انصهار التعددية في البوتقة الماليزية
شهدت ماليزيا أحداثاً داميةً في عام 1969 بين الملايو المسلمين والصينيين البوذيين بعد توترات ومشادات كانت بينهما إثر انفصال سنغافورة عن الخارطة الماليزية عام 1965، واعتبرت تلك الأحداث درساً مفيداً أفضى إلى إحترام السلطة الحاكمة عندما وضعت دستورها في احترام الأعراق وفرضها للسياسة الإقتصادية الجديدة في محاولةٍ لتصحيح التوازن الإقتصادي بين المجموعات العرقية والتي استبدلت فيما بعد بسياسة التمنية القومية، وكانت لتلك السياسة أثرها في صهر تلك الأعراق المتعصبة في بوتقةٍ وطنيةٍ واحدة يسودها التسامح والوئام العرقي.
إن طبيعة تلك الأعراق معقدة جداً نظراً للبيْن الواضح بين دياناتهم وعاداتهم وثقافاتهم، فالمشكلة ليست بين طائفتين فقط كما هو الحال في العراق مثلا!! بل المشكلة بين مجموعة من الأعراق الآسيوية والتي تختلف كلياً عن نظيراتها في مجتمع واحد غالبية سكانه من المسلمين. فالناس مع اختلاف أديانهم وتقاليدهم يعيشون على أسس من الإحترام المتبادل والتسامح والوئام العرقي، وذلك كله لم يكن وليد صدفة وإنما نتيجة العدالة الإجتماعية التي فرضتها السلطة ضد التمييز العرقي والبحث الجديّ عن وسائل للوصول إلى قناعات محددة ومشتركة بين تلك الأعراق.
تلك هي الديمقراطية الحقيقة حين يتمتع المواطنون بالتعبير عن حرياتهم الثقافية والفكرية والاجتماعية والدينية. لذا فإن تسخير مفهوم الديمقراطية يعود على تعويد المواطنين للتأقلم وفهم المناخ الديمقراطي وتوظيفه بشكل سليم، لتحقيق نهضة الدولة ورفاهيتها وعدالتها الإنسانية، لا كما يدعيه بعض الدكتاتوريون في ديمقراطياتهم الزائفة!! فإن ذلك فساد وتعقيد لمعنى الديمقراطية.
يُعتبر المجتمع الماليزي خليطٌ من الثقافة الملايوية وهم السكان الأصليون، والثفافة الهندية والعربية منذ القرن الثالث والرابع، و الثقافة الصينية منذ القرن الرابع عشر، وثقافات المستعمرين من الإنجليز والهولنديين والبرتغاليين، إضافة إلى بعض المهاجرين إليها والمغتربين فيها، كل هذه الثقافات أضافت على المجتمع الماليزي مزيجاً من الثقافات العالمية والذي كان المحفز الرئيسي لاستقرار ونمو الدولة. وهنا نذكر لمحة عن تاريخ أهم تلك الأعراق وهي الملايوية والصينية والهندية..
تجذرت الحضارة الأولى للشعب الملايوي من القبائل البحارة القادمة من إندنوسيا والفلبين وبرونيو، إضافة إلى السكان الأصليين لشبه الجزيرة الملايوية. وبعد استقلال البلاد عام 1957 أعلن رئيس وزرائها الأول تونكو عبدالرحمن من ضمن دستور الدولة إمتيازات خاصة للشعب الملايوي أصحاب السلطة السياسية منذ استقلال البلاد ويسمون بـ بومي بوتر. الثقافة الملايوية مربوطة جوهريا بحب الأرض والوطن، وذلك مشاهد في الروابط العائلية التي تجمعهم في القرى خاصة، حتى مع انخراطهم في الحياة المعاصرة فإن الشعب لايزال محافظاً على تقاليده وعاداته ولباسه لاسيما في المناسبات الدينية أوالعائلية.
أما الصينيون، فهم من أقدم الحضارات في العالم، وقد استوطنوا ماليزيا بعدما أُرسلت أميرةٌ من سلالةٍ صينية إلى مملكة ملاكا لتتم مراسم عرسها على سلطان ملاكا في القرن الرابع عشر، بعدها استمرت العلاقات التجارية بين مملكة ملاكا وامبراطورية الصين. وفي أثناء الإستعمار البريطاني لماليزيا استقطب المستعمرون أعداداً كبيرة من العمال الصينيين لأعمال البناء والنقل والصناعة. ومع مر السنين وجدت الجالية الصينية الطريق للتكيّف والانسجام مع الملايويين والهنود مع ارتباطهم القوي بثقافتهم الأصلية حتى أصبحوا تجاراً يشملون أغلبية الأغنياء في ماليزيا.
وكذا الهنود، فهم من أقدم الحضارات في العالم، وقد دخلوا ماليزيا عن طريق التجارة في القرن الثالث والرابع، وقد تأثر الملايويين بديانتهم الهندوسية وثقافاتهم وعاداتهم قبل دخول الإسلام إليها عن طريق التجار العرب. وفي أثناء الإستعمار البريطاني جُلب بعض الهنود للعمل في المزارع والأراضي والبعض جلبوا كجنود للمحافظة على السلام وقمع التمردات. عموماً يعتبر الهنود الأكثر انفتاحاً من حيث التكيّف الثقافي مع الأجناس الأخرى في ماليزيا، الأمر الذي ساعد في تحسين أوضاعهم وجهودهم التجارية في البلاد.
أذكر قضية كانت حديث البلاد في العام الماضي، وهي قضية محمد مورثي، أحد أعضاء الفريق الماليزي الذي تسلق قمة جبل إفريست، والذي توفي مسلماً رغم أنه ولد هندوسياً، وأصر محمد مورثي أن يدفن وفقاً للشريعة الإسلامية، إلا أن زوجته وأسرته أكدوا أنه لم يعتنق الإسلام، وبنفوذ السلطات الإسلامية عن طريق المحكمة العليا أثبتت وفاته مسلما.
مثل هذه القضية وغيرها تشير إلى قوة السلطة الماليزية في تشريع الحقوق الإنسانية دون المساس بتشريعات الديانات الأخرى. وبالرغم من وجود أكثر من أربع ديانات أساسية في البلاد وهي الديانة الإسلامية والهندوسية والبوذية والمسيحية، إلا أن الدين الرسمي للبلاد هي الديانة الإسلامية مع الإيمان بالشمولية الدينية التي تتميز بها الحياة الثقافية في ماليزيا للتعايش مع الديانات الأخرى.
إن العدل والتسامح الذي دعا إليه الإسلام، جعل منه ديناً رسمياً للبلاد مع الأخذ في الاعتبار ببقية الديانات الأخرى، فالدستور الماليزي يعطي لكل فردٍ في مجتمعه الحق في ممارسة طقوسه الدينية والاحتفال بأعيادهم الشعائرية حفاظاً على استقرار وبناء الأمة سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً، ليأتي في المقام الأول تحقيق المنفعة العامة للجميع بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية.
إن تعاليم الدين الإسلامي ضربت أروع الأمثلة في التسامح والتعايش الإيجابي مع الأمم والشعوب الأخرى من مختلف الحضارات والثقافات والأديان، فلا تزال تلك التعاليم قادرة على صقل العقل الإسلامي وتوجيه سلوكه في تعامله مع الآخرين، لذا فقد دعت الحكومة الماليزية فيما يسمونه بالإسلام الحضاري لإعادة توحيد صفوف المسلمين ومسايرة الأوضاع المعاصرة.
هكذا أثبتت الرؤية الثاقبة للتعددية في ماليزيا نجاحها في إخماد الثورات العرقية والحروب الأهلية في البلاد، تحت مبادئ أساسية من التوعية العلمية والعملية في نشر العدالة الإجتماعية لترسيخ القيم المعنوية والمعايير الأخلاقية السامية في ظل وجود أكثر من ثلاث أعراق في مجتمعها.
وهكذا كان انصهار كل تلك الأعراق في بوتقة الوئام العرقي الماليزي، وإن كانت هناك بعض المشاحنات إلا أنها لا تمثل السواد الأعظم في البلاد، فإن الحكومة تحاول جاهدة توحيد صفوف تلك الأعراق وخاصة في المناسبات الوطنية الكبرى كعيد الإستقلال، والنشاطات الحكومية كنشاط الخدمة الوطنية وغيرها من المخططات الحكومية للتقليل من شأن العنصرية العرقية في البلاد.
كوالالمبور، مايو 2006