القط الذي عاد
قصة قصيرة مخيفة
أخيرا، أجلس و أمسك بالقلم، لأكتب قصتي مع القط. لو لم أفعل لجننت حتما. هذا بالطبع إن لم أكن قد جننت بالفعل!
قبل أن أبدأ، يجب-على سبيل وضع النقاط على الحروف-أن أوضح نقطتين على قدر لا بأس به من الأهمية. أولا: أنا لست إنسانا رقيق القلب على الإطلاق، و لم أدع يوما أنني كذلك. ثانيا: أنا أكره القطط أكثر من أي شيء آخر، و أخشاها كالموت ذاته، أو ما هو أسوأ!
أعرف أنك الآن تعتقد أنني مخبول تماما، إذ ترى ذلك القط الرمادي أزرق العينين الذي يرقد عند قدمي متظاهرا بالوداعة! لكن دعني أؤكد لك أن لهذا القط ظروفا استثنائية جدا! إن شئنا الدقة، يمكنني أن أقول أني لم أعد أستطيع التخلص منه!
بدأ كل شيء في تلك الليلة التي كاد ذلك القط فيها أن يتسبب بالفعل في وضع نهاية لحياتي البائسة. كنت أقود سيارتي في تلك الليلة السوداء الباردة عائدا إلى المنزل. كانت عقارب الساعة قد تجاوزت الثانية صباحا بقليل، حين ألقيت نظرة عابرة في مرآة السيارة الداخلية، لأجد العينين الزرقاوين المشقوقتين طوليا تحدقان في وجهي مباشرة!
طبعا تستطيع بعين الخيال أن ترى ما حدث بعد ذلك. عجلة القيادة ترقص في جنون كأن لها إرادتها الخاصة، عامود الإنارة على جانب الطريق يقترب بسرعة مذهلة. ثم الصدام المدوي الذي يرج جزيئات جسمك ذاتها! لحظات قصيرة جدا تعرف فيها أن الضرر أكبر بكثير من أن تدركه حواسك، فلا تشعر بشيء مطلقا، قبل أن يعلن الظلام الصامت أخيرا سيطرته التامة على الموقف.
فيما بعد، لم أستطع أبدا أن أخفي دهشتي، حين وضح لي ذلك الطبيب الشاب أن فقدان الوعي لم يدم أكثر من يومين، و أن الإصابات ليست بالخطيرة جدا. لم يفته بالطبع أن يلفت انتباهي إلى خطورة عدم التركيز أثناء القيادة اليلية بالذات!
بعد أسابيع قليلة، عادت حياتي إلى مجراها الطبيعي تقريبا، و صار ذلك الحادث المروع مجرد ذكرى سيئة. الغريب حقا هو أنني كدت أنسى كل شيء عن القط. لم أتذكره حقا إلا عندما كنت جالسا في الشرفة تلك الليلة، و سمعت ذلك الصوت القادم من غرفة النوم! تعرف بالطبع ذلك المواء الحاد الطويل الغاضب الذي يستطيع بسهولة تامة أن يحطم أعصابك تحطيما، لذا لا يوجد ما يدعو لأن أصفه لك! بالطبع تملكني الهلع في أول الأمر، لكنني هرعت بعد لحظات إلى غرفة النوم لأجدها كما تركتها تماما! لم أنس طبعا أن ألقي بعض النظرات الفاحصة السريعة على باقي الغرف، قبل أن أعود إلي الشرفة لأجد القط جالسا في كسل فوق ذلك الكرسي الذي غادرته منذ لحظات!
كان ذلك الظهور هو مجرد بداية! فمنذ ذلك اليوم اعتدت أن أرى ذلك القط في أي وقت، و في أي مكان!
ذات مرة، فتحت باب الثلاجة، لأجده راقدا على أحد الرفوف! إحدى الحقائق المريبة بصدد ذلك الأمر هي أن القط لم يلفت رأسه عند فتح الباب لينظر إلي، لكنه-أقسم-كان يرقد بالداخل محدقا في الباب منتظرا اللحظة التي أقوم فيها بفتحه!
أذكر أيضا يوم كنت في حوض الاستحمام، و مددت يدي إلى قطعة الصابون، حين رأيته جالسا في صمت، يحدق في وجهي بنظرة خاوية، متجاهلا سيل الماء الذي ينهمر فوق فرائه الكثيف!
مع مرور الوقت، بدأ ظهوره المتردد يصيبني بالخبال نوعا، لكنني برغم ذلك أزعم أنني قد اعتدت ذلك الظهور بطريقة أو بأخرى.
ما جذب انتباهي حقا في الأيام التالية هو أن شكل القط أخذ في التغيير من حين لآخر، أو لنقل ببساطة إنه أنا الذي بدأت أجن!
لن أنسى ما حييت ذلك اليوم الذي كنت أحاول فيه عبثا أن أظفر بقسط من النوم، عندما دخل القط إلى الغرفة المظلمة. حينما رأيت "سيلويت" القط، أدركت فورا أن شيئا ما ليس على ما يرام، و تأكدت تماما بعد إضاءة المصباح من أنه لا يوجد أي شيء على ما يرام!
رباه! لقد تغيرت معالم القط تماما! صار جسده أكثر نحولا، فراؤه صار قذرا شاحب اللون، طالت أطرافه و عنقه بطريقة مفزعة.
أما عيناه! عيناه المتسعتان صارتا متباعدتين بصورة كابوسية ربما لن تتخيلها في أسوأ كوابيسك!
بعد أيام، رأيت القط مرة أخرى و قد عاد-تقريبا-إلى صورته السابقة. أقول "تقريبا" لأن فراءه كان يبدو لي كما لو تم طلاؤه بالكامل باللون الأحمر القاني!
في المرة التالية، عاد لونه إلى سيرته الأولى، ربما باستثناء العلامة البيضاء على ظهره، تلك العلامة التي أخذت تتشكل تدريجيا حتى صارت تشبه الرقم "18" بالضبط!
في اليوم التالي، رأيت العلامة نفسها، و قد رسمت الرقم "12" بوضوح تام!
تساءلت مرارا عما كان يحاول ذلك اللعين أن يقوله. بل تساءلت أكثر عما كان يحاول أن يفعله، حين أبصرته-منذ يومين فقط-و هو يجري نحو الشرفة منتصبا على قائمتيه الخلفيتين، و قد تضخم حجمه كثيرا حتى بدا كطفل صغير!
لكنني الآن-إذ أجلس و أكتب قصتي تلك-أعتقد أنني قد عرفت أخيرا السبب الذي ظهر من أجله ذلك الشيطان.
حسن! سوف أحاول أن أتجاهل تلك الضحكات الماجنة التي يصدرها القط، راسما على وجهه المشوه متباعد العينين نظرات ساخرة! سوف أحاول أن أتجاهل ذلك كله، لأخبرك ما تذكرته-بمساعدة القط طبعا-منذ بضعة أيام فقط! لأخبرك ما حدث بالتحديد في اليوم الثامن عشر من شهر ديسمبر الماضي. يوم كنت أقود سيارتي-التي صارت حطاما فيما بعد-حينما ظهر أمامي فجأة ذلك القط الرمادي أزرق العينين، الذي أفزعته أضواء السيارة و أصواتها، فانطلق يجري كالطلقة محاولا عبور الطريق، لينجو بحياته من ذلك الوحش الحديدي العملاق.
أنا قلت لك أنني أكره القطط، و أخشاها كالموت. لذلك لم أفكر كثيرا قبل أن أنحرف يمينا بالسيارة-تماما إلى حيث اتجه القط-لأضع جسده الضئيل تحت إطار السيارة الغليظ! أسمع بوضوح صوت قرقعة عظامه الصغيرة، فأبتسم في جذل، ثم أمضي في طريقي شاعرا بأن الحياة قد صارت أفضل بشكل ما!
أنا قلت لك أنني لست انسانا رقيق القلب على الإطلاق!
أنا قلت لك أن لهذا القط ظروفا استثنائية جدا!
لقد عاد القط ليجعل حياتي جحيما لا يطاق!
لا أستطيع أن أنكر لحظة أنه قد نجح في مهمته إلى حد بعيد.
لكنني قررت اليوم أن أضع نهاية لنجاحه هذا.
إن الشرفة ليست ببعيدة على أي حال!!!
* * *
أحـــــمـــــد الـــــديـــــب