بحثــاً عن أوراق النـعناع
أنصب الماء عازفاً لحناً مميز في البرّاد ، لم يكن من المستغرب اندفاع المياه بغزارة فجأة من الصنبور بعد أن كان – الصنبور – يضخ كمية أقل ؛ فتلك عادته الأزلية في ضخ القليل ثم يضخ – بلا سابق إنذار – الكثير .. الكثير جداً !لم يكثر من الماء لأنه كوب واحد فقط له ، وإن كان كوبه من الحجم الكبير الذي يكفى لسد ظمأ ألف تائه في الصحراء !
كان يحب الشاي مضافاً إليه أوراق النعناع والتي تعطي للأول طعماً منعشاً وتجعله قابلاً للشرب ، هو لا يشرب الشاي بغير نعناع إلا مضطراً في مجاملات الناس ، حيث يُصرّ الأقرباء والأصدقاء لدعوته لكوب شاي في نوع من القهر الجبري .. بينما هو لا يريد ؛ لأنه يعرف جيداً أنه سيقدم له بدون نعناع ، وعوضاً على أنه لا يملك الجرأة ليطالبهم بإضافته لكوبه .
أشعل الموقد ثم وضع البراد عليه ووقف بجواره برهة يتأمل اللهب الذي يداعب البراد في غزل حارق !
لم يذهب اليوم إلى العمل ؛ فصباحاً هاتف صديقه في العمل ليخبره أنه لن يتمكن من الحضور اليوم ، وطالبه بأن يأخذ له هذا اليوم كأجازة اعتيادية وليست كأجازة عارضة ، الغريب أنه بعدما أقفل الخط لم يُكمل نومه ، بل أستيقظ ليعد هذا الكوب من الشاي ، لم يكن مريضاً .. لم يكن لديه موعد هام .. لم يكن لديه أدني شيء ، وربما لهذا وجد أنه من الضروري ألا يذهب اليوم إلى العمل !
عاوده شعوره بفراغ حياته ولكم هو وحيد في دنياه الصغيرة ؛ فبعدما توفي والده ثم لحقت به والدته لم يجد لديه من يكسر ملل يومه ؛ فهو الابن الوحيد لوالديه الراحلين .. ولم يتزوج حتى الآن وقد تجاوز الثلاثين .. بينه وبين نفسه أخذ يفكر :
"ثلاثون عام ! أي ثلاثة أطفال عمرهم عشر سنوات .. كل واحد منهم يريد أن يصبح مهندساً أو طبيباً أو ضابط شرطة .. براءة أطفال !"
طوال حياته لم يعرف طعماً لسعادة الرضا ولمن يؤمن قط بأن القناعة كنز لا يفنى ؛ ظنها خدعة ممن سبق تم إلصاقها على هيئة حكمة ؛ حتى يجدون مبرر لجشعهم في الحصول على كل الفرص وتدمير الفرص المحتملة لمن تلاهم !
عندما ألتحق بوظيفته لم يجد ذلك نصراً عظيماً .. بينما غيره ممن حصلوا على شهادتهم في وقت أبكر لم ينالوا فرصة عمل مثلما نال هو .. قابل الأمر بامتعاض ؛ لأمله في فرصة عمل أفضل ، ورغم هذا كان مثابر في عمله رغم كون هذا لا يشكل فارقاً في العمل الحكومي ؛ لأن الطموح فيه اُغتيل قبل أن يُولد !
بالفعل لم يكن راض بوجه عام عن فارق حياته وإمكانياته وطموحه ، لكنه – أبداً – لم يكن مغروراً متعالياً ، كان متسامحاً كريماً في معاملاته .. لم يسيء إلى أحد من قبل عن عمد أو يتسبب في جرح أحد بكلمة .. قلبه لم يخل قط من حب الناس لإيمانه بهم ، فهو يتصور أن تلك الحياة ليست عادلة بالنسبة لهم لكنهم – على كُلّ – في فلك يسبحون .. راضيين أو يحاولون إقناع النفس بذلك ، بينما هو – ولأنه – صريح مع ذاته فيعرف أنه لا يستطيع اصطناع الرضا !
يجهّز كوبه الكبير بوضع مقادير الشاي والسكر فيه .. ينظر إلى الصندوق الأنيق الموضوع به السكر .. تلك الخطوط الزرقاء والحمراء أعلاه بينما رسم فتاة ترقص البالية منقوش بمهارة عليه .. كل العمل هو من صنع اليد وليس رسم مطبوع .
كانت تلك هديتها ، لازال يذكر اليوم على ضفاف النيل بينما تمسك بيده بانتماء قبل أن يكون بحب .. تسأله أن يذهبا إلى الرجل الذي يبيع الخزفيات في الجهة المقابلة للنهر الرابض ، فوافق على ما طلبته بابتسامة حائرة ؛ فكان يريد المكوث أكثر في هذا المكان الذي خلا من الفكر وترك الإحساس يرفل مستمتعاً .
ذهبا إلى الجهة الأخرى بثبات لا يعرفه سوى المحبين .. وشاهدا كمية هائلة من الخزفيات ، وكما هي عادة الفتاة تشاهد كل شيء بحثاً عن متعة إضافية بجانب الشراء ! هو يجاوبها عن أسئلتها وملاحظتها بنعم أو لا ، بينما لا يعي ماذا تقول ؛ فلا يشغل باله سوى أمر واحد هو أنها لا تصلح له !
لا يعرف لما بالذات في تلك اللحظة تراءت له فجأة أن تلك الخطوبة لن تفضي سوى بالانفصال ، هي لم تفعل شيئاً ولم تقترف إثماً في مواثيقه ، بينما وجد أنها لا تصلح له وفقط ، ربما لم يجد تناغم كبير بينهما .. أو ربما كان يطمع في قصة حب أكثر سخونة !
لما أحتفظ بهديتها طوال السنوات الخمس الأخيرة ؟! لما لم يخبر والدته بأنها هدية منها ؟! أسئلة لم يجد لها إجابة تريحه ؛ فالمرء قد يتسبب بغير قصد في طرح أسئلة لا يملك لها إجابة فقط لشحذ عقليته على التمرين كي لا تصدأ وتتآكل !
صخرة صلدة أمام الناس بينما حقيقته أنه قابل – بشدة – للكسر ، بالفعل لم يبك قط عندما فارق والده ولكم ندم على عدم بكاؤه ، لكنه فسر ذلك بأن الصدمة لم تتركه ليشعر بهول الرحيل ، طبعاً لم يرض بهذا التفسير كعادته !
أيضاً عندما رحلت والدته لم يبك قط ، أتصل بالأقرباء بنفسه ليخبرهم متى تكون صلاة الجنازة وأين يقام العزاء ، لم يكن عدم بكاؤه نابعاً من افتقار للحب فهو كان محباً لوالديه وإن لم يُظهر لهم ذلك بشكل كاف ، يؤمن بأن ما في القلب لا يحتاج لفعل حتى يتم إعلانه ؛ فبين القلوب لغة لا تعرفها العقول والأيادي !
أمسك بذقنه فوجد شعره نامياً كأن هذا الذقن يعلن - بفخر - عن طبيعته ، تذكر أنه لم يبتاع شفرة ؛ فالأمس كان منهمكاً مع ابن عمه في توثيق عقد بيع للمنزل الجديد الذي اشتراه الأخير ، ورغم كون هذا الأمر سهلاً واعتيادياً ولكنها البيروقراطية العظيمة .. إضافة إلى اقتناع الموظفين بأنهم يملكون سلطة على أصحاب المطالب .. والسلطة داء مهلك لمن تركها تملكه .. عوضاً على العكس !
موظف الشهر العقاري طالبهم بالعديد من الأختام والأوراق المطلوبة ، ثم طالبهم بأن تكون تلك الأختام والأوراق أوضح مما قدموا له ، ثم طالبهم بإثبات أن تلك الأوراق مُثبتَة ، ثم عندما فرغ من أحاجيه وأعذاره – وهذا شيء نادر – أخبرهم بأن مواعيد العمل الرسمية تنتهي بعد نصف ساعة أي أنها بالنسبة له انتهت !
وهذا الوقت السعيد يقضيه الموظفون في حالة خمول شديد ومحادثات عشوائية – وكأن هذا لا يحدث طوال اليوم – لكنهم ، يرون أن هذا حقهم المقدس في الراحة .. وإن اعترضت على هذا لابد أن تكون معتوهاً بالفطرة أو مديراً متسلّطاّ !
لم يكن يشغل باله السخط من هذا الموظف وأمثاله ، بل كان شاغله مقارنة بينه وبين ابن عمه ، الذي قد حصل الآن على بيت جديد ليسكن فيه هو وزوجته وثلاثة أطفال بديعي الهيئة ، أين هو من كل هذا ؟! مقارنة قد لا تبدو عادلة لكنه ابتسم في صمت وهو يفرغ المياه من البراد ليضعها في الكوب ، ويفكر بأنه يملك ما لا يملكه ابن عمه وغيره .. يملك أوراق النعناع !
بالرغم أنه لم يألف النظر إلى الآخرين وما لديهم ، لكنه الآن أصبح مجبراً لأن ليس لديه ما يفعله سوى التفكير فيما لم يفعله !
يقلب بالملعقة السكر والشاي مع الماء في الكوب الكبير ، لا يعرف لماذا هذا الكوب دون سواه الذي يألفه ويسعد بالشرب فيه .. ربما لأنه الأكبر !
يضرب بالملعقة على جدران الكوب مصدراً صوتاً مزعجاً .. يألف الصوت المزعج ويحاول أن يجعله منه لحناً ما ، لكنه يعجز عن تغيير النغمة التي أستمر عليها ، عن ملعقة أخرى يبحث ويجد واحدة شكلها مختلفة وطرفها مستدقّ أكثر من الأولى ، لكنه يبقى عاجزاً عن تغيير نفس النغمة .. يشعر بسخافة ما يفعله فيسحب الملعقة من الكوب ويتركها بجواره ..
من جديد في أفكاره المختلفة يستمر مبحراً وهو يرشف من كوب الشاي رشفته الأولى .. على الفور يلاحظ الطعم المختلف .. فقد نسى أن يضع في الماء أوراق النعناع !
-
تمت بحمد الله