صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 15 من 45

الموضوع: المنزل رقـــــم 12

  1. #1
    الصورة الرمزية رفعت خالد
    رفعت خالد غير متصل عضو قدير ومراقب سابق
    قصصي متميز
    متهم يرجو العفو من الملك
    التسجيل
    22-12-2004
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    966

    المنزل رقـــــم 12




    قلم: رفعت خالد
    مراجعة لغوية : LongJohnSilver





    بسم الله الرحمن الرحيم

    انبسطتْ تحت أشعة الشمس رُقعة مترامية الأطراف من منازل متناسقة البنيان، زاهية الألوان ، تحوطها أشجار الأرز الباسقة و جبال خضراء شامخة..
    و لعل الرّائي من عل سوف يرى انشطار الرقعة إلى شطرين و انقسامها إلى قسمين متباينين. قسم من البنايات الحديثة ، و الذي يُطلق عليه اسم "المدينة الجديدة" و هو الأوسع نطاقا ، و الأكثر انتشارا حيث يحتل ثلثي المساحة تقريبا. و قسم ثانٍ تظهر معالم القدم على منازله و مساجده و أسواقه الفسيحة ، و هو ما يشكل "المدينة القديمة".
    هذه الرقعة هي مدينة (فاس). العاصمة الثقافية و التراثية للمغرب ، فما أجمل أبوابها المزخرفة و ما ألذّ لكنة سكانها السلسة و ما أبهى ذلك الشعور بالانتماء الذي يتملّكك و أنت تتجول بأزقتها الشعبية..

    * * *

    المدينة القديمة ، ساحة القرويين ، حي (الحنصالي).. فضاء شعبي يموج بالحياة و يعُجّ بالحركة. متشابهة منازله ، متقاربة أبوابه.
    صبيان يركضون بخفة أمامك ثم سرعان ما يختفون بأول انحراف فلا يبقى سوى صدى ضحكاتهم تتقاذفه الجدران.. ثم تمر في الطرف الآخر من الزقاق ثلة من نساء محجبات يمشين بتؤدة و استحياء و يحملن أكياسا على رؤوسهنّ بطريقة فيها من البراعة و الحذاقة الشيء الكثير.
    و شديد الانتباه لن تفوته ملاحظة منزل معزول في آخر الحي. جدرانه متآكلة ، زجاج نوافذه مكسور ! و أكثر ما يشدّ الانتباه هو بابه الضخم العتيق ، و قد عُلّقت فوقه قطعة خشبية مائلة ، مكتوب عليها بخط قديم (رقم 12).
    و إذا سألت أيّ شخص يقطن بذلك الحي عن هذا المنزل سيجيبك بسؤال أكثر غموضا من سؤالك ( أتقصد المنزل 12 ؟! ).
    إنه بيت شهير تحوم حوله الأساطير و تتحدث عنه قصص الأشباح و الأرواح.. و لعلّ أشهرها - إن لم أقل أكثرها وثوقا - هي قصة السيد (علاّل)..
    إذ يُروى أن هذا السيد كان يملك المنزل رقم 12 منذ ما يعادل قرنا من الزمان. رجلٌ عادي ، يشتغل بالأمن. وكان يحبس أخاً له بغرفة في الطّابق العلوي !
    و يُقال أن ذلك الأخ كان مجنونا.. لدرجة جعلته عنيفا للغاية ، لا يستطيع أحدٌ التحدث إليه أو الاقتراب منه. حتى أن السيد (علاّل) كان يقدّم له الطعام من فتحة أسفل الباب !
    مات السيد (علاّل) في منتصف القرن الماضي ، في ظروف غامضة ! و مات أخوه بعده بوقت وجيز. و منذ ذلك الحين بدأت أشياء غريبة تحدثُ في المنزل رقم 12 !
    فغادر المنزل كل من استأجره و بطريقة مخيفة ! منهم من يخرج عاريا ، يجري و قد ترك كل ما يملك في المنزل. ومنهم من فقد عقله تماما. و أكثر من مرة وُجدت في المنزل جثث هامدة على وجوه أصحابها أعتا علامات الرُّعب !
    فقرّر وارث المنزل رقم 12 منذ عقدين أن يغلق باب تلك الغرفة التي كانت سجنا للأخ المجنون. فوضع فوق بابها كميات كبيرة من الخرسانة ، بعد أن اعترف من لم يفقد حياته و لا عقله من المستأجرين أن تلك الغرفة بالذات تحوي سرّا مرعبا ! إذ يُسمع عند بابها ليلا صوت قرع عنيف حتى يتوقعون أن ينخلع الباب من مكانه !.. ثم أصوات خدش بالأظافر و عويل تقشعرّ له الأبدان !
    و تخلّى بعد ذلك صاحب المنزل 12 عن ملكيته. فخلى المنزل من السكان و الأثاث و من كل شيء ، ما عدا ذلك البيت بالطابق العلوي و الذي لم يجرؤ أحدهم على دخوله ليفرغ ما به من أثاث. وبقي بآخر رواق الطابق العلوي.. غامضا ، رهيبا ! و قد غُطّي بابه بطبقة سميكة من الخرسانة.
    دُفن و به السرّ الذي بقي مجهولا حتى تلك الليلة من شتاء سنة 1985 !..

    * * *

    ركنَ القطار أخيرا بعد أن أصدرَ صريرا..
    انفتح الباب الحديدي على مصراعيه ، فظهرت وجوه متوترة ، جدّية ، عيونها تبحث عن شيء ما..
    و حين انقشع الزحام و خفت كثافة الأنام ، ظهر شابان فارعا الطول ، جميلا الهندام. تبدو جليّة على محيّاهما أمارات الشباب و الحيوية و كثرة الكلام..
    في ذلك المسـاء كان الجو غائما ، إذ اقتربت السحب الرمادية المبعثرة و امتزجت لترسم سماء كئيبة ، تنذر بغضب الرياح..

    * * *

    دلف الشابان إلى بار في مؤخرة زقاق مظلم. كانت الساعة وقتها تشير إلى الثامنة ليلا..
    ......
    الحادية عشرة و النصف.. صوت ضحكات مدوّية بالمكان. خرج الشابان و هما يترنحان من فرط السكر. يصطدمان ببعضهما ثم بجدران الزقاق المظلمة.
    انتبها إلى أن السماء ترسل خيوطا من الماء البارد.. صرخ أحدهما و هو يرفع رأسه إلى السماء ، و قهقه الآخر بعد أن ركل صاحبه على مؤخرته..
    أدخل (هشام) يده في جيبه و أخرج باطنه بسخرية ، كتعبير على نفاد النقود لديه. و قام الآخر بنفس العملية ليسترسلا في ضحك عالٍ.
    قال (جمال) و هو يجول مع رفيقه في شوارع المدينة شبه الفارغة :
    - تبا لتلك المومسات !.. لقد سرقن كل ما تبقى معي من المال !
    أجابه (هشام) و هو لم يزل يقهقه بصوته الرقيق :
    - أما أنا فأعطيته لهن عن طيب خاطر... هاهاها !

    * * *

    وصلا أخيرا - بعد أن تاها بأحياء المدينة المتشعّبة - إلى فنـاء رحب ، كُتب على لافتة بمدخله "سـاحة القرويين"..
    كان الوقت قد جاوز منتصف الليل ، فخلت الشوارع و أُغلقت الدكاكين و أوت القطط إلى مضاجعها و طارت العصافير إلى أعشاشها.
    قلّب (هشام) كفيه في انعدام حيلة و قال :
    - البرد و الشتاء و لا مكان نلقي فيه جسدينا المنهكين !
    قد بدأ أثر الخمر يزول عن ذهنيهما شيئا فشيئا لما أحسا بحجم المصيبة التي يواجهانها !
    لم يجبه (جمال) و إنما أشار بأصبعه إلى مكان ما قائلا :
    - أترى ذلك المنزل هناك ؟.. إنه يبدو مهجورا !
    - نعم أراه ، ما به ؟
    - ما رأيك لو..
    - أجننت ! نبيت هناك ؟.. ألا ترى النوافذ المكسورة ؟ و الحائط العتيق ؟!.. ثم انظر إلى تلك الكتابة "رقم 12 " و كأنها تعود لعهد الرومان !
    - إنه الحل الوحيد يا أبله ! ماذا نفعل ؟.. أنحشر نفسينا في سطلي قمامة مثلا ؟ أم ننام على أغصان شجرة ؟!
    - لماذا لا تقول نطرق الأبواب و نطلب المبيت ؟..
    - يا لسذاجتك !.. أتظن أن أحدا يرغب باستضافة سكيرين ، تائهين مع منتصف الليل و المطر يقصف الأرض قصفا ؟
    بدا و كأن (هشام) قد اقتنع بكلام صاحبه فطأطأ رأسه و ركل قنينة فارغة أمامه لتصدر صوتا حادا على قارعة الطريق البّراقة تحت ضوء القمر..
    ثم قـال :
    - كيف سندخل إذن ؟
    ابتسم (جمال) و بهدوء أجاب :
    - أظن أننا لازلنا نملك قوة لتكسير نافذة عتيقة !..

    * * *

    قفز (جمال) بحذر من النافذة المكسّرة ثم تبعه (هشام) و التردد باد على حركاته !
    توجّعت شظايا الزجاج المتناثرة تحت قدميهما و هما يواصلان تقدمهما بالمكان الرهيب. الصمت عقيم و الظلام مقيم ، إلا بصيص من نور يتسلّل من النافذة..
    - أكاد أختنق !.. ألا يوجد أوكسجين هنا ؟
    قالها (هشام) بعد أن شهق بعمق..
    - يبدو كأن أعواما طوالا مضت و المنزل مغلق ، منسي !
    - غريب ! مع أن هذا الحي مأهول بالسكان !
    وجدا شموعا متناثرة وسط أكوام القمامة و العفر ، فالتقط (جمال) واحدة و أشعل فتيلها ، ليظهر نصف وجهه ، يتراقص عليه لهيبها..
    - لعبة واحدة من الورق ثم ننام ملء جفوننا..
    قالها (جمال) و هو يعبث بخصلات شعره.
    - أكاد أموت من الإعياء و أنت تقول..
    - قلتُ لعبة واحدة فقط !
    رضخ (هشام) مرة أخرى لرأي (جمال). و جلسا مفترشين الأرض..
    و ما هي إلى مدة وجيزة حتى علت ضحكاتهما و تردد بالمكان صوتهما !..

    * * *

    كانا يصعدان الدرج على ضوء الشمعة الشاحب ، و قد صنع بهما التعب ما صنع. أنهيا سبع أشواط من لعبة الورق ليقررا أخيرا البحث عن مكان أقل قذارة حتى يستقبل جسديهما..
    - ما أقدم هذه الدرجات !.. يا إلهي ، إلى أي عصر يعود هذا المنزل اللعين ؟
    لم يجبه (هشام) ، فقد كان شارد الذهن ، تائه العينين !
    - هيه ! ما بك ؟
    - لا أدري لماذا لم..
    - ماذا لم.. ؟
    - لم أرتح كثيرا لهذا المكان.. إنه يجعل أطرافي ترتعد و أنفاسي ترتعش !
    ظهرت ابتسامةُ سخرية على ثغر (جمال) قبل أن يضرب على كتف صديقه و هو يهتف :
    - لا تخف يا ولدي. لن يأكلك (بابا الغول).. نياهاهاها !
    وصلا الآن إلى مدخل الطابق الأول.. القذارة لا تُطـاق !
    ساحة فسيحة و أبواب تحوطها بشكل دائري.. رهيب !
    حاولا فتح الأبواب - واحد بواحد - لكن لا جدوى !.. إنها مُغلّقة تغليقا !
    - تبّـــا !!
    قالها (جمال) بعصبية بالغة ، ثم توجه بخطى مسرعة إلى الدرج..
    رفع (هشام) رأسه المنحني و دمدم بصوت خفيض :
    - إلى أين ؟
    - بقي الطابق العلوي..

    * * *

    الطابق العلوي..
    نفس المظهر المهيب ، حيث الساحة الواسعة و الأبواب تحاصرها. و نفس المشهد المقزز إياه من الأزبال و القارورات الفارغة و الأواني البالية..
    لكن يوجد فارق بسيط هنا !
    يبدو أن (هشام) و (جمال) قد لاحظا تلك الغرفة هناك.. آخر الرواق !
    غرفة تناثرت أمامها كتل هائلة من الأحجار الخراسانية ! و قد ظهر باب لازالت عالقة به قطع من الأحجار !!
    و مما لا شك فيه أنهما انتبها كذلك إلى كون الباب مفتوحا على فُرجة صغيرة !؟..

    * * *

    و بقي بآخر رواق الطابق العلوي.. غامضاً ، رهيبا ! و قد غُطّي بابه بطبقة سميكة من الخرسانة.

    * * *
    التعديل الأخير تم بواسطة رفعت خالد ; 08-04-2009 الساعة 09:26 PM

  2. #2
    الصورة الرمزية رفعت خالد
    رفعت خالد غير متصل عضو قدير ومراقب سابق
    قصصي متميز
    متهم يرجو العفو من الملك
    التسجيل
    22-12-2004
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    966

    ...

    تقدما نحو الباب الضخم ، الموارب.. دون أن ينبس أحدهما ببنت شفة.
    دفعه (جمال) بحذر ، فانطلق صوت حادّ خرق سكينة المكان !
    ثم ارتفع حاجبا (جمال) في حين شهق (هشام) لما رأيا ما بالغرفة !..
    لقد كان بها أثاث !
    سرير ضخم ، عال.. و مقاعد قديمة متآكلة و ستائر بيضاء مهترئة و صور كبيرة على الحائط، يغطّي الغُبار ملامح أصحابها !.. ثم بسـاط غريب الألوان و ثريّا ذات طراز عتيق معلّقة على مسافة قريبة !
    و هناك إناءٌ معدني قديم ملقى بالركن..
    وقفا مشدوهين لبضع ثوانٍ و هما يرمقان تلك القطع الأثرية العجيبة على ضوء خجول للقمر المطل من وراء ستائر النافذة !
    تكلم أحدهما أخيرا بصوت متحشرج.. لقد كان (جمال)..
    - انظر إلى هذا السرير.. إنه يتسع لأربعة أشخاص !
    - جمال !..
    - هيا بنا.. ماذا تنتظر ؟ أنسيت أنك منهك سكران ؟.. هيا !
    - جمال !..
    أزاح (جمال) الابتسامة العريضة من على ثغره و زال الحماس من كلماته و هو يقول :
    - ماذا هناك ؟!
    - ألم تلاحظ شيئا غريبا هنا ؟
    - مثل ماذا ؟
    تمتم (هشام) بصوت خافت و عيناه شاردتان :
    - كيف يكون هذا البيت الوحيد الذي به أثاث في حين أن المنزل يبدو كمزبلة المدينة ؟!
    - ما الغريب في...
    - ثم كيف لم تُسرق هذه القطع من الأثاث الثمين ؟ أو ينتفع بها صاحبها ؟؟
    - نحن لا..
    - ثم لماذا هذه الغرفة بالذات مفتوحة في حين أن عشرات الغرف مقفلة بإحكـام ؟!
    - هييه !.. من تحسب نفسك ؟ كونان ؟؟ أنا لا يهمني ما تفكر فيه و لا ما تحاول اكتشافه !
    ثم نَظَرَ إلى السرير و استطرد قائلا..
    - سأنام.. و في الغد يمكنني مساعدتك في اكتشافك المهم ! طابت ليلتك.
    هتف بها (جمال) ثم توجه بشيء من العصبية إلى السرير. ألقى ظهره عليه فأنّ السرير !
    نظر (هشام) بجنبيه و شعر و كأنه وحيد.. و كأن لا مفر له من شيء ما ! و كأن !!... هزهز رأسه لينفض عنه هذه الخواطر المريعة ، ثم توجه إلى السرير بدوره. استلقى بتوتّر.. و أنّ السرير !..

    * * *

    - لم أرتح كثيرا لهذا المكان.. إنه يجعل أطرافي ترتعد و أنفاسي ترتعش !

    * * *

    تقلب (جمال) في مكانه و هو يواصل شخيره المزعج ثم رفع رأسه فجأة !..
    كان شيء ما يخزه بظهره !
    فرك عينيه بتوتر و رأى في مشهد ضبابي صديقه يحمل شمعة و يتمتم بكلمات غير مسموعة !..
    - ما بك يا أحمق ؟!.. لماذا تطعنني بأصبعك النحيف ؟
    قالها (جمال) مكشّرا عن أسنانه من فرط الغضب !
    لم يجبه (هشام).. و نظر إليه بعينين تائهتين و فم مفتوح يرتعش فكه السفلي !
    - اسمع يا غبي ! إن كنت تحب هذا النوع من الألعاب الصبيانية ، اذهب و العبها بعيدا فأنا لا..
    - اســـ...مـ..ع !
    تمكن (هشام) أخيرا من نطقها ! ثم رفع إصبعه ببطء و أشار إلى الباب !!
    أوجم (جمال) بعد أن ألفى شيئا من الصّدق في ملامح صاحبه الذي عوّده المقالب و المزاح.
    و طفق الاثنان يرمقان الباب بترقّب و وجل قبل أن..
    صوتٌ ما بالخارج !!
    - أسمعتَ ؟.. (جمال) ؟ سمعت هذا ؟
    - نعم... إنه صوت خطوات على السلم !
    لفظها (جمال) بنبرة يتخلّلها الخوف و التوتر !
    الصوت يعلو أكثر فأكثر.. فأكثر !!
    - إنه يبدو واثقا من نفسه للغاية !..
    قفز (هشام) و وضع يده على فم صديقه حتى لا يتكلم أكثر من هذا !
    أطبق (جمال) شفتيه و تضاعف الهلع بقلبه و هو ينظر لصاحبه الذي بهتَ لون وجهه و اتسعت عيناه بشدّة !
    تغيّر صدى الصوت و ارتفعت حدّته !.. ما يعني أن القادم قد ولج البهو !
    أشار (جمال) و عيناه تتحركان بجنون إلى الشمعة في يد (هشام) !..
    فهم الأخير أنه قد نسي الضوء الذي تحدثه الشمعة. فوضع كفه - بسرعة - على شعلتها ليسود الظلام !..

    * * *

    - ألم تلاحظ شيئا غريبا هنا ؟

    * * *

    سـاد الظلام و أقام الصمت..
    يبدو أن الخطوات قد توقفت !
    استنشقا رائحة الشمع و استرقا السمع..
    بلع أحدهما ريقه بصوت مسموع !
    و فجأة ! وبدون مقدمات سمعا أنينا تلاه صوت ركض.. ثم.. !..

    * * *

    - إنه يبدو واثقا من نفسه للغاية !..

    * * *

    رأيا ظلا يتجاوز عتبة الباب بسرعة البرق !
    ارتفعت دقّات قلبيهما و شهق أحدهما شهقة حادة و كأن قلبه انفجر !..
    أراد (هشام) أن يولج يده في جيبه حتى يُخرج عود ثقاب فسقطت الشمعة من يده و تدحرجت فوق الأرض السوداء !..
    الغرفة مُظلمة كلّيتها باستثناء بقعة أمام السرير قد أسقطت عليها النافذة ضوءا شاحبا للقمر.. و كان ذلك (الشيء) واقفا في وسطِها !
    فتمكنا من رؤية نصفه السفلي !!..

    * * *

    - أترى ذلك المنزل هناك ؟.. إنه يبدو مهجورا !

    * * *

    كــان يبدو أطول من اللاّزم !..
    ليس واضحا بما فيه الكفاية و لكنهما رأيا...
    ساقيه النحيفتين و المقوّستين.. كأن ليس بهما عظم ! عليهما لحم مترهّل كأنه مسلوق !!
    ثم يداه الطويلتان وقد جاوزا الركبتين ! يكسوهما نفس اللحم المتراخي ! مع بعض الأصابع المبتورة !؟..
    كان هذا كل ما تمكنا من رؤيته ، و قد كان كافيا ليجعل عموديهما الفقريين يرتعشان بعنف و تسري بعروقهما صعقة شلّت جسميهما !
    و كانت الحركة المباغتة التالية.. أن قفز أحدهما من السرير صارخا و قد فقد صوابه تماما !..

    * * *

    لم يجبه (هشام) ، فقد كان شارد الذهن ، تائه العينين !

    * * *

    و قد كان هذا (هشام). إذ غادر السرير مزمجرا و قد أفقده الرعب توازنه العقلي و ذهب برباطة جأشه !
    اصطدم في طريقه بكرسي خشبيّ ضخم ، فرفعه فوق رأسه بصعوبة و هو يطلق عواء يصم الآذان !..
    تحرك الكائن البشع من مكانه و قد أثارت انتباهه الضجة التي أحدثها (هشام) !
    و في هذه الأثناء كان (جمال) كالتمثال الفولاذي ! قابضا على الفراش بكفيه ، و عيناه جاحظتان كأنه فارق الحياة !.. أنفاسه متوقفة و قلبه يكاد ينخلع من صدره لهول ما رآه !
    و ارتفع صُراخ (هشام) !..

    * * *

    كان الوقت قد جاوز منتصف الليل ، فخلت الشوارع و أُغلقت الدكاكين و أوت القطط إلى مضاجعها و طارت العصافير إلى أعشاشها.

    * * *

    بدأ عقله يعمل أخيرا بعد أن تخدّر تخديرا !
    و فور أن تبلورت فكرة ما بذهنه حتى نفذها بطريقة آلية..
    إذ وثب من السرير وثبة لا تُصدّق و ركض كالمجنون باتجاه عتبة الباب التي بالكاد يراها !
    ثم سرعان ما وجد نفسه يقفز في الدرجات قفزا و هو يحاول تمييز نهاياتها بصعوبة !
    لاهثا ، مُبعثر التركيز ، حافي القدمين و قد انغرست أسفلهما قطع من الزجاج المتناثر في كل مكان..
    و ارتفع صُراخ (هشام) أكثر !..

    * * *

    نظر (هشام) بجنبيه و شعر و كأنه وحيد.. و كأن لا مفر له من شيء ما ! و كأن !!...

    * * *

    وصل إلى الطابق الأول. لا يكاد يرى موضع قدميه لشدة سواد المكان و لكنه مازال يواصل عدوه المحموم ! لا يخطر بباله خاطر و لا تُثيره رغبة من الرغبات ، سوى رغبة الخروج من جحيم الرعب الذي تورّط فيه !..
    زلّت قدماه على حين غرّة في درجة من الدرجات (الوهمية) التي يقفز بها ، فسقط و اندفع جسمه بعنف ليتدحرج بسرعة مُخيفة و يرتطم بالجدار تارة ، و تارة أخرى يصطدم رأسه بالحديد الذي يحدّ السلم ، فتصدر إثر ذلك فرقعة مروّعة !
    ثم استقر جسمه أخيرا على أرضية السّفلي..

    * * *

    غريب ! مع أن هذا الحي مأهول بالسكان !

    * * *

    سكنت حركاته و شُلّت أطرافه ! و بقي لُهاثه الرتيب يُسمع في جوف الظلام..
    أحسّ بسائل دافئ يسيل على جبهته ففهم أنه الدم. فقد تلقّى رأسه ضربات مؤلمة و هو يتدحرج بالسلم !
    حاول فتح جفنيه بصعوبة و لكنهما كانا ينغلقان رغما عنه ! فأدرك - برعب - أنه سيفارق وعيه عمّا قريب !..
    و لم يكن ليتحرك أو يرفع رأسه قيد أنملة لولا أن سمع صرخة مدوّية بالأعلى ! صرخة يعرف صاحبها جيدا !..
    فثار بركان الرعب بأحشائه من جديد و أنّ بشدة و هو ينتصب على قدميه..
    و لما رمى خطوة واحدة التوت رجلاه و سقط بعنف ! فهوى وجهه على بقعة الدماء التي خلّفها جُرح رأسه !
    و صرخ مُتألما و هو يمسك ساقه اليمنى !.. يبدو أنها قد كُسرت !..

    * * *

    و منهم من فقد عقله تماما.

    * * *

    نهض مزمجرا و أسنانه تصطك من شدة التوتر !..
    عرج جارا ساقه المكسورة باتجاه النافذة التي حطّمها و صديقه قبل دخولهما إلى هذا المكان الملعون !
    وقف أمامها لحظة قبل أن يضع يديه على حافتها ثم يرفع جسده بجُهد جهيد و يُلقي بنفسه إلى الخارج !..

    * * *

    - سأنام.. و في الغد يمكنني مساعدتك في اكتشافك المهم ! طابت ليلتك.

    * * *

    كان يعرج بشكل مخيف تحت المطر الغزير و هو يزفر زفيرا حادا ! و خيوط المطر تضرب على رأسه المجروح كالإبر الصغيرة !
    فاختلطت قطرات الماء البارد على وجنتيه بدموعه الدافئة التي تسكبها عيناه..
    و هو يفكر بمصير صديقه المسكين !
    ولم يزل على هذا الحال.. حتى رأى بطرف عينه شخصا يستند إلى حائط هناك. يضع يديه بجيبيه و بفمه نصف سيجارة مشتعلة..
    قصده دون أن يفكر ثانية ، فكاد الآخر يفرّ رعبا من طريقة مشيه و لُهاثه و منظر رأسه الدامي !
    و لكن (جمال) توقف و ناداه متوسلا ثم أشار إلى خلفه و هو يبكي بصوت مرتفع !
    بقي الرجل لبرهة حائرا ينظر باستغراب إلى (جمـال) قبل أن يقترب منه بحذر و على وجهه أمارات الاستفسار !..
    كان (جمال) يتحدث بسرعة و عصبية و صوته يُخالطه النواح !
    و لما أعرب الرجل عن عدم فهمه لما يحاول (جمال) تفسيره ، وفي هذه اللحظة بالذات سمعا صرخة رعب طويلة وراءهما !..
    ثم طارت عصافير سوداء من أسطح المنازل !..

    * * *

    أجابه (هشام) و هو لم يزل يقهقه بصوته الرقيق :
    - أما أنا فأعطيته لهن عن طيب خاطر... هاهاها !

    * * *

    و لم يكد أحدهما يلتفتُ وراءه حتى دوّى بالمكان صوت تكسّر زجاج !.. ثم اندفع جسم من نافذة بالطابق العلوي لمنزل في نهاية الحي. ليسقط بعنف مع شظايا الزجاج على قارعة الطريق !!..
    تمتم الرجل الغريب برعب :
    - أتقصد المنزل رقم 12 ؟!
    ثم فرّ هاربا !...

    * * *

    و أكثر من مرة وُجدت بالمنزل جثث هامدة على وجوه أصحابها أعتا علامات الرُّعب !

    * * *

    لم يُصدّق (جمال) ما رأته عيناه ! و بقي متسمرا مكانه !
    هو الذي كان يجري برِجل مكسورة حتى يطلب النجدة لصديقه المسكين..
    صديقُ الطفولة.. ذلك الشاب المرح ، الذكي. الذي أحسّ بالخطر مُسبقا !..
    بكى بحرقة و هو يجر رجله إلى المكان اللعين ، متغلبا على رعبه و منتصرا على رغبة الفرار التي تتملكه.
    ثم وصل أسفل النافذة..
    انحنى على جثة صديقه و هاله التواء أطرافه البشع ! فسكب المزيد من العبرات..
    و لكن ما أخافه و جعله يبتعد مُسرعا ، آسفا على خيانة صديقه و عدم مساندته في تلك اللحظة الحرجة. ما أشعل الرعب في صدره مرة أخرى و أثار غريزة الذعر لديه.. هو عيناه !.. اللّتان خرجتا من مقلتيهما تماما !!
    فماذا رأتا أكثر مما رأى ؟؟..

    * * *



    تمت بحمد الله
    01-2007
    التعديل الأخير تم بواسطة رفعت خالد ; 09-04-2009 الساعة 01:33 AM

  3. #3
    التسجيل
    14-10-2005
    المشاركات
    36

    رد: المنزل رقـــــم 12

    شكرا جزيلا على هذه القصة الرائعة والمرعبة

  4. #4
    الصورة الرمزية رفعت خالد
    رفعت خالد غير متصل عضو قدير ومراقب سابق
    قصصي متميز
    متهم يرجو العفو من الملك
    التسجيل
    22-12-2004
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    966

    رد: المنزل رقـــــم 12

    بسم الله الرحمان الرحيم..

    شكرا أختي على مرورك.. و لكني أردت، في الواقع، من نشري للقصة تحليلا و نقدا..

  5. #5
    التسجيل
    14-10-2005
    المشاركات
    36

    رد: المنزل رقـــــم 12

    انا لست ناقده إنما يعجبني اسلوبك بالكتابة
    وانا مستغربه لانه ليس هناك اي ردود على الموضوع
    وايضا كنت متوقعة نهاية مختلفة للقصة
    وبالنهاية اشكرك جزيل الشكر على القصص الرائعة التي تتحفنى بها

  6. #6
    الصورة الرمزية رفعت خالد
    رفعت خالد غير متصل عضو قدير ومراقب سابق
    قصصي متميز
    متهم يرجو العفو من الملك
    التسجيل
    22-12-2004
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    966

    رد: المنزل رقـــــم 12

    بسم الله الرحمان الرحيم..

    العفو أختي.. بارك الله فيك..

    ربما القصة أطول مما يتحمله القراء..

  7. #7
    التسجيل
    03-01-2005
    المشاركات
    1,964

    رد: المنزل رقـــــم 12

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    رفعت خالد

    قصة متميزة كعادتك دوما

    توجّعت شظايا الزجاج المتناثرة تحت قدميهما و هما يواصلان تقدمهما بالمكان الرهيب.
    بصراحة صورة أعجبتني جدا ولكن هل لي بسؤال لماذا كررت مقاطع خلال القصة

    أجابه (هشام) و هو لم يزل يقهقه بصوته الرقيق:
    - أما أنا فأعطيته لهن عن طيب خاطر... هاهاها..

    لم يكن هناك داع لتكرريها ! طبعا برأي الشخصي

    دمت بود



  8. #8
    الصورة الرمزية رفعت خالد
    رفعت خالد غير متصل عضو قدير ومراقب سابق
    قصصي متميز
    متهم يرجو العفو من الملك
    التسجيل
    22-12-2004
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    966

    رد: المنزل رقـــــم 12

    بسم الله الرحمان الرحيم...

    أختي رابعة كيف حالك, و ما أخبار الدراسة ؟..

    العفو , انها قصة متواضعة كتبتهاعلى عجلة..

    أما بخصوص الفقرات المكررة أو الفلاشباكات فهي تقنية أحبها كل الحب و أنا أعلم أن القراء سيجدون صعوبة في فهم معنى بعضها و لكنني عنيت في اختيارها كل العناية.. ربما سأتجاوزها في القصص المقبلة..

    دمت بود

  9. #9
    التسجيل
    04-12-2003
    المشاركات
    13,612

    رد: المنزل رقـــــم 12



    إذا أردت أن تعرف رأي أحد ٍ ما في القصه فجعله يقرأها في الليل وبمفرده كما فعلت أنا

    قصه مرعبه وأحسنت جداً في صياغتها ..

    علمت في البدايه أنا هشام وجمال سيدخلان للمنزل 12 ولكن إعتقادي كان خاطئ ( مستكشفان )

    لفت نظري شي واحد وهي العبارات التي بين بعض الفقرات .. كانت تقطع الاسترسال في القصه .. << وجهة نظر

    إستمر يا مميز لديك الكثير ^_^

    أطيب الأمنيات

  10. #10
    الصورة الرمزية رفعت خالد
    رفعت خالد غير متصل عضو قدير ومراقب سابق
    قصصي متميز
    متهم يرجو العفو من الملك
    التسجيل
    22-12-2004
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    966

    رد: المنزل رقـــــم 12

    بسم الله الرحمان الرحيم..

    السلام عليك أخي العزيز كيف الحال و الأحوال ؟ .. شكرا لردك المجامل، و سعيد لأنني أرعبتك.. أرجو أن يلتزم باقي القراء بشروط قراءة قصة رعب كما التزمت أنت.. الليل و الوحدة و.. الإثارة..

    بخصوص الفقرات ... فأنا فعلا أردت أن أكسر الإثارة لكي أحرك شيئا بداخل القارئ، و لا تنسى أن مثل هذه القصص التي تعتمد على الحركة و الأحداث المتسارعة تتعب ذهن القارئ و ربما تذهب بتركيزه فتضيع الصورة من بين عينيه.. لذلك فبعض الوقفات المفاجئة تريح القارئ دون أن يشعر، و لكني سأتجاوزها في قصصي المستقبلية إن شاء الله، أعدك..

    و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته..

  11. #11
    التسجيل
    09-12-2006
    الدولة
    الكويت
    المشاركات
    96

    رد: المنزل رقـــــم 12

    واااااااااااااو .. بدون أيّ مجاملة قصتك من أولها إلى آخرها ابداااااااع .. حبكة متقنة و أسلوب سلس غير عادي شدني شدّ و خلاني أدش على طول بجو القصة المرعب ...

    مع انه هالنوع من القصص مكررة و مستهلكة بكثرة (قصص الأشباح و البيوت المسكونة) .. بس هالقصة بالذات جاءت مبتكرة و مختلفة بطريقة عرضها للأحداث بسياق مثيييييير يحبس الأنفاس @.@....

    تسلم ايدك هالإبداع إلي مايطلع إلا من كاتب موهوب متمرّس...و أتمنى من كل قلبي انك تستمر و لا تتحبّط من قلة التشجيع...لأنه انسان بموهبتك حرااااااااااااااااام يضيّعها .......

    و مرة ثانية أقولك تسلم هالقصة العجيبة و مشكوووووووووووووووووووووووور...

  12. #12
    الصورة الرمزية رفعت خالد
    رفعت خالد غير متصل عضو قدير ومراقب سابق
    قصصي متميز
    متهم يرجو العفو من الملك
    التسجيل
    22-12-2004
    الدولة
    المغرب
    المشاركات
    966

    رد: المنزل رقـــــم 12

    بسم الله الرحمان الرحيم..

    يا أخي جزاك الله خيرا.. لكن إطرائك كثير علي، بل لا أستحق نصفه .. فأنا مبتدئ أرمي خطواتي الأولى فادع لي أخي أن يسدد الله خطاي و أن يجعل الكتابة وسيلة لكسب الحسنات، و ما أحوجنا إليها اليوم حتى نغطي بها ما نقترفه من فضائح ..

    على كل حال.. تدفعني كلماتك إلى الثقة بنفسي و عدم الإحباط و التراجع.. فجزاك الله خيرا..

  13. #13
    التسجيل
    09-12-2006
    الدولة
    الكويت
    المشاركات
    96

    رد: المنزل رقـــــم 12

    عفواً أخوي بس آنا بنت ^.^

    و لا تعتقد أبداً اني أجاملك لما مدحت قصتك التحفة لأني ببساطة مو من عادتي أجامل أحد .. أصلاً فيني عقدة اني اذا قريت أي قصة لازم أطلع العيوب بس ^.^ ... بس قصتك بالذات مو بس هي الوحيدة الي قريتها كاملة في نفس اللّحظة ( من عادتي أقرا ربع القصة و أكملها بوقت ثاني ^.^ ) .. هي الوحيدة بعد الي عدت أقراها مرة بعد مرة لروعتهاااااااااا ..

    لدرجة اني طبعتها و وريتها حق صديقاتي بالجامعة فطاااااااروا عليها .. و المشكلة يقولون من وين نشتريها؟؟!! << ما صدقوا يوم قلت انها من كاتب في منتدى @.@

  14. #14
    التسجيل
    03-02-2007
    الدولة
    عـــآلمي الخـآص
    المشاركات
    468

    رد: المنزل رقـــــم 12

    وااااااااااااااااااوقصه بغاية الروعه@@ انا امووووت في الرعب لما تشوفها
    اختي بتجن عليها اهي تمووووت مثلي في الافلام والقصص المرعبه تسلم على القصه الكووول
    ~_^

  15. #15
    التسجيل
    01-06-2005
    المشاركات
    12

    رد: المنزل رقـــــم 12

    تم التعليق في موضوع خاص بتحليل مفصل تقريبا
    وإلى الأمام
    التحليل بتاريخ 13/4/2007

صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •