قصة قصيرة ....الجدران
"أمشى جنب الحيط" كلمة والده الأخيرة قبل الرحيل.. عرفت تلك الكلمات طريقها إلى عقله.. استقرت فى أعماقه.
فى السرادق لم يتوافد عليه الناس.. كتب تلك الكلمات على جدران حياته زاد عليها.. "المشي جوه الحيط أسلم"
عيناه الغائرتان تنظران تحت قدميه.. يبحث عن بذره الحُلم.. لم يسمع أحد صوته. لم ترو دموعه صحراء أيامه.. يسير فى طريق بلا وصول.. يحمل على ظهره جسد شخص ميت فينحني به على الأرض... يتكئ على عصاه- التى ورثها من أبيه لاتنفع ولا تضر- يسقط على الأرض... يسير بين الناس يتخوف من ألقاء السلام عليهم.. بعض منهم يصفونه بالجنون من أثر الوحدة.. قلة يقولون(الاختصار عبادة)، يراقب وجوه المارة وقد رسم الفقر والحرمان أشكالاً على وجوههم فأصبحوا كالأشباح... يتمنى أن يصبح فى يوم وليلة غنى.. تارة يتمنى أن يصبح مجذوباً.. أحلامُ تولد وتموت بداخله.. الأطفال فى الشوارع يتفننون فى كسر لمبات الإنارة..
يتملكه إحساس بالهلع والفزع حينما يجد نفسه فريسة أمام مجموعة من الكلاب الجائعة.. يحاول الهروب إلى
أين.. لا يعرف؟؟ يفكر فى ان يلتقط بعض الأحجار.. عندما انحنى أسرعت الكلاب وفرت من أمامه.. ينظر إلى الأحجار متكلماً.. "الحجر الأصم يخيف الكلاب أما أنا فلا.." عرفت قدماه الوصول.. يجد نفسه أمام البيت، فبيته
فوق السطوح.. عقرب يقف أمامه يمنعه من الدخول.. تردد كثيراً فى الدخول فجأة تتحرك قدماه للقضاء على العقرب.. أحس بالأمان عندما رآه لا يتحرك.. بيته تفوح منه رائحة عطنة.. لمبة كيروسين قديمة بلا وقود..
سرير أصابه العطب.. منضدة عليها كتب وأوراق.. نافذة موصدة.. العناكب فى أركانه.. جحور فارغة من الحشرات والنمل.. صورة والده تحتل منتصف الجدار.. ينظر إليها، قد أعد لوالده كشف حساب بما يجرى له يوميا.. فى الصباح ركبت الأتوبيس، رأيت لصا يسرق رجل لم أتكلم والتزمت الصمت.. لم أتحدث مع الموظفين وأشاركهم أحوالهم.. رأيت امرأة عجوز صدمتها عربة مسرعة لم أتأثر.. رأيت شباباً يغتصبون فتاة لم أتكلم.. أسرعت بالهروب مع أنها استغاثت بى.. انسحبت من الحياة ومن صخبها.. وعُدت إليك ثانية.. وألقى عليه السلام.. وراح بجسده المنهك على السرير يتلمس الراحة والهدوء.. وقد أعدَّ فنجان القهوة وأشعل لفافة التبغ وراح فى أحلامه.. التيار الكهربي ينقطع عن المنطقة.. جارته تد ق الباب لأول مرة.. باحثة عن شمعة تضئ لها.. تحاول أن تفتح له المجال... كيف تجلس فى هذا الظلام الدامس؟ ألا تخاف! أطالت معه الحديث بلا جدوى.. لماذا أنت هكذا؟ لا يعرف الناس عنك شيئاً ولا تعرف عنهم شيئا.. "فالناس بالناس" سولت لها نفسها أن تقضى معه تلك الليلة المظلمة.. مات زوجها وهى مازالت فى سن مبكرة.. خلعت ملابسها.. استلقت على السرير منادية له أن يروى ظمأها.. دار بداخلة حديث.. هل سأفعل مع تلك المرأة ما كنت أفعله فى أحلامي؟ وسأستريح حينما أفرغ شحنتي.. ولكن ماذا لو رآني الناس؟ خرج تاركاً المرآة تصرخ وتعض بأسنانها مرتبه السرير العطب.. العقرب مازال لا يتحرك.. الكلاب تأتى من جديد منهمكة فى اصطياد كلبه... يحاول كلا منهم ان يأخذ نصيبه من تلك الفريسة.. بعد صبر طويل اختارت الكلبة واحداً منهم.. قفز الكلب أن ينتشيا.. قاطعهما الأطفال بالحجارة.. انصرفت الكلاب.. رجل كبير ينظر إلىَّ باحتقار.. قفزت إلى رأسه تلك المرأة التى تركها وخرج.. تمتم "لست يوسف..لست يوسف" رجل يرتدى السواد يتسلق مواسير المجارى.. حدث نفسه هل أتكلم وأصرخ؟ وأقول حرامي حرامي؟ أم ألتزم الصمت الذى يأكل حياتي؟ مرت ساعة وهو ما زال يفكر ماذا أفعل؟ رآه ثانية فى رحلة العودة حاملاً ما سرقه.. كلب ينبح بقوة معترضا طريق الحرامى.. عراك ينتهي بإصابة بالغة للكلب.. استيقظ الناس على صوت نباح الكلب يهرولون ناحية اللص تاركين الكلب وهو يحتضر.. أخذ يحدثه..
لماذا لم تلتزم الصمت وتمارس حياتك العادية؟ أما الآن.. سوف ترحل قد أوديت بحياتك لتحمى أناس لا تعرفك.. هل أنت نادم الآن؟ هل ذقت مرارة الاختيار؟ هل فرقت بين الحياة والموت؟ وداعاً أيها الكلب.. عاد من جديد للالتصاق بالجدران..


# جمال فتحى عبد الرحيم