صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 27

الموضوع: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

  1. #1
    التسجيل
    24-07-2006
    المشاركات
    150

    Wink رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    هذي الرواية رووووووووووعة تلقونها بالمكتبات الكبيرة أقروها لاتفوتكم
    الجحيم
    "الفصل الأول "الحصار
    سرت ارتجاجة قوية، في أدغال (البرازيل)، على نحو أفزع حيواناتها العديدة، فانطلقت مجموعة ممتزجة من الصيحات الوحشية، وكائنات الأدغال كلها، على اختلاف أنواعها، تعدو مذعورة، محاولة الابتعاد عن ذلك البركان القديم، الذي يتوسَّط الأدغال، ويكاد يختفي تحت كم هائل من الأعشاب والأشجار، التي نبتت من تربته الخصبة، المشبعة بالمعادن* .
    كان قد ظلّ خاملاً، منذ آلاف السنين، يغوص في بحر من الصمت والسكون، بعد ثورته الأخيرة، التي أمنت المنطقة أو كادت، قبل عشرات القرون، التي لا يعلم عددها إلا الله (سبحانه وتعالى)..
    ثم فجأة، ودون سبب علمي واضح، استعاد نشاطه..
    فمع تلك الارتجاجة القوية، التي انتشرت بسرعة مخيفة، في الأدغال المحيطة به، تصاعدت من فوهته أدخنة داكنة كثيفة، تنذر بكونه يستعد لثورة جديدة، يطلق خلالها حممه الملتهبة، من فوهته الواسعة، ليفرق كل ما حوله، فى بحر من اللهب.
    بحر أشبه بالجحيم..
    الجحيم الأرضي..
    ومن بعيد، وفى عكس اتجاه فرار حيوانات الأدغال، انطلقت سيارة (جيب) قوية، تشق طريقها وسط الأحراش المتشابكة، حتى توقَّفت عند منطقة شديدة الوعورة، ليقول قائدها في عصبية:
    - لا يمكننا أن نتقدَّم أكثر.. كان ينبغي أن تستمعا لنصيحتي، وأن تستخدما الهليوكوبتر؛ للوصول إلى ذلك المكان، وليس السيارة، فالمنطقة..
    قاطعه أحد الرجلين، المرافقين له، وهو يلتقط منظاراً مقرِّباً، وينهض دافعاً جسده عبر فتحة السقف، قائلاً في صرامة:
    -ليس هذا من شأنك يا رجل
    وضع المنظار المقرِّب على عينيه، وتطلَّع فى قلق إلى الأدخنة السوداء الكثيفة، التى تصاعدت من فوهة البركان أكثر وأكثر
    فى حين سأله زميله، بلغة لم يفهم سائق (الجيب) حرفاً واحداً منها:
    - الوضع ينذر بالخطر.. أليس كذلك؟!
    مطَّ الأوَّل شفتيه، وزفر في توتر ملحوظ، قبل أن يقول، بنفس اللغة:
    - أكثر مما تتصوَّر.
    هزَّ زميله رأسه، وتراجع في مقعده، مغمغماً:
    - أراهن أن علماء الجيولوجيا سيحارون كثيراً، وهم يبحثون عن أسباب استعادة هذا البركان الخامل لنشاطه بغتة، دون أية مقدمات!
    هتف السائق بنفاد صبر عصبي:
    - ماذا تقولان بالضبط؟!.. لست أفهم حرفاً واحداً، وهذا يضاعف من عصبيتي؛ فالموقف أصعب من أن يُحتمل بالفعل.
    أجابه الأوَّل في خشونة:
    - ما نقوله ليس من شأنك يا رجل، ولست تتقاضى ذلك الأجر الباهظ، لتستمتع بما نقول.
    مطَّ السائق شفتيه، وهمهم بكلمات ساخطة، قبل أن يشيح بوجهه معلناً غضبه، وعصبيته تتضاعف وتتضاعف، مع رائحة الغازات البركانية، التي بدأت تنتشر بالفعل..
    أما الرجل الثاني، فقد نهض بدوره، والتقط المنظار المقرَّب من زميله، وهو يتساءل:
    - هل انقطعت الاتصالات تماماً، مع تلك القاعدة السرية الرهيبة؟! أومأ الأوَّل برأسه إيجاباً، وتمتم:
    - أراهنك أنه المسئول عن هذا.
    وافقه الثاني بإيماءة من رأسه، قائلاً:
    - ليست لدى ذرة من الشك في هذا.
    ثم التفت إليه، مستطرداً، في حزم يمتزج بالكثير من التوتر والقلق:
    - (أدهم) لا يمكن أن يواجه أمراً كهذا، دون أن يترك بصمته عليه كالمعتاد.
    تنهَّد الأوَّل، وتطلع في قلق زائد إلى البركان، الذي راحت سحب الدخان المتصاعدة منه تتكاثف أكثر وأكثر، وهو يقول:
    - الأمر هذه المرة يختلف، فهو خطير للغاية.. خطير أكثر مما كنا نتصور.
    وصمت لحظة، قبل أن يضيف في شيء من العصبية:
    - وربما أخطر من كل ما مر به (أدهم) نفسه في حياته كلها.
    تطلَّع الثاني إلى الأدخنة الكثيفة بدوره، ثم هز كتفيه، قائلاً:
    ـ لن يدهشني هذا في الواقع؛ فتلك المنظمة، التي يواجهها (أدهم) بمفرده، حتى هذه اللحظة تعد أخطر وأقوى منظمة جاسوسية إجرامية، عرفها التاريخ الحديث.. إنها تمتلك من القوة والتكنولوجيا، ما يفوق بألف مرة كل ما واجهناه من قبل، وكل ما واجهه هو نفسه من أجهزة مخابرات عالمية، أو منظمات تجسس قوية. وافقه الأوَّل بإيماءة من رأسه، وقال :
    ـ اختيار وكرهم وحده، يشف عن مدى خطورتهم وبأسهم، ومقدار ما يتمتعون به من تكنولوجيا متطورة، وإمكانيات لا حدود لها.
    ثم هزَّ رأسه، وهو يضيف متوترا ً:
    - من يصدق اختيارهم لوكر كهذا، وتزويده بأحدث الأجهزة، والمعدات، وأسلحة الدفاع والهجوم، دون أن يشعر بهم أحد.أشار الثاني بيده، قائلاً:
    - بل ومن يصدِّق أن (أدهم) قد كشف أمرهم، ويواجههم وحده الآن، داخل مقرهم المنيع.. وصمت لحظة، قبل أن يضيف، في لهجة جمعت بين الصرامة، والحزم، ومقدار لا محدود من التوتر:
    - تحت هذا البركان الثائر. وتنهد مستطرداً:
    - والذي يمكن أن ينفجر في أية لحظة.ولم ينطق الأوَّل ببنت شفة، وهو يستعيد منظاره المقرِّب، ويعاود التطلُّع إلى البركان..
    ولكن حاجباه انعقدا في شدة..
    فعلى الرغم من غرابة الأمر وخطورته، كان يعلم أن (أدهم صبري) هناك الآن بالفعل..
    تحت ذلك البركان الثائر..
    وأنه يواجه، في تلك اللحظة بالذات، أكبر خطر عرفه، في حياته كلها..
    على الإطلاق..
    []*************************************************

    "..الفصل الثاني "البـدايــة
    "لست أصدق هذا أبداً.."..
    هتفت (منى توفيق) بالعبارة، بكل دهشة الدنيا، وهى تتراجع في مقعدها، أمام (قدري)، خبير التزييف والتزوير، في الإدارة، والذي ارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة مستمتعة، وهو يقول:
    - ما الذي لا تصدقينه بالضبط يا عزيزتي (منى)؟!
    لوحت (منى) بكفيها، هاتفة :
    - أن (أدهم) قد فعل كل هذا؟!..
    اعتدل، يسألها في اهتمام مشوب بالدهشة:
    - ولم لا؟!..
    هزت كتفيها، وهى تتراجع في مقعدها، وكأنها لا تجد جواباً منطقياً، ثم لم تلبث أن قالت، في شيء من العصبية:
    - إنني أعمل إلى جوار (أدهم)، منذ فترة طويلة، وعاصرت معه عشرات العمليات الشرسة العنيفة، ولست أتصور أنه كان لديه المزيد.
    أطلق (قدري) ضحكة عالية مجلجلة، ارتج معها جسده الضخم، قبل أن يقول بابتسامة كبيرة:
    - عزيزتي (منى).. لقد بدأ (أدهم) عمله في المخابرات، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، وأنت التقيت به، قبل أن يتم عامه الخامس والثلاثين بقليل، فماذا فعل في رأيك، طوال دستة من الأعوام، قضاها كضابط مخابرات نشط .
    هزت كتفيها مرة أخرى، وبدت مرتبكة إلى حد ما، وهى تقول:
    - كنت أتصور أنك قد رويت لي كل ما فعله قديماً، عبر تلك الملفات السرية، التي منحوك تصريحاً بمطالعتها.
    مال نحوها، وتراقصت ضحكة عابثة في عينيه، وهو يقول:
    - ليس كل ما فعله.

    وعاد يتراجع في مقعده بحركة سريعة، وكأنما يرهقه الانحناء، فوق كرشه الضخم، قبل أن يتابع:
    - لقد فوجئت بأن لدينا هنا كنز ضخم، من ملفات عمليات (أدهم) القديمة، منذ كان شاباً صغيراً، وحتى التقى بك، في أولى عملياتكم المشتركة*.
    بدا عليها اهتمام شديد، وهى تسأله:
    - وكم يبلغ حجم هذا الكنز تقريباً؟!
    مط شفتيه، قائلاً:
    - ليست لدى أرقاماً واضحة، ولكنني، عندما حصلت على هذا الملف، أمكنني أن أحصى أكثر من عشرين ملفاً آخر إلى جواره، وكلها تحمل الكود الشفري الخاص بعزيزنا (أدهم)..
    والتقط نفساً عميقاً، قبل أن يضيف في زهو، وكأنما يتحدث عن نفسه:
    - (ن -1) .
    تراجعت في مقعدها مرة أخرى، وهى تغمغم :
    - إنني لا أخاطبه به أبداً.
    هز رأسه، قائلاً :
    - ولا أنا..
    ثم أشار بسبابته، مضيفاً في حزم :
    - ولكنه يحمله، على أية حال..
    وصمت لحظة، ثم أكمل، وهو يغمز بعينه، ويربت على الملف الذي يحمله:
    - ومنذ هذه العملية.
    تألقت عيناها في لهفة، وهى تهتف:
    - وكيف هذا؟!
    --------------------------------------------------------------------------------
    ابتسم ابتسامة كبيرة، وكأنما يسعده ما تركه فيها من تأثير، ولوح بيده، قائلاً:
    - الأمور لم تبدأ على النحو نفسه، الذي قرأت لك جزءاً منه، ففي البداية، لم تكن المهمة تتعلق بمنظمة (هيل آرت) هذه.. بل ولم تكن هناك مهمة رسمية على الإطلاق.
    كررت في انبهار :
    - حقاً؟!..
    ثم هزت رأسها، وكأنها تطرح عن نفسها انبهارها، وتابعت في اهتمام متوتر:
    - ولكن لماذا سافر (أدهم) إلى (البرازيل)، ما دام لم يكن يعمل في مهمة رسمية؟!
    ابتسم (قدري)، وقال بلهجة خاصة، وكأنما يتعمد إثارة مشاعرها وانفعالاتها :
    ـ إنه لم يذهب إلى (البرازيل) بإرادته.
    اتسعت عيناها أكثر، وحدقت في وجهه بضع لحظات، قبل أن ينعقد حاجباها وتعتدل في مقعدها، قائلة في حزم:
    ـ (قدري).. لست أميل إلى هذا الأسلوب.
    أطلق ضحكة مجلجلة، قائلاً :
    ـ ولكنني أعشقه.
    أمسكت يده في قوة، وهى تقول:
    ـ في هذه المرة، سنعمل بأسلوبي أنا، وستروى لي تفاصيل هذه العملية، منذ البداية.
    تراقصت ضحكة أخرى في عينيه، وهو يقول :
    - فليكن.. سأروى لك كل شيء .
    تركت يده، واسترخت في مقعدها، محاولة التغلب على انفعالها ولهفتها، في حين تنحنح هو، والتقط الملف، و..
    وبدأ يروى..
    أزاح مدير المخابرات المصرية منظار القراءة عن عينيه، وهو يرفع رأسه إلى ضابطه (أدهم)، الذي وقف أمامه مشدود القامة، في اعتداد معتدل، قائلاً بلهجة قوية واثقة:
    - (أدهم صبري) في خدمتك يا سيدي !
    أشار إليه مدير المخابرات، قائلاً :
    - استرخ أيها الرائد.. إنه أمر شخصي هذه المرة.
    أدهشت العبارة الأخيرة (أدهم)، ولم تساعده إطلاقاً على الاسترخاء، وإنما ضاعفت من توتر عضلاته، وهو يشد قامته أكثر، متسائلاً في حذر زائد:
    - شخصي؟!.. كنت أتصور أنه لا وجود للأمور الشخصية، في عالمنا السري هذا يا سيدي .
    ابتسم مدير المخابرات، وهو يقول :
    - هذا صحيح أيها الرائد.. لا وجود للأمور الشخصية في عالمنا هذا، ولكن الأمر لا يتعلق بعملنا هذه المرة.
    ثم أشار إليه، مستطرداً في حزم :
    - بل بك أنت.
    غمغم (أدهم) في دهشة، امتزجت بالكثير من الحذر :
    - أنا؟!
    نهض مدير المخابرات من خلف مكتبه، واتجه نحوه، وربت على كتفه في حرارة، وهو يقول:
    - نعم.. أنت أيها الرائد.. أو بوالدك، لو شئنا الدقة.
    أطلت حيرة واضحة من عيني (أدهم)، وإن حجبتها ملامحه القوية عن وجهه، فابتسم مدير المخابرات، وأكمل حديثه، وهو يعود إلى مكتبه:
    - فغداً، تأتى ذكرى والدك (رحمه الله)، الذي اغتاله الإسرائيليون، أثناء عمله الدبلوماسي في (لندن)، ومن أجل هذه المناسبة، قرر بعض الزملاء في سفارتنا، في العاصمة البريطانية، إقامة حفل تأبين لذكراه، وكان من المحتم أن تتم دعوتك، أنت وشقيقك الدكتور (أحمد)، إلى ذلك الحفل.
    تمتم (أدهم)، وقد استوعب الموقف :
    - آه.. فهمت.
    ناوله المدير جواز سفره، وهو يقول :
    - إحدى شركات السياحة التابعة لنا، أنهت إجراءات تأشيرة السفر من أجلك، ووفقاً لمعلوماتي عنك، فحقيبتك معدة دوماً لأي سفر مفاجئ.
    غمغم (أدهم) بابتسامة هادئة :
    - هذا صحيح يا سيدي.
    تراجع المدير في مقعده، واتسعت ابتسامته، وهو يقول:
    - طائرتك ستقلع بعد ثلاث ساعات تقريباً أيها الرائد.. أرجو لك سفراً هادئاً.
    شد (أدهم) قامته، قائلاً :
    - أشكرك يا سيدي.. أشكرك كثيراً.
    واستدار ليغادر المكان، في خطوات سريعة قوية، فاستوقفه مدير المخابرات، قبل أن يغادر الحجرة، وهو يقول:
    - (أدهم).
    كانت المرة الأولى، التي يخاطبه فيها مدير المخابرات باسمه مجرّداً ، فاستدار إليه في احترام ممتزج ببعض الدهشة، ولكن ابتسامة المدير استقبلته، وهو يكمل في مودة أبوية خالصة:
    - هناك أمر ينبغي أن تتذكره، في هذه الرحلة بالذات.
    ثم مال إلى الأمام، مضيفاً بابتسامة أكبر :
    - إنها ليست رحلة عمل، أو مهمة خاصة.. تذكر هذا جيداً.
    شد (أدهم) قامته، ولاذ بالصمت بضع لحظات، ثم قال في حزم :
    - سأحاول يا سيدي.. سأحاول.
    وكان هذا كل ما يملكه في الواقع.
    أن يحاول..
    استرخى رجل (الموساد) المخضرم (إيتان مائير)، في مقعده الواسع الكبير، داخل السفارة الإسرائيلية في (لندن)، وتطلع بعينين خاملتين، نصف مغمضتين، إلى سير (وينسلوت)، عضو مجلس العموم البريطاني الشهير، وهو يقول في بطء:
    - مبادرة جريئة منك بالفعل يا سير (وينسلوت)، أن تزورني هنا في مكتبي!.. ألم تخش أن يرصدك أحد الصحفيين، وأنت تدخل إلى السفارة الإسرائيلية.
    ابتسم سير (وينسلوت) ابتسامة ساخرة باردة، وهو يتخذ مقعداً وثيراً، داخل حجرة (إيتان) الواسعة، وقال بصوته الثلجي المستفز، وهو يرمقه بنظرة متعالية:
    - أمثالي لا يرتكبون أخطاءً تافهة يا عزيزي (إيتان)، فكل شيء في حياتي محسوب بدقة… بمنتهى الدقة.
    قال (إيتان)، في خمول عجيب :
    - حقاً ؟!..
    أجابه سير (وينسلوت) في سرعة :
    - نعم.. حقاً يا (إيتان).
    ثم التقط من جيب سترته سيجاراً كوبياً فاخراً، أشعله بقداحته الذهبية في هدوء، قبل أن يتابع ببروده الثلجي المستفز:
    - أنا عضو مجلس عموم محترم، ورجل أعمال شهير، ورثت عن والدي لقب (سير)، مما يمنحني مكانة خاصة رفيعة في المجتمع، وأمثالي لا يرتكبون أخطاءً تؤخذ عليهم، أو يلتقطها صحفي سخيف؛ ليصنع منها خبر الموسم، في الصفحات الأولى لصحف الفضائح.
    ونفث دخان السيجار في بطء، ثم تابع :
    - ولو أنك تتابع أخبار مجلس العموم؛ لعلمت أنني قد أصبحت رئيس لجنة العلاقات الخارجية، وأنه من صميم عملي، أن أعمل على توطيد العلاقات الديبلوماسية، بين (بريطانيا) العظمى، وجميع الدول الأخرى.
    ورفع حاجبيه، في تعالى واضح، وهو يضيف :
    - ومن بينها (إسرائيل).
    ظلت ملامح (إيتان) خاملة بليدة، وهو يكرر، في لهجة حملت نبرة ساخرة واضحة:
    - (بريطانيا) العظمى!..
    نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره في بطء، دون أن تحمل ملامحه أية انفعالات، وإن أطلت من عينيه نظرة مقت واضحة، وهو يقول في بطء:
    - نعم.. (بريطانيا) العظمى يا (إيتان).. (بريطانيا) التي منحتكم وعدها الشهير*، الذي منحكم بدوره الحق في استيطان واحتلال (فلسطين)**..
    وضاقت عيناه، وهو يضيف في صرامة :
    - أم أنكم قد نسيتم هذا ؟!
    ابتسم (إيتان) ابتسامة ساخرة خاملة، وهو يقول :
    - نحن دولة صغيرة يا سير (وينسلوت)، وذاكرتنا لا يمكن أن تحتمل ما تحتمله ذاكرة دولة (عظمى) مثلكم.
    نطق كلمته قبل الأخيرة في سخرية واضحة، ابتسم لها سير (وينسلوت) في برود، ونفث دخان سيجاره في بطء، قائلاً:
    - هذا أمر طبيعي أيها الإسرائيلي.. أمر طبيعي للغاية.
    ثم مال إلى الأمام، مستطرداً في صرامة قاسية :
    - وما ينبغي أن تدركه الآن، وأن يدركه رؤسائك في (تل أبيب)، هو أنكم إن لم تستمعوا إلىَّ جيداً، فسيصغر شأن دولتكم أكثر، على نحو لا يمكن تصوره أو تخيله، حتى في أبشع كوابيسكم.
    قالها، ثم نهض في حزم، فاعتدل (إيتان) على مقعده، وزال خموله مع بلادته الزائفة دفعة واحدة، وهو يقول فى شيء من الشراسة:
    - ما الذي يعنيه هذا بالضبط يا سير (وينسلوت)؟!
    قال سير (وينسلوت) في برود، وهو يواصل نفث دخان سيجاره الكوبي الفاخر:
    - ما يعنيه هو بالضبط ما أتيت لأخبرك به يا..
    صمت لحظة، ثم مال نحوه، قبل أن يضيف في قسوة صارمة:
    - يا رجل الموساد.
    --------------------------------------------------------------------------------
    * آرثر جيمس بلفور (1848 - 1930م) :سياسي بريطاني، شغل عدة مناصب سياسية في بلاده، قبل أن يصبح رئيساً للوزراء (1902 - 1905م)، وبعدها أصبح وزيراً للبحرية (1915 - 1916م)، ثم وزيراً للخارجية (1916 - 1922م)، وخلال صفته هذه، أصدر تصريحه الشهير، المعروف باسم وعد (بلفور) (2 نوفمبر 1917م)، والذي يعلن فيه تعهد (بريطانيا) بإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى..
    * * فلسطين: دولة على الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط، اسمها في التوراة بلاد (كنعان)، ويعتبرها الإسرائيليون أرضاً مقدسة لهم، بعد أن غزاها يشوع، الذي خلف (موسى) في قيادة اليهود، في الأزمنة القديمة.
    رمقه (إيتان) بنظرة قاسية، من خلف جفنيه نصف المغلقين، ثم قال في شيء من التحدي:
    - وما الذي أتيت لتخبرني به بالضبط أيها البريطاني؟!.. هل ترغب في رفع قيمة المكافأة، التي تتقاضها منا، مقابل تعاونك معنا؟!
    قال سير (وينسلوت) في سخرية:
    - مكافأة؟!.. لو راجعت رؤساءك، لأدركت أنني لم أتقاضى منكم بنساً واحداً، منذ منحتكم تلك المعلومات العسكرية يا هذا.. لقد كانت هدية.. مجرد هدية؛ لتحديد ما يمكنني أن أمنحكم إياه.
    قال (إيتان)، في استهتار متعمد:
    - لم أكن أعتقد أنه توجد هدايا من هذا النوع، في عالمنا الخاص أيها البريطاني.
    نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره الفخم، نحوه مباشرة، قبل أن يقول في برود:
    - (وينسلوت) أيها الإسرائيلي.. سير (وينسلوت)… مسئول العلاقات الخارجية، في مجلس العموم البريطاني، و…
    مال نحوه مرة أخرى، ثم تابع في صرامة:
    - والزعيم الفعلي، لمنظمة (هيل آرت).
    انتفض جسد (إيتان) في عنف، واتسعت عيناه عن آخرهما، وهبَّ من مقعده بحركة حادة عنيفة، هاتفاً:
    - أنت؟!..
    وهنا فقط، تخلى سير (وينسلوت) عن وقاره وبروده، وانطلقت من أعمق أعماقه ضحكة قوية، واثقة، مجلجلة، قبل أن ينفث دخان سيجاره، ويقول :
    - مفاجأة قوية.. أليس كذلك ؟!
    ظل (إيتان) يحدق في وجهه لبضع لحظات أخرى، في ذهول بالغ، قبل أن يتراجع، ويجلس في مقعده، قائلاً:
    - إذن فهو أنت.
    ومع ابتسامة سير (وينسلوت) الباردة، هز الإسرائيلي رأسه في قوة، مستطرداً:
    - من يصدق هذا؟!
    أطلق سير (وينسلوت) ضحكة قصيرة، ونفث دخان سيجاره مرة أخرى، وهو يقول:
    - ومن يمكن أن يدين نفسه بتهمة كهذه، بعد أن ضربت منظمة (هيل آرت) ضربتها الكبرى، واستولت على تلك الوثائق النووية الأمريكية.
    تألقت عينا (إيتان)، وهو يقول :
    - لو أنك هنا، للسبب الذي يدور في ذهني يا سير (وينسلوت)، فأنا واثق من أن دولتي مستعدة لدفع أي مبلغ تطلبه، مقابل تلك الوثائق.
    رفع سير (وينسلوت) حاجبيه بدهشة مصطنعة، وهو يقول :
    - عجباً!.. كنت أتصور أن دولتكم هي الابن غير الشرعي للأمريكيين، وأن التعاون بينها وبينهم كاملاً.
    تجاهل (إيتان) العبارة تماماً، وهو يقول في لهفة:
    - كم تطلب؛ ثمناً لتلك الوثائق يا سير (وينسلوت)؟!
    عاد سير (وينسلوت) إلى مقعده، ووضع إحدى ساقيه فوق الأخرى، ولوح بيده الممسكة بالسيجار، في حركة مسرحية أنيقة، وقال:
    - هل تعتقد أن بإمكانكم دفع ثمنها؟!
    أجابه (إيتان) في عصبية :
    - قلت لك : إن دولتي مستعدة لدفع أي ثمن تطلبه، في مقابل تلك الوثائق.
    مط سير (وينسلوت) شفتيه، وقال في خبث:
    - أيعنى هذا أنك مفوض منها، لإتمام هذه الصفقة؟!
    انعقد حاجبا (إيتان) في شدة، وتراجع في مقعده بحركة حادة، دون أن ينبس ببنت شفة، فنهض سير (وينسلوت) مرة أخرى، وقال وهو يلتقط معطفه:
    - هذا ما توقعته.
    هبّ (إيتان) من مقعده في عصبية، هاتفاً :
    - رويدك يا سير (وينسلوت).. إننا نريد حقاً هذه الصفقة، ولن نتنازل عنها قط.
    ارتدى سير (وينسلوت) معطفه في هدوء، وهو يقول:
    - يمكنكم إذن دخول المزاد، يا عزيزي (إيتان).
    اعتدل (إيتان)، وهو يقول، في صرامة شديدة :
    - لا مزادات يا سير (وينسلوت).. إننا نريد هذه الصفقة حقاً.. وبأي ثمن.
    أجابه سير (وينسلوت)، وهو يتجه إلى الباب، ودون أن يلتفت إليه :
    - اتصل برؤسائك في (تل أبيب) إذن.
    وفتح باب الحجرة، ثم توقف لحظة، قبل أن يستدير إليه، قائلاً بغطرسة شامتة متعالية :
    - أريد مفاوضاً أعلى شأنا.
    قالها، وغادر المكان، وهو يضحك..
    ويضحك..
    ويضحك..
    ولم يدرك (إيتان)، الذي احتقن وجهه بشدة لحظتها، أن تلك الضحكات الساخرة الشامتة الظافرة، كانت المفتاح الفعلي..
    المفتاح الحقيقي لكل الأبواب..
    أبواب الجحيم.
    ******************************************
    الفصل الثالث "لـنـدن
    التقط (أدهم) نفساً عميقاً، من هواء (لندن) البارد، المشبع بدرجة عالية من الرطوبة، وضم ياقتي معطفه في قوة، وهو يغادر مطار (هيثرو)، وارتسمت على شفتيه ابتسامة هادئة، عندما استقبله زميله (حازم)، قائلاً في حرارة وترحاب:
    - مرحباً بك في (لندن) يا صديقي.. لقد مضت فترة طويلة، منذ التقينا لآخر مرة.
    صافحه (أدهم) في حرارة، وهو يقول:
    - ثلاث سنوات تقريباً.. منذ عملية الصاروخ السوفيتى.
    أطلق (حازم) ضحكة قصيرة، وهو يقول:
    - بالضبط.
    اصطحبه إلى سيارة بريطانية الصنع، وهو يربت على ظهره في حرارة، قائلاً:
    - كانت عملية، لا يمكن أن تنسى.
    استقل كلاهما السيارة، التي انطلق بها (حازم)، في شوارع (لندن)، و(أدهم) يسأله:
    - هل انتهت فترة تدريبك هنا؟!
    صمت (حازم) بضع لحظات، ثم قال في اقتضاب:
    - إنه ليس تدريباً.
    لم يشعر (أدهم) بالدهشة مع قوله..
    بل ولم يحاول حتى أن يسأله عما يعنيه..
    فكرجل مخابرات محترف، كان يدرك جيداً ما يعنيه قول زميله هذا..
    إنه في مهمة..
    مهمة على درجة عالية من السرية..
    ووفقاً لنظم ومعايير العمل في المخابرات، كان من الضروري أن يكتم (حازم) السر..
    حتى عن أقرب وأخلص أصدقائه وزملائه..
    ومن الضروري أيضاً ألا يسأله هو عما يخفيه..
    هذا لأن المعرفة، في عالم المخابرات، على قدر الحاجة..
    فقط..
    وفى محاولة لتفادى الحديث، حول مهمة (حازم) السرية، تساءل (أدهم) :
    - هل سيقيمون احتفالهم الليلة؟!
    أومأ (حازم) برأسه إيجاباً، وقال:
    - نعم.. في التاسعة مساءً، بتوقيت (جرينتش)*.
    ورمقه بنظرة جانبية، متسائلاً :
    - ولكن هذا لا يروق لك.. أليس كذلك؟!
    هز (أدهم) رأسه، قائلاً :
    - لم يرق لي أبداً الاحتفال بذكرى مصرع والدي؛ فهذا يعيد إلى ذهني المرارة نفسها، التي شعرت وشقيقي (أحمد) بها، عندما تم اغتياله هنا في (لندن).
    سأله (حازم) في تعاطف :
    - أهذا سر كراهيتك الشديدة للإسرائيليين؟!
    تنهد (أدهم)، مجيباً :
    - ألا يكفى ما يفعلونه في (فلسطين) سبباً يا رجل؟!
    لم يجب (حازم) تساؤله، وإنما رمقه بنظرة جانبية أخرى، لاذ بعدها بالصمت التام، الذي شاركه فيه (أدهم) بضع لحظات، قبل أن يتابع:
    - من القواعد الأولى، التي لقننا إياها والدي (رحمه الله)، ألا نمزج مشاعرنا الشخصية بعملنا، ولقد أخبرني دوماً أن رجل المخابرات الناجح، لا ينتمي إلا لوطنه وحده.. ليس إلى المال، أو المرأة، أو حتى مشاعره الخاصة.
    --------------------------------------------------------------------------------
    * جرينتش:ضاحية من ضواحي العاصمة البريطانية (لندن)، على نهر (التايمز)، تقع فيها الكلية الملكية البحرية، والمعرض الملكي، ويعتبر أحد تلال (جرينتش بارك)، والذي اختباره سير (كريستوفر رن)، هو خط الزوال، بالنسبة للطول الجغرافي.
    ************************************************** ******************

    أومأ (حازم) برأسه، قائلاً :
    - والدك (رحمه الله) كان رجلاً عظيماً.
    وصمت لحظة، ثم أضاف :
    - وأنجب ابنين عظيمين أيضاً.
    ابتسم (أدهم) دون أن يجيب، وحاول الاسترخاء في مقعده، و(حازم) يسأله في اهتمام:
    - ما دام الاحتفال بذكرى والدك لا يروقك، لماذا قطعت كل هذه المسافة، من (القاهرة) إلى (لندن).
    هز (أدهم) كتفيه، قائلاً :
    - لم يكن من الممكن أن أحبط الجميع، برفض الحضور إلى هنا، ومشاركتهم في احتفال، بذلوا الكثير من الجهد لإقامته… وأظن أن هذا نفس ما فعله أخي (أحمد) أيضاً ، الذي يقطع المسافة الآن ، من (ستوكهولم) إلى هنا ، ولن يمكنك أن تتصوّر كم أشتاق لرؤيته .
    ابتسم (حازم)، قائلاً :
    - ألم أقل لك : إنكما عظيمان بحق؟!
    غمغم (أدهم)، وهو يشيح بوجهه :
    - العظمة لله وحده يا صديقي.
    هم (حازم) بقول شيء ما، وهو ينحرف بالسيارة في نهاية الطريق، لبلوغ مبنى السفارة المصرية، و…
    وفجأة، ضغطت قدمه دواسة الفرامل بكل قوته، وهو يهتف:
    - يا إلهي !
    أدار (أدهم) عينيه بسرعة إلى الطريق، الذي بدت حركته عادية مألوفة، باستثناء رجل الشرطة، الذي اعترض طريق السيارة، ورفع راحته ليستوقفها في صرامة..

    كان شرطياً عادياً بسيطاً، يحمل ملامح صارمة حازمة، وتشير الأشرطة على ذراعيه إلى أنه يحتل مكانة ثالثة، بين الرتب المسموح لها بالتواجد في طرقات العاصمة..
    ولكن شيئاً ما في أعمق أعماق (أدهم) شعر بتوتر..
    توتر غامض..
    مبهم..
    عجيب..
    توتر ربما نبت من حاسة خاصة، نمت مع الوقت والخبرة، في أعماق رجل مخابرات محترف..
    أو أتى من شيء ما..
    شيء رآه..
    أو سمعه..
    شيء لم تدركه حواسه التقليدية، وإن انتبهت إليه بشدة حاسة رجل المخابرات، في كل ذرة من كيانه..
    المهم أنه قد اعتدل..
    وتحفز..
    وانتظر..
    وفى صرامة حازمة، دار الشرطي حول مقدمة السيارة، التي تحمل أرقاماً ديبلوماسية واضحة، وهو يقول لـ(حازم):
    - رخصتا القيادة والسيارة يا سيدي.
    أجابه (حازم)، في صرامة مماثلة، وبلغة إنجليزية سليمة:
    - هذه السيارة تحمل لوحات ديبلوماسية، وليس من حقك أن..
    ولم يكمل (أدهم) سماع العبارة..
    الحاسة نفسها، التي جعلته يشعر بالتوتر، دفعته إلى الاستدارة إلى الجانب الأيسر، الذي انشغل عنه (حازم)، بحديثه مع الشرطي، في الجانب الأيمن*..
    ولقد جاءت استدارته، في الوقت المناسب..
    المناسب تماماً..
    --------------------------------------------------------------------------------
    * في (إنجلترا)، وبعض المستعمرات التابعة لها، أو المنفصلة عنها، توضع عجلة القيادة في الجانب الأيمن للسيارة، بخلاف باقي دول العالم.
    *******************************************
    ففي نفس اللحظة، التي استدار فيها، كان هناك رجلان، في معطفي مطر، يندفعان نحو السيارة، من جانبها الأيسر، وكل منهما يدس يده في معطفه، بحركة لا يمكن أن تخطئها عين محترف مثله..
    حركة تعنى أن كل منهما يهم بسحب سلاحه، و…
    وكعادته، وكما لقنه والده الراحل، لم يضع (أدهم) لحظة واحدة..
    لم يكن يحمل سلاحاً..
    ولم يكن هناك ما يكفى من الوقت، لسؤال (حازم)، عما إذا كان يحمل سلاحاً بدوره..
    ولم تكن هناك دلالة واحدة، لعدد المعتدين حولهما..
    لذا، فقد دفع (أدهم) قدمه اليمنى، في حركة سريعة مرنة، وضغط دواسة وقود السيارة، التي رفع (حازم) قدمه عنها ، وهو يمسك مقودها في إحكام..
    وفوجئ (حازم) بالسيارة تثب فجأة، وتنطلق من إطاراتها صرخات صريرية عنيفة، قبل أن تندفع في الطريق، فصاح في دهشة:
    - ماذا تفعل؟!
    ولم يجب (أدهم) تساؤله..
    بل أجابته رصاصات المعتدين..
    أجابته ثلاث مرات، تحطم معها الزجاج الخلفي للسيارة، وتناثر بمنتهى العنف، دون أن تدوي أية رصاصات من خلفهما..
    ومع اختراق إحدى الرصاصات الثلاث للزجاج الأمامي، تاركة فيه ثقباً صغيراً، أحيط بشبكة من الشروخ العنكبوتية، صاح (حازم):
    - رباه!.. إنهم يستخدمون كواتم الصوت.
    قالها، واستعاد سيطرته على عجلة القيادة، و(أدهم) يرفع قدمه عن دواسة الوقود، قائلاً في غضب:
    - محاولة اغتيال حقيرة أخرى.
    هتف (حازم)، وهو يعيد قدمه إلى دواسة الوقود، وينطلق بالسيارة عبر شوارع (لندن) :
    - إنهم ليسوا رجال مخابرات.
    أجابه (أدهم)، وهو يستدير خلفه؛ لمراقبة الطريق:
    - نعم.. أسلوبهم أشبه بعصابات (المافيا).
    عض (حازم) شفته السفلى في ألم، وهو يقول:
    - إنهم مجرمو (هيل آرت).. يحاولون إزاحتي عن طريقهم.. لقد أدركوا حتماً أنني قد اقتربت كثيراً منهم.
    انعقد حاجبا (أدهم)، وهو يتساءل :
    - (هيل آرت)؟!.. أي اسم هذا؟!
    قبل أن يجيبه (حازم)، ظهرت ثلاث درجات آلية، تنطلق عكس اتجاه السير القانوني، نحو السيارة مباشرة..
    وبحركة عنيفة، انحرف (حازم)، بالسيارة إلى جانب الطريق، على نحو جعله يصطدم بجانب سيارة كبيرة أخرى، وهو يهتف
    - احترس يا (أدهم).
    وقبل حتى أن يكتمل هتافه، كان ركاب الدراجات الثلاثة يصوبون مسدساتهم، المزودة بكواتم للصوت، نحو السيارة مباشرة..
    ويطلقون النار..
    ولكن رد فعل (أدهم) كان سريعاً للغاية..
    لقد انحنى بسرعة، ومال جانباً، وسمع صوت اختراق الرصاصات الصامتة لزجاج السيارة الأمامي، الذي تناثر بعضه فوق رأسه مباشرة، ممتزجاً بآهة ألم، أطلقها (حازم)، قبل أن ينحرف بالسيارة مرة أخرى، صائحاً:
    - لقد ظفروا بي.
    استدار إليه (ادهم) بحركة حادة، وشاهد ذلك الخيط من الدم، الذي يسيل على قميصه، من ثقب في صدره، وبقعة الدم الكبيرة، التي تغطى كتفه اليسرى، في نفس اللحظة التي اختل فيها توازن السيارة، وقفزت فوق الإفريز الجانبي للطريق، وارتطمت بأحد أعمدة الإنارة المعدنية، ثم انقلبت على جانبها، وراحت تزحف على الإفريز، لمتر أو مترين، قبل أن تنقلب مرة أخرى على سطحها، وإطاراتها تواصل دورانها عالياً في الهواء..
    وطوال كل هذا الوقت، ومع الحركة المعقدة، التي قامت بها السيارة أثناء انقلابها، لم يتوقف راكبو الدراجات الآلية الثلاثة لحظة واحدة، عن إطلاق رصاصاتهم نحوها..
    ونحو خزان وقودها بالتحديد..
    وساد ذعر شديد، في ذلك الشارع اللندني، مع المشهد الرهيب، الذي يصلح لشاشة السينما، بأكثر مما يصلح على أرض الواقع، وبخاصة عندما توقف القتلة بدراجاتهم الآلية، في حركة تشف عن البراعة، على مسافة أمتار قليلة من السيارة المقلوبة رأساً على عقب، وصوبوا فوهات مسدساتهم نحو خزان وقودها مباشرة، و..
    وفجأة، خيل إليهم، ولكل شهود عيان الواقعة، أن صاعقة قد انطلقت من السيارة، وانقضت عليهم بعنف..
    بمنتهى العنف..
    صاعقة بشرية، اندفعت عبر نافذة السيارة المقلوبة، وبدا وكأنها قد طارت في الهواء، أو أنها تتحرك في أربع اتجاهات في وقت واحد، لتطيح بالقتلة الثلاثة على نحو مدهش، عجز كل الشهود عن وصفه بدقة، في تقارير الشرطة الرسمية..
    كل ما اتفقوا عليه، هو أنه بعد ثانية واحدة، كان هناك رجل وسيم، يقف بين ثلاثة من قائدي الدراجات النارية، الذين فقدوا الوعي، وسيارة مقلوبة، بدأت النيران تشتعل في مؤخرتها بالفعل، وأن ذلك الرجل قد انحنى، والتقط أحد تلك المسدسات، المزودة بكواتم الصوت، قبل أن يهتف بالجميع، بلغة إنجليزية سليمة، ولهجة لندنية دقيقة، جعلتهم يقسمون جميعاً، دون استثناء واحد، على أنه بريطاني الجنسية:
    - ابتعدوا.. ابتعدوا بسرعة.. السيارة ستنفجر.
    وعند هذه النقطة، اختلفت أقوال شهود العيان..
    اثنان فقط، أشارا إلى أنهما قد شاهدا ذلك الرجل، وهو يدور حول السيارة، ويجذب جسد رجل مصاب خارجها، ثم يحمله على كتفيه، وينطلق مبتعداً، في سرعة مدهشة..
    أما الباقين، فلم تزد أقوالهم على أنهم قد ابتعدوا مذعورين، وسمعوا صوت انفجار السيارة خلفهم، وشعروا بوهج انفجارها في ظهورهم، وعندما استداروا لرؤية ما حدث، كان ذلك الرجل قد اختفى بحمله..
    اختفى تماماً..
    أما الشهود الفرعيين، في الشارعين الرئيسيين، اللذين يفصلان السفارة المصرية، عن موقع الحادث، فقد اجتمعوا على أنهم قد شاهدوا ذلك الرجل، وهو يعدو كشخص آلي قوى، حاملاً ذلك المصاب على كتفيه، دون أن يتوقف لحظة واحدة ليلتقط أنفاسه، أو ينتظر وصول سيارة الإسعاف، التي تعالى دوى أبواقها، وهى تشق طريقها إلى موقع الحادث العنيف..

    "هل سينجو؟!.."
    ألقى (أدهم) السؤال، في توتر بالغ، على مسامع الملحق الطبي للسفارة المصرية، والذي انهمك مع فريق طبي خاص، في فحص إصابات (حازم)، قبل أن يجيب:
    - حالته ليست مطمئنة، وسيحتاج إلى جراحة عاجلة حتماً؛ لاستخراج تلك الرصاصة، التي اخترقت قفصه الصدري، أما الأخرى، التي أصابت كتفه اليسرى من الخلف، فيمكنني إخراجها بالإمكانيات المتاحة هنا.
    ثم اعتدل، وعدل منظاره الطبي على أنفه، مضيفاً في حزم:
    - ولكنني لا أنصح بهذا..
    سأله (أدهم) في صرامة عجيبة:
    - وما الذي تنصح به بالضبط؟!.. ما الأفضل بالنسبة له؟!
    أجابه الطبيب، في سرعة وحسم :
    - لابد من نقله فوراً، إلى أقرب مستشفى إلينا؛ فهو فاقد الوعي، وتلك الرصاصة في صدره، قد تؤدى إلى موته في أية لحظة؛ لو لم يتم استخراجها جراحياً، بأقصى سرعة ممكنة.
    شد (أدهم) قامته، وبدا حازماً صارماً، وهو يلتفت إلى الملحق الطبي للسفارة، قائلاً:
    - فلنتخذ كل الإجراءات؛ لنقله إلى المستشفى فوراً.
    هز الملحق العسكري رأسه، قائلاً في توتر:
    - ولكن المستشفى يعنى العديد من الإجراءات الرسمية، وتحقيقات الشرطة، و…
    قاطعه (أدهم) بمنتهى الحزم :
    - سنفعل الأفضل له.
    عاد الملحق العسكري يهز رأسه في قوة، قائلاً:
    - الأفضل له أن نقوم باستدعاء أحد كبار الجراحين إلى هنا، و…
    قاطعه الملحق الطبي في توتر:
    - هذا لن يكفى.. الرجل يحتاج إلى ما هو أكثر من جراح ماهر.. إنه يحتاج إلى إمكانيات للإسعاف والعناية الفائقة، لا يمكن أن تتواجد إلا في مستشفى كبير، يملك إمكانيات طبية كاملة.
    قال الملحق العسكري في عصبية:
    - وماذا لو حاولوا اغتياله مرة أخرى هناك؟!… الشرطة هنا لن تسمح لنا بحمايته، وستصر على أن تتولى المهمة بنفسها، ولا يمكنك الآن أن تثق في أي رجل شرطة بريطاني، و…
    اطعه (أدهم) في حزم :
    - لن يحاولوا اغتياله هناك.
    سأله الملحق العسكري في عصبية :
    - ومن سيمنعهم ؟!
    عقد (أدهم) ساعديه أمام صدره، وهو يقول في صرامة :
    - أنا.
    حدق الكل في وجهه بدهشة بضع لحظات، ثم لم يلبث الملحق العسكري أن وضع يده على كتفه، قائلاً:
    - اسمعني جيداً يا (أدهم).. كلنا هنا نعرف مدى تفوقك وقدراتك، ونعلم الكثير عن تلك التجربة الفريدة، التي قام بها والدك (رحمه الله)، ليصنع منك ما صنعه، ولكنك هنا في أرض أجنبية، ولو حاولت حماية صديقك وحدك، على نحو غير رسمي، سيكون عليك أن تواجه القتلة، والشرطة البريطانية أيضاً، و…
    قاطعه (أدهم) في حزم :
    - اطمئن.. لن أفعل ما يمكن أن يخطر ببالك.
    وصمت لحظة، ثم أضاف في صرامة :
    - أو ببالهم.
    سأله الملحق العسكري في حذر متوتر:
    - ما الذي تعنيه بالضبط؟!
    تطلع (أدهم) في إشفاق إلى وجه زميله (حازم) الشاحب، وربت عليه في رفق، وهو يتنهد في عمق، قبل أن يقول:
    - لن يحاولوا اغتياله.
    سأله الملحق العسكري في توتر أكثر :
    - وما الذي يمكن أن يمنعهم ؟!
    صمت (أدهم) بضع لحظات، ثم قال فى حزم :
    - إنهم سيسعون لاغتيالي أنا.
    نطقها في ثقة عجيبة، جعلت الكل يحدق فيه في ذهول..
    ولكنه بدا أمامهم قوياً..
    صارماً..
    حازماً..
    متماسكاً..
    وواثقاً..
    لذا، فقد ازدرد الملحق العسكري لعابه في صعوبة وتوتر، قبل أن يميل نحوه، ويسأله في خفوت، وكأنما يخشى تحطيم حالة الانبهار، المسيطرة على المكان:
    - وكيف هذا؟!
    التقط (أدهم) نفساً عميقاً، قبل أن يجيبه بمنتهى الحزم:
    - لدى خطة.
    نطقها في ثقة شديدة، وفى اقتضاب شديد، دون أن يضيف أية تفاصيل..
    ودون أن يسأله أحدهم عما يعنيه..
    فقد بدا، في تلك اللحظة، واثقاً وغامضاً..
    إلى أقصى حد.
    ***********************************
    الفصل الرابع "الأوغاد"
    انعقد حاجبا سير (وينسلوت)، زعيم منظمة (هيل آرت)، في صرامة شديدة، وهو ينفث دخان سيجاره الفخم، في وجه قائد حراسه (بيتون)، قائلاً:
    - الفشل يا (بيتون).. الشيء الوحيد الذي أبغضه، في حياتي كلها.
    بدا (بيتون) شديد التوتر، وهو يقول:
    - العملية تم تخطيطها وتنفيذها بمنتهى الدقة يا سير (وينسلوت)، ولكن هناك عوامل خارجية، أفسدت بعض خطواتها، وانتهت بخسارة فرصة اصطياد الفريسة.
    مال سير (وينسلوت) نحوه، ونفث دخان سيجاره مرة أخرى في وجهه، قائلاً :
    - وهذا بالضبط ما أطلق عليه اسم الفشل يا (بيتون)..
    تضاعف توتر (بيتون)، وسير (وينسلوت) يلوح في وجهه بسيجاره الفخم، مستطرداً بنفس الصرامة القاسية:
    - الفشل الحقيقي هو ألا تضع في حساباتك كل الاحتمالات الممكنة.. حتى غير المنطقي منها.. ألا تضع أكثر من خطة، وليس خطة واحدة، بحيث يمكنك أن تنتقل، من واحدة إلى أخرى، إذا ما تغيرت الظروف، أو ظهرت عوامل غير متوقعة.
    قال (بيتون) في عصبية :
    - وهذا بالضبط ما فعلته يا سير (وينسلوت).. لقد وضعت خطة أساسية، وأخرى احتياطية، وتعتمد على اصطياد ركاب الدراجات النارية لهم، لو أنهم أفلتوا من الفخ الأول، ولكن..
    قاطعه سير (وينسلوت) في صرامة :
    - أبغض ما أبغضه هو كلمة (لكن) هذه؛ فهي تعترض دوماً سير الأحداث، وتفسد مجريات الأمور.
    قال (بيتون) في حدة غير مقصودة :
    - ذلك الرجل الآخر لم يكن شخصاً عادياً.
    التقى حاجبا سير (وينسلوت) مرة أخرى، وهو يقول :
    - وكيف هذا؟!..
    بدا (بيتون) شديد الانفعال، على نحو يفوق المألوف، وهو يلوح بذراعيه، قائلاً:
    - أنت تعرفني جيداً يا سير (وينسلوت).. أنا رجل مخابرات قديم ومحترف، وأقود لحسابك فريقاً من أبرع محترفي القتال.. والقتل أيضاً، وعلى الرغم من هذا، فلم أر، في حياتي كلها، من يفوق ذلك الرجل قوة، وسرعة، وبراعة!!.. لقد شاهدت بنفسي فيلماً قصيراً، صوره أحد رجالنا لما حدث، بناءً على أوامري، وكاد قلبي يثب من بين ضلوعي، من فرط دهشتي وانفعالي، وأنا أشاهد الوسيلة، التي تعامل بها مع رجالنا.
    واشتد انفعاله أكثر، وهو يهتف:
    - لقد أسقط ثلاثة من المحترفين، فيما بدا وكأنه ثانية واحدة!!.. إنه ليس رجلاً عادياً بالتأكيد.
    انعقد حاجبا سير (وينسلوت) في دهشة، وهو يتطلع إلى انفعال قائد حراسه، الذي لم يرصد مثله من قبل قط،،على محترف مثله، ثم سأله في برود صارم:
    - وأين ذلك الفيلم؟!
    أجابه (بيتون) في سرعة، وكأنه كان ينتظر هذا السؤال بالتحديد:
    - لقد أحضرته معي يا سير (وينسلوت).
    استغرق الأمر عشر دقائق فحسب، لإعداد الفيلم للعرض، ثم أطفأ (بيتون) أنوار الحجرة، وهو يقول بنفس الانفعال، الذي لم يفارقه بعد:
    - ستشاهده بنفسك يا سير (وينسلوت).
    راح سير (وينسلوت) ينفث دخان سيجاره الفخم في بطء، وهو يستنفر كل بروده الإنجليزي الموروث؛ للسيطرة على انفعاله الجارف، أثناء متابعته ذلك الفيلم القصير جداً، لحادث سيارة (حازم)، ذات اللوحات الديبلوماسية..
    وكدلالة على اهتمامه الشديد، طلب إعادة العرض مرة..
    وثانية..
    وثالثة..
    وفي كل مرة، طالع خلالها الفيلم، كان يحاول عبثاً رؤية وجه (أدهم)، أو تحديد ملامحه، مع حركته فائقة السرعة..
    وأخيراً أدرك أن هذا مستحيل!..
    السرعة التي يتحرك بها (أدهم)، كانت تفوق سرعة آلات التصوير الحديثة، في تلك الفترة، على رصد التفاصيل الدقيقة..
    وفي نهاية العرض الأخير، أشار سير (وينسلوت) إلى قائد حراسه بإشعال الأضواء، قبل أن يقول في برود:
    - أرسل هذا الفيلم إلى معاملنا الخاصة.. أريد طبع صور مكبرة، لكل ما يحويه من تفاصيل، لوجه ذلك الرجل، الذي أفسد عمليتكم.
    قال (بيتون) في سرعة:
    - فوراً يا سير (وينسلوت).
    تراجع سير (وينسلوت) في مقعده، وهو يقول في صرامة:
    - هل تعلم شيئاً، عن مصير الرجل الآخر؟!.. أعنى رجل المخابرات المصري، الذي فشلت خطة اغتياله.. لقد حمله زميله الفائق على كتفيه، وانطلق يجرى به نحو سفارتهما، كما يوضح فيلمك، ولكنكم لا تعرفون ما إذا كان قد نجا تماماً، أم..
    قبل أن يتم عبارته، اندفع (بيتون) يقول في انفعال:
    - لقد تم نقله إلى المستشفى؛ لإسعافه من طلق ناري في صدره.
    اعتدل سير (وينسلوت)، وهو يسأله في اهتمام:
    - أي مستشفى؟!
    أجابه في سرعة:
    - (لندن كلينيك).
    تراجع سير (وينسلوت) في مقعده الوثير، ونفث دخان سيجاره في بطء وعمق، وهو يقول:
    - عظيم.. هذا يمنحكم فرصة ثانية إذن.
    شد (بيتون) قامته، في وقفة عسكرية غريزية، وهو يقول، في اهتمام منفعل:
    - هل نقوم بمحاولة أخرى لاغتياله هناك؟!
    قال سير (وينسلوت) في صرامة:
    - وهل يحتاج هذا إلى سؤال؟!.
    أجابه (بيتون) في حماس:
    - كلا.. كلا بالتأكيد يا سير (وينسلوت).
    قالها، واندفع لتنفيذ الأمر، فاستوقفه سير (وينسلوت)، قائلاً بمنتهى الحزم والصرامة:
    - (بيتون).. لا أريد أية أخطاء هذه المرة.
    أومأ (بيتون) برأسه في توتر، قائلاً:
    - بالتأكيد يا سير (وينسلوت).. بالتأكيد.
    قالها (بيتون)، وغادر المكان في سرعة، ولم يكد يفعل، حتى قلب سير (وينسلوت) شفتيه، مغمغماً:
    - يا للغباء!.. لماذا يرفض العباقرة دوماً، العمل في مجالات الأمن والحراسة؟!
    نفث دخان سيجاره في عمق، وهو يراجع تفاصيل الموقف في ذهنه، و…
    وفجأة، ارتفع رنين هاتفه الخاص..
    الخاص جداً..
    وفي دهشة قلقة، التفت سير (وينسلوت) إلى هاتفه الخاص، وهو يتمتم:
    - عجباً!.. المفترض أن هذا الهاتف سرى للغاية.
    كان الهاتف خاصاً وسرياً بالفعل، حتى أنه لم يكن مسجلاً باسم سير (وينسلوت)، أو يحمل الأرقام المعتادة للمنطقة، لذا فقد شعر زعيم منظمة (هيل آرت) بقلق وتوتر حقيقيين، وهو يلتقط سماعته في حذر، ويضعها على أذنه، قائلاً، وهو يبذل قصارى جهده؛ لتغيير صوته الطبيعي:
    - من المتحدث؟!
    فوجئ بصوت هادى من الجانب الآخر، يجيب في لهجة حملت لمحة من الخبث:
    - سير (وينسلوت).. دولتي كلفتني الاتصال بك فوراً؛ للتفاوض بشأن ما لديك؟!
    انعقد حاجبا سير (وينسلوت) بشدة، وهو يقول بحذر أكثر:
    - دولتك؟!
    أجابه صاحب الصوت الهادئ الخبيث في سرعة:
    - نعم.. دولتي.. (إسرائيل) يا سير (وينسلوت).
    صمت سير (وينسلوت) لحظة، قبل أن يقول بصوت هادئ، أخفى تماماً ذلك القلق، الذي يعتمل في أعماقه:
    - آه.. الآن فقط فهمت، لماذا استخدمتم هذا الرقم الخاص، بدلاً من الاتصال عبر هاتفي التقليدي.. إنها رسالة من جهاز مخابراتكم.. أليس كذلك؟!
    أجابه صاحب الصوت الهادئ، في خبث أكثر:
    - لو أنها رسالة، فهي دليل على الصداقة القوية، والتعاون المثمر، بين دولتنا ومنظمتك.
    كاد سير (وينسلوت) يجيبه بعبارة قاسية صارمة، إلا أنه صمت لحظة، ثم قال ببروده الإنجليزي الشهير:
    - بالتأكيد.
    التقط صاحب الصوت الخيط، وقال في احترام مدروس:
    - كل ما أطلبه هو موعد للقاء؛ لنناقش طلباتك واقتراحاتك، بشأن الصفقة التي سنعقدها معاً، يا سير (وينسلوت).
    صمت سير (وينسلوت) بضع لحظات أخرى، نفث خلالها دخان سيجاره في بطء، قبل أن يقول:
    - إنك تتحدث من (لندن) يا سيد…
    أجابه الرجل في سرعة :
    - (جراهام) يا سير (وينسلوت).. (دافيد جراهام).
    سأله سير (وينسلوت) في صرامة:
    - وكيف وصلت بهذه السرعة يا سيد (جراهام)، من (تل أبيب) إلى (لندن)؟!
    أجابه (جراهام) في احترام مفتعل:
    - لم آت من الوطن يا سير (وينسلوت).. من الواضح أن ما لديك يهم رؤسائي جداً، فقد أجروا اتصالاً مباشراً معي من (تل أبيب)، وطلبوا من التوجه من (باريس) إلى هنا، لألتقي بك مباشرة، في أسرع وقت ممكن، كما منحوني كل الصلاحيات اللازمة للتفاوض، وإتمام الصفقة على نحو مرض.
    مط (وينسلوت) شفتيه، وقال:
    - فليكن.. يمكننا أن نلتقي خلال ساعة واحدة.
    قال (جراهام) في سرعة:
    - وماذا عن الآن؟!
    انعقد حاجبا سير (وينسلوت)، وهو يقول مستنكراً:
    - الآن؟!
    أجابه (جراهام) بنفس السرعة، وكأنما يحاول ألا يمنحه فرصة للتفكير:
    - ولم لا يا سير (وينسلوت)؟!.. الصفقات الضخمة تحتاج إلى عدم إضاعة لحظة واحدة، ثم أننى أتحدث إليك من هاتف سيارة، أقودها في الطريق إلى قصرك مباشرة، وسأصل إليه خلال خمس دقائق لا أكثر.
    ازداد انعقاد حاجبي سير (وينسلوت)، وهو يقول في صرامة:
    - أسلوبكم هذا لا يروق لي.
    __________________

    أجاب (جراهام)، بسرعته المعهودة:
    - وربما لا يروق لنا أسلوبك أيضاً يا سير (وينسلوت)، ولكن هذا لا يهم… المهم أن نتفق في النهاية، على أسلوب يرضينا معاً.
    نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره، وهو يقول في بطء حذر:
    - ولم؟!.. إنها مجرد صفقة!
    خيل إليه أن أسلاك الهاتف قد نقلت إليه ابتسامة (جراهام) الساخرة، والتي لم تبد في لهجة ذلك الأخير، وهو يقول:
    - لو أن الأمر مجرد صفقة، لأعلنت رقماً بكل بساطة، قبل أن تطلب مقابلة مفاوض أعلى شأناً… كلا يا سير (وينسلوت).. الواقع أنك تنشد نفس ما ننشده، من خلال اتصالنا بك..
    وقسا صوته، على نحو مخيف، وهو يضيف:
    - أن نغير معاً وجه العالم.. وإلى الأبد.
    ولم ينبس سير (وينسلوت) ببنت شفة..
    فالواقع أن (جراهام) هذا كان على حق..
    على حق تماماً..
    لم تكد سيارة فريق (بيتون) تتوقف، أمام مستشفى (لندن كلينيك) الشهير، في قلب العاصمة البريطانية، حتى غادرها هذا الأخير، في معطفه الأنيق، وتبعه اثنان من رجاله إلى داخل المكان، وهو يسأل أحدهما في صرامة:
    - أأنت واثق من أن حجرته في الطابق الثاني؟!
    أجابه الرجل، في سرعة وحزم:
    - رقمها (تسعة - بي) أيها القائد، والأطباء يستعدون لإجراء جراحة طوارئ له الآن، أما الشرطة، فقد راق المبلغ الذي دفعناه لرئيسها، وقرر ألا يبدأ تحقيقاته، إلا صباح الغد، عندما يستعيد المصاب المصري وعيه، عقب العملية الجراحية.
    تساءل (بيتون)، وهو يتجه نحو المصعد:
    - وماذا عن طاقم أمن السفارة المصرية؟!.. هل يقوم بعضهم بحراسته هنا؟!
    أجاب الرجل الآخر:
    - رئيس الشرطة منعهم من هذا أيضاً، وأخبرهم أن صلاحياتهم تنتهي عند باب سفارتهم، وفقاً للقوانين والقواعد الدولية*، وأنه سيؤمن الحراسة اللازمة لرجلهم المصاب.
    غمغم (بيتون)، والمصعد يحملهم إلى الطابق الثاني:
    - عظيم.
    --------------------------------------------------------------------------------
    * معلومة صحيحة.
    ************************************************
    لم يتبادلوا كلمة واحدة إضافية، حتى بلغ بهم المصعد الطابق الثاني، فاتجهوا مباشرة نحو الحجرة المنشودة، والتي اختفى الشرطي الذي يقوم على حراستها بوسيلة ما، وترك خلفه مقعداً خالياً، واستوقف (بيتون) ممرضة تهم بدخولها، وهو يقول في صرامة:
    - فيما بعد… نريد أن نستجوب المصاب أولاً.
    حاولت الممرضة أن تعترض، قائلة:
    - ولكن الأطباء المعالجين أكدوا أن…
    قاطعها أحد الرجلين، وهو يقول في خشونة قاسية:
    - قلنا: فيما بعد.
    تراجعت الممرضة في توتر غاضب، في حين أشار (بيتون) إلى أحد الرجلين، قائلاً:
    - ابق هنا؛ لمنع أي مخلوق من الدخول، حتى نتم المهمة، ونرحل جميعاً من هنا بسرعة.
    شد الرجل قامته، وهو يقف أمام الباب في صرامة، في حين سحب (بيتون) والآخر مسدسيهما في تحفز، وهما يخفياهما بجسديهما عن العاملين بالمكان، ودفع (بيتون) باب الحجرة بقدمه، واندفع مع الرجل الآخر داخلها، وأطلق كلاهما عدة رصاصات صامتة، نحو رأس وجسد ذلك الشخص، الراقد على الفراش الطبي في منتصفها، والمحاط بعدد من أجهزة العناية الفائقة..
    كان تصويبهما دقيقاً وصائباً، شأن أي محترف في هذا المضمار، إلا أن صوت ارتطام الرصاصات بدا عجيباً في أذنيهما، وأشبه بصوت ارتطامها بلوح من الخشب، منه بجسد حي، و…
    "مفاجأة..".
    نطق (أدهم) الكلمة، في سخرية واضحة، وهو يبرز من خلف باب الحجرة بغتة، ويركل المسدس من يد (بيتون)، ثم يدور في سرعة ورشاقة، ليلكم الرجل الآخر في فكه، لكمة بدت أشبه بالقنبلة، وهى تنتزع قدمي الرجل من الأرض، وتدفعهما معه لمترين كاملين، تجاوز بهما الباب المفتوح، وعبر ممر قسم العناية الفائقة، ليرتطم بالجدار المقابل في عنف، أمام عيني زميله، وجميع العاملين في القسم..
    وانطلقت صرخة ارتياع، من بين شفتي إحدى الممرضات، في نفس اللحظة التي سحب فيها الرجل الآخر مسدسه، المزود بكاتم للصوت، واندفع داخل الحجرة، وهو يطلق زمجرة وحشية..
    ولكن (أدهم) ركل الباب بكل قوته، فارتطم بوجه الرجل في عنف، ودفعه إلى الخلف في قوة، في نفس الوقت الذي سحب فيه (بيتون) خنجراً ماضياً من حزامه، وهو يهتف في غضب:
    - إذن فهو فخ.
    أجابه (أدهم) في سخرية، وهو يلتفت إليه في تحفز:
    - وأنت سقطت فيه كالغر الساذج أيها الوغد.
    لم يكد ينطقها، حتى أطلق الرجل في الخارج، عدة رصاصات نحو رتاج باب الحجرة، فانتزعه من مكانه، قبل أن يقتحم الحجرة بمنتهى العنف..
    وفي سرعة وقوة ورشاقة، استقبله (أدهم) بلكمة ساحقة، في أنفه مباشرة، قائلاً:
    - كان ينبغي أن تقرع الباب أيها الحقير.
    تفجرت الدماء من أنف الرجل، وهو يتراجع في عنف، إلا أن جسده القوى ساعده على التماسك، فلم يسقط أرضاً، وإما رفع مسدسه مرة أخرى نحو (أدهم)، وهو يصرخ في وحشة:
    - أيها الـ…
    وقبل أن يكملها، ارتفع جسد (أدهم) في الهواء، وطار نحوه، في مرونة مذهلة، ليركله في فكه ركلة عنيفة، طار معها جسد الرجل بدوره، وارتطم بزميله، الذي كان يهم بالنهوض، فسقط كلاهما أرضاً، فاقدي الوعي..
    وقبل حتى أن تعود قدما (أدهم) إلى الأرض، كان (بيتون) يندفع نحوه بخنجره، صارخاً في شراسة:
    - مت أيها المصري.. مت.
    كان بارعاً للغاية في استخدام خنجره، شأن أي محترف..
    وكانت يده تعرف هدفها، وتتجه نحو قلب (أدهم) مباشرة..
    ولكن فجأة، وقبل أن يبلغ نصل الخنجر هدفه، قبضت أصابع (أدهم) الفولاذية على معصم (بيتون) ولوته في قوة عجز هذا الأخير عن احتمالها، فانفتحت أصابعه، وسقط الخنجر من يده، و انغرس أرضاً ، بين قدمي (أدهم)، الذي تطلع إلى عينيه مباشرة، وهو يقول في صرامة قاسية، كافية لتجميد الدماء في العروق:
    - أنت تنتمي إلى منظمة (هيل آرت).. أليس كذلك؟!..
    صاح (بيتون)، في ألم غاضب:
    - اترك معصمي، وإلا.
    لوى (أدهم) معصمه أكثر، حتى أجبره على السقوط على ركبتيه أمامه، وهو يقول:
    - وإلا ماذا أيها الوغد.
    صاح (بيتون)، وقد امتزج ألمه بوحشية قاسية غاضبة:
    - وإلا فسينسف الفريق الاحتياطي من رجالي هذا المستشفى، بكل ما فيه، ومن فيه.
    قال (أدهم) في صرامة:
    - إنك لن تجرؤ.
    صاح (بيتون)، وقد بلغ ألمه وغضبه مبلغهما:
    - جربني.
    لم يكن (أدهم) يعلم شيئاً، حتى تلك اللحظة، عن منظمة (هيل آرت)، أو عن طبيعتها وطبيعة رجالها وقياداتها، إلا أن شيئاً ما في أعماقه، أنبأه أن (بيتون) صادق تماماً في قوله، فترك معصمه، وانحنى يجذبه من ياقتي معطفه، ويجبره على الوقوف، ثم دفعه نحو النافذة، وهو يقول، متطلعاً إلى عينيه مباشرة، بنظرة صارمة قاسية:
    - اسمعني جيداً يا هذا.. لست أدرى موقعك في تلك المنظمة الحقيرة بالضبط، ولكنني أريد أن تبلغ زعيمها رسالة قصيرة، ينبغي أن تحفظها عن ظهر قلب.
    ومال نحوه، في صرامة أشد، مستطرداً:
    - أخبره أنه قد تجاوز حدوده، عندما حاول اغتيال زميلي، وأنه سيدفع ثمن هذا غالياً.. غالياً جداً.
    ثم استنفر كل غضبه وعضلاته، ورفعه من ياقتي معطفه، مضيفاً في قسوة:
    - والآن، انصرف من هنا.
    قالها، ودفع (بيتون) نحو النافذة الزجاجية، بكل ما يملك من قوة، فارتطم بها الرجل في عنف، وحطمها بدوى شديد، وسقط منها، وهو يطلق صرخة رعب، ولكن جسده ارتطم بمظلة واقية كبيرة، عند نافذة الطابق الأول، فتدحرج فوقها لحظة، قبل أن يسقط مرة أخرى، فوق سقف إحدى السيارات الطبية، عند الطابق الأرضي..
    وبكل ثورته، صرخ (بيتون):
    - لن تفلت بهذا.
    في نفس اللحظة، التي أطلق فيها صرخته، كان رجال أمن المستشفى يندفعون داخل تلك الحجرة، التي دار فيها القتال، ثم يتوقفون في دهشة حائرة..
    فباستثناء الرجلين، الفاقدي الوعي في الممر، كانت الحجرة خالية من أي بشر..
    خالية تماماً..
    ******************************************

  2. #2
    التسجيل
    24-07-2006
    المشاركات
    150

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    هذي تكملة الرواية
    الفصل الخامس "التحدي

    ارتسمت ابتسامة خبيثة كبيرة، على شفتي الإسرائيلي (دافيد جراهام)، وهو ينحني انحناءة منافقة
    مصطنعة، أمام سير (وينسلوت)، قبل أن يصافحه، قائلاً في احترام، تفوح منه رائحة الدهاء:
    - إنه لشرف كبير أن ألتقي بك شخصياً، يا سير (وينسلوت)؛ فأنت أحد البريطانيين المحترمين، الذين قدموا خدماتهم الجليلة، على نحو أو آخر، لحكومة (إسرائيل).
    لم يبال سير (وينسلوت) كثيراً، بهذه العبارات المعسولة، وهو يشير إلى مقعد بعيد، قائلاً:
    - اجلس يا مستر (جراهام)، وأخبرني ماذا لديك ولدى حكومتك، بشأن عرضي الخاص.
    جلس (جراهام) في هدوء، وهو يقول:
    - حكومتي وأنا نقدم لك خالص تحياتنا، وشكرنا وتقديرنا أيضاً يا سير (وينسلوت)، ونتعشم أن يكون لقاؤنا هذا مجرد بداية، لتعاون طويل ومثمر بيننا وبين..
    قاطعه سير (وينسلوت) في برود:
    - كم ستدفعون، مقابل الوثائق الأمريكية يا مستر (جراهام)؟!
    استرخى (جراهام) في مقعده، وهو يقول:
    - كل ما تطلبه يا سير (وينسلوت).. لن نختلف لحظة واحدة؛ فكما أخبرتك.. إنها مجرد بداية.
    نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره، في بطء وهدوء، وهو يتراجع في مقعده، ويتطلع إلى (جراهام) في عمق، وكأنما يحاول سبر أغواره، قبل أن يقول في هدوء:
    - أريد عشرة ملايين دولار.. عداً ونقداً.. لست أتعامل بالشيكات.. حتى الحكومية منها.
    لوح (جراهام) بيده، قائلاً:
    - حدد فقط أين ومتى ترغب في تسلم المبلغ.
    قال سير (وينسلوت) في حذر:
    - هكذا.. بكل بساطة؟!..
    أومأ (جراهام) برأسه، مجيباً:
    - نعم.. هكذا، وبكل بساطة يا سير (وينسلوت).
    مال (وينسلوت) إلى الأمام، وهو يقول، في شيء من الصرامة:
    - ودون أن تلقى نظرة واحدة، على ما تحويه تلك الوثائق.
    بدت ابتسامة (جراهام) مفعمة بالخبث والدهاء، وهو يقول:
    - نحن نعرف ما تحويه، ونريدها بشدة.
    ثم اعتدل في مقعده، وأضاف بلهجة ذات مغزى خاص:
    - ونريد ما هو أكثر منها أيضاً.
    رمقه سير (وينسلوت) بنظرة حذرة أخرى، قبل أن يسأله:
    - مثل ماذا؟!
    عاد (جراهام) يتراجع في مقعده، وشبك أصابع كفيه أمام وجهه، وهو يجيب:
    - كل ما يتعلق بالعلاقات المصرية الأمريكية مثلاً، بالإضافة إلى كل ما يمكنك الحصول عليه، من أسرار المصريين.
    نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره، وهو يقول، ولهجته تحمل لمحة من السخرية:
    - كنت أظن أن اتفاقية السلام، التي وقعتموها مع المصريين مؤخراً، ستنهى حالة العداء الطويل، بينكم وبينهم.
    بذل (جراهام) جهداً حقيقياً، ليخفى انفعالاته هذه المرة، وهو يقول:
    - خبراؤنا يقولون: إن المصريين لن يتوقفوا أبداً عن اعتبارنا أعداءً لهم، حتى ولو وقعنا معهم ألف اتفاقية سلام.
    أشار سير (وينسلوت) بيده، قائلاً:
    - ربما لأنكم كذلك بالفعل.
    صمت (جراهام) طويلاً، وكأنما يزن كلماته جيداً، قبل أن يجيب في بطء:
    - ليس بصفة رسمية.
    ابتسم سير (وينسلوت)، وهو يقول:
    - بالضبط.
    ثم أشار بيده، وهو ينفث دخان سيجاره الفخم، مستطرداً:
    - الآن، وبعد هذه المصارحة، يمكننا أن نبدأ حديثنا، حول تعاملاتنا المستقبلية يا مستر (جراهام).
    اتسعت ابتسامة (جراهام)، وهو يقول:
    - بكل تأكيد يا سير (وينسلوت).. بكل تأكيد.
    وكانت هذه هي البداية..
    بداية تآزر قوى الشر..
    على المستوى العالمي.
    لم يشعر قائد الحرس (بيتون)، في حياته كلها بالسخط والغضب، مثلما شعر بهما، وهو يجلس وسط من تبقى من رجاله، في السيارة الكبيرة، التي تنطلق بهم، عائدة إلى قصر سير (وينسلوت)..
    لم يكن من العسير عليه - كمحترف - أن يدرك طبيعة الخدعة، التي قام بها المصريون، عندما نقلوا رجلهم علانية إلى مستشفى (لندن كلينيك)، ثم عادوا ينقلونه سراً إلى مكان آخر، تاركين الآخر خلفهم، متظاهراً بأنه الأول، على نحو أو آخر..
    أما تلك الدمية الخشبية، التي أطلق عليها ورجله النار، فهي الجزء الأبسط والأسخف من اللعبة كلها..
    إلا أنه لا يستطيع أبداً نسيان تلك الكلمات الصارمة، التي قذفها المصري الآخر في وجهه، قبل أن يلقى به من نافذة الطابق الثاني، على هذا النحو المهين..
    وهو لن يغفر له هذا أبداً..
    ولن ينساه قط..
    ربما فشلت محاولته الثانية؛ لاغتيال المصري الأول، إلا أن هذا لا يعنى أن العملية كلها قد فشلت..
    إنه لن يتوقف، قبل أن يظفر بهما معاً..
    المصري الأول، والثاني..
    وبالذات الثاني..
    لن يهدأ له بال، قبل أن يظفر به..
    وبأي ثمن..
    - "هناك سيارة تتبعنا.."..
    نطلق السائق العبارة في توتر، فانتزعه من أفكار بحدة، جعلته يعتدل في مجلسه، ويدير رأسه في سرعة؛ ليلقى نظرة على تلك السيارة الصغيرة، التي تنطلق خلف سيارتهم الكبيرة، منذ غادروا (لندن) إلى ضواحيها، وقال في صرامة:
    - اخفض سرعتك، واسمح لها بتجاوزك.
    ضغط السائق فرامل سيارته بالفعل، في حين تحفّز الكل داخلها، وأمسكوا مقابض مسدساتهم، استعداداً لإطلاق النار، عند أية لمحة شك، ولكن تلك السيارة الصغيرة واصلت طريقها، وعبرت إلى جوارهم، على نحو سمح لهم جميعاً برؤية ذلك الشيخ ذي اللحية البيضاء الكثة، الذي يقودها في تثاقل، وهو يتجاوزهم، ويكمل رحلته في بساطة..
    وفى سخرية عصبية، أعاد (بيتون) مسدسه إلى غمده، قائلاً:
    - إنه مجرد شيخ أخرق.
    قال رجل آخر في ارتياح:
    - المفترض ألا يمنحوا من في مثل عمره رخصة قيادة.
    بدا وكأنهم كانوا يحتاجون إلى ما يصرف أذهانهم عن ذلك الفشل الذريع في المستشفى، فقد راحوا يتحدثون عن ذلك الشيخ، الذي اختفت سيارته في الأفق، كما لو كان موضوع الساعة..
    ثم انحرفت سيارتهم في ذلك الطريق الفرعي الخاص، الذي يقود إلى قصر سير (وينسلوت) مباشرة..
    وهنا.. هنا فقط عاد (بيتون) إلى صمته، وهو يفكر في رد فعل زعيم المنظمة، على ذلك الفشل الثاني، خاصة وأن الخطة كلها قد فشلت بسبب رجل واحد..
    رجل مصري..
    الشيء الذي لم يدركه (بيتون) لحظتها، أو حتى يتصوره، هو أن ذلك الشيخ ذا اللحية البيضاء كان يقف بسيارته، فوق تبة قريبة، ويتابع حركة سيارتهم الكبيرة بمنظار مقرب قوى..
    وعندما انحرفوا في طريق قصر سير (وينسلوت) الخاص، غمغم ذلك الشيخ، في صوت أكثر حيوية وشباباً من ملامحه الزائفة:
    - آه.. إذن فهذا هو المكان، الذي يذهبون إليه، بعد أن تفشل عملياتهم.. عظيم.. ها هي ذي معلومة جديدة، تضاف إلى ملف (هيل آرت) في ذهني.
    قالها، وعقله يرتب الموقف كله، ويضع النقاط على الحروف، مع تفاصيل خطته الجديدة..
    خطته غير التقليدية..
    على الإطلاق..
    "خطأ.. ما يفعله ذلك الرائد لا يتناسب قط، مع نظم وقواعد العمل، في أي جهاز مخابرات في العالم.."..
    بدا السفير المصري في (لندن) شديد العصبية، وهو يهتف بهذه الكلمات الغاضبة، في حديثه الهاتفي، مع مدير المخابرات العامة المصرية، الذي قال في هدوء ورصانة:
    - أنت تعلم جيداً أن الرائد (أدهم) لم يكن يقوم بمهمة رسمية، عندما وصل إلى (لندن)، ولكن الأمور سارت على نحو يحتم عليه التدخل.
    هتف السفير في حدة:
    - دون أوامر مباشرة منكم؟!
    اعتدل المدير على مقعده، وقال في حزم:
    - سيادة السفير.. أنت أيضاً رجل مخابرات سابق، وتعلم جيداً أن (أدهم صبري) رجل من طراز خاص، تدرب جيداً على مواجهة المواقف المفاجئة، والتعامل معها على نحو مناسب، ودون انتظار أوامر مسبقة.
    قال السفير في عصبية :
    - ولكنه أشعل (لندن) كلها، بقتال عنيف في أكبر شوارعها، كما أثار الفزع في أشهر مستشفى بها، والسلطات هنا غاضبة للغاية، وتطالبني بتفسير رسمي، وإلا اتخذت كافة الإجراءات القانونية والديبلوماسية.
    صمت المدير بضع لحظات، ثم قال في حزم صارم:
    - أخبرهم رسمياً، أن (أدهم) ليس مصرياً.
    هتف السفير، بكل دهشة الدنيا:
    - ليس ماذا؟!
    قال المدير، في سرعة وصرامة:
    - وفقاً لما وصلنا من معلومات، أقسم الشهود كلهم أن ذلك الشخص، الذي أنقذ (حازم)، كان بريطاني الجنسية، بل وأنه من سكان العاصمة على الأرجح.. انضم أنت أيضاً إلى أقوال الشهود، وواصل إصرارك رسمياً على أنه ليس مصرياً.
    تردد السفير بضع لحظات، قبل أن يقول:
    - وماذا لو كشفوا الأمر؟!
    أجابه المدير بمنتهى الحزم:
    - لكي يفعلوا هذا، لابد وأن يضعوا أيديهم على (أدهم) أولاً.
    وصمت لحظة، قبل أن يضيف:
    - ولو أردت رأيي، فهذا مستحيل!
    صمت السفير بضع لحظات أخرى، وهو يدير الأمر في رأسه، قبل أن يتنهد، قائلاً في استسلام:
    - على بركة الله.
    أنهى مدير المخابرات المحادثة، وتراجع في مقعده، واستغرق في التفكير بضع لحظات، قبل أن يستدعى إليه نائبه، الذي لم يكد يصل إلى مكتبه، حتى بادره، قائلاً:
    - هل تم تحديد موقع الرائد (أدهم) بعد؟!
    أشار نائبه بيده، قائلاً:
    - ليس بعد يا سيدي.. آخر ما تلقيناه من الرائد (أدهم)، هو أنه سيواصل مهمة الرائد (حازم)، وفقاً للقواعد، وأنه سيعمل على حمايته، حتى يصل إلى (القاهرة).
    هز المدير رأسه، قبل أن يقول:
    - إذن فنحن نجهل موقعه الحالي بالضبط.
    قال النائب في سرعة:
    - سيبلغنا، عندما تتاح له الفرصة بإذن الله يا سيدي.
    هز المدير رأسه مرة أخرى، وهو يفكر في عمق، ثم تساءل في اهتمام:
    - وماذا عن الرائد (حازم)؟!
    أشار النائب إلى ورقة في يده، قائلاً:
    - لقد أجريت له عملية جراحية ناجحة، في مستشفى صغير في ضاحية (ويستمينستر)، تحت اسم مستعار، وطاقم كامل من الأمن يعمل على حمايته هناك، بأوامر من الرائد (أدهم)، وستتم إعادته إلى (القاهرة)، عندما يستعيد وعيه، على متن طائرة طبية خاصة.
    تنهد المدير، وهو يقول:
    - عظيم.. تتبقى لدينا إذن مشكلة الرائد (أدهم).
    أشار النائب بيده، وهو يقول:
    - ولماذا تعتبرها مشكلة يا سيدي.. الرائد (أدهم) هو أفضل رجالنا على الإطلاق، وليس لدى من شك، في أنه سيجيد التعامل مع الموقف، مهما بلغت تعقيداته، و…
    قاطعه المدير بمنتهى الحزم:
    - خطأ.
    ثم تراجع في مقعده، وانعقد حاجباه في شدة، وهو يضيف في صرامة:
    - لقد تسرع الرائد (أدهم)، وانطلق خلف خصم قوى عنيف، مثل منظمة (هيل آرت)، وهو يفتقر إلى أقوى سلاح، في مواجهة أي خصم.
    واعتدل مرة أخرى، مكملاً:
    - المعلومات.
    وكان على حق تماماً، في قوله هذا..
    فالمواجهة مع خصم، أي خصم، دون معلومات كافية عنه، تجعل المقاتل أشبه بأعمى، في حجرة مظلمة، يواجه عدوّاً مبصراً ، يمتلك منظاراً للرؤية الليلية..
    وهذا أخطر نوع من المواجهات..
    على كل المستويات..
    مع فرط انفعاله وتوتره، تجاوز (بيتون) كل القواعد، واقتحم حجرة مكتب زعيمه سير (وينسلوت)، وهو يهتف في عصبية:
    - لقد كان فخاً أيها الزعيم، و…
    بتر عبارته دفعه واحدة، مع النظرة الغاضبة الصارمة، التي التفت بها إليه سير (وينسلوت)، وسرت في جسده كله ارتعادة باردة كالثلج، مع خفقات قلبه العنيفة، عندما رصدت عيناه ذلك الضيف، الذي يجلس في الجانب الآخر للحجرة، والذي التفت إليه بدوره، بمنتهى الفضول والتساؤل، فى حين قال سير (وينسلوت) في قسوة:
    - غبي.. أحمق وغبي.
    ارتجف صوت (بيتون) على الرغم من جسده الضخم القوى، وهو يقول:
    - معذرة يا سيدي.. لم أكن أعلم أن..
    قاطعه (دافيد جراهام)، وهوة يهب من مقعده، ويتجه نحوه بخطوات سريعة، ماداً يده إليه، وهو يقول بابتسامة متزلّفة كبيرة:
    - لا تجعل هذا يقلقك يا مستر (بيتون).. لست مجرد ضيف غريب.. أنا حليف لكم بالفعل.. دعني أقدم نفسي.. (دافيد جراهام)، المبعوث الرسمي من…
    قاطعه (بيتون) في عصبية، متجاهلاً يده الممدودة إليه:
    - هل سبق أن تعارفنا؟!
    حافظ (جراهام) على ابتسامته، وهو يعيد يده إلى جانبه، قائلاً:
    - إننا لم نلتق من قبل، ولكنني أعرفك جيداً.
    ثم غمز بعينه، مضيفاً في خبث:
    - وأعرف تاريخك كله يا مستر (بيتون).

    انعقد حاجبا (بيتون) في شدة، وتضاعف التوتر العنيف في أعماقه، في حين راح سير (وينسلوت) يدرس الأمر كله في رأسه بسرعة، قبل أن يقول في برود، لم يخل من لمحة صارمة:
    - ماذا حدث بالضبط يا (بيتون)؟!
    تطلع (بيتون) إلى وجه (جراهام) الباسم، في توتر متردد، فقال سير (وينسلوت) في صرامة:
    - ألم تسمع ما قاله الرجل؟!.. إنه حليف لنا الآن.
    لم يرق هذا الأمر كثيراً لقائد الحرس؛ لأن ملامح (جراهام) لم تكن توحي قط بالارتياح أو الثقة، إلا أنه أطاع أمر زعيمه، وقال في توتر:
    - لقد أعدوا لنا فخاً، في (لندن كلينيك)، و…
    راح يروى كل ما حدث، في توتر ملحوظ، وكأنما يستعيد انفعالات الموقف نفسه، وسير (وينسلوت) و(جراهام) يستمعان إليه في اهتمام وانتباه، ولم يكد ينتهي من روايته، حتى اعتدل (جراهام)، قائلاً في صرامة قاسية، لا تتناسب قط مع ما بدا عليه، منذ حضوره إلى القصر:
    - وهل أتيتم من هناك إلى هنا مباشرة؟!
    تضاعف توتر (بيتون)، وهو يسأله:
    - وماذا في هذا؟!
    صاح سير (وينسلوت) هذه المرة:
    - غبي..
    ثم نهض من مقعده الوثير، مستطرداً في غضب:
    - الفخ الحقيقي هو ما وقعت فيه كالأحمق، عندما غادرت (لندن كلينيك) غاضباً، وأتيت إلى هنا مباشرة.
    وأضاف (جراهام) في صرامة:
    - أكاد أقسم أن ذلك المصري كان يعلم بوجود تلك المظلة الواقية، عندما ألقاك من الطابق الثاني؛ لأنه لم يرغب قط في قتلك، وإنما في إهانتك، وإثارة غضبك إلى أقصى حد، حتى تفقد عقلك، وقدرتك على التفكير، وتقوده مباشرة إلى هنا.
    لم يرق تدخل (جراهام) لقائد الحرس، الذي قال في حدة:
    - ومن أدراك؟!
    أجابه (جراهام) في صرامة:
    - أنا محترف.
    هتف (بيتون):
    - وأنا أيضاً.
    أجابه سير (وينسلوت) هذه المرة، في صرامة غاضة، تجاوزت بروده الإنجليزي المعهود:
    - هذا لا يبدو واضحاً.
    احتقن وجه (بيتون) في شدة، واحتبست كلماته الغاضبة في حلقه، في حين التفت (جراهام) إلى سير (وينسلوت)، قائلاً:
    - لديك هنا نظام أمنى قوى.. أليس كذلك؟!
    رمقه سير (وينسلوت) بنظرة قاسية، قبل أن يدير عينيه إلى (بيتون) قائلاً:
    - ارفع درجة استعدادات الطوارئ للحد الأقصى، بالنسبة لكل نظم الأمن هنا، واخرج كلاب الحراسة إلى الحديقة، ومر الجميع بإطلاق النار مباشرة، على أي جسم متحرك، عند أول بادرة للشك، ولا تنس إطلاق التيار الكهربي القوى في الأسوار، وتشغيل كل أجهزة الرصد، وإضاءة الحديقة بالمصابيح القوية طوال الوقت.. لا أريد ترك ثغرة تكفى لعبور بعوضة صغيرة.. هل تفهم؟!
    غمغم (بيتون) في توتر:
    - بالتأكيد يا سير (وينسلوت)… بالتأكيد.
    أضاف (جراهام)، في لهجة آمرة، لا تتناسب مع طبيعة موقفه:
    - ولا تنسوا الطريق الخاص، الذي يقود إلى هنا.. ضع فريقاً من رجال الحراسة هناك أيضاً.
    انعقد حاجبا يسر (وينسلوت) في ضيق، في حين بدت دهشة مستنكرة على وجه (بيتون)، وهو يهتف:
    - سير (وينسلوت)!!
    نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره في قوة، قبل أن يقول في صرامة:
    - ربما لا يحق لحليفنا إصدار الأوامر هنا، ولكن اقتراحه منطقي ومقبول، ويضمن لنا الحد الأقصى من الأمن أيضاً.
    أومأ (بيتون) برأسه، قائلاً:
    - فهمت يا سير (وينسلوت).
    قالها، واندفع لتنفيذ الأوامر، في حين ابتسم (جراهام) ابتسامته اللزجة الممقوتة، وهو يلتفت إلى سير (وينسلوت)، قائلاً:
    - معذرة يا سير (وينسلوت).. ربما تجاوزت حدودي دون أن أقصد، ولكنني أنشد أمنك وسلامتك فحسب.
    قال سير (وينسلوت) في صرامة:
    - لا تقلق نفسك كثيراً بأمني وسلامتي يا مستر (جراهام)، فهي ستبقى طويلاً، بعد أن تذهب أنت.
    اتسعت ابتسامة (جراهام)، وهو يقول:
    - من يدرى يا سير (وينسلوت).. من يدرى؟!
    تراجع سير (وينسلوت) في مقعده، وهو يقول:
    - سترى درساً عملياً بنفسك يا مستر (جراهام).. لقد أشعلت جهاز الأمن الخاص بي، ولم تعد هناك ثغرة واحدة، يمكن أن ينفذ منها برغوث صغير إلى هنا.
    ونفث دخان سيجاره بمنتهى القوة، قبل أن يضيف:
    - نحن الآن في أمان يا مستر (جراهام).. أمان تام.
    وهنا، ومع ثقة سير ( وينسلوت ) الشديدة ، يأتي دورنا نحن لنقولها..
    من يدرى؟!
    ****************************************
    " ..الفصل السادس "الخـدعـة
    "كيف إذن؟!.."..
    هتفت (منى) بالسؤال فجأة، فرفع (قدري) عينه عن ملف العملية، وهو يتطلع إليها بعينين متسائلتين، فاستطردت في حيرة:
    - لقد أحاط سير (وينسلوت) هذا قصره بسياج منيع للغاية من الحماية والأمن، فكيف استطاع (أدهم) أن يصل إليه؟!
    ابتسم (قدري)، وهو يقول:
    - أنت تعرفين القاعدة الأساسية، التي يتبعها (أدهم) دوماً.. لا يوجد جهاز أمنى، مهما بلغت دقته، أو بلغ إحكامه، يخلو ولو من ثغرة واحدة.
    انعقد حاجباها، وهى تدير الأمر في رأسها بإمعان، قبل أن تقول:
    - وأين الثغرة هنا؟!
    اتسعت ابتسامة (قدري)، وهو يميل نحوها، ويشير إلى رأسه، قائلاً:
    - هنا تكمن العبقرية.
    عاودت التفكير في الأمر، ثم قالت في حماس:
    - آه.. بالطبع.. (أدهم) يمكنه أن يذهب إليهم، باعتباره أحد رجال الشرطة البريطانية، الذين يجرون تحقيقاتهم حول الأمر.
    أطلق (قدري) ضحكة مجلجلة، قبل أن يقول:
    - فكرة طريفة للغاية يا عزيزتي.
    ثم غمز بعينه، مستطرداً بابتسامة كبيرة:
    - ولكنها لا تصلح، في هذا الموقف بالذات.
    سألته متحدية:
    - ولم لا؟!
    أجابها في سرعة:
    - لأن سير (وينسلوت) عضو في مجلس العموم البريطاني، ولا يحق للشرطة استجوابه مباشرة، دون الحصول على موافقة المجلس نفسه.
    بدا عليها الضيق، وهى تقول:
    - عجباً!.. كيف انتبهت أنت إلى هذا، دون أن أنتبه أنا إليه؟!
    ضحك (قدري) مرة أخرى، وقال:
    - ومن قال: إنني قد انتبهت إليه.
    ثم أشار إلى الملف الذي يحمله، مستطرداً:
    - لقد ورد هذا في تقرير (أدهم) الرسمي.
    تراجعت في مقعدها، وهى تحك ذقنها في توتر، ثم سألته في اهتمام مشوب بالحيرة.
    - كيف فعلها (أدهم) إذن؟!
    التقط نفساً عميقاً، وقال:
    - دعينا نتابع، وستعرفين الجواب بنفسك.
    اعتدلت في اهتمام شديد، قائلة:
    - فليكن.
    فتح (قدري) الملف مرة أخرى، و…
    وعاد يروى..
    ارتسمت الصرامة الشديدة، على وجه مفتش الشرطة البريطاني (جاك)، وهو يتطلع إلى رجلي منظمة (هيل آرت)، اللذين يجلسان أمامه، والكدمات تغمر وجهيهما، وقال بلهجة قاسية:
    - أريد أن أفهم ما حدث بالضبط.. لقد خضتما معركة ما، داخل أكبر مستشفى في (لندن)، وليس لديكما أي تفسير منطقي لهذا.
    قال أحدهما في غلظة:
    - كنا نؤدي واجبنا.
    مال المفتش (جاك) نحوه، قائلاً بنفس الصرامة:
    - أي واجب هذا، الذي يستدعى خوض قتال، في قسم الرعاية الفائقة، في مستشفى كبير؟!
    أجابه الثاني في حزم:
    - لقد استأجرونا لحماية مصاب، ولكننا كشفنا محاولة لاغتياله، وكان علينا أن ندافع عنه.
    قال المفتش، وقد امتزجت صرامته بلمحة ساخرة:
    - بفقدان الوعي؟!
    قال الأول في غلظة:
    - لقد بذلنا قصارى جهدنا.
    تراجع المفتش في مقعده، وقال:
    - وهل المفترض أن أصدق هذه الرواية السخيفة؟!
    سأله الثاني في حدة:
    - ولم لا؟!
    أجابه المفتش، بمنتهى الصرامة:
    - لأن كل شيء يوحى بخلاف روايتكما المضحكة هذه؛ فالمصاب الذي تدعيان حمايته، غادر المستشفى بالفعل، بنفس سيارة الإسعاف التي أحضرته، ولكن من الباب الخلفي، وبوساطة رفاقه، الذين يفترض أنهم من استأجروكم لحمايته، ثم أن وجود دمية خشبية، في فراش المصاب، وتوصيلها بالأجهزة الطبية، يوحى بأنه هناك من كان ينتظر قدوم قتلة، وليس فريقاً للحماية.. أضف إلى هذا سقوط شخص مجهول، من نافذة الحجرة في الطابق الثاني، على نحو اتفقت معه أقوال الشهود، ويوحى بأن أحدهم قد دفعه عمداً عبر النافذة المغلقة.
    تبادل الرجلان نظرة شديدة التوتر، قبل أن يقول أحدهما في غلظة شديدة، وتوتر ملحوظ:
    - لقد قلنا كل ما لدينا.
    واندفع الثاني، يقول في حدة:
    - نريد محامياً فوراً.
    مط المفتش شفتيه، وهو يقول:
    - أنتما تحتاجان إليه حتماً.
    لم يكد يتم عبارته، حتى ارتفع رنين هاتفه الخاص، فالتقط سماعته بحركة غريزية، قائلاً:
    - المفتش (جاك ستيورات).
    أتاه صوت صارم، يقول بلهجة بريطانية، توحي بأن صاحبها من سكان الجنوب:
    - هنا رئيس المفتشين (ريمنجتون)، من (سكوتلانديارد)*، أتحدث إليك بشأن حادثة (لندن كلينيك).
    --------------------------------------------------------------------------------
    * سكوتلاندريارد: الشرطة الدولية.
    ************************************************** *
    كان المفتش (ريمنجتون) شخصية شهيرة للغاية، في أروقة الشرطة البريطانية، ويتمتع باحترام كبير، جعل المفتش (جاك) يعتدل في مقعده، وهو يقول:
    - إنني أقوم بالتحقيق فيها أيها المفتش.
    أجابه (ريمنجتون) بصرامته الشهيرة:
    - هذا الأمر يفوق قدرات جهاز الشرطة العادي أيها المفتش (ستيورات)؛ لذا فقد تلقينا الأوامر، من رئيس الوزراء شخصياً، بأن نتولى الأمر بأنفسنا.
    لم يرق هذا أبداً للمفتش (جاك)، الذي قال في ضيق:
    - ولكننا نبلى بلاءً حسناً يا سيادة المفتش، و…
    قاطعه المفتش (ريمنجتون) بنفس الصرامة:
    - لقد أرسلت إليك المفتش (ألبرت)، وهو واحد من أكفأ رجالنا.. سيتولى القضية منذ هذه اللحظة.
    قال المفتش (جاك)، وقد تضاعف ضيقه:
    - وما الذي يمكن أن يفعله المفتش (ألبرت) هذا، ونعجز نحن عن فعله؟!
    أجابه (ريمنجتون) بمنتهى الصرامة:
    - سل رئيس الوزراء.
    ثم أنهى المحادثة في غلظة، انعقد معها حاجبا المفتش (جاك)، وهو يتراجع في مقعده، مغمغماً في سخط:
    - لماذا لا يولوننا المزيد من الثقة؟!
    أساء الرجلان فهم عبارته، فقال أحدهما في لهفة:
    - لقد أمروك بالإفراج عنا.. أليس كذلك؟!
    سحب المفتش (جاك) مسدسه، وهو يقول في حدة:
    - بل أمروني بإعدامكما فوراً.
    انتفض جسد الرجل، وتراجع في مقعده بحركة متحفزة، في حين قال زميله في عصبية:
    - نريد حقوقنا القانونية.
    أعاد المفتش مسدسه إلى غمده، وهو يقول في صرامة شديدة، أفرغ عبرها كل انفعالاته:
    - يجب أن أحصل على بعض الأسئلة القانونية أولاً.
    هتف الآخر في حدة:
    - ليس قبل أن يصل محامينا.
    مع آخر حروف عبارته، دق أحد رجال الشرطة باب الحجرة، ثم دفعه، وهو يقول في اهتمام:
    - هناك رجل هنا، يقول إنه المفتش (ألبرت)، القادم من (سكوتلانديارد).
    انعقد حاجبا المفتش (جاك)، وهو يغمغم في حنق:
    - بهذه السرعة؟!
    ثم أشار إلى الشرطي، مضيفاً:
    - دعه يتفضل.
    مضت لحظات، قبل أن يظهر رجل متين البنيان، له شارب أحمر ضخم، وشعر أحمر طويل، شاب فوديه، على نحو منحه مظهراً وقوراً، وهو يقول في هدوء شديد:
    - المفتش (ألبرت)، من (سكوتلانديارد).. لقد أرسلني كبر المفتشين (ريمنجتون) إلى هنا، و…
    قاطعه (جاك) في ضيق:
    - لا بأس.. كنا ننتظر قدومك.
    دلف (ألبرت) إلى المكان في هدوء، وأغلق الباب خلفه، وعلق معطفه على المشجب، قبل أن يلتفت إلى الرجلين، متسائلاً:
    - أهما المتهمان؟!
    أومأ المفتش (جاك) برأسه إيجاباً، في حين قال أحد الرجلين في حدة وغلظة:
    - لسنا متهمين.. إننا مجرد..
    قبل أن يتم عبارته، قبض المفتش (ألبرت) على عنقه من الخلف بحركة مباغتة، وضغطه بأصابع فولاذية، وهو يقول في صرامة:
    - لا تتكلم، إلا عندما توجه إليك الأسئلة يا هذا.. هل تفهم؟!
    احتقن وجه الرجل بشدة، وجحظت عيناه عن آخرهما، وندت من حلقه شهقة مكتومة، تجمع ما بين الألم والدهشة، وبدا وكأن عضلاته كلها قد تجمدت، فارتفع حاجبا المفتش (جاك) في انبهار، ونقل بصره في سرعة، بين ضخامة جسد الرجل، وملامح (ألبرت) الصارمة، في حين قال الرجل الآخر في عصبية:
    - إنك تتجاوز حدودك يا رجل (سكوتلانديارد).
    أدار (ألبرت) عينيه إليه، وهو يقول بقسوة:
    - حقاً؟!
    لم يدر المفتش (جاك) أية قوة تلك، التي تطل من عيني (ألبرت) وصوته، إلا أنها كانت كافية لأن يتراجع الرجل الثاني في مقعده، وينكمش فيه على نحو عجيب، وكأنما فقد قوته كلها في لحظة واحدة، في حين انهار الأول على مقعده، عندما أفلت (ألبرت) عنقه، قبل أن يدور حول الرجلين في هدوء، قائلاً بصوته الصارم القوى:
    - والآن، أريد بعض الأجوبة.
    تمتم المفتش (جاك) في انبهار خافت:
    - من الواضح أن (سكوتلانديارد) تجيد اختيار رجالها جيداً.
    لم يبد على المفتش (ألبرت) أنه قد سمع حرفاً واحداً مما قاله (جاك)، وهو يجلس على طرف مكتب هذا الأخير، ويسأل الرجلان بلهجته الصارمة:
    - إلى أية جهة تنتميان بالضبط؟!
    بدا وكأن الكلمات قد احتسبت في حلق أحدهما، في حين قال الآخر في خفوت عصبي:
    - نريد محامياً.. هذا حقنا.
    تجاهل (ألبرت) قوله تماماً، وهو يقول في صرامة:
    - فليكن.. دعاني أنعش ذاكرتكما قليلاً.
    ثم مال نحوهما، وتطلع إلى عيونهما مباشرة، وهو يضيف:
    - هل يذكركما اسم سير (وينسلوت) بشيء ما؟!
    بدا التوتر واضحاً على وجهي الرجلين، في حين انعقد حاجبا المفتش (جاك)، وهو يقول:
    - سير (وينسلوت)؟!.. لعلك لا تشير إلى عضو مجلس العموم الشهير، الذي…
    قاطعه (ألبرت) بإشارة صارمة من يده، وهو يسأل الرجلين:
    - أم أن اسم منظمة (هيل آرت) يمكن أن ينعش ذاكرتكما أكثر؟!
    تضاعف توتر الرجلين ألف مرة، وتبادلا نظرة عصبية، في حين قال المفتش (جاك) في حيرة:
    - (هيل آرت)؟!.. أي اسم هذا؟!
    اندفع أحد الرجلين، يقول في توتر بالغ:
    - أريد محامياً فوراً، وإلا فلن نجيب سؤالاً واحداً.
    سأله (ألبرت) فجأة:
    - ما اسمك يا هذا؟!
    أجابه الرجل في عصبية:
    - اسمى (دونالد).. (روبير دونالد)، ولن أجيب أية..
    وقبل أن يتم عبارته، انقض عليه (ألبرت) فجأة، ولكمه لكمة قوية في أنفه، أسقطته مع مقعده أرضاً في عنف، فهب زميله صائحاً في حدة عصبية:
    - ليس هذا من حقك.
    استدار إليه (ألبرت)، قائلاً في صرامة:
    - اصمت.
    ولكن المفتش (جاك) نهض بدوره، وقال في عصبية:
    - إنه محق.. ليس من حقك أن تعامل المتهمين بهذا الأسلوب العنيف.. حتى المجرم هنا له حقوقه القانونية..
    اعتدل (ألبرت)، قائلاً في صرامة:
    - لهذا لن يصلح تعاملكم مع هذين الرجلين..
    ثم عدّل من هندامه، مضيفاً:
    - قم بعمل كل الإجراءات اللازمة، فسأتسلّم هذين الرجلين رسمياً.
    قال المفتش (جاك) في توتر:
    - هذا سيحتاج إلى توقيع بعض الأوراق..
    قال (ألبرت) بنفس الصرامة:
    - أسرع إذن يا رجل، فلست أميل إلى قضاء المزيد من الوقت، في روضة الأطفال هذه.
    بدأ المفتش (جاك) في إعداد الأوراق اللازمة بالفعل، وهو يقول في ضيق، لم يحاول إخفاءه:
    - إننا ننفذ القانون هنا.
    غمغم (ألبرت)، في استهتار مستفز:
    - بالتأكيد.
    لم تستغرق الإجراءات وقتاً طويلاً، ولقد وقع (ألبرت) الأوراق في هدوء، وأضاف إليها رتبته ورقمه الأمني في ثقة، قبل أن يلتقط معطفه، قائلاً في صرامة:
    - إنهما لي الآن.
    استوقفه المفتش (جاك)، قائلاً في توتر:
    - وكيف ستتولى الأمر وحدك؟!.. إنهما رجلان قويان، والأفضل أن يصطحبك بعض جنود الحراسة، و…
    قاطعه (ألبرت) بنفس الصرامة:
    - إنهما مجرد رجلين.
    مط (جاك) شفتيه، وشعر في أعماقه أن المفتش (ألبرت) هذا شديد الغرور، إلا أنه قال في حزم:
    - فليكن.. أنت المسئول عنهما رسمياً الآن.
    قام رجال الشرطة بتقييد معصمي الرجلين بأغلال واحدة، وقادهما (ألبرت) إلى سيارته المتوقفة أمام مبنى الشرطة، وقال لأحدهما في صرامة:
    - أنت ستقود السيارة، وزميلك إلى جوارك، لاشتراككما في أغلال واحدة، وسأجلس أنا في الخلف، وحذار من أن يقوم أحدكما بحركة واحدة مفاجئة.
    دلف الرجلان إلى السيارة، وقال أحدهما في عصبية، وهو يدير محركها:
    - ما زلت أصر على وجود محام.
    قال (ألبرت) في صرامة، وهو يجلس في المقعد الخلفي:
    - سنعمل على استدعائه، فور وصولنا إلى هناك.
    همهم الرجل بعبارة ساخطة، وانطلق بالسيارة، وفقاً لتوجيهات المفتش (ألبرت)، ولم تكد تختفي في نهاية الطريق، حتى أسدل المفتش (جاك) أستار نافذة مكتبه، وهو يقول:
    - لم أكن أعلم أن رجال (سكوتلانديارد) صارمين قساة، إلى هذا الحد.
    غمغم نائبه في خفوت:
    - إنهم يواجهون نوعاً مختلفاً من المجرمين.
    التقط (جاك) سماعة هاتفه، وهو يقول:
    - ولكن هذا لا يمنع من أنه قد ارتكب بالفعل، عدداً من المخالفات القانونية، التي تحتاج إلى إعادة تقويم، لذا فسأتقدم بشكوى ضده، إلى كبير مفتشي (سكوتلانديارد) شخصياً.
    هتف نائبه في انبهار:
    - المفتش (ريمنجتون)؟!
    أومأ المفتش (جاك) برأسه إيجاباً، وهو يدير قرص الهاتف، ولم يكد يسمع صوت محدثه، حتى قال:
    - هنا المفتش (جاك)، من شرطة (لندن).. أريد التحدث إلى كبير المفتشين (ريمنجتون) شخصياً.
    أجابه محدثه في هدوء :
    - المفتش (جون ريمنجتون) غير متواجد أيها المفتش، فلديه مؤتمر أمنى هام، في الولايات المتحدة الأمريكية، منذ أمس.
    انعقد حاجبا المفتش (جاك)، وهو يقول في توتر:
    - أمس؟!.. هذا مستحيل!.. لقد تحدث إلى شخصياً، منذ أقل من ساعة واحدة، بشأن مفتشكم (ألبرت)، الذي يتولى قضية حادثة (لندن كلينيك).
    ظل صوت محدثه هادئاً، وهو يقول:
    - المفتش (ريمنتجون) لا يجرى اتصالاته بنفسه أبداً، والوحيد الذي يحمل اسم (ألبرت) هنا، لم يغادر مكتبه منذ الصباح.
    اتسعت عينا المفتش (جاك) عن آخرهما، وهو يرفعهما إلى نائبه، قائلاً في ارتياع، ويده تعيد سماعة الهاتف إلى موضعها، دون حتى أن يشعر بهذا:
    - لقد خدعنا ذلك الرجل.. إنه ليس من (سكوتلانديارد).. يا إلهي!.. إننا لم نحاول حتى الإطلاع على أوراقه.
    امتقع وجه نائبه، وهو يقول:
    - رباه!.. لقد سلمناه المتهمين رسمياً، دون أن نتأكد من هويته.. إنها كارثة.
    التقط المفتش (جاك) سماعة هاتفه مرة أخرى، ليصدر أوامره بتعقب السيارة، وإعادة المجرمين، والمفتش (ألبرت) الزائف، وهو يقول؛ بكل توتر الدنيا:
    - ولكن من يكون ذلك الرجل؟!.. من يكون؟!
    في نفس اللحظة، التي نطق فيها كلماته هذه، كان المفتش (ألبرت) الزائف، يقول للمجرمين في صرامة، من المقعد الخلفي للسيارة:
    - انحرفا إلى ذلك الشارع الجانبي الضيق.
    نفذ ذلك الذي يقود السيارة أوامره، والآخر يسأله في عصبية:
    - ولكن لماذا؟!
    لم ينبس (ألبرت) هذا ببنت شفة، في حين توقف قائد السيارة داخل الشارع الضيق، الذي انتهى بجدار مرتفع يسد الطريق، وقال في غلظة غاضبة:
    - لو أنك تفكر في إيذائنا، فـ..
    قبل أن يتم قوله، مال (ألبرت) إلى الأمام فجأة، ولكمه في مؤخرة عنقه لكمة عنيفة، جعلت رأسه يرتطم بموقد السيارة، قبل أن يتراخى فوقها فاقد الوعي..
    وبمنتهى العصبية، هتف الآخر:
    - إنك تتجاوز كل الـ…
    قبض (ألبرت) على عنقه فجأة، قبل أن يتم هتافه، وأدار رأسه إليه في قسوة، وأصابعه الفولاذية تنغرس في جسده، وتطلع إلى عينيه مباشرة، وهو يقول، بصوت يخالف تماماً صوته المألوف:
    - فليكن.. لقد تجاوزتها بالفعل أيها الوغد.
    اتسعت عينا الرجل، في ألم ذاهل، وهو يحدّق في وجه (ألبرت)، الذي نزع شاربه الأحمر المستعار بحركة هادئة، قائلاً بمنتهى القسوة والصرامة:
    - وهذا ما عليك أن تخبر به زعيمك الحقير.
    ومع آخر حروف كلماته، انطلقت قبضته كالقنبلة، لتنفجر في وجه الرجل، وتلقى به في غياهب غيبوبة عميقة..
    عميقة للغاية.
    ****************************************
    " ..الفصل السابع "الشــر
    نهض (إيتان مائير)، الملحق العسكري للسفارة الإسرائيلية في (لندن)، يستقبل (دافيد جراهام) في ترحاب، ودعاه للجلوس، وهو يسأله في اهتمام بالغ:
    - كيف دار الأمر مع سير (وينسلوت)؟!
    أشار (جراهام) بيده، قائلاً:
    - إنه ليس بالقوة أو الخطورة التي تصورناهما!
    انعقد حاجبا (مائير)، وهو يقول:
    - ولكن شبكته استطاعت أن تحصل على وثائق أمريكية بالغة السرية، لم ينجح جواسيسنا أنفسهم في التوصل إليها.
    هز (جراهام) كتفيه، قائلاً:
    - منظمة ليست بسيطة، ومن الواضح أنها تمتلك شبكات جاسوسية شديدة التنظيم والتعقيد، ولكن تعاملاتهم في مواجهة الخطر، تتساوى مع أساليب العصابات، وليس مع منظمة جاسوسية قوية.
    تراجع (مائير) في مقعده، وهو يقول في اهتمام:
    - أتعنى أن تعاوننا معهم لن يكون مثمراً؟!
    تألقت عينا (جراهام)، وهو يقول:
    - أنا لم أقل هذا أبداً.
    ونهض من مقعده، وتابع، وهو يتجه نحو النافذة:
    - أنت تعلم مثلي أن دولتنا مستعدة للتحالف مع الشيطان نفسه، لو أنه يستطيع تثبيت أقدامها، في منطقة الشرق الأوسط، ومنظمة (هيل آرت) هذه منتشرة جيداً، من الناحية التجسّسية، وسيساعدنا هذا على الحصول على العديد من المعلومات، التي يحتاج إليها أمننا، وبخاصة تلك التى يمتلكها الأمريكيون، دون أن تتوتر علاقاتهم معنا دون مبرر، فإذا ما انكشف أحد الجواسيس، أثناء حصوله على الوثائق والمعلومات؛ فهو في هذه الحالة جاسوس لمنظمة (هيل آرت)، وليس لأجهزة مخابراتنا.
    تساءل (مائير)، في اهتمام أكثر:
    - وماذا عن ضعف قدراتهم الأمنية؟!
    أجابه (جراهام) في سرعة، وهو يتطلع عبر فرجة من أستار النافذة، إلى الطريق الرئيسي:
    - سنعمل على تقويتها، من خلال أحد خبرائنا الأمنيين، بحيث تصبح قادرة على حماية المنظمة، من أية أجهزة مخابرات أخرى، فيما عدا أجهزة مخابراتنا بالطبع؛ لأننا وحدنا سندرك نقاط الضعف، والثغرات الخفية، في نظامهم الأمني، الذي سيضعه خبيرنا.. ولقد وافق سير (وينسلوت) على هذا الأمر بالفعل.
    ارتسمت ابتسامة إعجاب، على شفتي (مائير)، وهو يقول:
    - دعنى أعترف ببراعتك يا أدون (جراهام).
    شد (جراهام) قامته، وهو يقول:
    - بل قل: بعبقريتي يا عزيزي (إيتان).
    أومأ (مائير) برأسه، متمتماً:
    - بالتأكيد.
    ثم اعتدل يسأله:
    - وهل وقع اختيارك على خبير أمنى بالتحديد؟!
    صمت (جراهام) يضع لحظات، قبل أن يقول في حزم:
    - لو أن الأمر بيدي، لاخترت ابنتي (سونيا).
    ارتفع حاجبا (مائير) في دهشة، وهو يقول:
    ابنتك (سونيا)؟!.. وهل التحقت بأحد أجهزة مخابراتنا بالفعل؟!
    أومأ (جراهام) برأسه إيجاباً، قبل أن يجيب:
    - لقد تلقت تدريباً جيداً فى الـ(شين بيت)*، ثم التحقت لعدة أشهر بجهاز (أمان)**، قبل أن أرشحها شخصياً، للعمل بين صفوف (الموساد)***.
    هتف (مائير)، فى دهشة مستنكرة:
    - (سونيا)؟!.. كم يدهشني هذا في الواقع يا أدون (جراهام)؛ فابنتك فاتنة بحق، حتى أنني كنت أتصور أنها ستصبح نجمة سينمائية، أو عارضة أزياء عالمية، وليس ضابطة (موساد)!
    هز (جراهام) رأسه في هدوء، مجيباً:
    - على العكس.. (سونيا) من الطراز المثالي، للعمل في هذا المضمار، فهي تمتلك سمات رجل (الموساد) المثالي.
    وصمت لحظة، ثم أضاف بقسوة شديدة:
    - عقل بلا قلب.
    --------------------------------------------------------------------------------
    * شين بيت: جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي.
    ** أمان : جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلية.
    ** *الموساد : مخابرات مجلس الوزراء الإسرائيلي.
    ************************************************** *
    بهت (مائير)، وهو يتساءل في خفوت:
    - أتعنى أن (سونيا) الفاتنة الساحرة، التي يخطف جمالها القلوب، وتدير جاذبيتها العقول، فتاة بلا قلب.
    التفت إليه (جراهام)، قائلاً:
    - على الإطلاق.
    بدت الدهشة واضحة على وجه (مائير)، وهو يحدّق في وجه (جراهام)، قبل أن يهز رأسه في قوة، وكأنه ينفض صورة (سونيا) الفاتنة عن رأسه، ويقول في حزم:
    - إنك لم تخبرني بعد، من الخبير الأمني، الذي سيعمل على تقوية منظمة (هيل آرت).
    عاد (جراهام) إلى مقعده، ووضع إحدى ساقيه فوق الأخرى، قبل أن يجيب في حزم:
    - أنا.
    ولم ينبس (مائير) ببنت شفة؛ فقد بدا له الاختيار موفّقاً..
    بحق..
    "لماذا توقفت؟!.."..
    ألقت (منى) السؤال في عصبية، عندما أغلق (قدري) الملف، ووضعه إلى جواره، فالتفت إليها مجيباً في إرهاق:
    - إنني أشعر بالجوع؛ فلقد مر موعد وجبة غدائي بالفعل، وأحتاج إلى الطعام، لمواصلة القراءة والانفعال!
    هتفت معترضة :
    - ليس عند هذه النقطة بالذات.
    بدت عليه الدهشة، وهو يقول:
    - ولكنني توقفت عند نقطة هادئة للغاية.
    قالت في ضيق:
    - من وجهة نظرك فحسب.
    سألها في حيرة:
    - وما المثير في هذا الموضع من الملف؟!
    تراجعت في مقعدها معقودة الحاجبين، قبل أن تقول في توتر:
    - أن (دافيد جراهام) هذا هو والد (سونيا).
    تطلع إليها لحظات بدهشة، قبل أن ينفجر ضاحكاً فجأة، على نحو ترجرج معه جسده البدين كله، ويقول:
    - آه.. نسيت أن (سونيا) هذه هي غريمتك اللدود..
    ثم مال نحوها، مضيفاً في خبث:
    - باعتبارها المرأة، التي خطفت منك قلب (أدهم).
    ازداد انعقاد حاجبيها في صرامة غاضبة، وهى تقول:
    - لا أحد يمكنه أن يختطف منى قلب (ادهم)، أو ينتزعني من قلبه، وكلانا يعرف تلك الظروف، التي تزوج فيها (أدهم) (سونيا جراهام)*.
    غمغم (قدري):
    - بالطبع.
    ثم ربت على كرشه الضخم، مستطرداً:
    - المؤسف أن الأمر لم يقتصر على الزواج؛ فهناك طفله منها أيضاً**..
    أشاحت بوجهها في ضيق، وهى تقول:
    - ليس من الضروري أن تذكرني بهذا دوماً.
    --------------------------------------------------------------------------------
    ارتفع حاجباه في تعاطف، وهو يقول مشفقاً:
    - ربما يؤلمك هذا، ولكن عليك مواجهة الحقيقة.
    غمغمت في مرارة:
    - ليس أمامي سوى هذا.
    ثم سألته في اهتمام: وكأنما تحاول إبعاد ذهنها عن الموقف:
    - لقد ذهب (أدهم) إلى قصر سير (وينسلوت)، وهو متنكر في هيئة أحد الرجلين، اللذين أفقدهما الوعي.. أليس كذلك؟!
    تطلع (قدري) إلى وجهها، متسائلاً:
    - لماذا توقعت هذا؟!
    التقطت نفساً عميقاً، قبل أن تجيب في ثقة:
    - لأنني أعرف أسلوب (أدهم) جيداً.
    ابتسم (قدري) ابتسامة كبيرة، وهو يقول:
    - ولكن أحد أهم سمات (أدهم)، أن أسلوبه يتغير باستمرار.
    قالت في إصرار:
    - لاحظ أننا نتحدث عن فترة قديمة.
    هز رأسه، قائلاً:
    - هذا صحيح.
    ثم اعتدل، وربت على كرشه مرة أخرى، مستطرداً:
    - ولكنني ما زلت جائعاً.. وبشدة.
    التقطت سماعة هاتفه، وهى تقول في حزم:
    - فليكن.. سأدعوك إلى وجبة دسمة، تساهم في زيادة حجم كرشك الضخم، على أن تعاود قراءة الملف، بعد التهامك لها مباشرة ..
    رفع إبهامه أمام وجهه، وهو يبتسم، قائلاً:
    - اتفقنا.
    ولم تمض دقائق عشر، حتى حضرت الوجبة الدسمة، التي بدأ (قدري) التهامها بمنتهى الشراهة على الفور، لتنتهي قبل مرور نصف الوقت، الذي تم إحضارها فيه..
    وفى ارتياح، وبابتسامة كبيرة سعيدة، ومع زجاجة مياه غازية، من الحجم العائلي أمامه، عاد (قدري) يلتقط الملف..
    ويروى..
    بدا قائد الحرس (بيتون) متجهماً متوتراً، وهو يدلف إلى حجرة مكتب سير (وينسلوت)، مع غروب الشمس، قائلاً:
    - كل شيء على ما يرام يا سير (وينسلوت)… لن تتمكن ناموسة واحدة، من الوصول إلى هنا، دون أن يرصدها رجالنا، ويتعاملون معها كما ينبغي.
    تراجع سير (وينسلوت) في مقعده، وهو يقول في اقتضاب:
    - عظيم.
    بدا التردد والتوتر على وجه (بيتون) فسأله سير (وينسلوت)، في شيء من الصرامة:
    - والآن ماذا هناك؟!
    بدا وكأن السؤال قد هدم حاجز التردد، أمام لسان (بيتون)، الذي اندفع يقول في عصبية:
    - أمن الضروري أن يتولّى ذلك الإسرائيلي، مسئولية نظم الأمن هنا؟!
    نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره، وهو يسأله في برود:
    - وما الضير في هذا؟!
    قال (بيتون) بنفس العصبية:
    - إننا نتولى أمور أمننا، على خير ما يرام، ولسنا بحاجة إلى شخص أجنبي، ليعدل نظمنا، ويتولى أمننا.
    رمقه سير (وينسلوت) بنظرة باردة، راح ينفث خلالها دخان سيجاره في بطء، قبل أن يعتدل، قائلاً في صرامة:
    - اطمئن يا (بيتون)؛ ففي كل الأحوال، ستظل قائداً للحرس هنا؛ فمستر (جراهام) لن يتولى الأمور بنفسه.. إنه سيضع نظم وقواعد الأمن فحسب، من خلال خبرته كرجل مخابرات قديم وقدير، ونحن في أمس الحاجة لتطوير نظم أمننا طوال الوقت، ما دمنا سنعمل على نطاق عالمي، فلو نجح جهاز مخابرات واحد في اختراق أمننا لأصبحت نهاية منظمتنا كلها.
    قال (بيتون) في عصبية أكثر:
    - وماذا عن مستر (جراهام)؟!.. أليس رجل مخابرات أيضاً؟!
    قال سير (وينسلوت) في هدوء:
    - وماذا في هذا؟!
    قال (بيتون)، في شيء من الحدة:
    - ألن يمكنه اختراق نظام الأمن، الذي سيضعه بنفسه، عبر ثغرات يعلم جيداً مواضعها ومواقعها؟!
    ارتسمت ابتسامة باردة، على شفتي سير (وينسلوت)، وهو ينفث دخان سيجاره، ويقول:
    - هذا ما يتصوره هو.. إنه يظن أن ابتسامته اللزجة، وأسلوبه المتزلف، وذكاؤه اليهودي ستساعده كلها على خداعي، وإدارة أمن منظمتي كما يروق له!
    وندت من بين شفتيه ضحكة ساخرة، أدهشت قائد حرسه كثيراً، قبل أن يتابع في هدوء واثق:
    - ولقد سمحت له بالتمادي في فكرته وظنونه؛ لأن غروره، وثقته بنفسه، وبقدرات دولته، هما الحبل الغليظ، الذي سيلتف حول عنقه يوماً، عندما أقرر أنا هذا.
    سأله (بيتون) في لهفة:
    - هل تعنى أننا لن نلتزم بالنظام الأمني، الذي سيضعه هو؟!
    أجابه سير (وينسلوت) في سرعة:
    - بل سنلتزم به بالتأكيد.
    انعقد حاجبا (بيتون) في توتر، فتابع سير (وينسلوت)، وهو ينفث دخان سيجاره في بطء وثقة:
    - ولكننا سنضع من خلفه نظاماً أمنياً آخر، يكفى لسد كل الثغرات، الذي سيتركها مستر (جراهام) عمداً، في نظام الأمن الرئيسي.
    تألقت عينا (بيتون)، وهو يقول:
    - إنني أفضل هذا يا سير (وينسلوت).
    لم يكد يتم عبارته، حتى ارتفع أزيز جهاز اللاسلكي المعلق في حزامه، فالتقطه في سرعة، وقال في صرامة:
    - ماذا هناك؟!
    أجابه أحد أفراد طاقم الحراسة من الطريق الخاص للقصر:
    - السيد (جيمس ويندسور)، محامى سير (وينسلوت) يريد المرور؛ لمقابلة الزعيم، ويقول: إنه أمر عاجل.
    انعقد حاجبا سير (وينسلوت)، الذي سمع حديث الرجل، وأشار إلى (بيتون)، قائلاً:
    - دعه يأتي، فهو يحمل حتماً أخباراً عن الرجلين، اللذين سقطا في عملية (لندن كلينيك).
    ضغط (بيتون) جهاز الاتصال، قائلاً في صرامة:
    - اسمح له بالدخول، بعد أن تتحقق من شخصيته.
    أجابه فرد الحراسة في حزم:
    - إننى أعرف مستر (ويندسور) جيداً، ولقد راجعت هويته بنفسي أيضاً، وهى سليمة.
    قال (بيتون) بنفس الصرامة:
    - عظيم.
    لم تمض اثنتي عشرة دقيقة، حتى كان المحامى يقف أمام سير (وينسلوت)، وهو يقول في عصبية:
    - ماذا يحدث هنا بالضبط يا سير (وينسلوت)؟!. لقد حولت قصرك إلى حصن منيع!
    قال سير (وينسلوت) في برود، وهو يطفئ سيجاره، ويعيد بقاياه إلى جيبه:
    - هذا أفضل من خوض معارك سخيفة، لا وقت لخوضها يا عزيزي (ويندسور).
    ثم مال نحوه، متسائلاً في اهتمام:
    - ما أخبار الرجلين؟!
    بدا المحامى شديد التوتر، وهو يقول:
    - كنت أتوقع معرفة أخبارهما منك يا سير (وينسلوت).
    انعقد حاجبا سير (وينسلوت)، وهو يقول في دهشة محنقة:
    - منى أنا؟!.. ألست المحامى المسئول عن رتق كل ما نتركه خلفنا يا رجل؟!
    قال المحامى، وهو يجلس في عصبية، على أقرب مقعد إليه:
    - الأمر ليس بالبساطة التي تتصورها يا سير (وينسلوت).. لقد ذهبت بالفعل إلى مبنى الشرطة، خلف رجليك الأحمقين، اللذين فقدا وعيهما في (لندن كلينيك)، ولكنني فوجئت بأن أحد رجالك قد انتحل هوية مفتش من (سكوتلانديارد)، وخدع كل مفتشي الشرطة بمنتهى البراعة، وحمل رجليك معه، عندما غادر المكان، بحجة استجوابهما في مبنى (سكوتلانديارد) الرئيسي.
    ارتفع حاجبا سير (وينسلوت) في دهشة، وهو يقول:
    - أحد رجالي؟!.. ولكن هذا لم يحدث يا يرجل.. إنني أميل دوماً إلى الأساليب القانونية كما تعلم، ولم يكن هناك داع للاحتيال، وتعقيد الأمور أكثر وأكثر!
    هتف المحامى، وقد بلغت دهشته ذروتها:
    - من فعلها إذن؟! ولماذا؟!
    تراجع سير (وينسلوت) في مقعده، وبدا مستغرقاً في تكفير عميق، وهو يقول:
    - هذا هو السؤال.. من فعلها؟!.. ولماذا؟!
    لم يكد يتم عبارته، حتى دق (بيتون) باب حجرة المكتب، ثم دلف إليها، وهو يقول في توتر:
    - لدينا زيارة من الشرطة يا سير (وينسلوت).
    قال المحامى في توتر:
    - الشرطة لا يحق لها القدوم إلى هنا، دون استئذان مجلس العموم رسمياً.
    أشار (بيتون) بيده، قائلاً:
    - إنه المفتش (جاك ستيورات)، من شرطة (لندن)، ويحمل هويته الرسمية، ويصطحب معه رجلينا (دونالد)، و(سيزر).
    بدت دهشة قوية على وجه المحامى، في حين عاد حاجبا سير (وينسلوت) ينعقدان، وهو يدرس الأمر في عقله بسرعة، قبل أن يشير إلى (بيتون)، قائلاً في حزم هادئ:
    - دعهم يأتون.. أريد مقابلة ذلك المفتش بنفسي.
    قال (بيتون) في حزم:
    - أوامرك أيها الزعيم.
    تابع سير (وينسلوت)، وكأنه لم يسمعه:
    - واطلب من أطقم الحراسة الداخلية أن تبقى قريباً، وأن تستعد للتدخل الفوري، مع أول إشارة منى.
    قال (بيتون)، وقد فهم ما يرمى إليه زعيمه.
    - بالتأكيد أيها الزعيم.. بالتأكيد.
    واستدار لتنفيذ الأمر، ولكن سير (وينسلوت) استوقفه في حزم، وهو يقول:
    - وبالمناسبة يا (بيتون).. إياك أن تخاطبني بلقب الزعيم هذا مرة أخرى.. هل تفهم؟!
    احتقن وجه (بيتون)، وهو يقول في ارتباك:
    - كما تأمر يا سير (وينسلوت).. كما تأمر.
    ولم يكد ينصرف، حتى قال المحامى، في عصبية واضحة:
    - هناك أمر غير طبيعي، في هذا الموقف يا سير (وينسلوت)، فليس من المعتاد أن يخرج أحد مفتشي الشرطة، بعد غروب الشمس، وهو يحمل معه اثنين من المشتبه فيهم، لزيارة عضو في مجلس العموم البريطاني، دون إعلان مسبق، ودون حراسة إضافية أيضاً.
    أومأ سير (وينسلوت) برأسه إيجاباً، وهو يقول في تفكير عميق:
    - نعم.. إنه أمر غير طبيعي بالتأكيد.
    وصمت بضع لحظات، قبل أن يضيف:
    - ولو أردت رأيي، فهي وسيلة مبتكرة؛ لاختراق نظامنا الأمني، وتجاوز كل العقبات ، ووسائل الأمن والحراسة، والوصول إلى عقر دارى.
    سأله المحامى بأنفاس مبهورة:
    - هل تعتقد هذا؟!
    قال سير (وينسلوت) في حزم:
    - ليست لدى ذرة من الشك في هذا.
    ثم تألقت عيناه، وهو يضيف في لهجة عجيبة، حملت مزيجاً من الجذل والشراسة معاً:
    - ولكن تأكد من أننا سنحسن استقبال الدخلاء هنا… سنحسن استقبالهم، إلى حد سيؤذى حتماً مشاعرك الرقية المرهفة يا عزيزي (ويندسور).
    قالها، وانطلقت من حلقه ضحكة عالية..
    ضحكة واثقة، وقوية، و…
    ومخيفة.
    ******************************************
    " ..الفصل الثامن "الخـطــة
    لوح نائب مدير المخابرات العامة المصرية بورقة في يده، وهو يدلف إلى حجرة المدير، قائلاً:
    - برقية شفرية من (لندن) يا سيدي.
    قال المدير في اهتمام:
    - إلىَّ بها.
    ناوله نائبه البرقية، التي انتهى قسم الشفرة من ترجمتها منذ لحظات، وراح المدير يطالعها في اهتمام كبير، قبل أن يخلع منظاره، ويتراجع في مكتبه، قائلاً:
    - إذن فقد حصل الرائد (أدهم) على كافة المعلومات، التي زودناه بها، عن منظمة (هيل آرت)… عظيم.. هذا يجعل القتال متكافئاً، إلى حد كبير.
    تردد النائب لحظة، قبل أن يقول في قلق واضح:
    - الواقع أن الرائد (أدهم) ما زال يبدو لي متهوراً، أكثر مما ينبغي يا سيدي.
    ابتسم المدير، وهو يقول:
    - ليس متهوراً، وإنما هو جرئ وشجاع وباسل، إلى حد نعجز أحياناً عن استيعابه، ولكنه يناسب شخصيته تماماً، ويناسب أكثر قدراته، التي تصدم من يواجهه لأول مرة.
    غمغم النائب:
    - وتبهر من يتعامل معه دوماً.
    أشار المدير بسبابته، قائلاً:
    - بالضبط.
    هز النائب رأسه، وقال في إصرار:
    - ولكنني ما زلت أرى أنه متهور، وبالذات فيما أقدم عليه هذه المرة.
    انعقد حاجبا المدير، وهو يقول:
    - ربما.
    ثم نهض من خلف مكتبه، وعقد كفيه خلف ظهره، وهو يتابع في اهتمام:
    - ولكن (أدهم) يفعل دوماً ما يمليه عليه الموقف، دون أن يبالى بأي شيء آخر، حتى أمنه وسلامته الشخصية.
    وتوقف لحظة؛ ليراجع الموقف كله في ذهنه، قبل أن يواصل في حزم:
    - ووفقاً لبرقيته الشفرية، يفترض أن يكون الآن داخل قصر سير (وينسلوت)، الذي يعتقد أنه الزعيم الفعلي لمنظمة (هيل آرت).
    قال النائب، دون أن يحاول إخفاء قلقه:
    - يقول مراقبينا: إن قصر سير (وينسلوت) قد تحول، خلال الساعات القليلة الماضية، إلى حصن حصين، فكيف يمكن أن يدخله الرائد (أدهم) في ظروف كهذه؟!
    التقط المدير نفساً عميقاً، وقال:
    - الرائد (أدهم) لن يعدم وسيلة لدخول قصر (وينسلوت)، حتى لو أحاطه هذا الأخير بسياج من اللهب، فالمشكلة بالنسبة إليه لا تكمن في دخول القصر.
    وشد قامته، مستطرداً:
    - وإنما في الخروج منه.
    وانعقد حاجباه، مع إضافته الحازمة الصارمة:
    - على قيد الحياة.
    وكان على حق..
    تماماً..
    نقل سير (وينسلوت) عينيه، في هدوء عجيب، لا يتناسب قط مع الموقف، بين وجه المفتش (جاك)، ووجهي رجليه (دونالد)، و(سيزر)، اللذين تغطيا بالضمادات، قبل أن يشير إلى محاميه بالصمت، وهو يسأل في برود:
    - هل لي أن أعرف، لماذا شرفتني بهذه الزيارة، أيها المفتش؟!
    وعلى الرغم من إشارة سير (وينسلوت)، اندفع المحامى يقول في صرامة:
    - هل لي في مطالعة هويتك الأمنية أيها المفتش؟!
    نقل المفتش بدوره بصره بينهما، قبل أن يلتقط هويته الأمنية من حافظته، ويناولها للمحامى، وهو يقول لسير (وينسلوت):
    - أتيت لأعيد إليك رجليك، اللذين سببا لنا الكثير من المتاعب يا سير (وينسلوت).
    أخرج سير (وينسلوت) بقايا سيجاره من جيبه، وأشعله في هدوء، في نفس الوقت الذي راح المحامى يفحص فيه هوية المفتش بمنتهى الدقة، قبل أن يعيدها إليه، قائلاً في شيء من التوتر:
    - إنها صحيحة.
    رمقه المفتش (جاك) بنظرة صارمة، وهو يقول:
    - وماذا كنت تتوقع؟!
    همهم المحامى بعبارة ساخطة غير مفهومة، في حين قال سير (وينسلوت)، وهو ينفث دخان سيجاره في عمق:
    - المدهش أن ما بلغني من أخبار، يؤكد أن محتالاً قد انتحل شخصية أحد مفتشي (سكوتلانديارد)، وأخرجهما من مبنى الشرطة.
    بدا الضيق واضحاً، في ملامح وصوت المفتش (جاك)، وهو يقول:
    - الأخبار التي بلغتك صحيحة يا سير (وينسلوت)، ولكن رجالي عثروا بعدها على رجليك فاقدي الوعي، داخل نفس السيارة، التي استقلوها مع مفتش (سكوتلانديارد) الزائف، عندما غادروا مبنى الشرطة، وكانت معهم هذه الرسالة.
    قالها، وناول سير (وينسلوت) ورقة مطوية، فضها الرجل في هدوء ظاهري، وهو يقاوم تلك اللهفة العارمة في أعماقه، ليقرأ فيها كلمات مختصرة، تقول في تحد ملحوظ:
    - لقاؤنا الليلة يا سير (وينسلوت)، داخل قصرك المنيع.
    بذل سير (وينسلوت) جهداً خارقاً هذه المرة، للسيطرة على انفعالاته، وهو يقول:
    - لست أدرى ما الذي يمكن أن يعنيه هذا!
    أجابه المفتش (جاك)، في صرامة شديدة:
    - يعنى ما تحمله الكلمات بالضبط يا سير (وينسلوت).
    ثم أدار عينيه في وجوه الجميع، قبل أن يضيف:
    - ذلك المحتال سيأتي إلى هنا، على نحو أو آخر.
    رمقه سير (وينسلوت) بنظرة باردة، قبل أن يقول:
    - وهل تعتقد أنه يستطيع تجاوز كل نظمنا الأمنية أيها المفتش؟!
    شد المفتش قامته، وهو يقول في صرامة:
    - إنه بارع للغاية، وجرئ إلى أقصى حد.
    نفث سير (وينسلوت) دخان سيجاره في بطء شديد، وهو يدير بصره مرة أخرى، بين وجه المفتش (جاك) ووجهي رجليه، اللذين تغطيا بالضمادات، وراح عقله يدرس الأمر مرة.
    وثانية..
    وثالثة..
    وفى كل مرة، كان يستوعب الأمر أكثر وأكثر، وينفث دخان سيجاره في صمت وبطء وعمق، حتى قال المفتش (جاك) في صرامة:
    - هل سنقضى الليل كله هنا، بحثاً عن تفسير للعبارة، التي وردت في الرسالة؟!
    انتزع سير (وينسلوت) سيجاره من بين شفتيه، وأمسكه بين سبّابته ووسطاه، وهو يشير بيده إلى المفتش (جاك)، قائلاً:
    - الأمر له تفسيران فحسب، لا ثالث لهما أيها المفتش.
    حملت لهجة المفتش (جاك) لمحة ساخرة، امتزجت بلهجته الصارمة هذه المرة، وهو يقول:
    - وما هما يا سير (وينسلوت)؟!
    أجابه سير (وينسلوت)، في هدوء حازم:
    - التفسير الأول أقربهما، وهو يبدو واضحاً أمامك.
    قالها، وهو يشير إلى رجليه المصابين، فالتفت إليهما المفتش (جاك) بدوره، فتابع سير (وينسلوت):
    - المعنى الوحيد لما فعله ذلك المحتال، عندما أخرج الرجلين من مبنى الشرطة، ثم أفقدهما الوعي، وحطم وجهيهما على هذا النحو، هو أنه كان يسعى لتغيير ملامحهما، ودفعهما إلى تضميد جراحهما، بحيث يمكنه انتحال هيئة أحدهما، دون أن ينكشف أمره.
    هتف أحد الرجلين في توتر:
    - أي قول هذا يا سير (وينسلوت).. لقد فقدنا وعينا في تلك السيارة، ثم استعدناه لنجد أنفسنا محاطين برجال الشرطة، و…
    قاطعه سير (وينسلوت)، وهو يهتف بصرامة مباغتة:
    - اصمت.
    ولم يكد هتافه يكتمل، حتى ارتفعت فوهات أسلحة طاقم الأمن نحو الرجلين مباشرة، في حين قال (بيتون) في صرامة:
    - انزعا الضمادات عن وجهيكما.
    غمغم الرجل الآخر في عصبية:
    - ولكن إصاباتنا.
    صاح (بيتون) بكل الصرامة والغضب، وسبابته تتحفز على زناد مدفعه الآلي القصير:
    - انزعاها.
    لم يبد المفتش (جاك) شديد الاهتمام بمتابعة ما يحدث، والرجلان ينزعان ضماداتهما في عصبية غاضبة، وإنما واجه سير (وينسلوت)، قائلاً في لهجة، زادت سخريتها عن صرامتها:
    - وهل تتوقع أن تجد شيئاً، عبر هذا التفسير المباشر؟!
    أجابه سير (وينسلوت) في سرعة:
    - كلا.
    انعقد حاجبا المحامى في توتر، وقال في عصبية:
    - عجباً!!.. إنه يبدو لي منطقياً للغاية.
    أشار سير (وينسلوت) بيده، قائلاً:
    - ومباشر للغاية أيضاً يا عزيزي (ويندسور)، ولكن ما فعله خصمنا، في مبنى الشرطة، يوحى بأنه محترف وجرئ، ومثله لن يلجأ إلى أسلوب مباشر على هذا النحو.
    ثم نقل بصره إلى المفتش (جاك)، مستطرداً في بطء:
    - بل سيلعب على وتر غير مباشر، بحيث لا يمكن أن يخطر ببالنا في سهولة.
    تلاشت السخرية من لهجة المفتش (جاك) هذه المرة، وهو يقول في غضب صارم:
    - ما الذي يعنيه هذا بالضبط يا سير (وينسلوت)؟!
    تراجع سير (وينسلوت) في مقعده، وبدا وكأنما استرخى فيه تماماً، وهو يقول في هدوء واثق:
    - يعنى أنه من سوء حظ ذلك المحتال، أن لدى شبكة معلومات واسعة للغاية.. ودقيقة للغاية.. وسريعة للغاية أيضاً.
    ثم التقط ملفاً من سطح مكتبه، وفتحه في هدوء، وهو يواصل:
    - ولقد استخدمت شبكة المعلومات الفائقة تلك؛ لمعرفة هوية ذلك الشخص، الذي قام بعملية إنقاذ فريدة ومبهرة، في أحد شوارع (لندن) الرئيسية، و الذي أمكنني الحصول على بعض اللقطات الواضحة لوجهه، من خلال فيلم قصير، التقطه شخص ما لعملية الإنقاذ.
    والتقط من داخل الملف بعض الصور المقربة لوجه (أدهم)، ورفعها أمام عيني المفتش، وهو يسأله بابتسامة غامضة:
    - هل أمكنك تعرفه؟!.. إنه ذلك المفتش الزائف.. أليس كذلك؟!
    هز المفتش (جاك) رأسه نفياً، وهو يقول في حزم:
    - إنه حتى لا يشبهه.
    وغمغم أحد الرجلين المصابين في توتر:
    - ليس حتى عندما نزع شاربه المستعار.
    انعقد حاجبا سير (وينسلوت)، وهو يعيد الصور إلى الملف، قائلاً في صرامة:
    - ربما بالنسبة لكم.
    وعاد يتراجع في مقعده، مضيفاً في حزم:
    - المهم أنني قد عرفت من هو.
    بدا الاهتمام الشديد على وجه المحامى، وهو يعتدل، متسائلاً:
    - ومن هو يا يسر (وينسلوت)؟!
    أشار سير (وينسلوت) بيده، وهو يقول:
    - لا أحد يعرف اسمه بالضبط، ولكن بعضهم تعرّفه، باعتباره رجل مخابرات مصري، قام بعملية ناجحة ومدهشة في (سنغافورة)؛ للحصول على تصميمات صاروخ إسرائيلي تحت التطوير*، ويؤكد الكل أنه يتميز بمهارات مدهشة ومبهرة، وعلى رأسها براعة نادرة، في أمر لم يبلغه سواه ، على حد علمي.
    وصمت لحظة، تركز بصره خلالها على وجه المفتش (جاك)، قبل أن يكمل في صرامة:
    - القدرة على التنكر وانتحال الشخصيات، على نحو متقن، لم يسجل التاريخ من يباريه فيه قط، حتى ليقولون: إن أم الشخص نفسه، لن يمكنها تعرفه، لو تنكّر في هيئته.
    عادت اللمحة الساخرة إلى لهجة المفتش الصارمة، وهو يقول:
    - يبدو لي أمراً أقرب إلى أفلام السينما الخيالية، منه إلى عالم الواقع.
    هز سير (وينسلوت) رأسه في بطء، وهو يقول، دون أن يرفع عينيه عن وجه المفتش:
    - ليس هذا ما تقوله المعلومات الدقيقة، التي تؤكد أنه، لو انتحل شخصيتك، فستعجز أمك نفسها عن معرفة الفارق بينكما.
    انعقد حاجبا المفتش بشدة، وهو يقول:
    - ما الذي يعنيه هذا بالضبط يا سير (وينسلوت)؟!
    أشار (وينسلوت) بسبابته، فارتفعت فوهات أسلحة (بيتون) ورجاله، في حركة واحدة، نحو رأس المفتش، الذي قال في غضب شديد:
    - هل تتصور أن كونك أحد أعضاء مجلس العموم، يمنحك حق تصويب الأسلحة، إلى مفتش في الشرطة البريطانية؟!
    نهض (وينسلوت) من خلف مكتبه، وهو يقول:
    - هذا لو أنه بالفعل مفتش في الشرطة البريطانية.
    انتفض المحامى، وهو يقول:
    - ولكن.. ولكنني راجعت هويته الأمنية بنفسي يا سير (وينسلوت).
    ابتسم سير (وينسلوت)، وهو يقول في هدوء:
    - لقد راجعت الهوية الأمنية للمفتش (جاك ستيورات)، والتي استولى عليها رجل المخابرات المصري حتماً، عندما دخل إلى مكتب (جاك) الحقيقي؛ فهو يمتلك أيضاً خفّة يد مدهشة ، حسبما تقول المعلومات ، الواردة عنه .
    قال المفتش في غضب شديد:
    - وما الذي يعنيه هذا اللغو؟!
    استدار إليه سير (وينسلوت)، وارتسمت على شفتيه ابتسامة كبيرة، وهو يقول:
    - يعنى، وبكل بساطة، أنك لست (جاك ستيورات) الحقيقي أيها المصري.
    انعقد حاجبا المفتش في شدة، في حين هب المحامى من مقعده، وهو يردّد في ذهول:
    - مستحيل!.. مستحيل!
    بدا سير (وينسلوت) واثقاً، ظافراً، متشفياً، وهو يقترب من المفتش (جاك)، قائلاً:
    - لا يوجد مستحيل يا عزيزي (ويندسور)، فهذا هو التفسير الثاني غير المباشر.. أن يصيب خصمنا وجهي رجلينا، حتى يفقدهما الوعي، ثم يعود إليهما في هيئة المفتش (جاك)، ويأتي بهما إلى هنا، دون أن ينتبه إلى خطأ واحد وقع فيه، وهو يضع تفاصيل خطته المعقدة.
    سأله (بيتون) في لهفة:
    - أي خطأ هذا يا سير (وينسلوت)؟!
    أشار (وينسلوت) بسبابته، وهو يجيب:
    - قدومه إلى هنا.
    لوح المحامى بذراعيه، في توتر شديد، وهو يدور في الحجرة، مكرّراً في ذهول:
    - مستحيل!.. مستحيل!
    ثم استدار إلى سير (وينسلوت)، واتجه نحوه، متسائلاً في عصبية بالغة:
    - وما الذي يعنيه قدومه إلى هنا؟!.. لماذا اعتبرته خطئاً، كشف هويته الحقيقة؟!
    قال سير (وينسلوت)، في ثقة شديدة:
    - سل نفسك أنت يا عزيزي (ويندسور): هل يوجد سبب منطقي واحد، لقدوم مفتش شرطة إلى هنا منفرداً، وهو يصطحب اثنين من المشتبه فيهم.
    هتف المفتش (جاك) في صرامة:
    - نعم.. سل نفسك أيها المحامى، فأنت الوحيد، الذي يملك جواب السؤال.
    قال سير (وينسلوت) في سخرية:
    - إنه ليس أمراً قانونياً معقداً، حتى..
    قاطعه المفتش في غضب:
    - ومن تحدث عن القانون؟!.. إنني أتحدث عما فعله محاميك هذا، منذ ساعتين فحسب، وبالتحديد عندما عثرنا على رجليك المصابين.. لقد حضر إلى مبنى الشرطة، ودفع كفالة الإفراج عنهما، ثم اقترح أن أحضرهما بنفسي إلى قصرك، بعد غروب الشمس؛ حتى أحصل منك شخصياً على تعهد، بعدم عملهما كحارسين شخصيين مرة أخرى.
    انعقد حاجبا (بيتون) في توتر شديد، في حين غمغم سير (وينسلوت)، في دهشة بالغة:
    - (ويندسور) فعل هذا.
    لم يكد يتم عبارته، حتى سحب المحامى من حزامه مسدساً، ألصقه بعنق سير (وينسلوت) من الخلف، وهو يحيط عنقه بذراعه القويّة الأخرى، قائلاً في سخرية:
    - مفاجأة!!.. أليس كذلك؟!
    وانتفض جسد سير (وينسلوت) بمنتهى العنف..
    بل، وانتفضت أجساد الجميع، حتى المفتش (جاك) نفسه..
    فذلك الصوت، الذي نطق به المحامى عبارته الأخيرة، لم يكن يشبه، بأي حال من الأحوال، صوته الذي كان يتحدث به طوال الوقت..
    بل كان صوتاً مختلفاً تماماً..
    كان صوتاً قوياً، حازماً، واثقاً..
    وساخراً..
    كان صوت (أدهم)..
    (أدهم صبري)..
    "مستحيل!!.."..
    هتف (دافيد جراهام) بالكلمة، بكل دهشة وتوتر الدنيا، فاعتدل الملحق العسكري الإسرائيلي (إيتان مائير) على مقعده، وهو يسأله في قلق:
    - ماذا حدث؟!… هل كشف رجال سير (وينسلوت) جهاز التنصّت، الذي زرعته في مكتبه؟!
    هز (جراهام) رأسه نفياً في قوة، وهو يقول في توتر شديد:
    - بل هو يعمل بكفاءة تامة، وينقل إلىَّ هنا كل ما يدور في حجرة مكتب عضو مجلس العموم المتحذلق.
    ثم أدار عينيه إليه، مستطرداً:
    - وما يدور هناك، هو ما أثار قلقي وفزعي الآن.
    سأله (مائير)، في عصبية شديدة:
    - وما الذي يدور هناك؟!..
    نهض (جراهام)، وهو يجيب متوتراً:
    - رجل المخابرات المصري، أمكنه أن يصل إلى سير (وينسلوت)، ويبدو أنه يسيطر على الموقف أيضاً هناك.
    اتسعت عينا (مائير) عن آخرهما، وهو يهتف:
    - مستحيل!
    أجابه (جراهام)، وهو يندفع إلى خارج الحجرة:
    - هذا ما قلته بالضبط.
    لحق به (مائير)، هاتفاً:
    - ماذا ستفعل الآن؟!
    أجاب (جراهام) في حزم:
    - سأنطلق على الفور، إلى قصر سير (وينسلوت)، قبل أن تتطوّر الأمور أكثر.
    ثم التفت إليه، مستطرداً بلهجة آمرة صارمة:
    - أرسل خلفي فريقاً من محترفينا، واحرص على تزويدهم بكل الأسلحة الممكنة، لضمان السيطرة التامة على الموقف هناك.
    سأله (مائير) بمنتهى التوتر:
    - هل تعتقد أنه سيقتل سير (وينسلوت)؟!
    أجابه (جراهام)، وهو يتجاوز أسوار السفارة، ويقفز داخل سيارته الرياضية القوية:
    - لو فعلها، فسيفسد مخططاتنا لفترة طويلة من الزمن.
    قال (مائير) في عصبية:
    - ولكنك تقول: إنه قد وصل إليه في عقر قصره، وأنه يسيطر على الأمور كلها بالداخل.
    قال (جراهام) في صرامة، وهو يدير محرك سيارته:
    - ليس المهم أن ينجح في دخول القصر.
    وانعقد حاجباه في شدة، وهو يضيف:
    - المهم ألا ينجح في الخروج منه أبداً.
    قالها، وانطلق بسيارته، ليضيف إلى الصراع جبهة جديدة..
    ورهيبة.
    ***********************************
    الصور المصغرة للصور المرفقة الصور المصغرة للصور المرفقة HxH-mousepad-chains-back.jpg‏  

  3. #3
    التسجيل
    24-07-2006
    المشاركات
    150

    Wink رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    وهذي التكملة الأخير
    " ..الفصل التاسع والأخير "المواجهـة
    على الرغم من الشهرة الواسعة، التي يحوزها سير (وينسلوت)، في الأوساط السياسية والاجتماعية البريطانية، باعتباره رجل بارد الأعصاب، يمكنه أن يظل متماسكاً في أحلك الظروف، التي ينهار خلالها سواه، فقد بدا محتقن الوجه، شديد التوتر، و(أدهم) يحيط عنقه من الخلف بذراعه اليسرى، ويلصق فوهة مسدسه الباردة به بيمناه، قائلاً في سخرية:
    - لو أردت رأيي، فالأفضل أن تراجع نظمك الأمنية جيداً يا زعيم الأوغاد، فعباقرة جهازك الأمني سمحوا لي بالمرور، حتى بلغت مكتبك الشخصي، دون أن يكلف أحدهم نفسه مشقة تفتيشي؛ للتأكد من أنني لا أحمل سلاحاً.
    وعلى الرغم من ذهوله، الذي يفوق ذهول الجميع، هتف (بيتون)، متصوراً أن أصابع الاتهام تتجه نحوه، ونحو طاقم الأمن الذي يقوده:
    - لقد تصورنا أنه محاميك الخاص يا سير (وينسلوت)، وليس من اللائق أن..
    قاطعه سير (وينسلوت)، في غضب مستنكر، ووجهه يزداد احتقاناً:
    - اللائق؟!.. أهذا ما تعلمته من نظم الأمن يا (بيتون)؟!
    قال (أدهم) ساخراً ، وهو ينزع عن وجهه قناع المحامى المتقن:
    - وهل من قواعد نظم الأمن، أن تترك محاميك الشخصي، وكاتم أسرارك الأوّل بلا حماية كافية ؟! .. لقد زرته في مكتبه ، وأفقدته الوعي بلكمة واحدة ، ثم تركته مقيّداً فاقد الوعي هناك ، وسمحت لموظفيه بالانصراف ، بعد أن انتحلت هيئته ، وغادرت باعتباري هو، بعد انصرافهم جميعاً، بكل هدوء وبساطة.
    وابتسم المفتش (جاك)، في سخرية متوترة، وهو يقول:
    - من الواضح أنكم جميعاً تحتاجون إلى دروس مكثفة، في نظم الأمن الدقيقة، يا عضو مجلس العموم.
    بدا وكأن سير (وينسلوت) قد استعاد صرامته وثقته، على الرغم من فوهة المسدس الملتصقة بعنقه، وهو يقول:
    - ادخر سخريتك للمشهد الأخير أيها المفتش؛ فالمباراة لم تنته بعد.
    دفع (أدهم) فوهة مسدسه في عنق سير (وينسلوت) أكثر، وهو يقول في سخرية صارمة:
    - وماذا لو أن هذا هو المشهد الأخير بالفعل، يا زعيم الأوغاد؟!
    أجابه سير (وينسلوت)، وقد استعاد هدوءه كاملاً:
    - من المستحيل أن يكون هذا هو المشهد الأخير أيها المصري، حتى لو نسفت رأسي بمسدسك هذا، فربما كان الدخول إلى قصري بمثابة لعبة ممتعة بالنسبة لك، ولكن الخروج منه لن يكون أبداً بالبساطة نفسها.
    هز المفتش (جاك) رأسه، قائلاً في سخرية، امتزجت بتوتره وصرامته، لتمنح صوته رنيناً عجيباً:
    - بالبساطة نفسها؟!.. يا له من قول يا سير (وينسلوت)!.. هل تعتبر خطته العبقرية، وذلك الانتحال المذهل والمتقن لشخصية محاميك الخاص، والذي نجح في خداعك شخصياً، على الرغم من معرفتك القوية به، مجرد بساطة؟!
    قال سير (وينسلوت)، بنفس الهدوء العجيب:
    - خطته لم تكن عبقرية، وإنما معقدة أكثر مما ينبغي.
    قال (أدهم) ساخراً:
    - دعنا نعترف أولاً بأنها قد نجحت في خداعك.
    قال سير (وينسلوت)، وقد بدا غير مبال على الإطلاق بفوهة المسدس، التي كادت تنغرس في عنقه:
    - كان يمكنك أن تخدعني بانتحال شخصية المحامى فحسب، ولم يكن هناك داع لإحضار المفتش والرجلين إلى هنا.
    هز (أدهم) رأسه نفياً في بطء، وقال:
    - ربما أردت أن أسخر منك أمام الجميع.
    شعر (بيتون) بتوتر شديد، يمتزج بدهشته البالغة، عندما نطق (أدهم) عبارته الأخيرة، إلا أن سير (وينسلوت) نفسه قال في برود:
    - ليس هذا هو السبب الحقيقي.
    قال (أدهم):
    - ولكن حضورهم أربكك بالفعل، ودفعك إلى لعب دور المحقق البارع، أو ربما حاولت أن تتقمص شخصية مواطنك الخيالي (شيرلوك هولمز)، وأنت تكشف ما تصورت أنه الحقيقة.. كيف كان بإمكانى إضاعة فرصة كهذه.. لقد استمتعت كثيراً في الواقع، باللحظة التي انكشف فيها عقلك غير المرتب، ومفهومك المضحك عن عبقريتك الوهمية.
    فجرت الكلمات الأخيرة كل غضب (بيتون)، فصوب فوهة مدفعه الآلي القصير نحو (أدهم)، وهو يقول في صرامة:
    - أوامرك يا سير (وينسلوت).
    ابتسم (أدهم)، في سخرية أكثر، وهو يقول:
    - والآن ماذا يا زعيم الأوغاد؟!.. هل ستأمر رجالك بإطلاق النار علينا معاً؟!
    قال سير (وينسلوت) في برود:
    - أنت خاسر في كل الأحوال أيها المصري، فعبد أن كشفت القناع عن وجهك، على هذا النحو السافر، لن يمكنك أبداً أن تغادر قصري سالماً.
    هز (أدهم) كتفيه، في لا مبالاة، قائلاً:
    - لا تشغل نفسك بشأني يا زعيم الحمقى؛ فربما كانت لدى خطة للخروج من هنا.
    ثم مال على أذنه، مضيفاً في شيء من الصرامة:
    - أو أنها خطة انتحارية، للتخلص من زعيم أغبى منظمة جاسوسية، على وجه الأرض.
    انعقد حاجبا المفتش (جاك)، وهو يقول في توتر:
    - منظمة جاسوسية؟!.. ماذا تعنى بالضبط يا رجل؟!
    أجابه (أدهم) في حزم واضح:
    - دعك خارج هذا الأمر أيها المفتش، فربما تدفع حياتك؛ ثمناً لمعرفته.
    ضاقت عينا سير (وينسلوت)، على نحو عجيب، عندما سمع عبارة (أدهم) الأخيرة، وهتف فجأة:
    - (بيتون)… المفتش.
    استوعب (بيتون) الأمر على الفور، فأدار فوهة مدفعه القصير، نحو رأس المفتش (جاك) مباشرة، فقال هذا الأخير في عصبية:
    - هل ستجرؤ؟!
    تجاهله سير (وينسلوت) تماماً، وهو يقول:
    - أشكرك كثيراً على عبارتك الأخيرة أيها المصري، فقد نبهتني إلى أنك قد جلبت نقطة ضعفك إلى هنا بنفسك، دون أن تدرى.
    قال (أدهم) في سخرية، أخفى بها ذلك القلق، الذي ملأ نفسه:
    - أية نقطة ضعف أيها المتحذلق؟!
    أجابه سير (وينسلوت)، في هدوء شديد:
    - لقد قرأت كل المعلومات، التي جلبتها عنك، مّمن عاصروا عملية (سنغافورة)، بإمعان شديد أيها المصري، وكل حرف منها يؤكد أنك تلتزم دوماً بعدد من المبادئ والقواعد، وعلى الرغم من جرأتك الشديدة، وشجاعتك في مواجهة الأخطار، واستعدادك الدائم لدفع حياتك، في سبيل ما تؤمن به، إلا أنك تقيم وزناً كبيراً للحياة البشرية، ولا تريق الدماء إلا للضرورة القصوى .
    قال (أدهم)، في شيء من الغلظة:
    ألا تبدو لك هذه ضرورة قصوى، يا زعيم الأوغاد؟!
    قال سير (وينسلوت) في صرامة:
    - دعنا نختبر هذا.
    ثم التقى حاجباه، وهو يقول لقائد حرسه، بلهجة آمرة صارمة:
    - أمامك دقيقة واحدة يا (بيتون)، فإما أن يستسلم لنا المصري، ويلقى سلاحه أرضاً، ويرفع ذراعيه فوق رأسه، أو تنسف رأس المفتش (جاك) بلا رحمة.. هل تفهم؟!
    ضاقت عينا (بيتون) في وحشية عجيبة، وهو يقول:
    - أوامرك يا سير (وينسلوت).
    أما المفتش (جاك)، فقد هتف في حدة:
    - إنك تتجاوز كل الحدود يا سير (وينسلوت).. قتل مفتش شرطة، يعتبر جريمة من الدرجة الأولى، ولا أحد يفلت منها أبداً.
    قال سير (وينسلوت) بنفس الصرامة:
    - دعني أستعير عبارة صديقنا المصري أيها المفتش…. لا تشغل نفسك بشأني..
    جذب (أدهم) إبرة مسدسه في حزم، وهو يقول:
    - أمامك أنت نصف الدقيقة فحسب أيها الوغد؛ لتلغى أوامرك السابقة، وإلا..
    قاطعه سير (وينسلوت)، وهو يقول في حزم:
    - أنت على حق أيها المصري.
    ثم هتف بقائد حرسه في صرامة:
    - اجعلها نصف دقيقة فحسب يا (بيتون)؛ فصديقنا المصري يرى أنها مهلة كافية.
    قال (أدهم) في صرامة، وهو يضغط عنق سير (وينسلوت) بذراعه اليسرى في قوة:
    - إذن فقد قررت المغامرة بحياتك، يا زعيم الأوغاد.
    قال سير (وينسلوت) في صرامة، على الرغم من الآلام، التي يشعر بها في عنقه:
    - لو أن معلوماتك عنى كافية، لعلمت أنني مقامر بطبعي أيها المصري.
    أما المفتش، فهتف في عصبية متوترة:
    - إنني أحذركم.. لو جرؤتم على…
    بتر عبارته بغتة، على نحو جذب انتباه (أدهم)، فرفع عينيه إليه في سرعة، ورآه يحدق في بقعة ما خلفه، في مزيج من الدهشة والتوتر، فأدار رأسه بسرعة، إلى حيث ينظر المفتش، و..
    وكانت مفاجأة.
    فعبر ممر سرى، في جدار حجرة مكتب سير (وينسلوت)، كان ثلاثة من طاقم حراسة هذا الأخير، يدلفون إلى الحجرة، وكل منهم يحمل مدفعاً آلياً قصيراً..
    وفى انفعال جارف، هتف بهم (بيتون):
    - أطلقوا النار.
    وانتفض جسد المفتش (جاك)…
    بمنتهى العنف..

    بدا نائب مدير المخابرات العامة المصرية شديد التوتر هذه المرة، وهو يدخل حجرة المدير، قائلاً:
    - أنباء جديدة من (لندن) يا سيدي.
    رفع المدير عينيه إليه، واستشف توتره من ملامحه، وهو يسأله في قلق:
    - وماذا تحوى؟!
    وضع النائب البرقية الجديدة أمامه، وهو يقول في توتر:
    - الإسرائيليون دخلوا الساحة.
    تراجع المدير، قائلاً:
    - الإسرائيليون؟!.. وما شأنهم بالأمر كله؟!
    لوح نائبه بيده، وهو يقول:
    - مراقبونا رصدوا لقاءً سابقاً، بين سير (وينسلوت)، وضابط المخابرات الإسرائيلي (دافيد جراهام)، في الثالثة ظهراً، بتوقيت (لندن)، ومنذ فترة قصيرة، غادر (جراهام) مبنى السفارة الإسرائيلية، في توتر ملحوظ، وانطلق بسيارته الخاصة إلى قصر سير (وينسلوت)، وتوقف عند بداية الطريق الخاص، الذي يقود إلى القصر، حيث لحق به فريق من المحترفين الإسرائيليين، وهم يحاصرون قصر (وينسلوت) الآن.
    انعقد حاجبا المدير، وهو يقول في تفكير متوتر:
    - هذا يبدو لي أشبه بصراعات (المافيا) القديمة
    ثم تراجع في مقعده، وشبّك أصابع كفيه أمام وجهه، وهو يكمل في شيء من الحزم:
    - ولكن هذا لا يتفق مع مجريات الأحداث، والإسرائيليون لن يقدموا على موقف عنيف كهذا، دون مبرر قوى.
    أشار النائب بسبابته، قائلاً:
    - مراقبونا يؤكدون أيضاً أن كل أطقم الأمن، التابعة لقصر سير (وينسلوت)، تتعاون مع فريق المحترفين الإسرائيلي تعاوناً كاملاً، و(جراهام) يقود العملية كلها، ببراعة تليق بسمعته في مجال الأمن.
    ازداد انعقاد حاجبي المدير، وهو يقول:
    - إنها ليست حرب عصابات إذن.
    وطال صمته هذه المرة، وهو يدرس الموقف كله في ذهنه، قبل أن يعتدل، قائلاً في حزم:
    - لو أردت رأيي، فهذا الحصار يستهدف منع الخروج من القصر، وليس الدخول إليه.
    ثم ضرب سطح المكتب براحته، مضيفاً:
    - منع الرائد (أدهم) بالتحديد.
    قال نائبه في انفعال:
    - هذا يعنى أنه يسيطر على الموقف بالداخل.
    نهض المدير، قائلاً في حزم:
    - ويعنى أن أوراقه قد انكشفت للكل أيضاً، ولهذا يسعى الإسرائيليون لحصار المكان، ومنع خروجه منه حياً بأي ثمن.
    هز النائب رأسه في توتر، وتساءل:
    - ولكن لماذا دخل الرائد (أدهم) إلى القصر يا سيدي؟!.. لماذا أصر على أن تكون المواجهة مباشرة؟!
    قال المدير في توتر:
    - هذا ما ينبغي أن نسأله إياه.
    وصمت لحظة، ثم أضاف في توتر:
    - لو أنه خرج من هذا الموقف حياً.
    وانفرجت شفتا النائب؛ ليقول شيئاً ما..
    إلا أنه لم يفعل..
    فبعد ما قاله المدير، لم يعد هناك ما يقال..
    على الإطلاق.
    كان الموقف كله دقيقاً ومتوتراً بالفعل، في حجرة مكتب سير (وينسلوت)، زعيم منظمة (هيل آرت) للجاسوسية..
    فبخدعة بارعة، تمكّن رجاله من محاصرة (أدهم) من الجانبين.
    وصرخ قائدهم، يطالبهم بإطلاق النار..
    وفوراً..
    ولقد انتفض جسد المفتش (جاك) بمنتهى العنف، وهو يتراجع بحركة حادة، متصوراً أن الرصاصات ستخترق جسد (أدهم) حتماً..
    وبمنتهى العنف..
    أما الرجال، فقد كانت تدريباتهم تحتم عليهم إطلاق النار فوراً، عندما يتلقون الأمر بهذا..
    ونحو الهدف مباشرة..
    ولكن العجيب أنهم لم يفعلوا..
    ولم تنطلق من فوهات أسلحتهم رصاصة واحدة..
    ففي نفس اللحظة، التي أدرك فيها (أدهم) موقفه، بدأ عقله تحرّكه على الفور..
    واستجاب له جسده تماماً..
    وبسرعة مذهلة..
    وبحركة سريعة، تجاوزت كل المقاييس والمعايير المعروفة، مال (أدهم) بجسده، في زاوية حرجة، وجذب معه سير (وينسلوت) من عنقه في قسوة، وتراجع بوثبة قوية، ليلصق ظهره بالمكتبة الكبيرة في الحجرة، ويحمى جسده بجسد عضو مجلس العموم البريطاني..
    ولهذا لم يطلق الرجال رصاصة واحدة..
    فأية رصاصة تنطلق من أسلحتهم، ستخترق جسد زعيمهم حتماً، قبل أن تبلغ جسد (أدهم)، الذي صاح في صرامة:
    - حركة واحدة، وأنسف رأس الأفعى أمام عيونكم جميعاً أيها الأوغاد.
    هتف سير (وينسلوت) في صرامة:
    - لا فائدة أيها المصري.. الرجال سيظفرون بك حتماً، إن عاجلاً أو آجلاً.
    ضغط (أدهم) عنقه أكثر بذراعه القوية، وهو يقول في صرامة:
    - اصمت أيها الوغد.
    تجاهله سير (وينسلوت) تماماً، وهو يهتف بقائد حرسه:
    - كم تبقى من المهلة يا (بيتون)؟!
    أجابه (بيتون)، في صرامة عصبية:
    - خمس ثوان فحسب يا سير (وينسلوت).
    قال (وينسلوت) في شراسة:
    - هل سمعت أيها المصري؟!.. خمس ثوان فحسب، وينتهي كل أمل لك في النجاة.
    قال (أدهم) في صرامة:
    - إنك لن تجرؤ على قتل مفتش شرطة بريطاني.
    قال سير (وينسلوت) في سخرية، على الرغم من آلام عنقه، التي تجاوزت الحدود:
    - هل تعتقد هذا؟!
    لم يكد يتم عبارته، حتى قال (بيتون)، بمنتهى الصرامة والشراسة:
    - انتهت المهلة.
    ودون حتى أن ينتظر نهاية كلماته، ضغط زناد مدفعه الآلي القصير، المصوب إلى رأس المفتش (جاك) مباشرة..
    وفى مشهد رهيب، اخترقت رصاصة (بيتون) رأس المفتش، وتجاوزته إلى الجانب الآخر، حاملة معها أجزاءً من مخه، مع نافورة من الدم، جحظت معها عينا الرجل، قبل أن يهوى جثة هامدة، على أرضية الحجرة، المغطاة ببساط فاخر ثمين..
    ومع دوى الرصاصة، شعر (أدهم) بتلك الوخزة في فخذه اليسرى..
    وخزة سريعة خاطفة، بدت وكأنها بسبب شيء مدبب، في ثياب زعيم منظمة (هيل آرت)، الذي يحتمي بجسده..
    إلا أن تأثيرها كان سريعاً للغاية..
    وخطيراً للغاية..
    فمع الوخزة، سرى خدر عجيب ثقيل، من موضعها في فخذ (أدهم)، إلى جسده كله..
    وقبل حتى أن يشعر بالدهشة لما حدث، أصيبت أطرافه كلها بشلل مفاجئ عجيب..
    شلل تجمد معه جسده، ثم تراخى في سرعة، حتى أن ساقيه لم تعودا تحتملان وزنه..
    كل هذا خلال ثانية، لم يعد قادراً بعدها، حتى على ضغط زناد مسدسه، ووجد جسده كله يتهاوى، وخاصة عندما أزاح سير (وينسلوت) ذراعه الملتفة حول عنقه، في هدوء وبساطة، وتركه يسقط أرضاً، أمام عيون الجميع، وهو يبتسم، قائلاً:
    - هذه هي المفاجأة الحقيقية أيها المصري.. أليس كذلك؟!
    حاول (أدهم) أن يقاوم..
    أو يستعيد تماسكه..
    أو حتى شعوره بأطرافه المخدرة..
    ولكن هذا بدا مستحيلاً تماماً في تلك اللحظة..

    العجيب أنه كان يرى ويسمع جيداً سير (وينسلوت)، الذي انحنى نحوه، بابتسامة ساخرة، ظافرة، شامتة، وهو يقول:
    - كان ينبغى أن تعلم أن الانتصار على مقاتل قديم مثلي، يعد من رابع المستحيلات أيها المصري.
    ثم أشار إلى خاتم كبير، في الإصبع الأوسط من يده اليسرى، مستطرداً في زهوراً واضح:
    - إنه سلاحي السري، الذي أدخره دوماً للنهاية؛ فهو عقار خاص للغاية، يستخدمه هنود أدغال (البرازيل)؛ لإصابة فرائسهم بالشلل، حتى يسهل قنصها، وحملها حية إلى قبيلتهم.
    هتف (بيتون) في انبهار واضح:
    - فكرة عبقرية يا سير (وينسلوت)!.. إذن فقد كنت تعلم منذ البداية أنك ستنتصر في النهاية.. ولكن لماذا إذن..
    قاطعه سير (وينسلوت)، وهو ينهض في حزم:
    - كنت أريد أن ألقنكم الدرس يا (بيتون).
    ابتسم (بيتون) ابتسامة كبيرة، قبل أن يصوب مسدسه إلى رأس (أدهم)، قائلاً:
    - أوامرك يا سير (وينسلوت).
    وابتسم سير (وينسلوت) ابتسامة كبيرة..
    ابتسامة ظافرة..
    ومخيفة..
    ووحشية..

    "أكمل يا (قدري).. لا تتوقف الآن.."..
    هتفت (منى) بالعبارة في لهفة، ولكن (قدري) أغلق الملف، ووضعه على سطح مكتبه، وهو يقول:
    - (منى).. إنها منتصف الليل الآن، والمفترض أن نعود إلى ديارنا؛ لننعم بقسط من النوم، ونستعد للقيام بعملنا غداً.
    هتفت معترضة:
    - ولكنني أريد معرفة ما حدث هناك.. في قصر سير (وينسلوت) هذا.
    هز كتفيه الضخمين، قائلاً:
    - الأمر واضح للغاية يا (منى)؛ فصديقنا (أدهم) واصل حياته، بعد تلك العملية، والتقى بك، وتشاركتما عدداً من العمليات الناجحة، وهذا يعنى أن (بيتون) هذا لم يطلق النار على رأسه، على الرغم من ذلك الشلل، الذي سببه له عقار سير (وينسلوت).
    سألته في لهفة، وهو يلملم أوراقه، ويرتب مكتبه، استعداداً للانصراف:
    - كيف نجا (أدهم) من هذا الموقف إذن؟!
    قادها (قدري) في رفق إلى باب معمله، وهو يقول:
    - الواقع أن سير (وينسلوت) كانت لديه مخططات أخرى بشأنه.
    ثم مال على أذنها، مستطرداً:
    - مخططات رهيبة.
    هتفت في اعتراض:
    - (قدري).. إنك تزيدني فضولاً ولهفة، لمعرفة باقي تفاصيل العملية.
    ابتسم، قائلاً:
    - في صباح الغد يا (منى)… سنتابع قراءة الملف في صباح الغد.
    قالها، وأطفأ الأنوار، لينهى هذه القصة
    النهـــــايــــة
    وأنشاء الله أن وصلة الردوود أكثر من ميه أجيب رواية ثانية لرجل المستحيل
    الصور المصغرة للصور المرفقة الصور المصغرة للصور المرفقة killua1024.jpg‏  

  4. #4
    التسجيل
    24-07-2006
    المشاركات
    150

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    والله أنا مأمل وماجاني ولا رد

  5. #5
    التسجيل
    09-06-2004
    الدولة
    Riyadh
    المشاركات
    2,733

    Exclamation رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    ياااه..انا من اشد المعجبين بالدكتور/نبيل فاروق -مؤلف الروايات المصرية للجيب-
    وخاصة سلسلة رجل المستحيل.أنا من فترة وانا اجمعها والحين وصلت لـ154 وكلها موجودة عندي

    ألا في كم جزء ممنوع دخولها كذا مو محصلها
    على عموم مشكوور اخوي على القصة

  6. #6
    التسجيل
    24-07-2006
    المشاركات
    150

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    العفووووووووو أختي وأنا أشكرس أيضا لأنس الوحيده الي عطتني وجه

  7. #7
    التسجيل
    13-10-2004
    الدولة
    مصر أم الدنـــــيا (إسكندراني):;-)
    المشاركات
    1,098

    Cool رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    بالنسبة لهذه القصة



    انها قصو تم تألييفها و توزيعها اول من قبل المصريين
    حين طنت اشاريها ممكن قيل 7 سنين

    و كانت متوفرة بكثررررررررررة و بأعداد كثيييييييييييرة

    و شكررررررا اخوي
    و أكدي بشوف العدد الانتا و ضعتة


    و شكرررررررا
    ...
    ...

  8. #8
    الصورة الرمزية Bilvag0r
    Bilvag0r غير متصل الفائز الثالث لمسابقة الأنمي
    التسجيل
    27-05-2004
    الدولة
    بيتنا
    المشاركات
    391

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    فعلا سلسله رجل المستحيل من امتع المؤلفات المصرية

  9. #9
    التسجيل
    01-09-2005
    المشاركات
    4

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    نا معجب بالرواية وقد قرأتها سابقا وارجو نشر المزيد والحديث من هذه السلسله ىالرائعه

  10. #10
    التسجيل
    25-08-2004
    الدولة
    ][ - kuwait - ][
    المشاركات
    6,298

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    تسلم على الموضوع الرائعننتظر جديدك^_^ومثل ما قاله روجا

  11. #11
    التسجيل
    09-11-2004
    المشاركات
    11

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    ما اسم الرواية؟؟
    اعلم انها من سلسلة رجل المستحيل لكن اريد اسم الرواية

  12. #12
    التسجيل
    24-07-2006
    المشاركات
    150

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    مشكوووووورين يالأخوان ويالبارود تلقى أسمها ببدايتها

  13. #13
    التسجيل
    16-10-2005
    الدولة
    Jordan
    المشاركات
    362

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....


    وااااو بتقرأو للدكتور نبيل فاروق

    صراحة هو كاتب مبدع و كل السلاسل اللي مؤلفها روووعة بالزات سلسلة رجل المستحيل قرأتهم كلهم والحمدلله رجع ينشرهم لانو فترة من الفترات قرر انو ينهي السلسلة @@

    اني ويه تانكيو على الموضوع ^___^
    خلفيت التوقيع ما اخدتها من End Game

  14. #14
    التسجيل
    28-08-2004
    الدولة
    معشوقتي مصر
    المشاركات
    2,404

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    السلام عليكم ورحمةالله وبركاته
    رجل المستحيل
    سلسلة من أفضل السلاسل الروائية التي نشأنا عليها وتشربنا منها معاني الوطنية والقومية العربية
    كنت أقرأها في مرحلة من مراحل عمري
    جمعت قلوب الشباب العربي في زمن كثر فيه التراشق واتهامات الخيانة والعمالة بين الجميع
    أكدت علي وحدة القضية عند الجميع وقدمت صورة المخابرات المصرية كواحدة من أفضل أجهزة المخابرات العامة علي مستوي العالم تقديم يليق بها
    وعاد الي الأذهان قصة أسطورة المخابرات المصرية "رفعت الجمال" أو كما عهده وعرفه الجمهور العربي باسم"رأفت الهجان"
    وقتها وحين عرض أحد أجزاء المسلس الثلاثة يختفي الناس من الشوارع لمتابعة أحداث أغرب قضية وملف في قضايا المخابرات لرجل وصل الي حد اقامة علاقة مع وزير الدفاع نفسه وأرادوا ادخاله الكنيست الاسرائيلي
    والأن لنعد الي رجل المستحيل
    بالأعداد الأخيرة مل الكثيريين من سير الأحداث .. فالقصة برأيهم وبرأيي فقدت مصداقيتها
    بعد أن أطال نبيل فاروق في عمر بطل القصة وجعل منه أسطورة ولا أساطير هرقل .. الرجل الذي لا يقهر
    كم من مرة من المفترض أن تنتهي حياة بطل القصة فيعاود الظهور من جديد؟
    الأحداث أصبحت ساذجة بعد التضخيم المفرط في قدرات الرجل وعدم اعتماد المؤلف علي القدر كنهاية طبيعية لبطله
    الأفضل برأيي أن ينهي سلسلته ويربطها بسلسلة جديدة بطلها يكون ابنه بعد أن يتعرف علي والده وحقيقة الأمر فما المشكلة؟
    ولتكن باسم "فتي المستحيل"
    السلام عليكم
    اخي في الله ( شاب مصري )
    اولا اعذرني اني مش باكتب لغه عربيه فصحي
    ولكن احب اقولك اني من اشد المعجبين بكتاباتك
    انا في الموضوع اللي كتبته مش عارف اقولك ايه بس واللهي الدموع داخل عيني انا كاتمها مش عايزها تنزل علي اكتمها و أوجه الشعور اللي جوايا في اني اتقدم واتغلب علي المشكلات التي تواجهنا في مصر والعالم الاسلامي
    انا مش عايز اظهر قدامك بالضعف او اني فاقد الامل
    وداعاً يا أعز من عرفت

  15. #15
    التسجيل
    24-07-2006
    المشاركات
    150

    رد: رواية رجل المستحيل روووووووووووووعة....

    العفو يالأخوان

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •