعم صغيرة، وماهي إلا بضعة أيام حتى أورق الغصن وأزهر، ففرحت به فرحاً، ودعت ابن السلطان إلى زيارته ومشاهدته، فلبى دعوتها، ولما رأى الغصن، أعجب به الإعجاب كله، وبينما هو يتأمله، هبت نسمة خفيفة، فتمايل الغصن، وسقطت منه بضع زهرات، التقطها ابن السلطان، فإذا هي لؤلؤ ومرجان، فأخذ يقلبها، ويتأمل فيها، فرحاً، وهنأ الصغرى بما تحظى به.

    ومنذئذ أخذ ابن السلطان يزور الغصن كل يوم، وقت الأصيل، فيقعد أمامه بعض الوقت، ويمضي في تأمله، مستروحاً بأطيب النسمات، والفتاة تطوف بين يديه وتقدم له أشهى الفواكه، وأطيب الشراب، حتى إذا هم بالقيام، دنت من الغصن، وعطفت على أعواده وأزهاره، تداعبها بيدها، وتقول لها:

    هرّي لولو ومرجان

    حتى يفرح ابن السلطان

    ويميل الغصن، فتتساقط بضع زهرات، يلتقطها ابن السلطان، فإذا هي لؤلؤ ومرجان.

    وهكذا عادت الفرحة إلى قلب الصغرى، وسعدت بوفاء فارتها لها، وارتفعت مكانتها عند ابن السلطان، فقربها منه، فهنئت برغد الأيام، ولكنها ذكرت ثانية أختيها ورقت لحالهما، وتمنت لو تستطيع الوصول إليهما، وظلت ترسل الخدم في السؤال عنهما أياماً، ولكنها لم تفلح في العثور عليهما.

    ولكن ذات يوم فوجئت بإحدى أختيها، تزورها، فرحبت بها، وفرحت لزيارتها، فأكرمت وفادتها، وقدمت لها الطعام والثياب، وسألتها عن أختها، فأخبرتها أنها مريضة، لا تستطيع الحراك، وبالغت في وصف مرضها، فتألمت لحالها، وأغدقت عليها مما عندها، ثانية، من طعام وشراب، ثم رافقتها إلى الباب تودعها، وقبل أن تخرج الأخت سألتها إن كانت ماتزال تزور قبر الفارة، كل يوم، وتبكيها، كعادتها، وكانت تسخر منها، فلم تنتبه إلى قصدها، ومضت تحدثها عن الغصن الذي غرسته فوق قبرها، وعن أزهاره، وبما يتساقط منه كل يوم، من لؤلؤ ومرجان، ودعتها إلى رؤيته، فوعدتها أن يكون ذلك في زيارة أخرى.

    وأخذت الأخت تتردد عليها بين الحين والحين، فتظهر لها الحب والوداد، وإن كانت تضمر لها الحسد والبغض، وكانت الصغرى تستقبلها وتفرح بها، وفي كل يوم تصحبها إلى الغصن لتزوره، وتراه، ولما زارتها الأخت التي كانت مريضة، على زعم الأخت الثانية، فرحت بها، وأكرمتها وكانت هي التي خنقت الفارة، فلما دعتها إلى زيارة الغصن ورؤيته، ترددت، ثم قبلت، ومضت، ولما مثلت أمامه، أخذ منها الحقد كل مأخذ، وودت لو تقلعه، ولكنها صبرت نفسها.

    ومرة زارت الأختان شقيقتهما الصغرى، ثم قصد ثلاثتهن الغصن للفرجة عليه، فغافلت إحدى الأختين شقيقتهما، على حين شغلتها، الأخرى بأمر ما، ثم عمدت إلى قليل من الملح، كانت تحمله تحت ثوبها، فرشته فوق الغصن، ثم ودعت الأختان شقيقتهما، وخرجتا، وهما تعدانها بأن تزوراها باستمرار.

    ولما كان أصيل ذلك اليوم نزل ابن السلطان، كعادته، إلى حديقة القصر، ليتأمل الغصن، وإذا به يفاجأ بالفتاة أمام الغصن تبكي، وتلطم خديها، فدنا منها، وضمها إلى صدره، وأخذ يواسيها، ثم أخبرها أن الجاني لن يفلت من العقاب، ولما سألها فيمن تشك، أكدت له أنها لا تشك في غير أختيها، ولكنها تأسف إذ لا تعرف أين هما؟ ولا أين تقيمان؟ فأكد لها أنه قادر على إحضارهما على الفور، فقد شك فيهما من قبل، وأرسل وراءهما أحد الجند، ليتعرف موضع إقامتهما، وأنه ليعرفه، ثم سألها إن كانت توافق على عقابهما، فأجابت أن نعم.

    وفي اليوم التالي مثلت الشقيقتان أمام ابن السلطان، وإلى جانبه كانت تقعد أختهما الصغرى، فتميزتا من الغيظ وودتا لو شقت الأرض وابتلعتهما، ولما سألهما ابن السلطان عن سبب فعلتهما، أنكرتا أول الأمر، ثم لم تلبثا أن أقرتا، واعترفتا بما تحملانه لأختهما من بغض وحسد، فلما سمعت الصغرى كلامهما حزنت أشد الحزن، وخرجت وقد تركتهما لابن السلطان، يوقع بهما مايشاء من عقاب.

    وعندئذٍ أمر ابن السلطان بتعطيش الخيول وتجويع الكلاب، ثلاثة أيام، ثم عمد إلى الأختين فربط كل واحدة بذيل فرس، وأطلق الفرسين يجران الأختين، ثم أطلق في أثريهما الكلاب.

    ورجع إلى الصغرى، فأعلن خطبته لها، فأعدت، وجهزت، ثم أقيمت الأفراح، فتزوجها، وغدت أميرة القصر، وعاشت مع ابن السلطان في هناءة وسرور.




    حكاية الصديق



    كان الابن الوحيد لأبويه، فعنيا بتربيته، والسهر عليه، والاهتمام به، حتى أصبح رجلاً، فسعيا في تزويجه، وبعد بحث طويل عن فتاة تليق به، اهتدت الأم إلى بنت من إحدى قريباتها، زوجته إياها، وأملت في هذه البنت أن يسعد الابن بها.

    ومرت الأيام الأولى من الزواج في فرح وسرور، اشترك فيه الأهل والأقارب والأصحاب، ولكن لم تمضِ بضعة أيام، بعد أفراح الزواج، حتى تكشفت الحقائق وبان الخلاف.



  6. #6
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية

    فالعروس تنام إلى الظهر، ولا تساعد حماتها في شيء، فلا تخرج من غرفتها إلا لتناول الطعام، وقضاء الحاجة، ثم تعود إليها، لتحبس نفسها فيها، من غير أن تشارك حماتها في إعداد الطعام، أو تهيئة البيت.

    ولما كانت الأم تحب ابنها، فقد رضيت بهذا الوضع، وصبرت، مؤملة أن يحين يوم تغدو فيه كنتها أفضل مما هي عليه، ولكن الأيام كانت تكشف عن ازدياد الكنة عزلة، وانصرافاً عن عمها وحماتها، وكأنها لا تعرف في البيت أحد سوى زوجها.

    وكان الابن لا يطلع على شيء مما يجري في البيت، فهو يخرج إلى عمله في الصباح، ولا يعود إلا في المساء، وأمه لا تحدثه بشيء.

    وذات يوم خرج العم كعادته إلى السوق، فاشترى شِوَاء، ورجع إلى البيت، فأخذت الحماة تعمل في غسله وتنظيفه، ولما صار الظهر، خرج العم إلى المسجد للصلاة، فرأت الحماة أن تنادي كنتها لتساعدها في تهيئة الشواء، وتتسلى معها.

    فنادت الحماة الكنّة، مرة، ومرتين، وثلاثاً، فلم تسمع جواباً، فقلقت على كنتها، فدقت عليها باب الغرفة، وبعد طول انتظار، خرجت لها الكنة، في قميص النوم، وهي تفرك عينيها، ثم تمطت طويلاً، وتثاءبت، وقالت بلهجة ممطوطة:

    - آوه، شيء مزعج، ماعرفت كيف أنام

    فعجبت الحماة، وسألتها:

    - خير يابنتي، ماذا أزعجك؟

    فتمطت الكنة، وقالت:

    - كنت في حلم مزعج.

    فسألت الحماة بقلق.

    - خير، خير يا ابنتي، احكي لي.

    فتثاءبت الكنة، وقالت:

    كنت شايفتك دبّة

    طالعة من القبة

    وأربعة شايلينك

    ع التربة

    فبهتت الحماة وذهلت، ولم تجد ماتقول.

    ورجعت إلى المطبخ، وقد اسودت الدنيا في وجهها، لا تعرف ماذا تفعل، إلا أنها ملكت نفسها، وكتمت غضبها، ومضت تتابع تهيئة الشواء.

    وبعد قليل رجع العم من الصلاة، فوجد الحماة تعمل وحدها، فسألها أن تنادي الكنة، لتساعدها، فوارت غضبها، وأخفت حزنها، وأكدت له أنها تريد أن ترتاح في غرفتها، ولا تريد أن تزعجها، فأنكر عليها العم ذلك، وأبدى رغبته في أن يرى كنته تساعدها في العمل، ففي ذلك مايسره، ومالبث أن ناداها، مرة ومرتين، فلم يسمع جواباً، فقلق وطلب من الحماة أن تذهب لتنظر مابها، ولكن الحماة تلكأت، وداورت، فمضى هو بنفسه إلى غرفتها، يدق عليها الباب، وحاولت الحماة ثنيه، ومنعه، ولكنه كان مصمماً، فقد شغل باله، ومضى يدق الباب.

    وبعد انتظار، خرجت له الكنة في قميص النوم، تفرك عينيها وتتثاءب وتتمطى وتبدي انزعاجاً، وتتأوه فشغل العم، وقلق، وسألها:

    - خير، يا ابنتي.

    فأجابته بجفاء:

    - أف، لا أعرف كيف أنام.

    وأراد العم الكلام فقاطعته قائلة:

    - كنت في منام، ولكن كل لحظة يأتي الإزعاج.

    فعجب العم، وسألها:

    - خير يا ابنتي، احكي لي.

    فتمطت، وتثاءبت، وقالت بصوت يغلب عليه القرف والنعاس:

    - كنت شايفتك خنزير.

    معلق بجنزير

    وأربعة شايلينك

    ع البيت الصغير

    فصعق العم، وأظلمت الدنيا في عينيه، ولم يعرف ماذا يفعل، ولكنه فضل الصمت على الفضيحة، ورجع إلى الحماة، يواري ألمه، كي لا يخجل، ولكن الحماة جابهته بالحقيقة، فاعترف، وباح لها بما قالته كنته له، فاعترفت هي بدورها بماكان معها، ثم تشاورا في الأمر، فعزما على ألا يقولا لابنهما شيئاً.

    لما حضر الابن في المساء، اجتمع الأربعة على المائدة، وتناولوا جميعم الطعام، وإن كان الأب والأم لم يستطيعا في الحقيقة تناول شيء، غير بضع لقيمات، وقد لاحظ الابن ذلك في والديه، فصمت، ثم خلا بأبيه، فسأله، وألح عليه في السؤال، فحكى له الأب ماكان.

    وعندئذٍ طلب الولد من أمه أن تضع له قليلاً من الشواء في رغيف، ففعلت، فجعله في صرة ثم حمله إلى غرفته، وطلب من زوجته أن تتهيأ لزيارة أهلها، فأدركت على الفور أن في الأمر شيئاً ما، فاعتذرت، وأكدت أنها ليست في شوق لأهلها، وادعت التوعك والمرض، ولكن الزوج أصر، فلم تجد بداً من الانصياع، فخرجت معه لزيارة أهلها.

    واستقبل العم صهره بالترحيب، وقدم الصهر لعمه ماحمله من شواء، فشكره، ثم اجتمعت الأسرة كلها، العم والحماة، والصهر، والزوجة، وأخواتها، وإخوتها، وتنوعت الأحاديث واختلفت الموضوعات، حتى وجد الصهر وقتاً مناسباً للحديث، فتحدث، وهو يقول:

    - كنت اليوم مع أحد أصحابي، وقد حكى لي ماجرى مع أمه وزوجته.. ثم سرد الصهر القصة من أولها إلى آخرها، ولكنه نسبها إلى صديق له، وكان يتبسط في الحديث، ويتوسع في التفاصيل، وزوجته تضيق به، وتتململ من حديثه، وتشكو من طول السهرة، وتدعي التوعك، وتظهر النعاس، وتطلب العودة إلى البيت، على حين كان العم يستنكر فعل تلك المرأة، الطائشة، اللعوب، ويزري بها، وينعتها بأبشع النعوت، ويلحق بها الشتائم، وبأبويها اللذين لم يحسنا تربيتها، وهو يظهر غضباً وانفعالاً شديدين، كما كانت الحماة لا تفتأ تشيد ببناتها، وتثني عليهن، وتذكر زواجهن الموفق، وأخلاصهن لأزواجهن، والزوجة خلال ذلك تنفعل وتغتاظ.

    حتى إذا انتهى الصهر من حكايته سأل العم قائلاً:"مارأيك ياعمي بمثل هذه الزوجة؟". فنهض العم، وأقسم الإيمان المغلظة أن مثل تلك الزوجة لا تستحق غير الطلاق، ولو أنها كانت ابنته أو زوجته أو كنته لطلقها على الفور.

    وعندئذٍ قال الصهر بهدوء:"هي ابنتك وهي طالق"، فصعق العم، وذهل، ولكنه نفى أن تكون ابنته كذلك، وثارت الأم، وثارت الأخوات، وأكد الجميع أن ابنتهم ليست كذلك، ولكن الصهر أكد لهم أن تلك الحكاية هي حكايته هو، لا حكاية الصديق، وماعليهم إلا أن يسألوا ابنتهم.

    ونظر الجميع إلى ابنتهم، فصمتت، ثم انفجرت باكية، وركضت إلى زوجها تقبل يديه، وتعتذر له، ولكنه أكد أنه لن يقبل بغير حكم أبيها فيها، وحكمه فيها قد صدر، وهي لابد طالق، وقبل الأهل بطلاقها وتم التفريق بينهما.




    حماة من خشب



    يحكى أن شاباً عزباً أنهى دراسته القانون، وتسلّم منصب القضاء، في بلدة بعيدة عن بلدته، وكان تعيينه في القضاء الشرعي، فكان يقعد للنظر في دعاوى الزوجات وشكاواهن على أزواجهن، وفي كل يوم تأتيه النسوة، يشكون له حماواتهن، وسوء معاملتهن، ومايكون بهن من خرف، ومن تدخل في شؤون المنزل، ومن مضايقة ومعاندة، فيحكم للزوجات على الأزواج.

    ولكنه لاحظ بعد حين أن أكثر أسباب الدعاوى التي تقدمها النساء على أزواجهن، هي الحماوات، فشك في الأمر، وقال:"لا يخلوالأمر من مبالغة"، فأخذ يتروّى في حكمه ويتريث، خشية أن يكون في رأيه شيء من الجور، وهو شاب عزب، قليل الخبرة في أمور الزوجات والحماوات، ولذلك قرر أن يجرب الأمر بنفسه، حتى يكون حكمه عن بيّنة.

    وكان يتيم الأبوين، وحيداً في البلدة، لا أحد له فيها، سوى من تعرّف إليهم من الأصحاب، فطلب من هؤلاء المساعدة على الخطبة والزواج، وماهي إلا أيام حتى اهتدى إلى فتاة توسّم فيها الخير والصلاح، فقرر خطبتها، وقعد إلى والدها يحدثه، فأخبره أن له أماً عجوزاً، قد أسكنها في غرفة، خاصة في داره، وأنها لا تغادر غرفتها ألبته، فهي قعيدة، تظل أبداً أمام النافذة، تصلّي لله، وتسبّحه، وأنّه لا يكلّف زوجته من أمرها شيئاً، فهو يتكفّل أمر إطعامها حين يعود إلى البيت، ووافق الوالد على الخطبة، وعقد القران ثم صار الزفاف.

    وكان الشاب قد أوصى أحد النجارين أن يصنع له دمية من خشب، على هيئة امرأة عجوز، وأن يجعل رأسها على نابض، يتيح له الحركة المستمرة، وقد حمل هذه الدمية، ووضعها في غرفة خاصة، في داره، وجعلها تجاه النافذة، ثم وضع على رأسها ملاءة بيضاء، وجعلها في هيئة من يصلي لله، ويسبّح.

    وبعد انتهاء أيام الزواج الأولى، وفي صباح يوم، قال لزوجته، قبل أن يخرج إلى عمله: هذه هي أمي، ترينها من وراء زجاج النافذة، لا تخرج إليك، ولا تذهبين إليها، وأنا أتكفّل بها حين أرجع"، فقالت له زوجته:"لا تقلق، إن أمّك مثل أمي، بل هي أغلى عندي، وإني أخدمها بعيوني "فشكر لها عواطفها، ثم تركها، وخرج.

    ولما عاد في المساء، سأل زوجته عن أمه، فأجابته: "لقد سررت بها السرور كله، فوجهها يفيض تقوى وورعاً، وبركاتها تحل على الدار،وكم أتمنى لو تنزل إلي للتسلي معي"، فقال لها الزوج: "لا، دعيها لصلاتها وعبادتها"، ثم استأذنها، ومضى إلى أمه، فأمضى عندها بعض الوقت، ثم خرج.

    وكان هذا دأبه، يوصي زوجته بأمه كل يوم، قبل أن يخرج، ويسألها عنها حين يعود، وكانت زوجته تمدح أمه، وتثني عليها، ولكنها شيئاً فشيئاً أخذت تضيق بها، وتتذمر، وتبدي عجبها من طول مكثها أمام النافذة، وعدم مغادرتها لموضعها، كما أنها ضاقت برأسها الذي ماتنفك تهزّه، لا تفتر ولا تتعب، وكان زوجها يجيبها بما يقنعها، فتصمت مكرهة.

    وذات يوم كان الطعام الذي أعدته زوجته كثير الملح، بشكل لا يطاق، فعاتبها في ذلك، فقالت له: "لا تعاتبني، ولكن عاتب أمك، فقد نزلت هذا اليوم من غرفتها، وتدخّلت في أمر الطبخ، وهي التي وضعت الملح في الطعام، وقد قلت لها إنك لاتحب الملح الكثير في الطعام، ولكنها رفضت إلا أن تضع الملح هي بنفسها". وماكان من الزوج إلا أن وارى امتعاضه وصمت.

    وفي يوم آخر، رجع إلى البيت، فوجدها لم تنته من الغسيل الذي كانت قد بدأت به قبل خروجه في الصباح، فعاتبها في ذلك، فقالت له: "إن أمك قد نزلت هذا اليوم أيضاً، وأخذت تتدخل في كل شيء، تطلب مني أن أغسل كل قطعة مرتين وثلاثاً، فتأخرت في الغسيل، وماكان من الزوج إلا أن وارى غضبه، وصمت أيضاً.

    وهكذا أخذت الزوجة، كلما أخطأت في شيء، أو قصرت، تلقي السبب في ذلك على حماتها، وكانت في كل مرة ترتاح إلى ذلك وتفرح، إذ تظن أن زوجها قد صدّق ادعاءها، وأنها نجت من اللوم والعتاب، وتظن أنه يدخل على أمه فيلومها ويعاتبها.

    وكانت في كل مرة تعمد إلى الكيد لحماتها، فتشير إليها بيديها ورأسها إشارات تقلدها فيها، وتريد إغاظتها، ولكنها كانت تزداد هي نفسها غضباً وغيظاً، حين ترى حماتها لا تغضب، ولا تكف عن هز رأسها، في ثبات واستقرار.

    وذات يوم رجع الزوج إلى البيت، فرأى زوجته تبكي، وتلطم وجهها، فسألها عن أمرها، فانفجرت صائحة بغضب: "أمك، أمك، انظر إليها، إنها تكيد لي، وتغيظني بهز رأسها". وحاول الزوج تهدئتها، ولكنه لم يفلح، وأصرت على الذهاب إلى أهلها، لتشكو الأمر إلى أبيها.

    وماكان من الزوج إلا أن استجاب إلى طلب زوجته، فأخذها إلى أهلها، فروت لأبيها ماتعانيه من مضايقة حماتها وكيدها، وحاول الزوج الدفاع عن أمه، وتأكيد صلاحها وتقواها، وأنها لا تغادر سجادة صلاتها، ولكن الأب لم يستجب لقوله، وغضب لابنته، غضباً شديداً، ثم قال له:"إن أمك تغيظ ابنتي، وتكيد لها، وأنا لن أردها إليك إلا إذا خرجت أمك إلى بيت خاص، بعيد عن بيت ابنتي". وأخذت الزوجة تبكي وتندب، وتبالغ في الأمور، حتى إنها قالت لأبيها:"ولا أخفي عنك يا أبي أن حماتي قد أقدمت على ضربي وشدّ شعري، وتمزيق ثيابي، وهذه آثار أظافرها في جسمي". وهنا أظهر الزوج غضباً شديداً، وفزع لزوجته، وهب واقفاً، ثم قال: "والله ماكنت أعرف بمثل هذا من قبل، وأنا لا أقبل به من أمي، وأنا ذاهب الآن لقتلها والخلاص منها" ، وفتح الباب وخرج.

    ولحقت به زوجته، ووالدها، فأدركاه، وهو يحمل عصاً غليظة، ويهم بالدخول بها على أمه، فتوسلوا إليه ألا يفعل، وذكّراه بأنها أمه، وأنه قاضٍ يعرف الحلال والحرام، ولكنه بالغ في إظهار غضبه، واندفع داخلاً على أمه، فدخلا وراءه، وهوى بالعصا الغليظة على الدمية، فطار الرأس، ونفر النابض، وسقطت الملاءة، وبان الخشب.

    ثم مضى بعد ذلك إلى المحكمة وأصدر حكماً بطلاق زوجته، بصفته قاضياً، ثم أعلن استقالته ، وتخليه عن القضاء، وندم على ما أصدر من قبل من أحكام، ظلم فيها أزواجاً كثيرين، حين صدق شكاوى زوجاتهم من حماواتهن.






    علبة الأضراس



    يروى أن ابن أحد التجار كان والده قد أرسله في تجارة، إلى بلاد بعيدة، ليكسب رزقاً، وليتعلم أصول التجارة، ويتعرف إلى البلاد والعباد، وكان فتى شاباً، عزباً، ما إن نزل في إحدى المدن، حتى قادته خطاه إلى المبغى، ولما كان ابن التاجر، يحمل معه كيس نقود، فقد استطاع أن ينتقي أجمل العاهرات ويمضي ليلة معها، ينفق عليها، بكرم وسخاء.

    يبدو أن العاهرة قد وجدت فيه بعض ماتصبو إليه، فقبلت منه كل ما أنفقه في ليلته، ولكنها رفضت أن تأخذ ما اتفقت عليه معه من أجر، وتوسلت إليه أن يعود إليها في المساء، وكان الفتى قد أعجب بها، بل فتن وسحر، فهي المرأة الأولى التي يتعرف إليها، وقد وجد فيها كل مالا يعرفه في المرأة، فوعدها أن يجيء.

    ولما كان المساء، أنهى علاقاته مع التجار، وأسرع إلى المبغى، محمّلاً بالهدايا، فاستقبلته، خير استقبال، ورحبت به، خير ترحيب، وأمضيا الليلة معاً، ولما كان الصباح قالت له ماقالته بالأمس، فأجابها على سؤالها، ولبى رغبتها.

    واستمر الحال بالفتى، على هذا المنوال، أشهراً طوالاً، أصبح فيها خدين العاهرة، وقد محضته هي الحب، وإن لم تستطع أن تمحضه الوفاء، وقد عرّفته إلى كبار التجار من رواد المبغى، وساعدته في سيرورة تجارته ورواجها، وتوسطت له لدى أصحاب الخانات، حتى كبرت تجارته واتسعت، وزادت أمواله ونمت.

    ولكن ذات يوم، وصله نبأ بمرض والده، ودعوته له إلى العودة إلى بلاده، كي يراه قبل وفاته، فاغتم للنبأ، واكتأب، خوفاً على أبيه من طرف، وحزناً لفراق خدينته، من طرف آخر، ولكنه اضطر للرحيل، فحمل بضائعه على الجمال، وجمع أمواله في الأكياس، ولم ينبئ خدينته إلا قبيل الرحيل، فأوقف الجمال، ومرّ بها يودعها، فأظهرت حزناً لفراقه، وألماً لِمَا سيكون من بعاد، ولكنه وعدها بالعودة، فور شفاء والده، وأكد لها أنه رجل أسفار، فطلبت منه أن يقدم إليها شيئاً تذكره به، فسألها أن تطلب ماتريد، فلو سألته بضائعه وجماله وأمواله، لمنحها إياها، وما أبقى غير راحلته، ولكنها أكدت له أنها لا تطمع في شيء، ولا تريد سوى واحد من أضراسه، للذكرى، ومد يده إلى ضرسه، وشده بقوة، وقدمه إليها، فأخذته منه شاكرة، وودعها ومضى، وهو يحلم بالعود القريب.

    ولما بلغ بلاده، ألفى والده على فراش الموت، ولم يطل به المقام قربه، حتى وافاه الأجل، فكفنه، وواراه التراب، ثم حل محل والده في السوق، وأصبح كبير التجار، ملأ السوق ببضائعه، وتقاطر إليه التجار من كل حدب وصوب، وأمواله ماتفتأ تنمو تزيد، وتجارته تتسع، حتى ملأت الآفاق.

    وكان في أثناء ذلك يذكر خدينته، ويحن إليها، ويشتاق، ويفكر في الرحيل إليها، حتى كان يوم، بعد عام أو بعض عام، حمل بضاعته إلى تلك البلد، وما إن نزل فيها حتى أسرع إلى المبغى، وكان الوقت مساءً، فقرع على خدينته الباب، فأطلت عليه من نافذة غرفتها، تسأله عما يريد، فدهش، وقال لها:"أنا فلان"، فلم يظهر عليها تأثر ما، وسألته ثانية عن غايته، فزاد عجبه، وحسر عن رأسه عمامته، وقال لها: "أنا فلان، لم أغب عنك سوى عام، وبعض العام"، فلم تجب بشيء، فألح عليها، وذكّرها بما كان بينهما من حب ووصال، فازداد إنكارها، ثم لم تلبث أن سألته إن كان يستطيع أن يذكّرها بدلالة أو إشارة أو علامة تعرفه بها، فقال لها: "نعم، نعم، ضرسي، قدمته لك قبيل الرحيل"، فضحكت ثم قالت: "انتظر قليلاً"، فخفق قلبه، وفرح، وأدرك أنها لابد ستعرفه، ووقف ينتظر، ثم فتح الباب، وظهرت له هي نفسها، ولكنها متبدّلة، مربدّة الوجه، فاضحة الثياب، ومدت له يدها بعلبة، وهي تقول له:"خذ، افتحها"، وتناول منها العلبة، مدهوشاً، وهو ينظر إليها، ولهان، ثم فتح العلبة، بيد مرتعشة، وإذا هو أمام كومة من الأضراس، فدهش، وعلاه الخبال، ونظر إليها فاغر الفم، لا يعي مايقول.




  7. #7
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية




    حماة من خشب



    يحكى أن شاباً عزباً أنهى دراسته القانون، وتسلّم منصب القضاء، في بلدة بعيدة عن بلدته، وكان تعيينه في القضاء الشرعي، فكان يقعد للنظر في دعاوى الزوجات وشكاواهن على أزواجهن، وفي كل يوم تأتيه النسوة، يشكون له حماواتهن، وسوء معاملتهن، ومايكون بهن من خرف، ومن تدخل في شؤون المنزل، ومن مضايقة ومعاندة، فيحكم للزوجات على الأزواج.

    ولكنه لاحظ بعد حين أن أكثر أسباب الدعاوى التي تقدمها النساء على أزواجهن، هي الحماوات، فشك في الأمر، وقال:"لا يخلوالأمر من مبالغة"، فأخذ يتروّى في حكمه ويتريث، خشية أن يكون في رأيه شيء من الجور، وهو شاب عزب، قليل الخبرة في أمور الزوجات والحماوات، ولذلك قرر أن يجرب الأمر بنفسه، حتى يكون حكمه عن بيّنة.

    وكان يتيم الأبوين، وحيداً في البلدة، لا أحد له فيها، سوى من تعرّف إليهم من الأصحاب، فطلب من هؤلاء المساعدة على الخطبة والزواج، وماهي إلا أيام حتى اهتدى إلى فتاة توسّم فيها الخير والصلاح، فقرر خطبتها، وقعد إلى والدها يحدثه، فأخبره أن له أماً عجوزاً، قد أسكنها في غرفة، خاصة في داره، وأنها لا تغادر غرفتها ألبته، فهي قعيدة، تظل أبداً أمام النافذة، تصلّي لله، وتسبّحه، وأنّه لا يكلّف زوجته من أمرها شيئاً، فهو يتكفّل أمر إطعامها حين يعود إلى البيت، ووافق الوالد على الخطبة، وعقد القران ثم صار الزفاف.

    وكان الشاب قد أوصى أحد النجارين أن يصنع له دمية من خشب، على هيئة امرأة عجوز، وأن يجعل رأسها على نابض، يتيح له الحركة المستمرة، وقد حمل هذه الدمية، ووضعها في غرفة خاصة، في داره، وجعلها تجاه النافذة، ثم وضع على رأسها ملاءة بيضاء، وجعلها في هيئة من يصلي لله، ويسبّح.

    وبعد انتهاء أيام الزواج الأولى، وفي صباح يوم، قال لزوجته، قبل أن يخرج إلى عمله: هذه هي أمي، ترينها من وراء زجاج النافذة، لا تخرج إليك، ولا تذهبين إليها، وأنا أتكفّل بها حين أرجع"، فقالت له زوجته:"لا تقلق، إن أمّك مثل أمي، بل هي أغلى عندي، وإني أخدمها بعيوني "فشكر لها عواطفها، ثم تركها، وخرج.

    ولما عاد في المساء، سأل زوجته عن أمه، فأجابته: "لقد سررت بها السرور كله، فوجهها يفيض تقوى وورعاً، وبركاتها تحل على الدار،وكم أتمنى لو تنزل إلي للتسلي معي"، فقال لها الزوج: "لا، دعيها لصلاتها وعبادتها"، ثم استأذنها، ومضى إلى أمه، فأمضى عندها بعض الوقت، ثم خرج.

    وكان هذا دأبه، يوصي زوجته بأمه كل يوم، قبل أن يخرج، ويسألها عنها حين يعود، وكانت زوجته تمدح أمه، وتثني عليها، ولكنها شيئاً فشيئاً أخذت تضيق بها، وتتذمر، وتبدي عجبها من طول مكثها أمام النافذة، وعدم مغادرتها لموضعها، كما أنها ضاقت برأسها الذي ماتنفك تهزّه، لا تفتر ولا تتعب، وكان زوجها يجيبها بما يقنعها، فتصمت مكرهة.

    وذات يوم كان الطعام الذي أعدته زوجته كثير الملح، بشكل لا يطاق، فعاتبها في ذلك، فقالت له: "لا تعاتبني، ولكن عاتب أمك، فقد نزلت هذا اليوم من غرفتها، وتدخّلت في أمر الطبخ، وهي التي وضعت الملح في الطعام، وقد قلت لها إنك لاتحب الملح الكثير في الطعام، ولكنها رفضت إلا أن تضع الملح هي بنفسها". وماكان من الزوج إلا أن وارى امتعاضه وصمت.

    وفي يوم آخر، رجع إلى البيت، فوجدها لم تنته من الغسيل الذي كانت قد بدأت به قبل خروجه في الصباح، فعاتبها في ذلك، فقالت له: "إن أمك قد نزلت هذا اليوم أيضاً، وأخذت تتدخل في كل شيء، تطلب مني أن أغسل كل قطعة مرتين وثلاثاً، فتأخرت في الغسيل، وماكان من الزوج إلا أن وارى غضبه، وصمت أيضاً.

    وهكذا أخذت الزوجة، كلما أخطأت في شيء، أو قصرت، تلقي السبب في ذلك على حماتها، وكانت في كل مرة ترتاح إلى ذلك وتفرح، إذ تظن أن زوجها قد صدّق ادعاءها، وأنها نجت من اللوم والعتاب، وتظن أنه يدخل على أمه فيلومها ويعاتبها.

    وكانت في كل مرة تعمد إلى الكيد لحماتها، فتشير إليها بيديها ورأسها إشارات تقلدها فيها، وتريد إغاظتها، ولكنها كانت تزداد هي نفسها غضباً وغيظاً، حين ترى حماتها لا تغضب، ولا تكف عن هز رأسها، في ثبات واستقرار.

    وذات يوم رجع الزوج إلى البيت، فرأى زوجته تبكي، وتلطم وجهها، فسألها عن أمرها، فانفجرت صائحة بغضب: "أمك، أمك، انظر إليها، إنها تكيد لي، وتغيظني بهز رأسها". وحاول الزوج تهدئتها، ولكنه لم يفلح، وأصرت على الذهاب إلى أهلها، لتشكو الأمر إلى أبيها.

    وماكان من الزوج إلا أن استجاب إلى طلب زوجته، فأخذها إلى أهلها، فروت لأبيها ماتعانيه من مضايقة حماتها وكيدها، وحاول الزوج الدفاع عن أمه، وتأكيد صلاحها وتقواها، وأنها لا تغادر سجادة صلاتها، ولكن الأب لم يستجب لقوله، وغضب لابنته، غضباً شديداً، ثم قال له:"إن أمك تغيظ ابنتي، وتكيد لها، وأنا لن أردها إليك إلا إذا خرجت أمك إلى بيت خاص، بعيد عن بيت ابنتي". وأخذت الزوجة تبكي وتندب، وتبالغ في الأمور، حتى إنها قالت لأبيها:"ولا أخفي عنك يا أبي أن حماتي قد أقدمت على ضربي وشدّ شعري، وتمزيق ثيابي، وهذه آثار أظافرها في جسمي". وهنا أظهر الزوج غضباً شديداً، وفزع لزوجته، وهب واقفاً، ثم قال: "والله ماكنت أعرف بمثل هذا من قبل، وأنا لا أقبل به من أمي، وأنا ذاهب الآن لقتلها والخلاص منها" ، وفتح الباب وخرج.

    ولحقت به زوجته، ووالدها، فأدركاه، وهو يحمل عصاً غليظة، ويهم بالدخول بها على أمه، فتوسلوا إليه ألا يفعل، وذكّراه بأنها أمه، وأنه قاضٍ يعرف الحلال والحرام، ولكنه بالغ في إظهار غضبه، واندفع داخلاً على أمه، فدخلا وراءه، وهوى بالعصا الغليظة على الدمية، فطار الرأس، ونفر النابض، وسقطت الملاءة، وبان الخشب.

    ثم مضى بعد ذلك إلى المحكمة وأصدر حكماً بطلاق زوجته، بصفته قاضياً، ثم أعلن استقالته ، وتخليه عن القضاء، وندم على ما أصدر من قبل من أحكام، ظلم فيها أزواجاً كثيرين، حين صدق شكاوى زوجاتهم من حماواتهن.






    علبة الأضراس



    يروى أن ابن أحد التجار كان والده قد أرسله في تجارة، إلى بلاد بعيدة، ليكسب رزقاً، وليتعلم أصول التجارة، ويتعرف إلى البلاد والعباد، وكان فتى شاباً، عزباً، ما إن نزل في إحدى المدن، حتى قادته خطاه إلى المبغى، ولما كان ابن التاجر، يحمل معه كيس نقود، فقد استطاع أن ينتقي أجمل العاهرات ويمضي ليلة معها، ينفق عليها، بكرم وسخاء.

    يبدو أن العاهرة قد وجدت فيه بعض ماتصبو إليه، فقبلت منه كل ما أنفقه في ليلته، ولكنها رفضت أن تأخذ ما اتفقت عليه معه من أجر، وتوسلت إليه أن يعود إليها في المساء، وكان الفتى قد أعجب بها، بل فتن وسحر، فهي المرأة الأولى التي يتعرف إليها، وقد وجد فيها كل مالا يعرفه في المرأة، فوعدها أن يجيء.

    ولما كان المساء، أنهى علاقاته مع التجار، وأسرع إلى المبغى، محمّلاً بالهدايا، فاستقبلته، خير استقبال، ورحبت به، خير ترحيب، وأمضيا الليلة معاً، ولما كان الصباح قالت له ماقالته بالأمس، فأجابها على سؤالها، ولبى رغبتها.

    واستمر الحال بالفتى، على هذا المنوال، أشهراً طوالاً، أصبح فيها خدين العاهرة، وقد محضته هي الحب، وإن لم تستطع أن تمحضه الوفاء، وقد عرّفته إلى كبار التجار من رواد المبغى، وساعدته في سيرورة تجارته ورواجها، وتوسطت له لدى أصحاب الخانات، حتى كبرت تجارته واتسعت، وزادت أمواله ونمت.

    ولكن ذات يوم، وصله نبأ بمرض والده، ودعوته له إلى العودة إلى بلاده، كي يراه قبل وفاته، فاغتم للنبأ، واكتأب، خوفاً على أبيه من طرف، وحزناً لفراق خدينته، من طرف آخر، ولكنه اضطر للرحيل، فحمل بضائعه على الجمال، وجمع أمواله في الأكياس، ولم ينبئ خدينته إلا قبيل الرحيل، فأوقف الجمال، ومرّ بها يودعها، فأظهرت حزناً لفراقه، وألماً لِمَا سيكون من بعاد، ولكنه وعدها بالعودة، فور شفاء والده، وأكد لها أنه رجل أسفار، فطلبت منه أن يقدم إليها شيئاً تذكره به، فسألها أن تطلب ماتريد، فلو سألته بضائعه وجماله وأمواله، لمنحها إياها، وما أبقى غير راحلته، ولكنها أكدت له أنها لا تطمع في شيء، ولا تريد سوى واحد من أضراسه، للذكرى، ومد يده إلى ضرسه، وشده بقوة، وقدمه إليها، فأخذته منه شاكرة، وودعها ومضى، وهو يحلم بالعود القريب.

    ولما بلغ بلاده، ألفى والده على فراش الموت، ولم يطل به المقام قربه، حتى وافاه الأجل، فكفنه، وواراه التراب، ثم حل محل والده في السوق، وأصبح كبير التجار، ملأ السوق ببضائعه، وتقاطر إليه التجار من كل حدب وصوب، وأمواله ماتفتأ تنمو تزيد، وتجارته تتسع، حتى ملأت الآفاق.

    وكان في أثناء ذلك يذكر خدينته، ويحن إليها، ويشتاق، ويفكر في الرحيل إليها، حتى كان يوم، بعد عام أو بعض عام، حمل بضاعته إلى تلك البلد، وما إن نزل فيها حتى أسرع إلى المبغى، وكان الوقت مساءً، فقرع على خدينته الباب، فأطلت عليه من نافذة غرفتها، تسأله عما يريد، فدهش، وقال لها:"أنا فلان"، فلم يظهر عليها تأثر ما، وسألته ثانية عن غايته، فزاد عجبه، وحسر عن رأسه عمامته، وقال لها: "أنا فلان، لم أغب عنك سوى عام، وبعض العام"، فلم تجب بشيء، فألح عليها، وذكّرها بما كان بينهما من حب ووصال، فازداد إنكارها، ثم لم تلبث أن سألته إن كان يستطيع أن يذكّرها بدلالة أو إشارة أو علامة تعرفه بها، فقال لها: "نعم، نعم، ضرسي، قدمته لك قبيل الرحيل"، فضحكت ثم قالت: "انتظر قليلاً"، فخفق قلبه، وفرح، وأدرك أنها لابد ستعرفه، ووقف ينتظر، ثم فتح الباب، وظهرت له هي نفسها، ولكنها متبدّلة، مربدّة الوجه، فاضحة الثياب، ومدت له يدها بعلبة، وهي تقول له:"خذ، افتحها"، وتناول منها العلبة، مدهوشاً، وهو ينظر إليها، ولهان، ثم فتح العلبة، بيد مرتعشة، وإذا هو أمام كومة من الأضراس، فدهش، وعلاه الخبال، ونظر إليها فاغر الفم، لا يعي مايقول.


  8. #8
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية





    ثمن الذهب



    كان لأحد الرجال بنت وحيدة، ذات جمال باهر، رباها خير تربية، ونشّأها أفضل تنشئة، ولما بلغت سن الزواج، أخذت الخاطبات بالتوافد عليها، ولكنهن كنّ يرجعن خائبات، لأن والدها كان يطلب فيها وزنها ذهباً، فانصرفت الخاطبات عنها، وأصبحت لا يطرق بابها أحد.

    وذات يوم تقدم إلى خطبتها شاب أعلن عن استعداده لدفع مايعدل وزنها ذهباً، على شرط أن يأذن له أبوها باصطحابها إلى بلده، فهو غريب، وألا يسأل بعدئذ عن ابنته أبداً، فوافق الأب ودفع الشاب مايعدل وزن البنت ذهباً، ثم ارتحل بها إلى بلده.

    وتم الزواج من غير احتفال ولا زوار ولا مهنئين، وأقامت الزوجة في بيت زوجها هانئة مسرورة بما يوفره لها زوجها من أسباب الراحة والنعيم، وكان يخرج كل يوم إلى عمله في الصباح، يقفل الباب عليها، ولا يرجع حتى المساء، وكانا لا يزورهما أحد، ولا يزوران أحد.

    ومرت الأيام، فحملت الزوجة، وتتابعت الشعور، فوضعت ولداً،وهي في الدار وحدها، من غير أن يعينها أحد، أو تشرف عليها قابلة، فتكفلت بكل شيء بنفسها، ثم رجع زوجها في المساء من عمله، فرأى الطفل الوليد، فحمله وخرج به، ثم رجع من غيره، فسألته الزوجة عن طفلها، فأجابها بأنه قد باعه، ثم أكد لها أنه سيبيع كل ولد تضعه، حتى يسترد الثمن الذي دفعه فيها، فغصت الزوجة بدموعها، ولم تجب بشيء.

    ومرت الأيام، وتلتها الشهور، وإذا الزوجة قد حملت ثانية، ثم وضعت طفلاً ثانياً، ففعل الزوج مافعله من قبل بالولد الأول.

    ومرت شهور أخرى، حملت فيها الزوجة مرة ثالثة، ثم وضعت بنتاً تشبهها في حسنها وجمالها، ودخل عليها الزوج، فتوسلت إليه زوجته أن يترك الطفلة لها كي تأنس بها وتتسلى، ولكن الزوج لم يبال بها، فحمل الطفلة وخرج بها، ثم رجع من غيرها، ليخبرها بأنه قد باعها أيضاً.

    وغصت الزوجة بدمعها، ولم تجب بشيء، ولكنها قررت أن تمنع نفسها من الحمل، حتى لا يكون مصير الأولاد الآخرين مصير من سبق، وظلت على هذه الحالة من الصبر والصمت، يخرج زوجها كل يوم في الصباح، فيقفل عليها، ولا يرجع حتى المساء، لا تزور ولا تزار، ولا ترى أحداً، ولا يراها أحد.

    ومرت الشهور تلتها السنون والأعوام، إذا زوجها يخبرها ذات يوم بضيقه بها، وعزمه على الزواج من غيرها، متذرعاً بعدم حملها، مؤكداً حاجته إلى الولد، فأكدت له الزوجة موافقتها على كل مايراه، فطلب منها أن تبحث عن زوجة تليق به، فأجابته بأنها لم تخرج من البيت قط، ولا تعرف أحداً، ثم أشارت عليه أن يختار هو الفتاة التي تروق له، ثم وعدته أن تقوم بدورها في إتمام الخطبة والسعي في أمور الزواج.

    وبعد بضعة أيام رجع إليها الزوج باكراً، فطلب منها أن تخرج معه، فخرجت، فدلها على بيت، وطلب منها أن تزور أهله، وتخطب ابنتهم، وأوصاها أن توافق على مايطلبون من أمور.

    ودخلت الزوجة إلى البيت الذي دلها عليه، فاستقبلتها فيه بعض النسوة، فأخبرتهن بأنها جاءت تخطب إليهن ابنتهن، تريدها لزوجها، فبرزت لها فتاة دون الخامسة عشرة من عمرها، ذات حسن وجمال، خفق لها قلبها، ودهشت لمرآها دهشاً عظيماً، ثم سألت الأهل عن طلباتهم وشروطهم، وأكدت لهم استعداد زوجها للوفاء بكل مايطلبون.

    وسارت الأمور على مايرام، فتمت الخطبة، وحان موعد الزفاف، والزوجة تسعى في ذلك كله، وتساعد زوجها، صابرة صامتة، لا تبدي انزعاجاً ولا قلقاً ولا غضباً.

    وفي ليلة الزفاف أُحضِرَت العروس في أبهى زينتها، وكان يصحبها أخواها، وهما يفوقانها في الحسن والبهاء، وطلب الزوج من زوجته أن تنهض لاستقبال عروسه وأخويها، وأن تقودهم إلى مخدعه، فنهضت الزوجة، فاستقبلت العروس وأخويها، وقادتهم جميعاً إلى مخدع زوجها، ثم تركتهم وهمت بالرجوع، وإذا زوجها يدخل عليها ويطلب منها البقاء، ليقدم لها العروس معرفاً بها، بوصفها ابنتها، ويقدم لها شقيقي العروس بوصفهما ولديها.

    وعانقت الأم ابنتها، العروس، وضمت إليها ولديها، ثم ضم الزوج إليه زوجته وأولاده، وشكر للزوجة صبرها، وبارك فيها وأكد لها أنها تستحق أن يدفع فيها مايعادل وزنها ذهباً.




    الوصية



    كان لأحد الرجال ثلاثة أولاد، وكان على قدر كبير من الغنى، فلديه الأراضي والماشية والديار، وكان أولاده يسألونه دائماً أن يقسم فيهم أمواله، قبل وفاته، ولكنه كان لا يستجيب إلى طلبهم، ويعدهم بأن كل ما يملكه هو لهم، وأنه قد رتب الأمور، وأعد وصيته، وأنه أودعها خزانته، وما عليهم ألا أن يفتحوها بعد وفاته، ليجدوا واكل شيء قد أعد خير إعداد.

    ومضى الأولاد ينتظرون مرور الأيام، وحتى وافت المنية والدهم، فواروه التراب، وأسرعوا إلى الخزانة يفتحونها، وإذا بهم يدهشون لما يرون، فليس ثمة غير قبضة من تراب، وعظمة نخرة، وورقة بيضاء،وقد كتب أمام كل واحدة اسم أحدهم، فلم يفهموا مما رأوا شيئاً، وحاروا في أمرهم، كيف يقتسمون أملاك أبيهم؟

    وكاد الخلاف يدب في الأخوة، ولكن أحدهم اقترح مشاورة صديق لأبيهم، فرجعوا إليه يستشيرونه في الأمر، فنصح لهم بالتوجه إلى حكيم في أحد البلاد، ليعرضوا أمرهم عليه.

    وسار الثلاثة إلى بلد ذلك الحكيم، وبينما هم في بعض الطريق، رأوا نخلة عالية، تتدلى منها عثاكيل التمر، فتسلق أحدهم النخلة، وقطف عثكولاً من التمر الناضج، وأقبل ثلاثتهم عليه، وإذا أول تمرة فيه مرّة لا تذاق، وكذلك حال الثانية، فالثالثة، حتى لم يبق في العثكول غير ثلاث، ذاقوها فإذا هي حلوة فاقتسموها.

    ثم مضوا في الطريق، وماهي إلا بضعة فراسخ، حتى رأوا واحة، فنزلوا بقربها، وكان ماؤها أبيض رقراقاً، فأدنوا منها إبلهم، ودعوها إلى الشرب، فلم تشرب، فحاولوا الشرب منها، فإذا ماؤها ملح أجاج، فعافوها، ومضوا في طريقهم قاصدين بلد الحكيم.

    وما إن قطعوا فراسخ أخرى، حتى رأوا حصاة صغيرة، تذروها الريح، فتعلو، فإذا هي قصر مشيد، ثم ماتلبث أن تهوي، حصاة صغيرة، تدوسها الأقدام، فعجبوا مما رأوا، وكانوا قد وصلوا بلد الحكيم، فدخلوها، ومضوا إلى حيث دلهم الناس، حتى بلغوا داره، فدقوا عليه الباب، فخرج لهم غلام قادهم إلى غرفة التقوا فيها بشيخ عجوز، متهدم، ذي لحية بيضاء، يبدو أنه في التسعين، فحسبوه الحكيم، فحيوه، وأخبروه أن لديهم حاجة، فأخبرهم أنه ليس هو الحكيم، وإنما أخوه الأكبر، وماعليهم إلا أن ينتظروه حتى يجيء.

    ولبث الإخوة ينتظرون، فدخل عليهم رجل قوي مشدود القامة، مهيب الطلعة، متقدم في العمر، ولكنه محتفظ بقوته وحيويته، يبدو كأنه في الستين، وما إن دخل حتى نهض له الشيخ العجوز، وقبل يده، وحياه، ثم قدمه إلى الإخوة على أنه أخوه الحكيم، فعجبوا له، وحيوه، وهم دهشون، ثم عرضوا عليه أمرهم، وسألوه تفسير ماترك لهم والدهم.

    أطرق الحكيم قليلاً، ثم أخبرهم بتفسيره، فأما كومة التراب فتشير إلى مايملك والدهم من أرض، وأما العظمة النخرة فتشير إلى مايملكه من ماشية، وأما الورقة البيضاء فتشير إلى مايملكه من ديار مسجلة في الأملاك، وماعليهم إلا أن يقتسموها، كما هي موزعة.

    وأعجب الإخوة بتفسير الحكيم، كما أعجبوا بقسمة والدهم لهم، ثم أخبروا الحكيم بما رأوه في الطريق، وسألوه تفسيره، فأخبرهم أن التمر الكثير، الذي لم يجدوا فيه حلوا سوى اثنتين أو ثلاث، فمثله كمثل الأصحاب، وهم كثير ولكن المخلص فيهم قليل، وأن الماء الرقراق الصافي، مالح الطعم، فمثله كمثل المرء، يعجبك مظهره، يخدعك به عن فعاله وخلقه، التي لا توافق مظهره، وأن الحصاة التي تعلو فتشيد قصراً، ثم تسقط فتهدمه، فمثلها كمثل الكلمة، تحلو وترق، فتبني بيتاً، وتغلظ وتقسو فتخرب مابنت، فأعجب الأخوة بتفسيره، وشكروه عليه، وهموا بالانصراف.

    ولكن الأخوة التفتوا إلى الحكيم، قبل مضيهم، يسألونه عن حاله، كيف يكون أكبر من أخيه، في حين يبدو أخوه هو الأكبر، فأخبرهم الحكيم أن أخاه غارقاً في الهموم، يفكر فيما مضى، وفيما سيأتي ويطيل التفكير، أما هو فيرمي الهموم جانباً، ولا يفكّر إلا فيما هو فيه، فأعجبوا بحكمته، وعادوا إلى بلدهم هانئين بما أفادوه من حكمة.






    الخمخوم



    كان لامرأة عجوز حفيد وحيد، يدعى "الخمخوم" وكان أقرع، تلمع قرعته تحت الشمس، وكان أخن يصدر صوته من أنفه، لا يكاد أحد يفهم مايقوله، وكان لا يحسن عمل شيء، وضعته جدته عند حداد، فقرض إصبعه، ولم يطق على العمل صبراً، ووضعته عند خياط، فما استطاع مرّة ضم خيط في إبرة،وكيف يطيق صبراً على عمل، ودأبه أن يأكل، حتى ينتفخ بطنه، فليس له إلا أن يحمل معه أطباق الخبز، حيثما ذهب، ليلتهمها رغيفاً رغيفاً.

    وكان آخر عمل جهدت العجوز في وضعه فيه، هو البناء، فقد مرّت بورشة بنائين، فتوسلت إلى رئيسها أن يقبل عنده الخمخوم أجيراً، فلما سأله عما يستطيع أن يعمل، فأجابه على الفور: "الأكل"، فضحك منه طويلاً، ثم وجهه إلى بئر، وطلب منه أن ينضح الماء للعمال، فاطمأنت العجوز إلى أنها وجدت عملاً لحفيدها، وشكرت رئيس الورشة، ثم مضت.

    ومضى الخمخوم إلى البئر يحمل أطباق الخبز، فوضعها إلى جانبه، وبدأ العمل، فكان إذا خرج له الدلو يتقاطر منه الماء، بش له وفرح به، وقال:"أهلاً"، ثم رفعه إلى فمه، وظل يعب منه حتى ينزله فارغاً، ثم يتناول وراءه رغيفاً، وظل هذا دأبه، يشرب دلواً، ويأكل رغيفاً، حتى أتى على ماعنده من خبز، فانطلق إلى رئيس الورشة يعلن له عن انتهاء عمله، فما كان من الرجل إلا أن صرفه، طالباً منه أن يزيد في الغد عدد الأرغفة.

    ولما كان اليوم التالي، هيّأت له جدته ضعف ماكانت تهيئه له من قبل، وانطلق الخمخوم إلى عمله، فرحاً به، وأكب على الأرغفة، يلتهمها بنشاط كبير، ويشرب من البئر ماشاء أن يشرب، حتى أتى على كل ماحمل من أرغفة، فمضى إلى رئيس الورشة يطلب منه أجرته، فسخر منه المعلّم، وقال له: "أعطيك أجرتك آخر الأسبوع"، ففرح الخمخوم بوعد المعلم، وأخذ يزيد من نشاطه، ويضاعف من عمله، ويقبل عليه، بتناول مزيد من الأرغفة، وشرب مزيد من الدلاء، حتى ازداد في الأسبوع وزناً، على حين شقيت جدته في تهيئة الخبز له.

    حتى إذا انتهى الأسبوع أقبل على معلمه يطالبه فحار المعلم في أمره، كيف يعطيه أجراً، وهو الذي لم يفعل شيئاً؟، ونظر حوله، فرأى بعيداً عن الورشة خم دجاج، فقال له: "انظر إلى هناك"، فنظر الخمخوم، فقال له: "اذهب إلى هناك، وأدخل الخم، ثم خذ بيضة واحدة، أجراً لك"، فسأله الخمخوم:"بيضة واحدة؟"، فقال المعلم: "نعم، بيضة واحدة، ولا تعد في الأسبوع القادم"، فسأله: "وهل تعده عطلة؟"، فقال المعلم: "نعم"، فسأله:"وتعطيني في نهايته أجري؟"، فقال المعلم، وقد نفذ صبره: "نعم، نعم".

    وضحك الخمخوم، ثم انطلق إلى الخم، حتى إذا بلغه، دخله، وهو يمنّي نفسه ببيض كثير، ولكنه فوجئ بالخم خاوياً، فأخذ يبحث في نواحيه، فلم يعثر على شيء، فأعاد البحث، ونبش أكوام التبن والأقذار، فرأى بيضة غريبة، صفراء اللون ، أكبر من البيض، وأثقل، فحملها، وأسرع بها إلى جدته، وهو ينادي طوال الطريق: "أخذت أجرتي ياجدتي، أخذت أجرتي، ياجدتي".

    فلما سمعت الجدة، فرحت به، فهذه أول أجرة له في حياته، ولكن لما دخل عليها بالبيضة الصفراء، ولم تميزها جيداً، غاض فرحها، وخاب أملها، وأخبرته أن البيضة فاسدة، وأن من الخير له أن يرميها، فخرج الخمخوم غاضباً، مصمماً على الذهاب بها إلى الملك، ليشكو له أمره، فلما بلغ قصره، منعه الحرس من الدخول، فأخذ يصيح وينادي، حتى سمع الملك، فنظر من نافذة القصر فضحك لمرأى الخمخوم، وأشار إلى جنده أن اسمحوا له بالدخول.

  9. #9
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية

    ودخل الخمخوم على الملك، فشكا له أمره، وعرض عليه البيضة، فلما رآها الملك، دهش لمرآها، وفرح بها، فقد كانت ذهباً، فتلقفها من يده، وسأله في لهفة عما يطلبه من ثمن لها، فقال الخمخوم ببلاهة: "لا أريد ثمنها"، فعرض عليه الملك أن يتمنى شيئاً ليحققه له، فقال له على الفور: أريد فرناً وجرناً وخراباً"، فعجب الملك من طلبه وسأله لم يريد ذلك؟ فأجابه: "الفرن للخبز آكله، والجرن للماء أشربه، والخراب لحاجتي أقضيها فيها"، فضحك الملك منه وأمر الجند أن يهيئوا له ماطلب.

    وخلال يومين أشيد فرن، في ظاهرالبلدة، وحفر إلى جانبه بئر، وتم تسييج مايحيط بهما من أرض، وسلم ذلك كله للخمخوم، فكان يمضي يومه بين البئر والفرن، في أكل وشرب، هانئاً بالنعيم ومرت الأيام وهو على هذه الحالة، ليس له عمل غير الأكل والشرب، وقضاء الحاجة بين فرن وجرن وخراب، حتى جاء يوم مل فيه عيشه، وأراد التنزه، فطلب من عمال الفرن أن يهيئوا له للغد أرغفة كثيرة، ففعلوا ذلك، فلما كان الغد، حمل الأرغفة على ظهر حمار، ومضى بها إلى ضفة نهر قريب، وأخذ يلتهم هناك الأرغفة، ويشرب من ماء النهر، مايشاء، ناعماً بتجديد المكان، حتى إذا انتهى من الأرغفة التي حملها امتلأت بطنه وانتفخت، وأراد الرجوع، أحس بالتعب الشديد، ولم يستطع الحمار حمله، لثقله، فأخذ يمشي والعرق يسح منه، ويغسله غسلاً.

    وبينما هو في بعض الطريق، مرت به أفعى، ورجته أن يخبئها، فعجب لأمرها، فتوسلت إليه، وشرحت له أن ثعباناً يلاحقها، فحار في أمره، ماذا يفعل؟ فماكان منه إلا أن فتح فمه، وقال لها: "هيا، ادخلي"، حتى إذا دخلت في فمه ابتلعها، فلما مر به الثعبان غضبان يصل صليلاً، سأله إن كانت الأفعى قد مرت به، فأجابه: "نعم" ودله على طريق بعيدة، وقال له: "ذهبت من هنا"، فغدا الثعبان في الطريق فلما ابتعد، دق الخمخوم على بطنه، ودعا الأفعى إلى الخروج، فخرجت، ثم سألته عما يتمناه، حتى تحققه له، فسخر منها، وقال لها: "وماذا تستطيعين أن تفعلي؟"، فأعادت عليه السؤال، فقال لها ساخراً، ومتحدياً: "أتمنى أن تحمليني إلى الخراب"، وإذا الأفعى تدخل تحته، وتنطلق به زاحفة، وهو فوقها يختال، كأنه في هودج.

    وفي تلك الأثناء، كانت ابنة الملك في بستان قريب، تمرح بين الأشجار مسلية نفسها، فمر بها الخمخوم وهو على ظهر الحية، فضحكت لمرآه، ضحكاً شديداً، وقذفته بتفاحة كانت في يدها، فغضب منها وماكان منه إلى أن شتمها، ودعا عليها أن تغدو لتوها حاملاً.

    ومرت الأيام، وإذا بطن الفتاة قد تكوّرت، وأخذت تنتفخ قليلاً قليلاً، وبدأت علامات الحمل تظهر عليها، وأدركت الفتاة على الفور أن دعاء الخمخوم قد استجيب، فأسرعت إلى أمها تخبرها، وحارت الأم في أمر ابنتها، وهي تعلم براءتها وتوقن أن أحداً لم يمسها، وبعد تردد، عرضت الأمر على الملك، فغضب وثار، ولكن الأم أكدت له صدق ابنتها، فقرر عندئذٍ تزويجها من الخمخوم.

    وأرسل الملك في طلب الخمخوم، فلما مثل بين يديه أمر به الخدم أن يأخذوه إلى الحمام، وفي الحمام غسلوه وهو يصرخ ويصيح، ويرفض الماء والصابون، ثم ألبسوه أفخر الثياب، وهو ضائق بها، نافر منها، ثم أدخلوه على الملك، وهو في هياج شديد، يريد العودة إلى الخراب، فلما أخبره الملك أنه يريد تزويجه ابنته، فزع فزعاً شديداً، والتزم الباب، وفر راكضاً، لا يقدر على اللحاق به أحد، يرمي طوال الطريق ماكُسِيَ به من ثياب.

    حتى إذا بلغ الخراب، دخلها شبه عار، معفراً بالتراب وهو فرح بخلاصه، مطمئن إلى بلوغه مأمنه، ولكنه أحس أن شيئاً سلساً ناعماً قد تمزق وانسحق تحت قدميه، حين وطئ أرض الخراب، والتفت ينظر، وإذا ثعبان هائلٍ، قد داس بقدمه رأسه، فذعر الخمخوم وتراجع، وعرف أنه الثعبان الذي كان قد خدعه بإخفائه أنثاه الأفعى في بطنه، وخاف من شره، إذ أدرك أنه ماجاء إلا لينتقم منه، ولكن الثعبان انتفض مرتين أو ثلاثاً، ثم همد ميتاً، فتنفس الخمخوم الصعداء.

    وإذا الأفعى تدخل عليه، فتحييه، وتشكر له إنقاذها، وتخليصها من شر الثعبان الماكر، الذي كان يريد إرغامها على الزواج منه، وهي لا تحبه ولا تريده، وسألته مرة ثانية عما يريد، ففرح بها وقال لها، بصوته الأخن:"أنا مثلك يريدون تزويجي ابنة الملك، وأنا لا أريد"، فضحكت منه طويلاً، وقالت: "يالك من أبله، لماذا ترفض؟"، فقال لها:"أنا أقرع، وخمخوم وفقير، وهي بنت ملك"، فقالت له: "اترك الأمر لي"، ثم طلبت منه أن يغمض عينيه هذه الليلة وينام، وألا يفكر في شيء.

    ومضى الخمخوم كعادته إلى طرف في الخراب، واستلقى على أكوام من التبن وأغمض عينيه ونام.

    وفي الصباح استيقظ وإذا الخدم بين يديه، وقد تحولت الخراب إلى قصر كبير، وهو في سرير ذهبي، مغطي بكلة لؤلؤية ونهض وتأمل نفسه في مرآة كبيرة، تغطي الجدار ، فرأى نفسه في حلة مزركشة، من أفخر الثياب، وعلى رأسه جمة من الشعر الأشقر، وقد تدلت منها طرة على جبينه ولما التفت إلى الخدم يناديهم، أحس لصوته قوة وفخامة، لا يحظى بها أقوى الرجال ثم أحضر له طعام الفطور، فدهش له طويلاً وتملاه، وإذا فيه أطايب الطعام، وأشهاه.

    ثم لما كان الضحى مثل بين يديه كبير الخدم، وأعلمه أن موعد زيارته للملك قد حان، وأنه قد أعد له موكبه، فنزل الخمخوم من قصره، ومضى إلى قصر الملك، في موكب مهيب، وكان الملك في انتظاره، فرحب به أعظم ترحيب، وقربه منه، وأدناه، وأنزله في ضيافته ثلاثة أيام، وقد خصه بجناح في قصره.

    ثم كانت الخطبة فالزواج، في احتفال دام سبعة أيام مع سبعة ليال، هنئ فيها الخمخوم بابنة الملك، ونعم، ونسي قرعته وشقاءه، ولكنه في صباح اليوم الثامن أفاق حزيناً، فسألته زوجته عما يحزنه، فأخبرها أنه ذكر جدته، فحن إليها، وأنه يريد رؤيتها، فنصحت له بالمضي إليها لإحضارها كي تقيم معهما في القصر.

    وانطلق الخمخوم إلى جدته، حتى إذا دخل عليها لم تعرفه، فأخبرها بأمره، وبما صار إليه من نعيم، ثم حملها إلى قصره، وأفرد لها جناحاً فيه، وعين لها الخدم يسهرون على راحتها، فأمضت بقية عمرها هانئة بما توفر لحفيدها من نعيم، وماتت مطمئنة راضية، هادئة البال، فسبحان مغير الأحوال.




    الطائر الأبيض



    في بركة القصر، كانت ابنة الملك الوحيدة، تستحم كل يوم، ومرة افتقدت سوارها الذي تركته على طرف البركة، فلم تجده، ومرة أخرى فقدت منديلها، وثالثة فقدت مشطها، ثم انتبهت إلى أن طائراً أبيض يسرقها أشياءها، وهي تستحم، فعجبت منه.

    وذات ليلة، وهي في مخدعها، فوجئت بالطائر الأبيض يحط في نافذتها، ولم يلبث أن نزع ريشه، وهبط إليها، فإذا هو فتى وسيم، حلو الحديث، سامرها طوال الليل، وباح لها بحبه، ونام معها، ثم غادرها في الصباح، قبل أن تستيقظ.

    وبينما كانت المربية تصلح لها فراشها، كعادتها كل صباح، وجدت تحت وسادتها صرة نقود، فأخذتها، وكتمت الأمر.

    وقد داخل حب الفتى قلب الفتاة، وهو مايفتأ يزورها كل مساء، ليغادرها في الصباح، وحبه في قلبها ينمو ويكبر، وهي لا تعرف من هو؟ ولا تستطيع أن تبوح لأحد بشيء.

    كما ألفت المربية أن تجد كل صباح صرة نقود تحت وسادة الفتاة، فتأخذها في كتمان، ولا تخبر أحداً.

    وجاء يوم لم تستطع فيه الفتاة أن تبقى على صمتها، فباحت لأمها بأمر الفتى، الطائر، فأوصتها أمها أن تطلب منه هدية، وإن هو جاء، تتعرف بها عليه.

    وإذ سألته، أخبرها أنه يترك لها كل صباح صرة نقود، تحت الوسادة، فأدركت عندئذٍ أن المربية هي التي تسرقها الصرة، فأمرتها أن تترك إصلاح الفراش، فثار الغيظ في صدر المربية، وكانت قد عرفت أمر الطائر الذي يزورها كل مساء، فقررت أن تكيد لها.

    وذات يوم نزلت الأم والبنت والمربية إلى الحمام، فاغتنمت المربية الفرصة، وادعت أنها نسيت شيئاً في البيت، واستأذنت في الرجوع إلى القصر، ثم عمدت إلى زجاج، فحطمته، وهشمته، ثم فرشت به أرض الغرفة التي يهبط فيها الطائر، ثم رجعت إلى الحمام، وأخذت تغري البنت والأم بالبقاء في الحمام حتى يدخل المساء.

    ولقد كان لها ذلك، فقد دخل الليل، وأقبل الطائر كعادته، وهبط في النافذة، فجرّحه الزجاج المحطم تجريحاً، وما إن رجعت البنت إلى القصر، حتى أسرعت إلى غرفتها، ففوجئت بخيط دم يمتد من النافذة إلى أسفل الجدار، فأدركت فعلة المربية، وكتمت غيظها.

    ومرت الأيام والطائر لا يزورها، وهي تنتظر في شوق، حتى برّح بها الحنين، وأمضّها الانتظار، فانزوت، وانطوت على نفسها، في كرب وضيق، فاعتلّت ومرّضت، وكادت تشرف على الهلاك.

    وإذ أُعجز الاطباء شفاؤها، أخبروا الملك أن داء ابنته في فؤادها، لا في جسمها، وأن لاشفاء لها سوى التسلية والسلوان ولما سألها أبوها عن أمرها، باحت له بمكنونات صدرها، فأمر الملك ببناء حمام، تقعد فيها، لتستقبل الزائرات، وليكن أجر الاغتسال فيها حكاية غريبة، تسلّي بنت الملك.

    وتناقل الناس خبر الحمام، فأقبلت النساء عليها من كل صوب، حتى وصل الخبر إلى القرى المجاورة، والأرياف، وكانت إحدى النسوة قد سمعت بالحمام، فأسرعت إلى جارتها تخبرها، وترتجي عندها قصة، فاتفقتا على أن تقصدا المدينة، في الصباح، للذهاب معاً إلى الحمام، ونامتا مبكرتين، وقد علقت إحداهما جرساً في بيتها، مربوطاً بحبل ويتمد إلى بيت جارتها، حتى تنبهها في الصباح الباكر.

    وحدث أن مرّت أثناء الليل، قطة بالحبل، فاهتز، وقرع الجرس، فنهضت التي علقت الجرس في بيتها، ومضت في لهفة إلى خارج البيت، وإذا رأت القمر يتوسط السماء، حسبته الشمس، لغفلتها وظنت أن جارتها قد غدرت بها، فسبقتها، وماكان منها إلا أن انطلقت في الفلاة، متجهة نحو المدينة، ولكنها مالبثت أن أدركت خطأها، فلما أرادت العودة إلى قريتها، ضلت الطريق، فخافت الليل والوحش والصمت، فقررت أن تصعد إلى شجرة، لترقد فيها.

    وعلى غصن مريح، نالها شيء من النعاس، ولكنها انتبهت إلى أن الأرض قد شقت، وخرج منها خلق غريب، وإذا جوقة من المغنيين تقعد في شكل حلقة، يتوسطها سرير رقد فيه فتى ملفوف الجسم بالضمادات، يبدو عليه الكرب والضيق، وبين يديه سوار ومنديل ومشط، ولم تلبث الجوقة، أن غنت غناءً حزيناً، بكى له الفتى الشاب، وهو يقول:

    بحق من هذا سوارها أبكوا على حالي وحالها

    ثم أمر الجوقة، أن تنصرف، فانصرفت، ثم غاب، وقد أخذت الشمس في السطوع،

    ونزلت المرأة من مرقدها على الشجرة، وقد ملأ النور الكون، فدهشت لعجب مارأت، وانطلقت إلى المدينة، تمني نفسها بالحمام، ففي جعبتها قصة ستعجب من غير شك ابنة الملك.

    ولقد وقعت القصة من بنت الملك موقع الدواء من الداء، فهي قصتها، ولم تلبث أن انطلقت مع المرأة، إلى حيث رأت مارأت، وصعدتا معاً الشجرة، وباتتا تنتظران الليل، وظهور الفتى وطال بهما الانتظار، ولكن ما إن توسط القمر السماء، حتى حدث ماحدث بالأمس، ومع الصباح اختفى كل شيء، ورجعت المرأة إلى قريتها، فرحة بما أجزلت لها بنت الملك من عطاء، على حين مضت بنت الملك حزينة مكتئبة، لا تعرف كيف يكون لها الوصول إلى فتاها، وما الدواء الذي يمكن أن يشفيه.

    وبينما هي في بعض الطريق، سمعت حمامتين تتناجيان، فتقول إحداهما للأخرى: "كم أنا حزينة لجراح الفتى؟"، وتجيبها أليفتها، "قد يزداد حزنك إذا علمت أن شفاءه بنا"، وتسألها صديقتها: "ولكن كيف؟"، فتجيبها: "إن شفاءه في لحمنا ودمنا، وذلك بأن تأخذنا بنت الملك، فتذبحنا، وتعتصر دمنا، ثم تحرق ريشنا ولحمنا، وتعجن الرماد بدمنا، وتصنع منه مرهماً، تمسح به جراح الفتى، فيشفى"، وتجيبها صديقتها: "إني لأفرح إذ شفاؤه فينا، هيا، فلنمكّن بنت الملك من أنفسنا".

    وكانت بنت الملك قد أصغت إلى تحاورهما، ففعلت بما سمعت، ومضت فتنكرت في زيّ طبيب، وأخذت تدور في الممالك والبلاد، تنادي على دواء لكل العلل والأمراض، ومافتئت تحملها بلاد، وتضعها بلاد، حتى بلغت بلد الفتى، وكان مرورها بقصره، فناداها أهله، وهي الطبيب، فصعدت، فرأت الشاب، فعرفته، وهو لايعرفها.

    وأمرت في الحال أن ينقل الفتى إلى الحمام، وهناك غسلت له جروحه، وهي متنكرة، ودهنتها بما صنعت من دم الحمامتين ورمادهما، وأقامت عنده تسهر على علاجه، حتى شفي، وزال عنه السقام.

    ولما سألها الفتى ماتطلب من جزاء، رفضت أن تأخذ أجراً، ولكنها رجته، وهي ماتزال متنكرة، أن يمنحها منديله، هدية، وكان هو نفس المنديل الذي سرقها إياه، وهي تستحم في بركة القصر، فتردد الفتى، في البدء، ولكنه لم يلبث أن قدّمه إليها، فشكرته، ورجعت قافلة إلى بلدها.

    وفور وصولها، عمدت إلى نافذة مخدعها، فأصلحتها، وكنستها، وفرشتها، بالدمقس، ومضت تنتظر زيارة الفتى.

    ومامرّ إلا يوم أو يومان، وإذا الطائر يهبط في النافذة، مع المساء، كعادته من قبل، وكانت الفتاة ترقد في سريرها، وقد ارتدت لمقدمه أجمل ماعندها من الثياب،

    وتزينت بأغلى الحلى والأساور، وحملت المنديل في يدها، وما إن هبط من النافذة، حتى امتشق حساماً مصلتاً، يريد قتلها، لإيقاعها به من قبل، كما اعتقد.

    ولكنها رفعت يدها تريه المنديل، فعرفها، ودهش لأمرها، فقصت عليه ماكان، وعرفته بأبيها الملك، وتمت خطبتها إليه، ولم تلبث أن زفت في أروع احتفال وعاشا معاً في سعادة وهناءة.

  10. #10
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية




    الفقير والوزير



    كان أحد الرجال فقيراً معدماً، وكان ذا عيال كثير، يعمل من الصباح إلى المساء، عتالاً يسوق حماره، يحمل عليه للناس أشياءهم، كي يفوز بقليل من الدراهم، يشتري بها لعياله الخبز والإدام، وكان في كثير من الأيام لا يحصّل غير ثمن الشعير للحمار، ويعود إلى البيت، ليمضي الليل مع العيال، غرثى جائعين.

    وذات يوم فتح الله عليه برزق كثير، فاشترى لأهله ألواناً من الطعام، وملأ كيس الحمار بالشعير، وقصد بيته، وبينما هو في بعض الطريق عرضت له حاجة، فانتحى جانباً، تاركاً الحمار، ثم قضاها.

    ولما رجع لم يجد الحمار، فتلفت يبحث عنه، فلم ير له أثراً، فأخذ يفتش عنه، فطاف في الأزقة، ودار في الحارات، وهو ينادي، ويسأل عنه، حتى تورمت قدماه، ولكن في غير جدوى، فما كان منه إلا أن حدج السماء بنظرة شزراء، ثم صاح في غضب:

    - يارب، كل الأيام لا أرزق إلا بالقليل، ويوم رزقت بالكثير ضاع الحمار؟!..

    ومضى إلى الملك، مغاضباً، يريد أن يشكو الله إليه، فمنعه الحرس من الدخول، فأخذ يصرح ويصيح، حتى سمع الملك الصوت، فأطل من نافذة القصر، فرأى ذلك البائس الفقير، فأشار إلى الحرس أن اسمحوا له بالدخول، فدخل، والغضب بادٍ عليه، ليعلن أنه يريد رفع شكوى ضد الله، فضحك الملك طويلاً، وطيّب خاطره، ثم سمع حكايته، فأمر له بعطاء جزيل، فخرج فرحاً به مسروراً.

    وكان الوزير إلى جانب الملك، يسمع ويرى، فحزّ في نفسه أن يحظى هذا الفقير، بذاك العطاء، فمال على الملك، وأوغر صدره عليه، موحياً إليه أنه ليس إلا محتالاً، اختلق تلك القصة، ليظفر بالمال، ثم طلب من الملك أن يرسل وراءه، فإن لديه سؤالاً يريد أن يمتحنه به، ليكشف احتياله، فأرسل الملك الجند وراء الفقير، فأحضروه، فدخل مذعوراً، فأخبره الملك أن الوزير يريد أن يسأله سؤالاً، إن عرف الجواب، أجزل له العطاء، وإن لم يعرف، قطع رأسه.

    فاضطرب الفقير واغتم، ولكنه امتثل، وأعلن استعداده، لسماع السؤال، وعندئذٍ سأله الوزير: "أين أول الدنيا؟ وأين آخرها؟"، فأجابه على الفور: "عند أقدام الملك، أولها وآخرها". فسر الملك بالجواب، ونظر إلى الوزير، فإذا هو صامت لا يريم، فأمر للفقير بعطاء كبير، فأخذه الفقير وخرج فرحاً، والوزير يتميز من الغيظ.

    ولكن لم يلبث الوزير أن مال على الملك، وأكد أن ذلك الفقير محتال، ثم طلب منه أن يرسل وراءه، فإن لديه سؤالاً آخر يريد أن يمتحنه به، فأرسل الملك الجند وراءه، فأحضروه، فدخل، وقد أدرك أن الوزير هو الذي يكيد له، ويؤلب الملك عليه، ولما عرض عليه الملك الشرط، أن يعرف الجواب، أو يقطع رأسه، أعلن القبول، فليس له في الأمر حيلة.

    وعندئذٍ سأله الوزير:"في أي جهة وجه الله؟"،فأطرق الفقير قليلاً، ثم طلب من الملك أن يأمر الخدم كي يحضروا له شمعة، فلما أحضرت أشعلها، ووضعها أمام الملك، ثم سأله:"أين وجه هذه الشمعة؟". فأجاب الملك: "في كل الجهات"، فالتفت الفقير إلى الوزير، وأجابه: "وكذلك وجه الله، فهو في كل الجهات". فأعجب الملك بجوابه أي إعجاب، وأجزل له العطاء، فأخذه وخرج، مزهواً بنصره، فرحاً بالعطاء، والوزير في ضيق شديد، وغضب كبير.

    ولكن لم يلبث الوزير أن حزم أمره، ومال على الملك، وطلب منه أن يأمر بإحضار الفقير، فإن لديه سؤالاً أخيراً، يريد أن يمتحنه به، فأجاب الملك طلب وزيره، وأرسل وراء الفقير، فأدخله الجند، وهو في قلق كبير، فقد أيقن أنه هذه المرة أمام امتحان قد يخسر فيه حياته، ولكنه ملك نفسه، وصمم على تحدي الوزير، ولما أعاد عليه الملك الشرط، أكد بحزم قبوله، واستعداده لسماع السؤال.

    وعندئذٍ تحرك الوزير، وزها بنفسه، ثم ألقى سؤاله: "ماهو عمل الله؟". فتبسم الفقير، والتفت إلى الملك يسأله أن يعطيه الأمان، فأعطاه الأمان، فطلب منه أن يأمر الوزير بخلع ثيابه، فأمر الملك وزيره بذلك، فدهش الوزير، وارتبك، وراوغ، يحاول التملص، ولكن الملك أشار عليه أن أفعل، ففعل، وعندئذٍ خلع الفقير ثيابه، وألقاها على الوزير، ثم طلب من الملك أن يأمر الوزير بارتداء ثيابه، هو الفقير، فأمر الملك الوزير أن يرتدي ثياب الفقير، فتردد الوزير واضطرب، ثم تبسم، واصطنع المزاح، ولكن الملك نظر إليه يحذره، فلم يجد بداً من الانصياع، فلبس ثياب الفقير، وعندئذٍ لبس الفقير ثياب الوزير، ثم التفت إلى الملك يسأله أن يأمره وزيره بالنزول عن كرسيه، فأمره الملك أن ينزل عن الكرسي، فارتبك، وحار في أمره، ولكن الملك عاجله أن افعل، فنزل، وعندئذٍ ارتقى الفقير إلى جانب الملك، وقعد على كرسي الوزير، ثم التفت إلى الوزير، وقال له: "انظر، هذا هو جواب سؤالك، إن عمل الله أن يرفع أناساً، وأن يضع آخرين".

    فأعجب الملك بذكاء الفقير، وقال له: "لقد ثبتناك فيما أنت فيه، فأنت منذ اليوم وزيري"، فبهت الوزير، وصعق، وقبل أن ينطق بشيء، أمر الملك الجند أن يسوقوه إلى السجن، ثم التفت إلى الفقير، وقد غدا وزيره، يهنئه، ويبارك له، وقد أدرك أن في شعبه من هو أذكى من ذلك الوزير المحتال، وأجدر بالوزارة منه.




    الغزالة



    كان لأحد الملوك ثلاث بنات وثلاثة صبيان، وقد عني بتربيتهم، وحرص على أن يغرس فيما بينهم المودة والتفاهم، ولما حضرته المنية أوصى أبناءه الثلاثة أن يزوجوا شقيقاتهم لأول خاطب يطلب الزواج منهن، فوعده الإخوة بتحقيق ذلك، وبعد وفاته تولى الابن الكبير الملك، وعين أخاه الأوسط وزيراً للميمنة، والصغير وزيراً للميسرة، وسارت لهم الأمور على خير مايرام.

    وذات يوم تقدم إليهم رجل رث الثياب، زريّ الهيئة، يطلب الزواج من أختهم الكبرى، ولما سأله الأخ الكبير عن عمله، أجاب بأنه يعمل وقّاداً في حمام، في بلد بعيد، فغضب الأخ، وأقسم لن يزوجه أخته، ولو سلخوا جلده، وشايعه الأخ الأوسط وأقسم لن يزوجه إياها ولو فرموا لحمه، وتدخل الأخ الصغير، فذكّر أخويه بوصية الوالد، وطالبهم بتنفيذ وعدهم له، فأحس كل من الأخوين بالإحراج، واضطرا للموافقة، وفي أيام تم تجهيز البنت الكبرى، وزفافها إلى الغريب، الذي لم يلبث سوى أيام، حتى أخذها معه إلى بلاده البعيدة.

    وفي يوم آخر قدم غريب آخر، فكان من أمره ماكان من أمر الأول، ثم قدم غريب ثالث، فكان من أمره أيضاً ماكان من أمر الأولين، وهكذا تزوجت الأخوات الثلاث على كره من الأخوين، الكبير والأوسط، وبموافقة من الأخ الصغير، تنفيذاً لوصية الوالد.

    وبدأ الأخوان الكبير والأوسط يحّسان بالضيق من أخيهما الصغير، وأخذا يكيدان له، حتى أصبح لا يطيق الإقامة معهما في القصر، فقرر اعتزال الحكم والتخلي عن المشاركة فيه، وماكان منه إلا أن هجر القصر، وتاه في البلاد، لا يستقر به المقام في بلد، حتى ينتقل إلى سواه، وكان دائماً يتمنى أن يدخل بلداً تكون فيه إحدى شقيقاته، لعله يلتقي بها، ويطمئن على حالها، وهو لا يعرف في أي البلاد مقرهن.

    وذات يوم، وهو في الفلاة، يسير وحده تائه الخطا، لاحت له غزالة، اقترب منها، فلم تجفل، فاقترب أكثر، فإذا هي تنطلق وتحييه بفصيح الكلام، فدهش لأمرها، وقد فتنته بحور عينيها، وجيدها الأتلع، وشعر بالأنس في قربها، وأخذ لا يفارقها، يسير حيث تسير ويقيم حيث تقيم.

    ولما تأكدت الغزالة من تعلقه بها، عرضت عليه صحبتها، ووعدته بأن تحقق له مايتمناه، فوعدها أن يظل وفياً لها مدى العمر، ثم تمنى عليها أن تحمله إلى شقيقته الكبرى، فطلبت منه أن يبقي أمرها سراً، وألا يبوح بشيء عنها، مهما حاولت أخته وزوجها استدراجه إلى ذلك، ثم حملته على ظهرها وقفزت بضع قفزات، وإذا هو أمام قصر شاهق، قعد في ظله، لا يعرف ماذا يفعل، وهو غير مصدق أن تكون أخته فيه، ولما طال قعوده، أخذته سنة من نوم، فأغفى ونام.

    وخرجت إحدى الجواري في القصر، فرأت شاباً وسيماً، بهي الطلعة، يشبه سيدتها الشبه كله، فأسرعت إلى سيدتها تخبرها بأمره، وقد وصفته لها، ثم قالت: "عينه عينك، ووجهه وجهك، ولاشك أنه أخوك أوابن عمك"، فدهشت السيدة، وأرسلت الخدم لإحضاره ولما دخل عليها أسرعت إليه تعانقه وتبكي، وتعجبت لتمكنه من حضوره إليها، وسألته إذا كانت الغزالة قد أحضرته، فنفى ذلك، فحذرته منها، فأكد أنه لم يلتق بغزالة، ولا يعرف من أمرها شيئاً.

    وأعدت الأخت لأخيها أطايب الطعام، وفرحت به، وسعدت بلقائه، ثم فجأة عمّ الكون قتامة سوداء، وقصف الرعد، وزمجر، فسرى الخوف في أوصال الأخت، فعجب أخوها للأمر، فأخبرته أن زوجها قادم، فسألها:"ومن زوجك؟!"، فأجابته: "ملك الجان الأحمر"، ثم نفخت على أخيها فحولته إلى قطعة حلوى صغيرة، خبأتها في ثوبها.

    ودخل الزوج غاضباً، وبادر إلى سؤالها عمن في زيارتها من الإنس، فأنكرت فأكد لها أنه يشتم رائحة الإنس، ولا داعي للإنكار، فأقرت بوجود أخيها، فازداد غضبه، وأكد أنه سوف يسلخ جلده، إن كان أخاها الأكبر، وسيمزق لحمه، إن كان أخاها الأوسط، أما إذا كان أخاها الأصغر، فإنه يرحب به خير ترحيب، فاطمأنت الأخت، وأعادت أخاها إلى حالته الأولى، فرحب به زوجها، وعانقه، ثم سأله إن كانت الغزالة قد أوصلته إلى القصر، فنفى ذلك، فاطمأن إليه، ودعاه إلى الحلول في القصر ضيفاً.

    وأقام الأخ في قصر أخته أياماً، سعد فيها بلقاء أخته، ولما عزم على الرحيل زوده زوج أخته بثلاث شعرات، أوصاه أن يحرقها إذا ماوقع في مأزق.

    وخارج القصر، وجد الغزالة في انتظاره، فامتطى ظهرها، فقفزت ثلاث قفزات، فإذا هما في الغابة حيث كانا من قبل، وسألته الغزالة إن كان قد حدث أخته أو زوجها عنها، فنفى ذلك، وأكد إخلاصه لها، ووعدها ألا يتخلى عنها أبداً.

    ثم طلب منها أن تحمله إلى أخته الوسطى، ففعلت، وكان من أمره معها ماكان من أمره مع أخته الكبرى، وقد عرف أن زوجها ملك الجان الأخضر، وقد زوده قبل وداعه بثلاث شعرات، أوصاه فيها، أن يحرقها إذا وقع في مأزق.

    ثم زار أخته الصغرى، فكان من أمره معها أيضاً ماكان من أمره مع أخته الكبرى والوسطى، وقد عرف أن زوجها ملك الجان الأزرق، وقد زوده قبل وداعه بثلاث شعرات، أوصاه أن يحرقها إذا ماوقع في مأزق.

    وقد أوصته أختاه الأخيرتان كما أوصته أخته الكبرى بالحذر من الغزالة، وأنكرتا عليه أن تكون هي التي حملته إليها، ولكنه نفى ذلك، وأكد أنه لا يعرف الغزالة.

    وكان لما خرج من قصر أخته الصغرى قد وجد الغزالة بانتظاره، فامتطى ظهرها فقفزت ثلاث قفزات، فإذا هما معاً في الغابة، حيث كانا من قبل.

    وأعادت عليه الغزالة سؤالها، إن كان على استعداد للبقاء معها، والوفاء لها، فأكد ذلك، ووعدها ألا يتخلى عنها مدى العمر كله، وكان مايزال ممتطياً ظهرها وهي تسير به، فقفزت فجأة قفزة قوية، فحلق في الهواء، ثم وقع، فإذا هو في خضم البحر.

    وبهت، وكاد يشرف على الغرق، ولكنه أخذ يسبح نحو الشاطئ، بكل ما أوتي من قوة، حتى بلغه بعد عناء شديد، فألقى نفسه على الرمال، ونام.

    ولما استيقظ رأى حمامتين تختصمان، وكل منهما تقول للأخرى:" الطاقية لي، الطاقية لي"، ثم تنبهت إحداهما إليه، فقالت للأخرى:"تعالي نحتكم إلى هذا الإنسي"، ثم قدمتا إليه، وطلبتا منه أن يحكم بينهما في طاقية اختلفتا فيها لمن تكون، فقد ورثتا عن أبيهما بساطاً، وعصاً، وطاقية، وقد أخذت إحدهما العصا، وأخذت الأخرى البساط، ثم اختلفتا في الطاقية، فوعدهما أن يحكم بينهما، وماكان منه إلا أن التقط من الأرض حجراً وقذفه بقوة، ثم طلب من الحمامتين أن تسرعا إلى الحجر، ومن تحضره منهما، تكون لها الطاقية.

    وأسرعت الحمامتان وراء الحجر، وقد تركتا عنده الطاقية والبساط والعصا، فمد البساط وقعد فوقه، ووضع الطاقية على رأسه، ثم حمل العصا، وأشار إلى البساط

    طالباً منه أن يوصله إلى حيث الغزالة، تاركاً الحمامتين.

    وحط به البساط في قصر الغزالة، فمضى إليها في مخدعها، والخدم لا يرونه، لأنّ الطاقية على رأسه، فلما صار أمامها، وضع الطاقية، فسألته عن سبب مجيئة إليها، فأكد لها وعده بعدم التخلي عنها، فسرت به، وصدق عندها وفاؤه، فجعلت له جناحاً خاصاً في قصرها، ليقيم فيه.

    ثم سلمته أربعين مفتاحاً، لأربعين غرفة، وأذنت له في دخولها جميعاً، ماعدا غرفة واحدة، رجته ألا يدخلها أبداً، فأمضى في القصر أياماً وهو يتفرج على الغرف وماضمته من جواهر وعقود، ونفسه تراوده بفتح الغرفة الأربعين.

    وذات يوم وجد نفسه مدفوعاً إلى الغرفة الأربعين، ففتحها ودخل، وإذا رجل معلق من يديه في جدارها، وهذا الرجل طوله شبر واحد، ما إن رآه حتى أخذ يتوسل إليه راجياً منه أن يفك قيده ويطلقه، فأشفق عليه، فأطلقه، فإذا الغزالة قد حلت محله على الفور.

    وهم بقتل الرجل القصير، ولكن هذا ضحك ساخراً، وقال له: "هيهات لا يمكنك قتلي، فروحي محفوظة في قلب فيدوس، صاحب سبعة رؤوس"، وأخذت الغزالة تبكي وتتوسل إلى الفتى ترجوه أن يبذل جهده كله ليحصل على روح الرجل القصير من قلب فيدوس، وعلىالفور مدّ الفتى البساط، وطلب منه أن يحمله إلى حيث فيدوس.

    وحطّ به البساط في ظاهر بلدة، قرب بيت صغير، قرع بابه، فخرجت له عجوز، طلب منها شربة ماء، فعجبت لأمره وأدركت أنه غريب، ثم أخبرته أن الماء قد نضب من آبار البلدة كلها، وأن سواقيها قد جفت، والناس ينتظرون وصول ابنة الملك إلى فيدوس حتى تصل المياه إلى الآبار والسواقي، فقد تسلّط على البلدة، وسد بقدمه نبع الماء في الجبل، وقد اعتاد الناس أن يقدموا له في كل ربيع أجمل فتاة في البلدة، فيشغل بافتراسها عن سد النبع ، فينبجس الماء، ويتدفق نحو البلدة ليملأ آبارها وسواقيها، وقد وقع اختيار الضحية هذا العام على ابنة الملك.

    ولما علم الفتى بذلك، أسرع إلى البلدة، فرأى فيها هرجاً ومرجاً، وفيها أناس يندبون ويبكون، لتقديم ابنة الملك ضحية، وأناس يرقصون ويغنون، فرحاً بقرب وصول الماء إلى آبارهم، ثم رأى موكباً يخرج من قصر الملك، وفيه فتاة صبية، في أبهى حلة، يقودها فارس ملثم، فأدرك على الفور أنها ابنة الملك، تقاد إلى حيث فيدوس، فتتبع الموكب إلى أن غادر البلدة، وأخذ يصعد الجبل، ولما اقترب الموكب من القمة توقف المرافقون، ومضى الفارس الملثم، يقود ابنة الملك وحدها، إلى حيث فيدوس، فلما ابتعد بها عن الأنظار، برز له الفتى، مشهراً سيفه، طالباً منه ترك ابنة الملك، ليتولى هو بنفسه قيادتها، فتركها الفارس على الفور، ومشى بها إلى فيدوس.

    ولما بلغ مغارته، ناداه طالباً منه الظهور، فعجب فيدوس للأمر، وهو الذي لم يعتد على ذلك من قبل، فرد عليه طالباً منه ترك الضحية وحدها، ولكن الفتى أصر طالباً منه الظهور، فمد فيدوس رأسه من المغارة، فهوى عليه بالسيف، فقطعه، فغضب فيدوس، ومد رأسه الثاني، فهوى عليه بالسيف أيضاً، وهكذا حتى أتى على رؤوسه السبعة، ثم التفت إلى ابنة الملك، وطلب منها أن تعود من حيث جاءت، وألا تخشى شيئاً.

    ثم دخل المغارة ، فشق صدر فيدوس، وأخرج قلبه، وفتحه، فعثر فيه على صندوق صغير، فخبأه تحت قميصه، ورجع إلى البلدة.

    وكان الماء قد انبجس من النبع، وجرى ممتزجاً بدم فيدوس، ليملأ السواقي والآبار، وفرح به الناس فرحاً شديداً، ثم ازداد فرحهم حين رأوا ابنة الملك قادمة من الجبل سليمة معافاة، وأقام الملك الزينات، وأعلن الأفراح، ودعا الناس جميعاً إلى ولائم أقامها في الساحات، ثم أعلن أنه سيزوج ابنته من قاتل فيدوس، وتقدم شبان كثيرون، يدعي كل منهم أنه هو الذي قتله، ولكن ابنة الملك كانت تكذبه، فيرتد مدحوراً.

    وبينما هي جالسة في شرفتها، إلى جانب أبيها، تنظر إلى الناس مقبلين على الولائم المقامة في الساحات، رأت الفتى، فعرفته على الفور، وأشارت إليه، وهي تقول لأبيها: "هذا هو قاتل فيدوس".

    وأرسل الملك على الفور جنده، فأحضروا الفتى، فسأله إن كان هو حقيقة قاتل فيدوس، فأجاب: "نعم"، فشكره الملك على ذلك، وأخبره أنه يرغب في تزويجه ابنته.

    وجددت الأفراح، كما جددت الولائم، وتزوج الفتى ابنة الملك، وسعد بها، كما سعدت به، ومرت عليهما أيام وشهور، كادت تصير إلى عام، حملت فيها الزوجة، وبدأت تستعد لاستقبال المولود.

    وذات يوم عثرت الزوجة على العلبة الصغيرة، وكان الزوج قد خبأها في مكان أمين، فعجبت لأمرها، ولما سألته عنها، تذكر الغزالة والرجل القصير، فراوغ في الجواب، ثم ألحت عليه أن يفتح العلبة، واضطر أمام إلحاحها إلى فتح العلبة، فطار منها عصفور صغير، وأدرك على الفور خطر ما أقدم عليه، فأشعل ثلاث شعرات، فحضر على الفور زوج أخته الكبرى، فطلب منه أن يحضر له ذلك العصفور، فأحضره إليه، فأعاده إلى العلبة.

    ومرة أخرى ألحت عليه، ففتحها، ومرة أخرى استنجد بزوج أخته الصغرى، فأعاد إليه العصفور، وكرة ثالثة أعاد الأمر نفسه، ثم أدرك أن إرادته قد ضعفت، وأنه يوشك أن يودي بالغزالة، فعزم أمره على الرحيل.

    وذات صباح، وبينما زوجته في المخاض، قدم لها عقداً، وطلب منها أن تلبسه للمولود في عنقه إن كان أنثى، وفي معصمه إن كان ذكراً، ثم مدّ البساط، وقعد فوقه، وطلب منه أن يوصله إلى حيث الغزالة.

    وحط به البساط أمام الغزالة، والرجل القصير يضربها بالسوط، وعلى الفور فتح العلبة، وأمسك بالعصفور، فأخذ القصير يرجو منه إطلاقة، في حين أخذت الغزالة ترجوه أن يبادر إلى فصل رأسه عن جسده.

    وكادت نفس الفتى أن تضعف، ولكنه أسرع ففصل رأس العصفور عن جسده، فوقع الرجل القصير على الأرض، جثة هامدة، لا حياة فيها، ثم نظر إلى الغزالة المقيدة إلى الجدار، وإذا هي صبية حسناء، في ربيع العمر، فبادر إلى فك قيودها، وإطلاقها.


  11. #11
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية

    ولما لامته الغزالة على تأخره عنها، اعتذر لها، وأكد عزمه على البقاء بجانبها، فأخبرته أنها ملكة على سبعة بلاد، وأن ذلك الرجل القصير هو الذي مسخها غزالة، ثم حملته، وحطت به في قصرها، فإذا هي ملكة متوجة، يحف بها الخدم والوزراء.

    ولما عرضت عليه الزواج منها، وافق، فتزوجته، وتنازلت له عن الحكم، وأصبح ملكاً يتصرف في شؤون البلاد والعباد.

    أما ما كان من أمر زوجته، ابنة الملك التي أنقذها من فيدوس، ثم تركها وهي في المخاض فقد وضعت ولداً ذكراً، ربته في حجر جده الملك، وكان لا يعرف لنفسه أباً سواه.

    ثم كبر الولد، فوضعت أمه في معصمه الطوق الذي كان قد أهداها إياه أبوه، وأخذت تبدو على الولد ملامح الذكاء.

    وذات يوم كان يلعب مع ابن الوزير، فإذا ابن الوزير يعيب عليه أنه لا يعرف من أبوه، فأنكر ذلك، ولكن ابن الوزير أكد له أن من يدعوه أباه ليس إلا جده لأمه.

    وسأل الولد بعض المقربين عن الأمر، فأكدوا له ماقاله ابن الوزير، فماكان منه إلا أن ترك القصر، وهام على وجهه في البلاد، يبحث عن أبيه.

    وتقلبت به البلاد، كما تقلبت به الأعمال، حتى بلغ البلد الذي يحكمه أبوه، ففتح فيه مطعماً، وأخذ يصنع أطايب الطعام، حتى بلغت شهرته قصر الملك، فجرب طعامه يوماً، فأعجب به، وأصبح الملك لا يتناول طعاماً إلا من صنعه، وكان لا يتردد أحياناً عن زيارته في مطعمه مساءً لتناول طعام العشاء، وقضاء السهرة معه.

    وكان يحدث زوجته عنه، ويصفه لها، حتى أنها عشقته على السماع، وأخذت تتمنى لقاءه، ثم قررت أن تصل إليه، مهما كلفها الأمر، فأرسلت وراء البنائين، فطلبت أن يحفروا لها نفقاً تحت الأرض يصل مابين قصرها ومطعمه، وأن تشاد وراء المطعم غرفة خاصة ليتم لهما اللقاء، ولما تم لهما ذلك، أخذت تزوره كل مساء، تأنس بحديثه، وترتاح إلى لقياه.

    وذات يوم قدم إليه الملك مساءً، لتناول طعام العشاء، وتزجية الوقت، وبينما هما معاً، وإذا الملك يسمع قرعاً على باب في عمق المطعم، فسأل عن الأمر، فأجاب الولد أن الخدم والطباخين يغسلون الصحون والقدور، ثم توجه نحو الباب وهمس طالباً عدم إحداث الضجيج، معلناً عن وجود الملك في المطعم.

    ومرت ساعة وبضع الساعة، وإذا القرع يتكرر ثانية، فدهش الملك، فعلل الولد ذلك بما علله في المرة الأولى، ومرت ساعة أخرى، وإذا القرع يتكرر ثالثة، فشك الملك في الأمر، وقام إلى الباب بنفسه، ففتحه، وإذا زوجته وراء الباب، ودخل الغرفة فرأى النفق، وعرف حقيقة الأمر، فاقتاد زوجته والولد إلى القصر، وأمر الجلاد بضرب عنق الولد على الفور.

    وتوسلت إليه الزوجة، ترجوه العفو عن الولد، وأكدت له براءتها وبراءته معاً، ولكن الملك لم يصغ إليها، وأشار إلى الجلاد، يأمره بتنفيذ مهمته.

    وتقدم الجلاد، يصحبه الخدم، فبادر هؤلاء إلى خلع قميص الولد عن جسده، وأحضروا الأغلال لتقييد يديه، فرأى الملك العقد الذي أهداه إلى زوجته في معصم الولد، فأشار إلى الخدم أن كفوا عنه، ثم بادر إليه يسأله عن حقيقة أمره، فروى له الولد حكايته بالتفصيل، فعرف فيه الملك ابنه، فضمه إليه وعانقه، وعفا عنه.

    ثم أرسل إلى زوجته أم الولد التي كان قد خلصها من فيدوس، وكان أبوها قد توفي، وكانت قد ورثت العرش من بعده، فأحضرها إليه، وأفرد لها جناحاً خاصاً في القصر وضم بلادها إلى بلاده، وعين ابنه حاكماً عليها، وقد أصبح ملكاً على ثمانية بلاد.

    ثم سمع ببلد مجاور لبلده يقتتل فيه أخوان على الحكم، فخشي أن يكونا أخويه، فأرسل إليهما يدعوهما إليه، فإذا هما أخواه، فلما عرفاه اعتذرا له، وتنازلا له عن الحكم، فضم بلادهما إلى بلاده، وعينهما وزيرين له، وعاش يحكم في الناس بالعدل، إلى أن وافاه الأجل.



    الفقير والوزير



    كان أحد الرجال فقيراً معدماً، وكان ذا عيال كثير، يعمل من الصباح إلى المساء، عتالاً يسوق حماره، يحمل عليه للناس أشياءهم، كي يفوز بقليل من الدراهم، يشتري بها لعياله الخبز والإدام، وكان في كثير من الأيام لا يحصّل غير ثمن الشعير للحمار، ويعود إلى البيت، ليمضي الليل مع العيال، غرثى جائعين.

    وذات يوم فتح الله عليه برزق كثير، فاشترى لأهله ألواناً من الطعام، وملأ كيس الحمار بالشعير، وقصد بيته، وبينما هو في بعض الطريق عرضت له حاجة، فانتحى جانباً، تاركاً الحمار، ثم قضاها.

    ولما رجع لم يجد الحمار، فتلفت يبحث عنه، فلم ير له أثراً، فأخذ يفتش عنه، فطاف في الأزقة، ودار في الحارات، وهو ينادي، ويسأل عنه، حتى تورمت قدماه، ولكن في غير جدوى، فما كان منه إلا أن حدج السماء بنظرة شزراء، ثم صاح في غضب:

    - يارب، كل الأيام لا أرزق إلا بالقليل، ويوم رزقت بالكثير ضاع الحمار؟!..

    ومضى إلى الملك، مغاضباً، يريد أن يشكو الله إليه، فمنعه الحرس من الدخول، فأخذ يصرح ويصيح، حتى سمع الملك الصوت، فأطل من نافذة القصر، فرأى ذلك البائس الفقير، فأشار إلى الحرس أن اسمحوا له بالدخول، فدخل، والغضب بادٍ عليه، ليعلن أنه يريد رفع شكوى ضد الله، فضحك الملك طويلاً، وطيّب خاطره، ثم سمع حكايته، فأمر له بعطاء جزيل، فخرج فرحاً به مسروراً.

    وكان الوزير إلى جانب الملك، يسمع ويرى، فحزّ في نفسه أن يحظى هذا الفقير، بذاك العطاء، فمال على الملك، وأوغر صدره عليه، موحياً إليه أنه ليس إلا محتالاً، اختلق تلك القصة، ليظفر بالمال، ثم طلب من الملك أن يرسل وراءه، فإن لديه سؤالاً يريد أن يمتحنه به، ليكشف احتياله، فأرسل الملك الجند وراء الفقير، فأحضروه، فدخل مذعوراً، فأخبره الملك أن الوزير يريد أن يسأله سؤالاً، إن عرف الجواب، أجزل له العطاء، وإن لم يعرف، قطع رأسه.

    فاضطرب الفقير واغتم، ولكنه امتثل، وأعلن استعداده، لسماع السؤال، وعندئذٍ سأله الوزير: "أين أول الدنيا؟ وأين آخرها؟"، فأجابه على الفور: "عند أقدام الملك، أولها وآخرها". فسر الملك بالجواب، ونظر إلى الوزير، فإذا هو صامت لا يريم، فأمر للفقير بعطاء كبير، فأخذه الفقير وخرج فرحاً، والوزير يتميز من الغيظ.

    ولكن لم يلبث الوزير أن مال على الملك، وأكد أن ذلك الفقير محتال، ثم طلب منه أن يرسل وراءه، فإن لديه سؤالاً آخر يريد أن يمتحنه به، فأرسل الملك الجند وراءه، فأحضروه، فدخل، وقد أدرك أن الوزير هو الذي يكيد له، ويؤلب الملك عليه، ولما عرض عليه الملك الشرط، أن يعرف الجواب، أو يقطع رأسه، أعلن القبول، فليس له في الأمر حيلة.

    وعندئذٍ سأله الوزير:"في أي جهة وجه الله؟"،فأطرق الفقير قليلاً، ثم طلب من الملك أن يأمر الخدم كي يحضروا له شمعة، فلما أحضرت أشعلها، ووضعها أمام الملك، ثم سأله:"أين وجه هذه الشمعة؟". فأجاب الملك: "في كل الجهات"، فالتفت الفقير إلى الوزير، وأجابه: "وكذلك وجه الله، فهو في كل الجهات". فأعجب الملك بجوابه أي إعجاب، وأجزل له العطاء، فأخذه وخرج، مزهواً بنصره، فرحاً بالعطاء، والوزير في ضيق شديد، وغضب كبير.

    ولكن لم يلبث الوزير أن حزم أمره، ومال على الملك، وطلب منه أن يأمر بإحضار الفقير، فإن لديه سؤالاً أخيراً، يريد أن يمتحنه به، فأجاب الملك طلب وزيره، وأرسل وراء الفقير، فأدخله الجند، وهو في قلق كبير، فقد أيقن أنه هذه المرة أمام امتحان قد يخسر فيه حياته، ولكنه ملك نفسه، وصمم على تحدي الوزير، ولما أعاد عليه الملك الشرط، أكد بحزم قبوله، واستعداده لسماع السؤال.

    وعندئذٍ تحرك الوزير، وزها بنفسه، ثم ألقى سؤاله: "ماهو عمل الله؟". فتبسم الفقير، والتفت إلى الملك يسأله أن يعطيه الأمان، فأعطاه الأمان، فطلب منه أن يأمر الوزير بخلع ثيابه، فأمر الملك وزيره بذلك، فدهش الوزير، وارتبك، وراوغ، يحاول التملص، ولكن الملك أشار عليه أن أفعل، ففعل، وعندئذٍ خلع الفقير ثيابه، وألقاها على الوزير، ثم طلب من الملك أن يأمر الوزير بارتداء ثيابه، هو الفقير، فأمر الملك الوزير أن يرتدي ثياب الفقير، فتردد الوزير واضطرب، ثم تبسم، واصطنع المزاح، ولكن الملك نظر إليه يحذره، فلم يجد بداً من الانصياع، فلبس ثياب الفقير، وعندئذٍ لبس الفقير ثياب الوزير، ثم التفت إلى الملك يسأله أن يأمره وزيره بالنزول عن كرسيه، فأمره الملك أن ينزل عن الكرسي، فارتبك، وحار في أمره، ولكن الملك عاجله أن افعل، فنزل، وعندئذٍ ارتقى الفقير إلى جانب الملك، وقعد على كرسي الوزير، ثم التفت إلى الوزير، وقال له: "انظر، هذا هو جواب سؤالك، إن عمل الله أن يرفع أناساً، وأن يضع آخرين".

    فأعجب الملك بذكاء الفقير، وقال له: "لقد ثبتناك فيما أنت فيه، فأنت منذ اليوم وزيري"، فبهت الوزير، وصعق، وقبل أن ينطق بشيء، أمر الملك الجند أن يسوقوه إلى السجن، ثم التفت إلى الفقير، وقد غدا وزيره، يهنئه، ويبارك له، وقد أدرك أن في شعبه من هو أذكى من ذلك الوزير المحتال، وأجدر بالوزارة منه.




    الغزالة



    كان لأحد الملوك ثلاث بنات وثلاثة صبيان، وقد عني بتربيتهم، وحرص على أن يغرس فيما بينهم المودة والتفاهم، ولما حضرته المنية أوصى أبناءه الثلاثة أن يزوجوا شقيقاتهم لأول خاطب يطلب الزواج منهن، فوعده الإخوة بتحقيق ذلك، وبعد وفاته تولى الابن الكبير الملك، وعين أخاه الأوسط وزيراً للميمنة، والصغير وزيراً للميسرة، وسارت لهم الأمور على خير مايرام.

    وذات يوم تقدم إليهم رجل رث الثياب، زريّ الهيئة، يطلب الزواج من أختهم الكبرى، ولما سأله الأخ الكبير عن عمله، أجاب بأنه يعمل وقّاداً في حمام، في بلد بعيد، فغضب الأخ، وأقسم لن يزوجه أخته، ولو سلخوا جلده، وشايعه الأخ الأوسط وأقسم لن يزوجه إياها ولو فرموا لحمه، وتدخل الأخ الصغير، فذكّر أخويه بوصية الوالد، وطالبهم بتنفيذ وعدهم له، فأحس كل من الأخوين بالإحراج، واضطرا للموافقة، وفي أيام تم تجهيز البنت الكبرى، وزفافها إلى الغريب، الذي لم يلبث سوى أيام، حتى أخذها معه إلى بلاده البعيدة.

    وفي يوم آخر قدم غريب آخر، فكان من أمره ماكان من أمر الأول، ثم قدم غريب ثالث، فكان من أمره أيضاً ماكان من أمر الأولين، وهكذا تزوجت الأخوات الثلاث على كره من الأخوين، الكبير والأوسط، وبموافقة من الأخ الصغير، تنفيذاً لوصية الوالد.

    وبدأ الأخوان الكبير والأوسط يحّسان بالضيق من أخيهما الصغير، وأخذا يكيدان له، حتى أصبح لا يطيق الإقامة معهما في القصر، فقرر اعتزال الحكم والتخلي عن المشاركة فيه، وماكان منه إلا أن هجر القصر، وتاه في البلاد، لا يستقر به المقام في بلد، حتى ينتقل إلى سواه، وكان دائماً يتمنى أن يدخل بلداً تكون فيه إحدى شقيقاته، لعله يلتقي بها، ويطمئن على حالها، وهو لا يعرف في أي البلاد مقرهن.

    وذات يوم، وهو في الفلاة، يسير وحده تائه الخطا، لاحت له غزالة، اقترب منها، فلم تجفل، فاقترب أكثر، فإذا هي تنطلق وتحييه بفصيح الكلام، فدهش لأمرها، وقد فتنته بحور عينيها، وجيدها الأتلع، وشعر بالأنس في قربها، وأخذ لا يفارقها، يسير حيث تسير ويقيم حيث تقيم.

    ولما تأكدت الغزالة من تعلقه بها، عرضت عليه صحبتها، ووعدته بأن تحقق له مايتمناه، فوعدها أن يظل وفياً لها مدى العمر، ثم تمنى عليها أن تحمله إلى شقيقته الكبرى، فطلبت منه أن يبقي أمرها سراً، وألا يبوح بشيء عنها، مهما حاولت أخته وزوجها استدراجه إلى ذلك، ثم حملته على ظهرها وقفزت بضع قفزات، وإذا هو أمام قصر شاهق، قعد في ظله، لا يعرف ماذا يفعل، وهو غير مصدق أن تكون أخته فيه، ولما طال قعوده، أخذته سنة من نوم، فأغفى ونام.

    وخرجت إحدى الجواري في القصر، فرأت شاباً وسيماً، بهي الطلعة، يشبه سيدتها الشبه كله، فأسرعت إلى سيدتها تخبرها بأمره، وقد وصفته لها، ثم قالت: "عينه عينك، ووجهه وجهك، ولاشك أنه أخوك أوابن عمك"، فدهشت السيدة، وأرسلت الخدم لإحضاره ولما دخل عليها أسرعت إليه تعانقه وتبكي، وتعجبت لتمكنه من حضوره إليها، وسألته إذا كانت الغزالة قد أحضرته، فنفى ذلك، فحذرته منها، فأكد أنه لم يلتق بغزالة، ولا يعرف من أمرها شيئاً.

    وأعدت الأخت لأخيها أطايب الطعام، وفرحت به، وسعدت بلقائه، ثم فجأة عمّ الكون قتامة سوداء، وقصف الرعد، وزمجر، فسرى الخوف في أوصال الأخت، فعجب أخوها للأمر، فأخبرته أن زوجها قادم، فسألها:"ومن زوجك؟!"، فأجابته: "ملك الجان الأحمر"، ثم نفخت على أخيها فحولته إلى قطعة حلوى صغيرة، خبأتها في ثوبها.

    ودخل الزوج غاضباً، وبادر إلى سؤالها عمن في زيارتها من الإنس، فأنكرت فأكد لها أنه يشتم رائحة الإنس، ولا داعي للإنكار، فأقرت بوجود أخيها، فازداد غضبه، وأكد أنه سوف يسلخ جلده، إن كان أخاها الأكبر، وسيمزق لحمه، إن كان أخاها الأوسط، أما إذا كان أخاها الأصغر، فإنه يرحب به خير ترحيب، فاطمأنت الأخت، وأعادت أخاها إلى حالته الأولى، فرحب به زوجها، وعانقه، ثم سأله إن كانت الغزالة قد أوصلته إلى القصر، فنفى ذلك، فاطمأن إليه، ودعاه إلى الحلول في القصر ضيفاً.

    وأقام الأخ في قصر أخته أياماً، سعد فيها بلقاء أخته، ولما عزم على الرحيل زوده زوج أخته بثلاث شعرات، أوصاه أن يحرقها إذا ماوقع في مأزق.

    وخارج القصر، وجد الغزالة في انتظاره، فامتطى ظهرها، فقفزت ثلاث قفزات، فإذا هما في الغابة حيث كانا من قبل، وسألته الغزالة إن كان قد حدث أخته أو زوجها عنها، فنفى ذلك، وأكد إخلاصه لها، ووعدها ألا يتخلى عنها أبداً.

    ثم طلب منها أن تحمله إلى أخته الوسطى، ففعلت، وكان من أمره معها ماكان من أمره مع أخته الكبرى، وقد عرف أن زوجها ملك الجان الأخضر، وقد زوده قبل وداعه بثلاث شعرات، أوصاه فيها، أن يحرقها إذا وقع في مأزق.

    ثم زار أخته الصغرى، فكان من أمره معها أيضاً ماكان من أمره مع أخته الكبرى والوسطى، وقد عرف أن زوجها ملك الجان الأزرق، وقد زوده قبل وداعه بثلاث شعرات، أوصاه أن يحرقها إذا ماوقع في مأزق.

    وقد أوصته أختاه الأخيرتان كما أوصته أخته الكبرى بالحذر من الغزالة، وأنكرتا عليه أن تكون هي التي حملته إليها، ولكنه نفى ذلك، وأكد أنه لا يعرف الغزالة.

    وكان لما خرج من قصر أخته الصغرى قد وجد الغزالة بانتظاره، فامتطى ظهرها فقفزت ثلاث قفزات، فإذا هما معاً في الغابة، حيث كانا من قبل.

    وأعادت عليه الغزالة سؤالها، إن كان على استعداد للبقاء معها، والوفاء لها، فأكد ذلك، ووعدها ألا يتخلى عنها مدى العمر كله، وكان مايزال ممتطياً ظهرها وهي تسير به، فقفزت فجأة قفزة قوية، فحلق في الهواء، ثم وقع، فإذا هو في خضم البحر.

    وبهت، وكاد يشرف على الغرق، ولكنه أخذ يسبح نحو الشاطئ، بكل ما أوتي من قوة، حتى بلغه بعد عناء شديد، فألقى نفسه على الرمال، ونام.

    ولما استيقظ رأى حمامتين تختصمان، وكل منهما تقول للأخرى:" الطاقية لي، الطاقية لي"، ثم تنبهت إحداهما إليه، فقالت للأخرى:"تعالي نحتكم إلى هذا الإنسي"، ثم قدمتا إليه، وطلبتا منه أن يحكم بينهما في طاقية اختلفتا فيها لمن تكون، فقد ورثتا عن أبيهما بساطاً، وعصاً، وطاقية، وقد أخذت إحدهما العصا، وأخذت الأخرى البساط، ثم اختلفتا في الطاقية، فوعدهما أن يحكم بينهما، وماكان منه إلا أن التقط من الأرض حجراً وقذفه بقوة، ثم طلب من الحمامتين أن تسرعا إلى الحجر، ومن تحضره منهما، تكون لها الطاقية.

    وأسرعت الحمامتان وراء الحجر، وقد تركتا عنده الطاقية والبساط والعصا، فمد البساط وقعد فوقه، ووضع الطاقية على رأسه، ثم حمل العصا، وأشار إلى البساط

    طالباً منه أن يوصله إلى حيث الغزالة، تاركاً الحمامتين.

    وحط به البساط في قصر الغزالة، فمضى إليها في مخدعها، والخدم لا يرونه، لأنّ الطاقية على رأسه، فلما صار أمامها، وضع الطاقية، فسألته عن سبب مجيئة إليها، فأكد لها وعده بعدم التخلي عنها، فسرت به، وصدق عندها وفاؤه، فجعلت له جناحاً خاصاً في قصرها، ليقيم فيه.

    ثم سلمته أربعين مفتاحاً، لأربعين غرفة، وأذنت له في دخولها جميعاً، ماعدا غرفة واحدة، رجته ألا يدخلها أبداً، فأمضى في القصر أياماً وهو يتفرج على الغرف وماضمته من جواهر وعقود، ونفسه تراوده بفتح الغرفة الأربعين.

    وذات يوم وجد نفسه مدفوعاً إلى الغرفة الأربعين، ففتحها ودخل، وإذا رجل معلق من يديه في جدارها، وهذا الرجل طوله شبر واحد، ما إن رآه حتى أخذ يتوسل إليه راجياً منه أن يفك قيده ويطلقه، فأشفق عليه، فأطلقه، فإذا الغزالة قد حلت محله على الفور.

    وهم بقتل الرجل القصير، ولكن هذا ضحك ساخراً، وقال له: "هيهات لا يمكنك قتلي، فروحي محفوظة في قلب فيدوس، صاحب سبعة رؤوس"، وأخذت الغزالة تبكي وتتوسل إلى الفتى ترجوه أن يبذل جهده كله ليحصل على روح الرجل القصير من قلب فيدوس، وعلىالفور مدّ الفتى البساط، وطلب منه أن يحمله إلى حيث فيدوس.




  12. #12
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية

    وحطّ به البساط في ظاهر بلدة، قرب بيت صغير، قرع بابه، فخرجت له عجوز، طلب منها شربة ماء، فعجبت لأمره وأدركت أنه غريب، ثم أخبرته أن الماء قد نضب من آبار البلدة كلها، وأن سواقيها قد جفت، والناس ينتظرون وصول ابنة الملك إلى فيدوس حتى تصل المياه إلى الآبار والسواقي، فقد تسلّط على البلدة، وسد بقدمه نبع الماء في الجبل، وقد اعتاد الناس أن يقدموا له في كل ربيع أجمل فتاة في البلدة، فيشغل بافتراسها عن سد النبع ، فينبجس الماء، ويتدفق نحو البلدة ليملأ آبارها وسواقيها، وقد وقع اختيار الضحية هذا العام على ابنة الملك.

    ولما علم الفتى بذلك، أسرع إلى البلدة، فرأى فيها هرجاً ومرجاً، وفيها أناس يندبون ويبكون، لتقديم ابنة الملك ضحية، وأناس يرقصون ويغنون، فرحاً بقرب وصول الماء إلى آبارهم، ثم رأى موكباً يخرج من قصر الملك، وفيه فتاة صبية، في أبهى حلة، يقودها فارس ملثم، فأدرك على الفور أنها ابنة الملك، تقاد إلى حيث فيدوس، فتتبع الموكب إلى أن غادر البلدة، وأخذ يصعد الجبل، ولما اقترب الموكب من القمة توقف المرافقون، ومضى الفارس الملثم، يقود ابنة الملك وحدها، إلى حيث فيدوس، فلما ابتعد بها عن الأنظار، برز له الفتى، مشهراً سيفه، طالباً منه ترك ابنة الملك، ليتولى هو بنفسه قيادتها، فتركها الفارس على الفور، ومشى بها إلى فيدوس.

    ولما بلغ مغارته، ناداه طالباً منه الظهور، فعجب فيدوس للأمر، وهو الذي لم يعتد على ذلك من قبل، فرد عليه طالباً منه ترك الضحية وحدها، ولكن الفتى أصر طالباً منه الظهور، فمد فيدوس رأسه من المغارة، فهوى عليه بالسيف، فقطعه، فغضب فيدوس، ومد رأسه الثاني، فهوى عليه بالسيف أيضاً، وهكذا حتى أتى على رؤوسه السبعة، ثم التفت إلى ابنة الملك، وطلب منها أن تعود من حيث جاءت، وألا تخشى شيئاً.

    ثم دخل المغارة ، فشق صدر فيدوس، وأخرج قلبه، وفتحه، فعثر فيه على صندوق صغير، فخبأه تحت قميصه، ورجع إلى البلدة.

    وكان الماء قد انبجس من النبع، وجرى ممتزجاً بدم فيدوس، ليملأ السواقي والآبار، وفرح به الناس فرحاً شديداً، ثم ازداد فرحهم حين رأوا ابنة الملك قادمة من الجبل سليمة معافاة، وأقام الملك الزينات، وأعلن الأفراح، ودعا الناس جميعاً إلى ولائم أقامها في الساحات، ثم أعلن أنه سيزوج ابنته من قاتل فيدوس، وتقدم شبان كثيرون، يدعي كل منهم أنه هو الذي قتله، ولكن ابنة الملك كانت تكذبه، فيرتد مدحوراً.

    وبينما هي جالسة في شرفتها، إلى جانب أبيها، تنظر إلى الناس مقبلين على الولائم المقامة في الساحات، رأت الفتى، فعرفته على الفور، وأشارت إليه، وهي تقول لأبيها: "هذا هو قاتل فيدوس".

    وأرسل الملك على الفور جنده، فأحضروا الفتى، فسأله إن كان هو حقيقة قاتل فيدوس، فأجاب: "نعم"، فشكره الملك على ذلك، وأخبره أنه يرغب في تزويجه ابنته.

    وجددت الأفراح، كما جددت الولائم، وتزوج الفتى ابنة الملك، وسعد بها، كما سعدت به، ومرت عليهما أيام وشهور، كادت تصير إلى عام، حملت فيها الزوجة، وبدأت تستعد لاستقبال المولود.

    وذات يوم عثرت الزوجة على العلبة الصغيرة، وكان الزوج قد خبأها في مكان أمين، فعجبت لأمرها، ولما سألته عنها، تذكر الغزالة والرجل القصير، فراوغ في الجواب، ثم ألحت عليه أن يفتح العلبة، واضطر أمام إلحاحها إلى فتح العلبة، فطار منها عصفور صغير، وأدرك على الفور خطر ما أقدم عليه، فأشعل ثلاث شعرات، فحضر على الفور زوج أخته الكبرى، فطلب منه أن يحضر له ذلك العصفور، فأحضره إليه، فأعاده إلى العلبة.

    ومرة أخرى ألحت عليه، ففتحها، ومرة أخرى استنجد بزوج أخته الصغرى، فأعاد إليه العصفور، وكرة ثالثة أعاد الأمر نفسه، ثم أدرك أن إرادته قد ضعفت، وأنه يوشك أن يودي بالغزالة، فعزم أمره على الرحيل.

    وذات صباح، وبينما زوجته في المخاض، قدم لها عقداً، وطلب منها أن تلبسه للمولود في عنقه إن كان أنثى، وفي معصمه إن كان ذكراً، ثم مدّ البساط، وقعد فوقه، وطلب منه أن يوصله إلى حيث الغزالة.

    وحط به البساط أمام الغزالة، والرجل القصير يضربها بالسوط، وعلى الفور فتح العلبة، وأمسك بالعصفور، فأخذ القصير يرجو منه إطلاقة، في حين أخذت الغزالة ترجوه أن يبادر إلى فصل رأسه عن جسده.


    وكادت نفس الفتى أن تضعف، ولكنه أسرع ففصل رأس العصفور عن جسده، فوقع الرجل القصير على الأرض، جثة هامدة، لا حياة فيها، ثم نظر إلى الغزالة المقيدة إلى الجدار، وإذا هي صبية حسناء، في ربيع العمر، فبادر إلى فك قيودها، وإطلاقها.
    ولما لامته الغزالة على تأخره عنها، اعتذر لها، وأكد عزمه على البقاء بجانبها، فأخبرته أنها ملكة على سبعة بلاد، وأن ذلك الرجل القصير هو الذي مسخها غزالة، ثم حملته، وحطت به في قصرها، فإذا هي ملكة متوجة، يحف بها الخدم والوزراء.

    ولما عرضت عليه الزواج منها، وافق، فتزوجته، وتنازلت له عن الحكم، وأصبح ملكاً يتصرف في شؤون البلاد والعباد.

    أما ما كان من أمر زوجته، ابنة الملك التي أنقذها من فيدوس، ثم تركها وهي في المخاض فقد وضعت ولداً ذكراً، ربته في حجر جده الملك، وكان لا يعرف لنفسه أباً سواه.

    ثم كبر الولد، فوضعت أمه في معصمه الطوق الذي كان قد أهداها إياه أبوه، وأخذت تبدو على الولد ملامح الذكاء.

    وذات يوم كان يلعب مع ابن الوزير، فإذا ابن الوزير يعيب عليه أنه لا يعرف من أبوه، فأنكر ذلك، ولكن ابن الوزير أكد له أن من يدعوه أباه ليس إلا جده لأمه.

    وسأل الولد بعض المقربين عن الأمر، فأكدوا له ماقاله ابن الوزير، فماكان منه إلا أن ترك القصر، وهام على وجهه في البلاد، يبحث عن أبيه.

    وتقلبت به البلاد، كما تقلبت به الأعمال، حتى بلغ البلد الذي يحكمه أبوه، ففتح فيه مطعماً، وأخذ يصنع أطايب الطعام، حتى بلغت شهرته قصر الملك، فجرب طعامه يوماً، فأعجب به، وأصبح الملك لا يتناول طعاماً إلا من صنعه، وكان لا يتردد أحياناً عن زيارته في مطعمه مساءً لتناول طعام العشاء، وقضاء السهرة معه.

    وكان يحدث زوجته عنه، ويصفه لها، حتى أنها عشقته على السماع، وأخذت تتمنى لقاءه، ثم قررت أن تصل إليه، مهما كلفها الأمر، فأرسلت وراء البنائين، فطلبت أن يحفروا لها نفقاً تحت الأرض يصل مابين قصرها ومطعمه، وأن تشاد وراء المطعم غرفة خاصة ليتم لهما اللقاء، ولما تم لهما ذلك، أخذت تزوره كل مساء، تأنس بحديثه، وترتاح إلى لقياه.

    وذات يوم قدم إليه الملك مساءً، لتناول طعام العشاء، وتزجية الوقت، وبينما هما معاً، وإذا الملك يسمع قرعاً على باب في عمق المطعم، فسأل عن الأمر، فأجاب الولد أن الخدم والطباخين يغسلون الصحون والقدور، ثم توجه نحو الباب وهمس طالباً عدم إحداث الضجيج، معلناً عن وجود الملك في المطعم.

    ومرت ساعة وبضع الساعة، وإذا القرع يتكرر ثانية، فدهش الملك، فعلل الولد ذلك بما علله في المرة الأولى، ومرت ساعة أخرى، وإذا القرع يتكرر ثالثة، فشك الملك في الأمر، وقام إلى الباب بنفسه، ففتحه، وإذا زوجته وراء الباب، ودخل الغرفة فرأى النفق، وعرف حقيقة الأمر، فاقتاد زوجته والولد إلى القصر، وأمر الجلاد بضرب عنق الولد على الفور.

    وتوسلت إليه الزوجة، ترجوه العفو عن الولد، وأكدت له براءتها وبراءته معاً، ولكن الملك لم يصغ إليها، وأشار إلى الجلاد، يأمره بتنفيذ مهمته.

    وتقدم الجلاد، يصحبه الخدم، فبادر هؤلاء إلى خلع قميص الولد عن جسده، وأحضروا الأغلال لتقييد يديه، فرأى الملك العقد الذي أهداه إلى زوجته في معصم الولد، فأشار إلى الخدم أن كفوا عنه، ثم بادر إليه يسأله عن حقيقة أمره، فروى له الولد حكايته بالتفصيل، فعرف فيه الملك ابنه، فضمه إليه وعانقه، وعفا عنه.

    ثم أرسل إلى زوجته أم الولد التي كان قد خلصها من فيدوس، وكان أبوها قد توفي، وكانت قد ورثت العرش من بعده، فأحضرها إليه، وأفرد لها جناحاً خاصاً في القصر وضم بلادها إلى بلاده، وعين ابنه حاكماً عليها، وقد أصبح ملكاً على ثمانية بلاد.

    ثم سمع ببلد مجاور لبلده يقتتل فيه أخوان على الحكم، فخشي أن يكونا أخويه، فأرسل إليهما يدعوهما إليه، فإذا هما أخواه، فلما عرفاه اعتذرا له، وتنازلا له عن الحكم، فضم بلادهما إلى بلاده، وعينهما وزيرين له، وعاش يحكم في الناس بالعدل، إلى أن وافاه الأجل.





    الحلاق



    يحكى أنه كان في أحد البلاد حلاق فقير الحال، حسن الأخلاق، ورث مهنة الحلاقة عن أبيه وجده، فكان يتقنها أيما إتقان.

    وذات يوم دخل عليه رجل غريب، فقص له شعره، وحلق له لحيته، ورش له العطور، فأعجب به الغريب، وأجزل له العطاء، وأخذ يتردد عليه كل يوم، ليحلق ذقنه، وفي كل يوم يعطيه، ويضاعف له في العطاء.

    ودخل الغريب على الحلاق يوماً وهو يأكل، فحياه، فرد عليه، ولم يدعه إلى مشاركته في الطعام، فدهش الغريب، وسأله عن سبب عدم دعوته إياه، فأجاب بأنه لا يريد أن يكون بينهما خبز وملح، حتى لا يتحمل أحد منهما تبعة ذلك، وما يقتضيه من تضحية ووفاء، ولكن الغريب أنكر الأمر، وأكد رغبته في مشاركته الطعام، ثم أخذ يأكل معه.

    ومرت الأيام، والصلة تزداد بين الرجلين قوة، حتى إنهما أخذا يأكلان معاً، ويمضيان معاً أوقاتاً طويلة.

    ثم انقطع الغريب عن الحلاق يومين أو ثلاثة، فقلق وتمنى لو يعرف بيته، ليزوره، ثم دخل عليه الغريب، ذات يوم شاحب الوجه، ذاوي العود، بادي الهم، كاسف البال، فأسرع إليه الحلاق ويسأله عن حاله، فأجاب بأنه رأى في الطريق امرأة بهره جمالها، فوقع في هواها، ولا شفاء له إلا بالزواج منها، فطمأنه الحلاق، ووعده بالمساعدة، ثم سأله إن كان يعرف دارها، فأجاب الغريب أن نعم، فما كان من الحلاق إلا أن أغلق دكانه، وطلب من الغريب أن يدله على بيتها، ليسعى له في الزواج منها.

    وسار الغريب، والحلاق يسير إزاءه، وإذا هو يتجه إلى الحي نفسه الذي يسكن هو فيه، ففرح الحلاق بذلك، واستبشر، وتمنى أن تكون المرأة ممن يعرف من الجيران، كي يستطيع التوسط لدى أهلها، ليزوجوها من صاحبه.

    ولكن قلب الحلاق خفق فجأة، وامتقع لونه، وكاد يغشى عليه، فقد أشار الغريب إلى بيته هو نفسه، ولما سأله عن ملامح المرأة، وصفاتها، أجابه الغريب بما يؤكد أن المرأة هي زوجته نفسها، فغالب الحلاق انفعاله، ثم طمأن الغريب إلى إمكان تحقيق مرامه، ووعده بالمساعدة، ثم ودعه، ورجع إلى بيته، وقد اسودت الدنيا في عينيه.

    ولما دخل الحلاق على زوجته، طلب منها أن تهيّئ نفسها وولديها للذهاب إلى أهلها، وعند أهلها أعلن أن الديون تراكمت عليه، وأنه لا سبيل إلى وفائها إلا بالرحيل إلى بلد آخر للعمل فيه، ثم أكد عزمه على طلاق زوجته، فدهشت لذلك زوجته، وتوسلت إليه ترجوه أن يصحبها معه، أو أن يتركها إلى أن يعود، ووعده أهلها بمساعدته، ولكنه رفض إلا الطلاق، ثم ودّع ولديه، وهما يبكيان ويتعلقان به، وخرج، وقد طلق زوجته.

    وفي اليوم التالي باع الحلاق داره، وقرر أن يتخذ من دكانه مأوى له، يأكل فيه وينام، ولما دخل عليه الغريب، يسأله عن مساعيه، أظهر الجلد، وأجابه بأن زوج المرأة قد توفي عنها منذ مدة قريبة، ولابد من الانتظار حتى انقضاء مدة العدة.

    وتكدر عيش الحلاق، وأصبح في أسوأ حال، شحب لونه، واصفر جلده، وعلاه الاكتئاب، ولكنه كان لا يبدي من أمره شيئاً، ولاسيما أمام صاحبه الغريب.

    وبعد انقضاء مدة العدة مضى الحلاق إلى أهل مطلقته، وأخبرهم أنه ينصح لها بالزواج من صاحب له يعرفه، كي يضمن لها السعادة، ويكفل لولديه حسن التربية، وأخذ يزكي صاحبه، ويشيد بأخلاقه الحميدة، فدهش الأهل لسعيه، وأنكروه، ولكن ظل يحاورهم، حتى أقنعهم بالأمر كله.

    ثم أخذ الحلاق يساعد صاحبه الغريب، ويعينه على تجهيز نفسه للزواج، فينزل معه إلى السوق لشراء الأثاث والثياب والهدايا، ولا يتردد في تقديم النصح والمشورة، وصاحبه الغريب يسأله عن الأمور كلها، ويستعين به على قضائها، إلى أن كان الزفاف، فأرسل الحلاق إلى صاحبه مع أحد الخدم هدية الزواج.

    ومرت الأيام، والغريب هانئ بزواجه، وهو ما يفتأ يزور صاحبه كل يوم، ليعرب له عن سروره بالزواج، واطمئنانه إلى زوجته، وسعادته بها، ويشكر له مساعيه، والحلاق يتميز قهراً وألماً، ولكنه يكظم ما بنفسه ويكتمه.

    وذات يوم دخل الغريب على الحلاق ليخبره بعزمه على الرحيل إلى بلاده، واصطحابه زوجته وولديها من الزوج السابق، ثم كرر شكره له على مساعيه، ودعاه إلى زيارته في بلده، وودعه، فعانقه الحلاق، والدموع تتفجر من مآقيه.

    وفي اليوم التالي لمغادرة الغريب البلد، باع الحلاق دكانه، وأدوات الحلاقة، وقرر أن يسوح في البلاد، فقد عز عليه المقام.

    وأخذ الحلاق ينتقل من بلد إلى بلد، ضائق النفس، كاسف البال، شارد اللب، لا يلوى على شيء، ليله حزن، ونهاره اكتئاب، حتى بلغ بلد صاحبه الغريب، فقصد إليه، فوجده في محل للتجارة، وهو في أفخم حال، وأبهى مظهر، فرحب به صاحبه خير ترحيب، وتعجب لحاله، ثم دعاه إلى منزله فاعتذر، ووعده أن يزوره كل يوم في متجره، وعرض عليه مبلغاً من المال يساعده به، فأبى أن يأخذ شيئاً.

    وأخذ الحلاق يتردد كل يوم على متجر صاحبه، يقعد عنده ساعة أو بعض الساعة، ثم يمضي ليتوه في دروب البلدة، مشرد الخطا، تائه الفكر.

    وذات يوم، وهو قاعد مع صاحبه في متجره، دخل ولدان إلى المتجر، ما إن لمحاه، حتى أسرعا إليه، وهما يهتفان: “بابا، بابا”، وارتميا في حجره، وحاول الحلاق أن يشيح عنهما بوجهه، ولكن عاطفة الأبوة غلبته، فعانقهما وهو يبكي.

    وبهت الغريب لما رأى، فسأل صاحبه الحلاق تفسير ذلك، فلم يجب بشيء، ونهض يهم بالانصراف، ولكن صاحبه أقسم عليه إلا أن يطلعه على حقيقة الأمر، فروى له الحكاية من أولها إلى آخرها.

    ودهش الغريب لما سمع من الحلاق، ثم اعتذر إليه، وأسف لما كان منه، وآلى عليه إلا أن يصحبه إلى بيته، وهناك عرض عليه الزواج من أخته، فوافق.

    وخلال أيام، تم زواج الحلاق من أخت صاحبه الغريب، وقد اشترى له داراً، ورد عليه ولديه، وأوصى أخته بهما خيراً، وجعله شريكاً في متجره، وتنازل له عن نصف أمواله.

    ولكن الحلاق لم يكن له طمع في شيء من المال، وقد اطمأنت نفسه بعض الاطمئنان إلى ما صار إليه، فرأى أن يعود إلى بلده، فحمل زوجته وولديه، وودع صاحبه، ورجع إلى بلده، واشترى لنفسه دكاناً فيه، وعاد إلى عمله القديم.





  13. #13
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية




    المال والبنون



    كان لرجل عجوز ثلاثة أبناء، أفنى عمره في تربيتهم، والعمل على إسعادهم، وقد سعى إلى تزويجهم جميعاً، ثم قسم فيهم أمواله، كي يباشر كل واحد منهم حياته مستقلاً، وأبقى الرجل لنفسه داراً صغيرة، أقام فيها وحده، يمضي فيها بقية عمره، قانعاً بالقليل، هانئاً بقيامه بواجبه نحو أولاده، وقد تمنى عليهم أن يزوروه بين حين وحين، كي يسعد برؤيتهم.

    ولقد أخذ الأولاد بالتردد على أبيهم، كما أوصاهم، ولكن مع الأيام زادت مسؤولية كل واحد منهم، كما زاد اهتمامه بالحياة، واشتغاله بها، فقلّت زيارتهم لأبيهم، ثم نسوه، حتى بات وحيداً، وهو الذي قسم فيهم ما كان يملك من أموال، وما هي إلا سنة أو سنتان، حتى قل ما ادخره لنفسه، وبات مهدداً بالجوع والحرمان، فحار في أمره، ولم يجد ما يفعل؟! فقصد أولاده واحداً واحداً، يسألهم عن أحوالهم، من غير أن يبدي لهم شيئاً من الضيق، فأبدوا كثيراً من الجفاء، فلما عاتبهم في إهمالهم إياه، أنكروا عليه ذلك، ولاموه، إذ يكفيهم -كما ادعوا- ما هم فيه من مسؤولية، وانشغال بأسرهم وأحوالهم.

    ورجع الأب من لقاء أولاده مخذولاً، نادماً على تفريطه بما كان لديه من مال، آسفاً على ما كان له من عزّة وجاه، ومضى إلى بيته، لا تحمله قدماه، من الحزن والألم، وقبع في ركن داره، يقتصد في طعامه وشرابه، وهو في كرب وضيق، والأيام تمرّ به قاسية مؤلمة، حتى أمسى في أسوأ حال، فقد بلي ما كان عنده من ثياب، وكاد ينفد ما بقي لديه من مال، وهزل جسمه، وتغير لونه، ودب فيه العجز، فلم يجد بداً من أن يقصد أحد أصحابه، ليجد شيئاً من العزاء، والنصيحة.

    وحين لقيه صاحبه، ورأى ما صار إليه من حال، عاتبه ولامه على تفريطه بأمواله ثم نصح له أن يعمد إلى أرض غرفته، التي هو فيها، فيحفر فيها حفرة، ثم ينزل فيها جرة فارغة، ويجعل فوهتها مع مستوى الأرض، ثم يرمي فيها ما يكنسه كل يوم من أرض الغرفة، وفناء الدار، من غبار وتراب، حتى إذا امتلأت، إلا قليلاً، سد فوهتها بالاسمنت، وغطاها بالحصير، ووعده صاحبه أن يزوره، حين تمتلئ، ليخبره بما يجب عليه فعله، بعد ذلك.

    ورجع الأب إلى بيته، وقام على الفور بتنفيذ ما نصح له به صاحبه، ولم تمض بضعة أيام، حتى امتلأت الجرة، أو كادت، بما كان يرميه فيها من غبار وتراب، مما يكنسه من فناء الدار، فسد فوهتها، وغطاها بالحصير، وقعد ينتظر صاحبه.

    ولما زاره صاحبه، عرض عليه ما فعل، ففرح بذلك، وأخبره أنه سيمر بأبنائه واحداً واحداً، ليؤكد لهم أن أباهم مازال بخير، وأنه يملك من المال أكثر مما أعطاهم، وأنهم قصروا في حقه تقصيراً، ثم نصح لصاحبه أن يتوقع زيارتهم، وطلب منه أن يعمد إلى الحصير، فيكشف طرفها أمام أبنائه، واحداً واحداً، وينقر على موضع الجرة، ليوهمهم لأنه مازال يملك قدراً جيداً من المال، قد خبأه في هذه الجرة، وأنه لهم، إن هم عنوا به.

    وفي اليوم التالي دُقّ الباب، فأدرك على الفور أن القادم ابنه، فرحب به، وقاده إلى غرفته، وكان الولد مدفوعاً بطمع شديد، إلى معرفة ما يملك أبوه، فبعد قليل من السؤال عن الصحة والحال، والاعتذار عما كان من تقصير، سأل أباه إن كان في حاجة إلى شيء، فاتنفض الأب غاضباً، وأكد أنه بخير، وليس بحاجة إلى أحد، ثم رفع طرف الحصير، عن موضع الجرة، ونقر عليها، فرنت رنيناً، فقال له:

    "أتسمع؟ إني ماأزال أحتفظ بجرة من المال."

    فطمع الولد، ورغب في أن يحظى بالجرة، دون إخوته، أو بأكبر قدر مما فيها، فبادر إلى إرسال زوجته، لتكنس لأبيه البيت، وتسهر على رعايته، وتحمل له الطعام، وبدأ يزوره كل يوم.

    وفي اليوم الثاني، زاره ولده الثاني، فكان مثله مثل أخيه، وكذلك كان شأن الولد الثالث، ومنذئذ أخذ الأولاد يهتمون بأبيهم، ويعنون به أشد العناية، بدافع من الطمع بماله.

    وذات يوم زاره صديقه، ليطمئن عليه، فرآه في أحسن حال، وهو في ثياب جديدة نظيفة، بيته مفروش ومكنوس، والطعام عنده كثير، ومظاهر النعيم بادية عليه، فهنأه، بما هو فيه، على حين شكر الرجل لصاحبه نصيحته.

    وهكذا أمضى الأب بقية عمره، هانئاً باهتمام أولاده به، حتى وافته المنية، فأسرع أولاده في تجهيزه ودفنه، وباتوا ينتظرون مضي يوم أو يومين، حتى يقتسموا ما في الجرة، ولما كان اليوم الثالث، بادروا إلى إخراجها، وهمّوا بكسرها، ولكن بدأت علائم الاختلاف تظهر عليهم، فكل واحد يدعي أنه عني بوالده أكثر من الآخر، وأن من حقه أن يحظى بقدر أكبر مما في الجرة، وبينما هم في خلاف ونزاع، دخل عليهم صديق أبيهم، وكان يتوقع ذلك منهم، فباغتهم، فخجلوا، ثم اعترفوا بما هم فيه من خلاف، وسألوه رأيه، فنصح لهم أن يلجؤوا إلى شيخ في البلدة، كي يقسم الجرة فيهم.

    ومضى الأولاد إلى الشيخ، فحدثوه عن أمرهم، فوعدهم أن يأتيهم في المساء، ليقسم الجرة فيهم، ثم مضى إلى السوق، فاشترى أمتاراً كثيرة من القماش، ولما كان المساء، ذهب إلى الأولاد، يحمل ما اشترى، وهو يتوكأ على عصا غليظة، ولما دخل عليهم أخبرهم أنه سيضع الجرة على رأسه، وأن كبيرهم سيضربها بعصاه، وليس لهم بعدئذ سوى أن يلتقطوا ما في الجرة، وقد تناثر على الأرض، ولكل واحد منهم ما يستطيع التقاطه، وامتعض الأولاد من طريقة الاقتسام، ولكنهم رأوا لا مفر لهم من القبول.

    ولجأ الشيخ إلى القماش، فلفه على رأسه، طمعاً في أن يحظى بقدر أكبر مما سيتساقط من الجرة، فإذا حول رأسه لفة عريضة جداً، كان الأولاد ينظرون إليها مستائين، ثم وضع الجرة على رأسه، ودعا الأولاد إلى التحلق حوله، ثم ناول عصاه إلى كبيرهم، وأمره بضرب الجرة، فحمل الكبير العصا، ولوَّح بها، ثم ضرب الجرة ضربة عنيفة، فانفجرت، وتناثر ما فيها، من تراب وغبار، ملأ الغرفة، وسد على الأولاد والشيخ العيون والأنوف والآذان، فعلا الصراخ والسعال واللغط والضجيج، ومضوا يبحثون عن الباب، وبعضهم يصطدم ببعض، وكان آخر من خرج الشيخ، فقد كان أكثرهم حظاً مما في الجرة.



    الحظ المقسوم



    يحكى أن فتى من أمراء العرب كان شقياً، يعاقر الخمر، ولا يتورع عن ارتكاب المحرمات، كثير اللهو والمجون، وكان ذات يوم منطلقاً في الصحراء على ظهر فرسه، يقصد الصيد، فإذا هو بين جبلين، أمام رجل عجوز، ذي لحية بيضاء، ينتقل بخطوة واحدة من هذا الجبل إلى ذاك، ثم ينحني على الأرض، فيقتلع نبتة صغيرة، ثم ينتقل إلى الجبل الآخر، ليضع هذه النبتة، إلى جانب نبتة أخرى هناك، وكان ما ينفك ينتقل بين الجبلين، فدهش الفتى لمرآه، ولما اقترب منه، سلم عليه وسأله عن عمله، فأجابه الشيخ العجوز: “أزوج بنت المشرق لابن المغرب، وابن المشرق لبنت المغرب، وأركّب حظّ هذا على حظّ هذه، وحظّ هذه على حظ ذاك”. فقال له الفتى: “أريد أن تنظر لي حظي أين يكون؟ “، فقال له الشيخ العجوز: “حظك في مضارب الشرق، وضعتها أمها هذه الساعة، وهي بنت فلان، وأمها فلانة، فشكر له الفتى الجواب، وأسرع إلى تلك المضارب، وفي نيته فعل شيء ما، فقد قرر من قبل ألاّ يتزوج ألبتة.

    ولما بلغ المضارب، وجد القوم في فرح وابتهاج، بمناسبة المولودة، فنزل فيهم، فرحبوا به، وأكرموا وفادته، ولما كان الليل، تسلل إلى خيمة البنت، فدخلها، حتى بلغها، فانتفى سكينة، وطعن بها صدر الطفلة، وشقّه، وخرج، ثم مضى بعيداً عن مضارب القوم، مرتاحاً إلى خلاصه من حظه المقسوم.

    ولما كان الصباح، أفاق القوم، فرأوا الطفلة في رامة من دمها، فلجؤوا إلى امرأة عجوز، تمارس الطب عندهم، فعملت على خياطة الجرح، ودهنته بما تصنعه بنفسها من مراهم، وما هي إلا أشهر وأيام، حتى شفي الجرح، وكتبت للبنت السلامة والنجاة.

    ومضى ذلك الفتى يسدر في فجره وفسوقه، حتى كان يوم توفي فيه أبوه، وهو أمير، فحزن لموته أشد الحزن، وأحس بحقيقة الحياة، ورأى نفسه أمام المصير، فاستغفر ربّه وتاب، وأقلع عن الغيّ والفساد، وقد أسندت إليه الإمارة من بعد والده.

    ومرت الأيام، وهو مشغول بالإمارة، وبالضيوف، وبالقبائل التي تفد عليه، ولكنه أحس ذات يوم بحاجة إلى زوجة، يطمئن إليها ويرتاح، ويحس في قربها بالسعادة والرضا والأمان، فأخذ يبحث عن زوجة صالحة، ومضى يفكر بمن يعرف من الأهل والأقارب، ولكنه لم يهتد إلى بغيته.

    وذات يوم خرج إلى الصيد، وابتعد عن مضارب قبيلته، وتاه في الصحراء، فرأى من بعيد خيمة وحيدة، فلجأ إليها، فاستقبله صاحب الخيمة وزوجته، وكانا عجوزين، خير استقبال، وشاركتهما في الاستقبال فتاة صبية، هي ابنتهما.

    وأضافه القوم، على الرغم من فقرهم، وأكرموا وفادته، وكان قد أعجب بالفتاة الإعجاب كله، فقرر خطبتها، وحدث والدها في الأمر، فوافق، فنقلهم جميعاً إلى مضارب قبيلته، وفي بضعة أيام تمت الاستعدادات للزواج.

    وليلة الزفاف، دخل الفتى على عروسه، ولما خلال بها، رأى أثر جرح غائر في صدرها، فسألها عنه، فروت له ماكان يرويه لها أهلها عن فتى غريب، نزل في ضيافتهم يوم ولادتها، ثم غدر بها، فعرف فيها على الفور حظه المقسوم، الذي كان الشيخ العجوز قد أخبره به.

    واستغفر الفتى لذنبه، وعاش مع زوجته، في هناءة وسرور، وأنجبا البنين والبنات.






    الغولة والإخوة الثلاثة



    يحكي أن غولة سكنت في مغارة قريبة من إحدى القرى، فأخذت تغير كل يوم على بيت، فتهدد صاحبه إذا هو لم يخرج لها بأنها سوف تنفخ على بيته فتهدمه، وتلتهمه هو وزوجته وأولاده، وكانت بيوت القرية كلها مبنية من الطين، فكان صاحب البيت يخاف، فيخرج إلى الغولة، فداء زوجته وأولاده، فتلتهمه، حتى إنها أتت على بيوت القرية كلها، والتهمت كل رجالها، ولم يبق سوى الأطفال والنساء.

    وكان يسكن في طرف من أطراف القرية ثلاثة إخوة، أحدهم يعمل صانع منا خل، واسمه منيخلان، والثاني يعمل قزازاً، واسمه قزيزان، والثالث يعمل حداداً، واسمه حديدان، وكانت الغولة قد بدأت بهم أول الأمر، ولكن أحداً منهم لم يخرج، لأنهم كانوا واثقين أن بيوتهم لن تتهدم.

    ولما لم يبق في القرية بيت إلا مرت به، والتهمت صاحبه، عادت ثانية إلى بيوت الإخوة الثلاثة، وقررت أن تلجأ إلى الحيلة، كي تلتهمهم واحداً واحداً.

    وفي اليوم الأول قرعت الباب على أصغرهم، وهومنيخلان، ودعته للخروج إلى كرم التين، ليشاركها في قطافه، فأدرك أنها تتوى التهامه، فوافق على الدعوة، وطلب منها أن تسبقه، ووعدها أن يلحق بها.

    وأسرع منيخلان إلى أخويه يخبرهما بالأمر، فمضى الثلاثة إلى الكرم، وقد هيؤوا كتلاً صغيرة من الطين، جعلوها على هيئة التين، ثم بحثوا عن أكبر شجرة في الكرم، وعلقوا تلك الكتل على أغصانها، ورجعوا إلى بيوتهم.

    وجاءت الغولة إلى الكرم، وأخذت تنتظر وصول منيخلان، ولما تأخر عليها، ويئست من مجيئه، قامت، فبحثت عن أكبر شجرة في الكرم، وأخذت تلتهم ما تجده على أغصانها من طين، وهي تظنه تيناً، حتى أتت عليه كله.

    ورجعت إلى منيخلان، وأخذت تقرع عليه الباب، فلما أطل عليها من نافذة بيته، بدأت تلومه على عدم حضوره، وتؤكد له ظفرها بالتين وحدها، فأخذ يضحك، وهو يخبرها أن ما التهمته طين، وما هو بالتين، فتنبهت إلى حماقتها وغفلتها، وأخذت تهدده وتوعده، وتطلب منه النزول إليها، وإلاّ، فإنها ستنفخ على بيته حتى تهدمه، فسخر منها وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".

    وأخذت تنفخ على بيته، ولكنه بيته لم يتهدم، لأنه مبني من النسيج الذي يصنع به المنخل، وكله ثقوب وثغرات، الريح تنفذ من خلاله، ولا تؤثر فيه.

    وفي يوم آخر قرعت الباب على الأخ الأوسط، وهو قزيزان، فخرج لها، فدعته إلى الحقل، لالتهام الخيار، فوافقها على الدعوة وطلب منها أن تسبقه، ثم أسرع إلى أخويه يخبرهما بالأمر، ومضى الإخوة إلى الحقل، فقطفوا الخيار كله، ووضعوا بدلاً منه الكوسا، ثم رجعوا إلى بيوتهم.

    وقدمت إلى الحقل، وأخذت تنتظر، ولما تأخر عليها قزيزان، ويئست من حضوره، قامت، فالتهمت كل ما في الحقل من كوسا، وهي تحسبه خياراً، ثم مضت إلى قزيزان وأخذت تقرع عليه الباب، فأطل عليها، من نافذته، فبدأت تلومه على عدم حضوره، وتؤكد له أنه خسر كثيراً، فأخذ يضحك، وهو يخبرها أنه جنى الخيار كله، وأن ما أكلته ليس خياراً، وإنما كوسا.

    وثار الغضب في نفس الغولة، وطلبت من قزيزان أن ينزل إليها، وإلاّ فإنها ستنفخ على بيته حتى تهدمه، فسخر منها قزيزان، وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".

    وأخذت تنفخ على بيته، ولكن بيته لم يتهدم، لأنه مبني من القزاز، يصد الريح، ولا تستطيع أن تؤثر فيه شيئاً.

    وفي يوم ثالث قرعت الباب الأخ الثالث، وهو حديدان، ودعته إلى الغابة، لقطع الأشجار، وصنع الحطب، فوافقها، وطلب منها أن تسبقه، ووعدها أن يلحق بها.

    وأسرع حديدان إلى أخويه يخبرهما بالأمر، ومضى الإخوة الثلاثة إلى الغابة، اقتطعوا بعض الأشجار، وصنعوا كومة من الحطب، قعد حديدان في داخلها، وقام الأخوان بحزمها بالحبال، ثم رجعا إلى البيت.

    وقدمت الغولة إلى الغابة، فرأت كومة الحطب، جاهزة محزومة، ففرحت بظفرها بها دون حديدان، فحملتها على ظهرها، ومضت بها نحو بيتها، وفي الطريق أحست بثقلها، ولكنها عللت ذلك بكبر الكومة وكثرة ما فيها من حطب، ثم أخذ حديدان يخزها بمسلة في يده، فتتحمل الوخز، متوهمة أن أعواد الحطب هي التي تخزها، ومضت على الفور إلى بيت حديدان.

    وكان حديدان قد قطع الحبل الذي حزمت به كومة الحطب، وأسرع إلى بيته، فلما قرعت عليه الغولة الباب، وأطل عليها من نافذته، فأخذت تلومه لأنه لم يحضر إلى الغابة، وتذكر له ظفرها بكومة حطب، وتؤكد خسارته، فأخذ يضحك منها، ويذكرها بالوخز وثقل الحمل، ويؤكد لها أنه كان مختبئاً في كومة الحطب.

    وعندئذ غضبت الغولة غضباً شديداً، وطلبت إليه النزول، وإلاّ فإنها ستنفخ على بيته، لتهدمه، فسخر منها حديدان، وقال لها: "انفخي كما تشائين، فإني لا أخاف".

    وأخذت تنفخ على بيته، ولكن بيته لم يتهدم، لأنه مبني من الحديد، والريح لا تؤثر فيه، وكانت الغولة في غضب شديد، فظلت تنفخ طويلاً طويلاً، إلى أن انفجرت وماتت.


  14. #14
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية




    ليلة الغنجة



    يحكى أن رجلاً غنياً كان قد تزوج عدة مرات، وفي كل مرة كانت زوجته تموت بعد أشهر قليلة من الزواج، حتى اشتهر أمره في الناس، وعرف، فأصبحت كل فتاة تخشى من تقدمه إلى خطبتها وتخاف، وإن كانت في الحقيقة ترغب في ذلك، وتطمع، فقد كان غنياً وافر الغنى، وكان يعيش في قصر كبير، تحلم كل فتاة بالعيش فيه، والاستمتاع بما فيه من وسائل الترف والرفاهية.

    وكان قد تزوج من أسرة فقيرة بنتاً صبية، وبعد أقل من شهر توفيت، فتقدم إلى الأسرة نفسها يخطب شقيقتها، فوافقت البنت على الفور، ولكن أباها وإخوتها السبعة رفضوا ذلك، فهي البنت الوحيدة المتبقية عندهم، ولكن البنت أصرت، وأكدت رغبتها في الزواج من ذلك الغني، كي تكتشف سر وفاة شقيقتها، والزوجات السابقات جميعاً.

    وتم الزواج، وعاشت الفتاة في القصر عيشة هانئة، فيها الرغد والوفر الكثير، وحظيت من زوجها باهتمام بالغ، وعناية كبيرة، بل لقيت منه تعلقاً شديداً، كاد ينسيها غايتها، وهي البحث عن سبب وفاة أختها.

    وذات صباح، ارتدى الزوج فاخر الثياب، وتهيأ للخروج، ورافقته زوجته إلى الباب مودعة، وقبل أن يخرج ناولها حلقة فيها مفاتيح كثيرة، وقال لها: “هذه مفاتيح أربعين غرفة من غرف القصر، يمكنك أن تتفرجي على تسع وثلاثين غرفة، وتتسلي بمحتوياتها، في غيابي، ولكني أحذرك من الغرفة الأربعين، وأطلب منك عدم فتحها”. ثم تركها في القصر وخرج، وبين يديها مفاتيح الغرف كلها.

    وأخذت تطوف في أرجاء القصر، تتفرج على غرفه واحدة واحدة، وتدهش لما تحويه كل غرفة من أثاث وفراش ورياش، يفوق ما تحويه الغرفة الأخرى، مما يذهل له الناظر.

    وأمضت على هذه الحالة أياماً، وهي تسأل كيف يسمح لها الزوج بدخول الغرف جميعاً، على الرغم مما فيها من أثاث ثمين، ولا يسمح لها بدخول الغرفة الأربعين؟! وكانت تفكر دائماً بفتحها، والدخول إليها، ولكنها كانت تتردد وتخاف.

    وذات يوم وضعت مفتاح الغرفة الأربعين في قفل الباب، وأدارته، ثم أحجمت، ولكنها عادت، فأقدمت، وفتحت الباب، فصر صريراً راعباً، ومدت رأسها من شق الباب، فدهشت، وثار في نفسها الخوف، فالغرفة خاوية، ولا شيء فيها، سوى الغبار والعناكب.

    وأدركت على الفور أن في هذه الغرفة يكمن سبب وفاة الزوجات السابقات، وأن وراء هذا الفراغ سراً كبيراً، يخفيه عنها زوجها، ويحذرها بسببه من فتح الغرفة.

    ودخلت، وفي عمق الغرفة رأت خزانة خشبية، تقدمت منها بحذر وخوف، ونظرت، فإذا بابها من غير قفل، فتحته فانفتح، وعلى رف من رفوف الخزانة رأت قطعة قماش بيضاء، عتيقة، مصفرة، يعلوها الغبار، فلم تلمسها، وأغلقت الخزانة على الفور، وخرجت، وأقفلت باب الغرفة.

    وفي المساء رجع الزوج كعادته، فسألها عن يومها كيف أمضته، فأكدت له سرورها بما رأت في الغرفة من أثاث فاخر، ثم حاولت التشاغل بعد ذلك بإعداد مائدة العشاء، ولكنها فوجئت به يقول لها: “ ولكن لم تسأليني عن سر القماش الأبيض في الخزانة الخشبية؟!”

    فصعقت، وأدركت على الفور أنه عرف أنها فتحت الغرفة الأربعين، ولم تجد مفراً من الاعتراف، وهي في خوف وقلق شديدين، ولكن الزوج تبسم، وأظهر هدوءاً بارداً، ثم أكد أنه لا يبالي بالأمر، ثم رجاها أن تنساه، وأخذ يعبر عن اهتمامه بها ، وحرصه عليها، ولكن هذا زاد من قلقها، فأخذت ترجوه أن يخبرها بسر الغرفة، والقماش الأبيض، وبعد إلحاح منها، وتوسل، ورجاء، أخبرها أنه يحتفظ بذلك القماش لليلة الغنجة، وزادها ذلك قلقاً، فأخذت تسأله عن تلك الليلة، كيف هي؟! ومتى تكون؟ فلم يجب، ووعد أنه سيخيرها بأمرها في الوقت المناسب.

    وأخذت تعيش في قلق وترقب، متوفزة الأعصاب، ولا تسعد بطعام؛ ولا تهنأ بنوم، وهي تنتظر تلك الليلة، متوقعة فيها الخطر، بل الموت.

    وذات صباح، وقبل أن يخرج الزوج من القصر، أخبرها أن الليلة القادمة هي ليلة الغنجة، وطلب منها أن تتهيأ لها، وأن تكون في زينتها الكاملة، وأن ترتدي حلة ليلة الزفاف، وأوحى لها أنها ليلة لذة وسرور، ثم ودعها وخرج.

    ولكن الزوجة أحست في كلامه الخداع، فأسرعت إلى أبيها وإخوتها، وأخبرتهم بالأمر كله، ثم دعتهم إلى النزول في غرفة قريبة من الغرفة الأربعين، والاختباء فيها، والتهيؤ لنجدتها، إذا ما أحسوا بالخطر.

    ثم تهيأت، وتزينت، وارتدت حلة ليلة الزفاف، ولما حضر الزوج في المساء، أظهرت رباطة جأش، واستعدت لكل الاحتمالات، ولكن الزوج كان لطيفاً اللطف كله، فآنسها، وتناول معها طعام العشاء، وأبدى رقة مفرطة.

    وفي الغرفة الأربعين، أخرج القماش الأبيض من الخزانة، وبسطه على الأرض، واعتذر لقدمه واصفراره، ثم رجاها بلطف شديد أن تستلقي فوق ذلك القماش، فترددت، ولكنها استجابت، مطمئنة إلى أن أباها وإخوتها في الجوار.

    ومرة أخرى اعتذر لها الزوج، وأكد لها أنه مضطر إلى لفها بالقماش الأبيض، وربطه بحزام متين عند قدميها، وعند رأسها، حتى تبدأ ليلة الغنجة، فاستجابت لذلك، ورضيت، وعند ئذ أخذ يدغدغ أخمص قدميها بهدوء ونعومة، فأخذت تضحك، ثم بدأ يدغدغ أخمص قدميها بحدة، فبدأت تقهقه، ثم شرع يحفر بأظافره، في أخمص قدميها بعنف ووحشية، وهي خاضعة لتأثير الدغدغة تقهقه بألم شديد ولا تقدر على إيقاف ذلك، حتى أغمي عليها، وهو مايزال يحفر بأظافره في أخمص القدمين.

    وأحس أبوها وإخوتها في الغرفة المجاورة بالانقطاع المفاجئ في القهقهة، فأدركوا أن في الأمر خطراً، فاقتحموا الغرفة، وذهلوا لما رأوا.

    وأسرعوا على الفور إلى انعاش الزوجة، ثم اقتادوا الزوج إلى الحاكم، واعترف أمامه بجرائمه، فقد كان يلجأ إلى قتل زوجاته على تلك الطريقة، حتى لا يترك فيهن أثراً يدل على القتل.

    ودعا الحاكم آباء الزوجات اللواتي توفين عند ذلك الزوج، كما دعا ذوي قرابتهن، وسألهم عن القصاص الذي يرغبون في إيقاعه به، وكانت الزوجة الأخيرة التي نجت من الموت حاضرة، فاقترحت قتله بالطريقة نفسها التي كان يقتل بها زوجاته، فوافق الجميع، وتم تنفيذ ذلك على الفور.

  15. #15
    التسجيل
    31-01-2005
    المشاركات
    142

    مشاركة: مكتبة الحكايات الشعبية





    قفل ومفتاح



    يحكى أن امرأة أقامت عند زوجها سنين كثيرة، لم تحمل فيها، وذات يوم كانت راجعة فيه مع زوجها إلى البيت ليلاً، فمرا بكلب أسود، نبحهما، فجفلت المرأة، وقالت في سرها:

    "لو رزقني الله بنتاً، لزوجتها لكلب أسود"

    ومرت الأيام، وإذا المرأة تحسّ بآثار الحمل، فأدركت أن الله قد أجاب دعاءها، ولكنها خشيت أن ترزق ببنت، فتضطر عند ئذ للوفاء بنذرها، وكان ما خشيت منه، إذ رزقها الله ببنت، ففرحت بها هي وزوجها، فقد ملأت حياتهما أنساً وبهجة، ونسيت الأم نذرها.

    ومرت الأيام فكبرت البنت، وأرسلتها أمها إلى الكتاب، لتتعلم القراءة والكتابة، وذات يوم، كانت البنت راجعة فيه من الكتاب إلى البيت، مر بها كلب أسود ونبحها، فخافت، وابتعدت عنه، فتبعها، وقال لها: "قولي لأمك، أوفي نذرك"، ومضت البنت إلى البيت، ونسيت أن تقول لأمها ما قاله لها الكلب، وفي اليوم التالي قال لها الكلب، ما قاله لها في اليوم الأول، ولكنها نسيت أيضاً، وكذلك الحال في اليوم الثالث، وفي اليوم الرابع سألها الكلب لم لا تقول لأمها ما يوصيها به ، فأجابته بأنها تنسى، ووعدته أن تفعل، فحذرها من النسيان، وأعطاها قطعاً من الحلوى، وطلب منها أن تضعها في جيبها، ولما بلغت البنت البيت نسيت أيضاً أن تقول لأمها ما أوصاها به الكلب، ولكن الأم رأت قطع الحلوى في جيب ابنتها، فسألتها عن مصدرها، فذكرت الكلب، وأخبرتها بما أوصاها به، وذكرت الأم نذرها، وحزنت لذلك، ولما جاء زوجها في المساء أخبرته بالأمر كله، فحزن الأب، وقال للأم: "لابد من الوفاء بالنذر".

    وبات الأبوان يهيئان نفسيهما لفراق ابنتهما، وكأنهما في كل يوم على موعد مع الكلب الأسود.

    وذات يوم قرع الباب، فخفق قلب الأم، وأسرعت تفتحه، وإذا الكلب الأسود في الباب، فأدركت قصده، ورجعت إلى البنت، وقالت لها: "تهيئي يا بنتي"، ثم حكت لها ما كان من أمر النذر، فاستجابت البنت، ودخلت على أبيها فودعته، ثم ودّعت أمها، وخرجت إلى الكلب، ومضت تسير إلى جانبه، تاركة أبويها يبكيان.

    وسار الكلب بالبنت، حتى بلغا خارج البلدة، فطلب منها أن تصعد على ظهره، فصعدت، فطار بها، وحلق في أجواء الفضاء، وهي متشبثة به، وبعد زمن من التحليق سألها: "كيف ترين الأرض؟" ، فأجابت: "مثل صينية كبيرة"، فأخذ يعلو بها أكثر فأكثر، ثم أعاد عليها السؤال، فأجابت: "مثل الصحن الكبير"، فأخذ يعلو بها أكثر فأكثر، ثم أعاد عليها السؤال، فأجابت: "مثل صحن صغير"، وعندئذ حط بها، فإذا هي أمام مخدع فخم، فرشه من الدمقس، وغطاؤه من الحرير، تتصاعد من حوله أبخرة المسك والكافور، وتركها الكلب هناك، وغاب.

    وأخذت تجول في أنحاء الغرفة، مدهوشة لما ترى من أثاث ورياش، ثم أطلت من النافذة، فرأت أمامها فناء واسعاً، في وسطه بركة ماء، تترقرق أمواجها الناعمة، وتسبح فيها الأسماك الملونة، وتتنقل على أطرافها الطيور، وتحيط بها الأشجار المزهرة، من شتى الأنواع، ونزلت إلى حديقة القصر، وأخذت تتسلى وتمرح، حتى كان المساء، فرجعت إلى مخدعها، وقدمت لها الخادمة، بعد عشاء فاخر، فنجان قهوة، فشربته، فأحست بنعاس لذيذ، فأوت إلى فراشها، واستسلمت لنوم عميق.

    وفي الصباح نهضت لتمضي النهار كله في حديقة القصر، تناغي الأطيار، وتداعب الأسماك، وتتفرج على الزهور، وفي المساء شربت فنجان القهوة، وأوت إلى الفراش، وظل هذا دأبها، تمرح وتتسلى وتلعب، لا تحس بكدر ولا قهر، ولا ضيق، ولكن ذات يوم شعرت بشيء من الدوار، فأدركت أنها حامل.

    وفي يوم آخر نعق غراب، فذكرت أبويها، وتمنت لقاءهما، وأخذت تبكي، وعلى الفور ظهر الكلب الأسود، فطلب منها أن تمتطي ظهره، ففعلت، فحلق بها في أجواء الفضاء، حتى سألها مثل ما سألها من قبل، فلما قالت له إنها ترى الأرض مثل صحن صغير، حط بها، فإذا هي أمام دارها، ودخلت على أبويها، ففرحا بها، وفرحت بهما، وأمضت معهما ساعة، أو بعض الساعة، وإذا الكلب ينبح، فودعت أبويها، وحملها الكلب على ظهره، ورجع، مثلما جاء بها.

    وفي القصر عادت إلى حياتها التي اعتادت عليها، ولما كان المساء، قدمت لها الخادمة فنجان قهوة، فأخذته، وتظاهرت بارتشافه، حتى إذا خرجت الخادمة رمته جانباً، واستلقت في سريرها، وتظاهرت بالاستسلام للنوم، وكانت أمها هي التي نصحت لها بذلك، حين حدثتها عن فنجان القهوة.

    ولم يمض بعض الوقت، حتى برز شاب وسيم الطلعة، كأنه البدر، فنهضت تحييه وتستقبله، فاضطرب أول الأمر، ولكنه لم يلبث أن اطمأن إليها، ورجاها ألا تبوح لأحد بسره، وأخبرها أنه يأتيها كل ليلة، وهي نائمة، وأنه ابن ملك الجان.

    وفرحت البنت بالشاب، زوجها، وأنست به، واطمأنت إليه، وأمضيا الليل في جنى ووصال، ثم استسلما لنوم هانئ، وقبيل الفجر أفاقت وأخذت تنظر إليه وهو نائم، وتتملى وسامته، ثم لاحظت شيئاً ما تحت قميصه، فوق السرة، فدفعها الفضول إلى معرفة ما يخفيه، فكشفت قميصه بهدوء، فإذا هي ترى فوق سرته قفلاً ومفتاحاً، فدهشت لما رأت.

    وأدارت المفتاح في القفل، فانفتح عن سرداب عميق، ونزلت فيه، فإذا هي في نهايته أمام سوق كبيرة، فيها جميع أنواع الصناعات والأعمال، فأخذت تسير في السوق تتفرج على النجارين والصاغة والخياطين، وهي ترى الجميع منهمكين في العمل، ثم مرت بنجار يصنع سريراً صغيراً، فسألته لمن السرير، فأجابها بأن زوجة ابن الملك حامل، وأن هذا السرير هو للوليد المنتظر، وأدركت أنها هي المقصودة، فخرجت على الفور، وأغلقت القفل بالمفتاح.

    وتنبه زوجها، فاستيقظ، ولامها على ما فعلت، ثم نادى الكلب الأسود، فمثل بين يديه، فأمره بحمل البنت إلى الفلاة، وذبحها، وإحضار كأس من دمها ليشربه، وتوسلت إليه، تستعطفه وترجوه العفو، فأبى، فاستسلمت، وحملها الكلب على ظهره، ومضى بها إلى أرض منقطعة، وتركها هناك، ثم اصطاد طائراً، فذبحه، واعتصر دمه، وملأ به كأساً قدمه إلى ابن الملك.

    ومضت البنت تسير في الفلاة أياماً وليالي طويلة، وحيدة، الجوع يتعبها، والسير يضنيها، والجنين في أحشائها يوهن قواها، حتى لاح لها من بعيد قصر شامخ، فاقتربت منه، وأخذت تلتقط ما تعثر عليه من بقايا الطعام مما يُلقى خارجه، وبينما هي كذلك، إذ أقبلت عليها خادمة تدعوها إلى دخول مطبخ القصر، وسمحت لها أن تقيم مع الخدم، وأوصتها ألا تخرج، كي لا يراها أحد، وتوسلت إلى الخدم ألا يحدثوا أحد عنها.

    وأمضت البنت مع الخدم أياماً، تساعدهم وتتزلف إليهم، كي تحظى بعطفهم عليها، حتى كان يوم أفاقت فيه، وإذا هي في المخاض، فساعدتها الخادمات، حتى وضعت ولداً ذكراً، ما إن رأته الخادمات حتى دهشن دهشة عظيمة، فقد كان على سرته قفل ومفتاح، وهيأت الخادمات للولد ولأمه كل ما يحتاجانه من ثياب وفراش وطعام، وأصبح حديث الولد الذي على سرته قفل ومفتاح حديث الجميع، حتى بلغ سيدة القصر، فأمرت بإحضاره على الفور، هو وأمه.

    ولما رأت السيدة الولد، نظرت إلى أمه نظرة احتقار، وسألتها من تكون، فروت لها ما كان من أمرها كله، وهي ترتجي العطف عليها، ولكن الغيظ ملأ صدر سيدة القصر، فالشاب والد الطفل هو ابنها، وهو وريث عرش ملك الجان، وكانت تريد تزويجه من ابنة أختها، وموعد حفل الزفاف بعد يوم أو يومين، وكتمت سيدة القصر غيظها ثم التفتت إلى أم الولد، تشترط عليها كي تسمح لها بالبقاء في القصر أن تأخذ ستائر القصر كلها إلى ضفة النهر، وتغسلها وترجع بها في اليوم نفسه، ثم قدمت لها قطعة صابون صغيرة، أوصتها أن ترجع بها، من غير أن يذوب منها شيء.

    وحملت الأم الستائر، ومضت إلى ضفة النهر، وأخذت تتأمل قطعة الصابون الصغيرة، وتبكي، وإذا علاء الدين يمر بها، فيسألها عن سبب بكائها، فتروي له حكايتها كلها، فيأمر الستائر، فإذا بها قد غسلت ونظفت وجفت، وطويت في لمح البصر، ثم قدم للأم ثلاث شعرات، نصح لها أن تحرق إحداها حين تشعر بالخطر.

    وحملت الأم الستائر، ورجعت بها إلى القصر، وقدمت قطعة الصابون إلى سيدة القصر، من غير أن يذوب منها شيء، فضاقت بها ذرعاً، ثم ألقت إليها بولدها، وأمرتها أن تلزم المطبخ، وألا تخرج منه، فالليلة عرس ابنها، وطلبت منها أن تفرم أكواماً كبيرة من البصل.

    ولما كان المساء، أقيمت الأفراح في فناء القصر، وأنشدت المغنيات، ورقصت الراقصات، والعروس قاعدة على منصة عالية، تنتظر مجيء ابن الملك، وأشفقت الخادمات على الأم وطفلها، فأخذن يساعدنها في فرم البصل، حتى فرغن منه كله، ولما جاء ابن الملك، كن ارتدين أفضل ما لديهن من ثياب، وخرجن يحملن الشموع، وكانت الأم وطفلها معهن، تشاركهن، فكانت تحمل شمعة بيد، وطفلها بيد، وكان عليهن أن يمررن جميعاً أمام ابن الملك وعروسه.

    ولما صارت الأم وطفلها أمام العروس، أفلتت الشمعة من يدها، فسقطت على ثوب العروس، فاحترق، واشتعلت فيه النار، فأسرعت الخادمات والمدعوات وأم العروس إلى إطفاء النار، وفي تلك الأثناء كانت الأم قد ألقت بطفلها بين يدي ابن الملك وقالت له: "خذ ابنك، وانظر القفل والمفتاح على سرته"، وكان ابن الملك قد عرفها، فنهض إليها وعانقها.

    وعلى الفور حضر الكلب الأسود، فامتطى ابن الملك ظهره، وأردف وراءه زوجته، وكان الطفل بين يديه، وانطلق الكلب بهم، وتنبه القوم إلى هرب ابن الملك، فركضوا وراءه، وأحست زوجته بالخطر، فأشعلت شعرة من الشعرات الثلاث التي كان علاء الدين قد أعطاها إياها، وألقتها، فاشتعلت وراءها النيران.

    ولكن القوم داسوا النيران وأطفؤوها، ولحقوا بهم، فأشعلت شعرة ثانية وألقتها، فامتلأت البقاع وراءها بالبحار، ولكن القوم خاضوا البحار، ولحقوا بهم، فأشعلت الشعرة الثالثة وألقتها، فإذا جبال شاهقة تنتصب وراءها، وتفصلها عن القوم.

    وعند ئذ حلق الكلب الأسود في السماء وطار، وظل يعلو ويعلو، حتى بدت لهم الأرض مثل صحن صغير، وعند ئذ حط على الأرض، وإذا البنت وزوجها وطفلهما أمام دار أبويها، فأخذت تقرع عليهما الباب.

    وكان أبواها في غيابها قد أرهقهما الأسى والحزن، حتى قعد بهما طريحي الفراش، وأتعبهما البكاء والعويل، حتى فقدا البصر، فهما مقعدان لا يبصران، وما من أحد يطرق عليهما الباب، سوى الأولاد يقرعون الباب ساخرين بهما، حتى إنهما ما عادا يجيبان أحداً، ولا يفتحان الباب.

    وكانت البنت ماتزال واقفة بالباب تقرع وتنادي، وهما لا يجيبان، وإذا الكلب ينبح، ولما سمعت الأم نباح الكلب، أدركت أن ابنتها بالباب، فأخذت تزحف حتى وصلت إلى الباب، ففتحته، وما إن رأت أمامها ابنتها، حتى عاد إليها بصرها، كما عادت إليها قوتها، فنهضت إلى ابنتها، وعانقتها، وطال العناق والبكاء، ثم مضت البنت إلى أبيها، وما إن دخلت عليه حتى رد إليه بصره، ونهض معافى، ليعانق ابنته.
    ثم رحب الأبوان بزوج ابنتهما، وفرحا بالطفل، وقرر الزوج الإقامة مع زوجته عند أبويها، قانعاً بالفقر، متخلياً عن الغنى، وعيش القصور، مفضلاً بني الإنسان، على بني الجان.




    الفعل يدل على الأصل



    يحكى أنه كان لرجل بائس فقير عشرة أولاد، لا يستطيع إطعامهم، لشدة فقره وبؤس حاله، وذات يوم ضاق ضيقاً شديداً، فقرر أن يقدم أحد أولاده هدية للملك، وكان ملك البلاد عقيماً، لم يرزق بولد، فاختار الرجل من أولاده أشدهم ذكاء، وأكثرهم وسامة، وكان عمره لا يزيد على العاشرة، فسار به إلى الملك، فقدمه إليه، فرحب به، وضمه إلى حاشيته، وعين له المعلمين والمربين، ثم أمر لوالده بطعام كثير، يكفيه هو وعياله أياماً.

    أخذ الفتى يحضر مجلس الملك، ويقعد إلى يمينه، ويرى مناقشات الوزراء، ويشهد شكاوى الناس، ويسمع حكم الملك في ذلك كله، حتى مرت عليه شهور وأعوام.

    وذات يوم أراد الملك الخروج إلى الصيد بالصقر، فطلب من وزيره أن يحضر له صقراً مدرّباً، وبعد عدة أيام أحضر له الوزير صقراً، ما إن رآه الفتى وهو يتناول بمنقاره اللحم من يد الوزير، حتى طلب من الملك ألا يخرج إلى الصيد به، فسأله عن السبب،فأخبره أن أم هذا الصقر أمه دجاجة، فأنكر ذلك الملك، ومضى إلى الصيد به مع الوزراء،ولكنه رجع خائباً،إذ لم يظفر صقره بشيء.

    وفي اليوم التالي طلب الملك من الفتى أن يحدثه عن الصقر، ويوضح له كيف عرف أن أمه دجاجة؟‍! فأجاب الفتى بأنه رأى الصقر يلتقط قطع اللحم من كف الوزير بعد أن ينقرها كما تنقر الدجاجة الحب في الأرض، ولا يختطفها اختطافاً حاداً، كما يفعل الصقر، فاقتنع الملك بجوابه، والتفت إلى الوزير يطلب منه توضيح الأمر، فأرسل الوزير وراء الرجل الذي اشترى منه الصقر، فاعترف الرجل بأنه كان يربي صقراً، وقد وضعت أنثاه بيضة وماتت، فحار في الأمر، ثم حمل البيضة، وكانت لدى زوجته دجاجات تعنى بها، وكانت إحدى الدجاجات راقدة على البيض، فوضع بيضة الصقر تحتها، مع سائر البيض، ولما فقست، نشأ فرخ الصقر مع فراخ الدجاجة، وتعلم منها نقر قطع اللحم، ولما سمع الملك ذلك، ازداد إعجابه بالفتى.

    وفي يوم آخر أراد الملك أن يتفرج على سباق الخيل، فخرج مع وزرائه إلى ميدان السباق، ويصحبه الفتى، واختار فرساً، أراد الرهان عليها، ولكن الفتى نصح له أن يختار غيرها، وأكد أن أم تلك الفرس أتان، ولكن الملك أبى إلا أن يراهن عليها، وجرى السباق، وتخلفت الفرس، وخسر الملك الرهان، فالتفت إلى الفتى يسأله كيف عرف أن أم الفرس التي خسرت أتان، فأجابه: “عرفت ذلك من رأسها، تطأطئه دائماً إلى الأرض، شأنها في ذلك شأن الأتان”.

    وأمر الملك بسائس الخيل، فحضر بين يديه، فسأله عن الفرس التي راهن عليها، وعن سبب خسارتها، فاعترف السائس بأن أم تلك الفرس أتان، اضطر إلى أن يسمح لها بالإنجاب من جواد لديه، في إحدى السنوات، لقلة الأفراس.

    وازداد إعجاب الملك، وعزم على تبني الولد، ولكنه أجّل ذلك، وقرر أن يختبره في أمر، لا يعرفه هو نفسه، فدعاه إليه، وخلا به، ثم أخبره أن لديه ثلاث زوجات، قدمهن إليه ملوك البلاد الأخرى، وهو يريد منه أن يعرف مهنة آبائهن، فطلب منه الفتى أن يسمح له برؤيتهن وهن يدخلن عليه، ويخرجن، واحدة، بعد الأخرى.

    ودعا الملك أولى زوجاته، فدخلت عليه، فطلب منها أن تستعد الليلة لاستقباله، ثم صرفها، ولما خرجت التفت إلى الفتى يسأله عن مهنة أبيها، فأجابه بأن والدها حلاق، ثم دعا الملك زوجته الثانية، فدخلت عليه، فطلب منها أن تستعد لاستقباله في ليلة غد، ثم صرفها، ولما خرجت التفت إلى الفتى يسأله عن مهنة أبيها، فأجابه بأن والدها حدّاد، ثم دعا الملك الثالثة، فدخلت عليه، فطلب منها أن تستعد لاستقباله في الليلة التالية لليلة غد، ثم صرفها، ولما خرجت التفت إلى الفتى يسأله عن مهنة أبيها، فأجاب بأنه فلاح، ثم سأله الملك كيف عرف ذلك، فأجابه الفتى: “أما الأولى فقد كانت ناعمة اليدين، وقد دخلت زكية الرائحة، تفوح منها رائحة العطور، فعرفت أن والدها حلاق، وأما الثانية فقد كانت عريضة الكتفين، ثابتة الخطو، فيها ملامح القوة، فعرفت أن والدها حدّاد، وأما الثالثة فقد كانت خشنة اليدين، سريعة الخطو، لوّحتها الشمس، فعرفت أن والدها فلاح”.

    وخلا الملك بعد ذلك بزوجاته واحدة واحدة، وسأل كل واحدة منهن عن مهنة أبيها، فكان جوابهن جميعاً مثل جواب الفتى، فكان والد الأولى حلاقاً، ووالد الثانية حداداً، ووالد الثالثة فلاحاً.

    ودهش الملك لذلك، وثار الفضول في نفسه، فدفعه إلى سؤال الفتى عن مهنة أبيه هو نفسه، أي الملك، فطلب منه الفتى أن يمنحه الأمان، فمنحه الأمان، فأجاب على الفور بأن والده كان طباخاً، فلم يجب الملك بشيء، وأسرع على الفور إلى أمه، يسألها عن أبيه، فقالت له: “أبوك هو الملك”، فأنكر، وألح عليها أن تعترف، فاعترفت بأن زوجها الملك كان عقيماً، ولكي يحتفظ بالمُلك لنفسه، طلب منها أن تمكّن الطباخ في القصر من نفسها، ففعلت، فحملت منه، وهو والده.

    ورجع الملك إلى الفتى يسأله كيف عرف أن والده طباخ، فأجاب الفتى: “عرفت ذلك من عطائك، فقد أعطيت أبي الذي أهداني إليك طعاماً له ولعياله”، وعندئذ نزل الملك عن كرسي الملك، ورفع التاج عن رأسه، ووضعه على رأس الفتى، وقال له: “أنت أولى بالعرش مني”.



صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •