(كان يمشي متثاقلا وكأن جبلا على ظهره ...وحيدا محطم الخطوات..عناه تفيضان بحزن أليم ...على وجهه كل معاني الأسى... تعصره كآبة حزن كبير تطوي جنبيه على سر دفين ..لو نطقت نظراته لعبرت عن غصات كآبة من عليل الناي..في وجهه أمواج تتلاطم هنا وهناك لا تستطيع تجميع نفسها وكان يرد كلماته المعتادة من بعد شرود فكر طويل ( آه والله دنيا) الى أن وصل الى المقهى الذي كان قد اعتاد ان يذهب اليه وكأنها عادته اليومية أن يمشي حزينا ويردد كلماته ذاتها ويصل الى الى المفهى الحزين بتلك الكلمات الضائعة في بحر الحزن الدفين .. جلس على طاولته..ونادى بالنادل فرحب به وقال له : (كالعادة) فمن عادته أيضا ان يشرب القهوة المرة ويمد يده على جيبه لكي يخرج علة السجائر و يشعل الجمر في فمه لعلها تطفئ النار في داخله ... ويبدأ لعبته المجنونة مع سحب الدخان... ( آه والله دنيا) و أمسك الورقة والقلم و كتب كلماته الضائعة التي قد تجد مكانها في أوراقه المبعثرة ... فنظر أمامه فشاهد أجمل ما شاهد في حياته... شاهد فتاة ذات جمال متألق ... رائع تجلس على الطاولة التي أمامه ... جمال رائع رآه من خلال عيناها اللامعتين ... شمس أضاءت عليه من وجهها ... اتسعت حدقة عينيه... ورفرفت البسمة على وجهه .. تبادلا النظرات المختلفة ... شعر فجأة أن متاعبه قد تلاشت وتركت المجال للاحساس الممتع بالراحة و الرضى والانتعاش.كتب : ( تحدثنا بالعيون ... لغة بلا حروف ولا أرقام .. لغة ليست سوى علامات استفهام.. و أخرى تلحق بعضها بعضا كي تشكل تلك اللغة العميقة .... ماذا تقول عيناك؟ انهما بحر بلا شاطئ أبحر فيهما عمرا بلا أيام الى عالم بلا حدود ... بلا قيود .... فاق جمالها كل الجمال...و حدود الوصف والخيال ... أسرتني كزهور جميلة تملكني.. عندها أصبحت أمنياتي برؤياك .. كفرحة طفل يحلم بليلة العيد ... كفرحة مسافر يتمنى أن يعود من بعيد .. عيناك نقوش فرعونية فيهما موطني و سكني لا أدري لماذا شدتني هكذا؟ فصمتها وهي جاسة أمامي و كأنني أمام لوحة تنطق بألوانها كل المعاني الراقية ... و لكني كنت أسمعا تناجيني من بعيد ... بعيونها حدثتني عن المها هي الاخرى ... و كأنني كنت أسمعها تقول لي أنها هي تائهة أيضا في هذا العالم المخيف ... تريد سكنا و موطنا ... ويبدو أنها قد وجدت هذا السكن في عيناي ... كوني سكني .. كوني موطني ... فأنا احتاجاليك بقدر ما تحتاجين الي ... هل تسمعين دقات قلبي ؟ انها تغني ... ترقص بلقياك ... فها قد وجدت سميرا .. أنيسا يواسيني في ظلمة الليل .)
فتتالت اللقاءات في ذلك المقهى ... وكان يراها كل يوم و يتحدث معها لساعات ... دون أن ينطف بكلمة واحدة ... وكان يكتب فيها شعرا ويتغزل ها دون أن تسمع فكتب لها يوما : (اليك ... يامن جئت صبغت بالنور أغاريدي .. و الحاني الحزينة .. للشذا .. للزهر .... للفن للابداع فاورق غصن في الربا و اخضر عود .. فالدنيا ورود من حولي .. يامن لجأت اليك بحقيبة أحزاني .. لتقابليني بأشعة الشمس الجريئة التي اخترقت جدار الظلمات .. فأضاءت غربتي .. فلولا طيفك الذي ما فارقني ما طاب جرح )
كم أتمنى أن أصارحك بحبي .. أن أهمس لك أجمل الكلمات .. لعينيك أنت .. عندما اقف امامهما لا أدري هل السماء اقتربت ام اني سموت انا الى الأعلى .. لكني أخشى ان أصارحك بحبي فيدي ترتجف والكلمات تتعثر في لساني لن أستطيع التعبير ... لكن يجب أن أصارحك.... فكفى من الزمان غربة .. فمن المؤكد انها تنتظرني أن أقول لها أني .... أحبها .... أعلم أن فؤادك الملهوف يراني.. و العيون السود مكابرة تسمع ندائي فتلك العيون ما خلقت الا للبريق في سمائي و أشهد أنها تهواني كالنهار لماذا الكتمان ؟؟ صارحيني بحب يفوق الوصف و الصور .. أحفريها على القمر أنقشيها فوق الأصداف و فوق الشجر ...)
فاستجمع قواه و هم بالوقوف و مشى نحوها بخطوات متواطئة .. يسابق عمره .. الدقائق تمشي و كان هو وراء الدقائق .. متحاشيا كل الحواجز ... فقد اقترب السطر الأخير .. كي يغتصب العالم .. يجتاح بكارات الاشياء .. يمحو الخط الفاصل بين اللحظة والساعات .. هاقد انزلق تحت الماء .. آملا أن يرى لؤلؤ البحر الحقيقي .. عيناه تبرقان بلهفة و رغبة قوية في تفجير النبع من الأرض .. يتحدى دورة الفصول ومنطق الأشياء ويخرج الأزهار من عباءة الشتاء .. ما زال يجاهد بالطواحين الكسيرة وقته المنهوب ... ) التكملة فيما بعد