هل يكمن مستقبل جراحة القلب بين أيدي اختصاصيي الأمراض الداخلية القلبية
المؤلفون: و. ي. كون، ر. ديلاتور، ج. ليديكوت
المقدمة
لقد أدى التطور المستمر في حقل طب القلب التداخلي وفي تقنيات القثطرة القلبية إلى تساؤل جراحي القلب عن مصير اختصاصهم. وعلى الرغم من احتمال ثبوت نجاح الكثير من التقنيات العلاجية المعتمدة على القثطرة في المستقبل، إلا أن تقييم أثرها المحتمل يجب أن يجرى في ضوء التغيرات السريعة التي تحدث في الوقت نفسه في مجال جراحة القلب الحديثة.
لمحة تاريخية
ليست القثطرة القلبية هي أول من يهدد جراحة القلب والصدر بالزوال. لقد بدأت جراحة الصدر في العشرينيات من القرن الماضي كاختصاص مكرس لمعالجة التدرن الرئوي، لكن مع اكتشاف الـ streptomycin والأدوية الأخرى المضادة للتدرن في الأربعينيات من القرن الماضي بدا أن مستقبل الجراحة الصدرية أصبح قاتماً وغابت بعض الإجراءات الجراحية (مثل تصنيع الصدر) في طي النسيان. إلا أن الخبرة التي تم اكتسابها من معالجة التدرن أظهرت إمكانية استئصال أجزاء من الرئة بأمان، ومن ثم أجريت أولى عمليات استئصال الرئة لمعالجة السرطان من قبل Evarts Graham لتضمن بذلك بقاء جراحة الصدر مستمرة لعقود عديدة قادمة.
شهدت جراحة صمامات القلب تطوراً مشابهاً. لقد تركزت الجهود الأولى لجراحة القلب على استعادة وظيفة الصمام التاجي المتضيّق، لكن انخفاض نسبة الإصابة بالأمراض القلبية الرثوية فيما بعد أدى إلى تراجع عدد حالات تضيق الصمام التاجي بشكل كبير في العديد من أرجاء العالم. على الرغم من ذلك، فقد سمحت التطورات الحاصلة في جهاز القلب-الرئة الاصطناعي وأساليب حماية العضلة القلبية وتطور الصمامات الصنعية بازدهار جراحة القلب عموماً. إضافة إلى ذلك فإن التطور المستمر للأدوات والتقنيات مكّن الجراحين من إجراء عمليات جراحية على مرضى أكبر عمراً وأشد مرضاً.
بدأت عمليات زرع المجازات الشريانية الإكليلية في بداية الستينات من القرن الماضي، ثم توسعت بشكل مذهل مع تطور أجهزة القلب-الرئة الاصطناعية وتقنيات حماية العضلة القلبية، وازداد عدد العمليات المجراة بشكل مضطرد وانتشرت بسرعة في جميع أنحاء العالم. لقد شهدت الجراحة الإكليلية عقدين كاملين من النمو بسبب غياب وجود أية بدائل علاجية أخرى لمعالجة مرض الشرايين الإكليلية. تلا ذلك ظهور تقنية توسيع الشرايين الإكليلية عبر اللمعة في العام 1979، ومنذ ذلك الوقت حصل اختصاصيي الأمراض الداخلية القلبية على ازدهارهم الخاص بهم، وتطورت التقنيات والأدوات التي يستعملوها بشكل سريع. أدت هذه الابتكارات إلى نقص كبير في تحويل المرضى إلى الجراحة الإكليلية التقليدية، ومع كل التقدم الحالي والتطور المتوقع في التقنيات العلاجية المعتمدة على القثطرة في المستقبل، لا يملك المرء إلا أن يتساءل عن مصير الجراحة التقليدية للشرايين الإكليلية في المستقبل.
تتعرض الجراحة القلبية إلى تحديات عديدة في مجالات أخرى. هناك تطورات أخرى للتقنيات العلاجية المعتمدة على القثطرة في مجال معالجة أمراض الصمامين الأبهري والتاجي والرجفان الأذيني وقصور القلب الاحتقاني، وقد تؤثر هذه التطورات سلباً على حجم شريحة مرضى جراحة القلب. وهنا يبرز سؤال هام عما إذا كان مستقبل جراحة القلب يكمن بين أيدي اختصاصيي الأمراض الداخلية القلبية؟
على الرغم من أن التنبؤ للمستقبل ليس بأمر حكيم، إلا أنه بإمكاننا القيام بتوقع حذر ومدروس. للقيام بهذا علينا أن ندرس المعطيات الموجودة حالياً إضافة إلى التقنيات الحديثة التي تبدو على أفق جراحة القلب.
المناقشة
تبديل الصمامين التاجي والأبهري
لقد تحسنت نتائج جراحة الصمامات القلبية بشكل كبير، وقد انخفضت نسبة الوفاة والإمراضية بعد عملية تبديل الصمام الأبهري المعزول إلى حوالي 1-3 %، وذلك على الرغم من ارتفاع وسطي عمر المريض خلال العقود الثلاث المنصرمة. إضافة إلى هذا فقد تطور تصميم وصناعة الصمامات الاصطناعية بشكل كبير مما جعلها أكثر كفاءة وأفضل تحمّلاً. تدوم الصمامات النسيجية الحيوية ما بين 12-15 عاماً، في حين أنه ليس هناك عمر محدد للصمامات الميكانيكية. تترافق الصمامات الحالية مع نسبة اختلاطات صميّة خثريّة منخفضة، كما أن أخطار التمييع وصلت إلى أدنى مستوى ممكن منذ اعتمد الـ intrnational normalized ratio (INR) في مراقبة المعالجة بالـ coumadin. قد يؤدي العمل المستمر في مجال تطوير الصمامات الصنعية إلى تحسن أكبر في نتائج جراحة تبديل الصمام الأبهري.
على الرغم من التطورات الكبيرة المذكورة أنفاً في التقنيات الجراحية، إلا أن الرض الذي تسببه عملية تبديل الصمام الأبهري التقليدية كبير ويجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، فأفضل المرضى صحة وقوة يحتاج إلى عدة أسابيع لاستعادة نشاطه الاعتيادي، حتى في حال استخدام الشقوق الجراحية الصغيرة (الجراحة غير الغازية minimally-invasive surgery). لقد أصبح الرض الجراحي وطرق إعادة التأهيل أمرين في غاية الأهمية اليوم، خاصة مع التحويل المتزايد لمرضى في الثمانينات وحتى التسعينات من عمرهم إلى جراحة تبديل الصمام الأبهري. لهذه الأسباب، فمن المتوقع أن نحقق قفزة نوعية هائلة إذا ما تمكنّا من تبديل الصمام الأبهري عبر القثطرة دون إجراء شق جراحي ودون الاعتماد على دارة القلب-الرئة الاصطناعية، لكن التحدي القائم أمام هذه التقنية يبقى أمراً لا يستهان به.
كانت أولى التطبيقات السريرية لتقنيات القثطرة العلاجية في أمراض الصمام الأبهري هي توسيع الصمام الأبهري المتضيّق بواسطة البالون لكن، وعلى الرغم من استفادة يعض المرضى، إلا أن نجاح هذه التقنية كان قصير الأمد. قد تفيد زيادة مساحة الصمام الأبهري لعدة أعشار من السنتيمتر المربع في بعض الحالات في تحسين الحالة العامة وحالة الدوران قبل إجراء عملية تبديل الصمام جراحياً، كما قد تفيد في التعرّف على المرضى الذين قد يستفيدون من العمل الجراحي عندما تكون الخطورة مرتفعة، إلا أن تطبيقات تقنية التوسيع بالبالون محدودة، فهي غير ممكنة عند وجود قصور مرافق أو تكلس شديد في وريقات الصمام الأبهري.
تم مؤخراً تطوير تقنية جديدة معتمدة على القثطرة تهدف إلى إزالة التكلسات عن وريقات الصمام بقصد استعادة وظيفتها السوية. قد تُثبت هذه الطريقة فعاليتها في المراحل الباكرة من تضيّق الصمام الأبهري أو في إبطاء تطور المرض، إلا أنه من الصعب تخيّل وجود أيّة طريقة قادرة على استعادة الوظيفة السوية في غالبية الصمامات الشديدة التضيّق والتكلّس التي يقوم الجراحين اليوم باستبدالها.
تتم الآن أيضاً دراسة إمكانية إدخال صمام حيوي محمول على شبكة بواسطة القثطرة ليزرع داخل الصمام الأبهري الأصلي. تبدو هذه المقاربة مغرية في كثيرٍ من أوجهها، لكنها قد تكون صعبة التطبيق من الناحية السريرية. لقد شهدت العقود الأربعة الماضية ظهور واختفاء عشرات الأنواع من الصمامات بحيث لم يتبقى إلا عدد لا يتجاوز أصابع اليد من الصمامات الميكانيكية والحيوية الأفضل. يجب على الصمام البديل أن ينفتح وينغلق حوالي أربعين مليون مرة كل سنة، ويستمر بذلك لمدة عقد من الزمن على الأقل، كما يجب أن لا يترافق مع نسبة مرتفعة من حدوث الصمّات الخثرية. لقد طرأت تطورات هائلة على تصميم وصناعة الصمامات مما أدى إلى بقاء الأفضل منها وزوال الأنواع الأدنى جودة. إن التحدي الكبير الذي يواجهنا الآن هو المحافظة على المكاسب التي تم تحقيقها في تصميم الصمامات البديلة وإضافة قابلية "الانخماص" إلى مواصفات الصمام لكي نتمكن من إدخاله عبر القثطار، ويبقى هذا التحدي قائماً على الرغم من التطور الكبير في علم المواد وفي التصميم المعتمد على الحاسوب. قد نلجأ إلى قبول بعض التنازلات فيما يتعلق بأداء الصمام الصنعي بهدف تجنب الشق الجراحي والاعتماد على دارة القلب-الرئة الاصطناعية عند المرضى ذوي الخطورة العالية، فالنتيجة النهائية لاستخدام التقنية المعتمدة على القثطرة تتحدد بالتوازن الدقيق بين جميع العوامل السابقة. عموماً، يبدو أن العوائق الكثيرة التي تواجه مثل هذا الإنجاز تعني أن مستقبل عمليات تبديل الصمام الأبهر التقليدية يبقى في مأمن من أي خطر حقيقي قريب.
وكما بالنسبة للصمام الأبهري، تم كذلك تطوير تقنيات معتمدة على القثطرة لمعالجة أمراض الصمام التاجي. إن نتائج توسيع الصمام التاجي المتضيّق بالبالون أفضل من نظيرتها في الأبهر، لكن نسبة الإصابة بالأمراض القلبية الرثوية قد انخفضت وعدد حالات تضيق الصمام التاجي تراجع في معظم أنحاء العالم. لذلك فمن غير المتوقع أن يؤثر تطور توسيع الصمام التاجي بالبالون على عدد عمليات جراحة الصمام التاجي التي تُجرى.
من جهة أخرى، قد يكون للتقنيات المعتمدة على القثطرة أثر أكبر في حالات قصور الصمام التاجي. تهدف إحدى هذه المقاربات إلى إصلاح الصمام بتقنية Alfieri (تثبيت نقطة الوسط من حواف الوريقتين إلى بعضهما) عن طريق القثطرة. لاشك أن تحقيق هذا الهدف يشكل تحدياً صعباً، لكن تقنيات تصوير صدى القلب ثلاثي الأبعاد والتنظير القلبي المعتمد على الحاسوب قد تسمح بتحقيق هذا الهدف. يجب أن نختبر هذه التقنية مراراً كما يجب أن نثبت استمرار فعاليتها على المدى الطويل،لكننا قد نلجأ عند المرضى ذوي الخطورة العالية إلى قبول بعض التنازلات بالمقارنة مع نتائج العمل الجراحي التقليدي وذلك بهدف تجنب الشق الجراحي وتجنب استعمال دارة القلب-الرئة الاصطناعية.
تتم حالياً تجربة طرق أخرى مختلفة لمعالجة قصور الصمام التاجي بواسطة القثطرة، وسوف يعتمد نجاحها على سهولة تطبيقها وعلى فعاليتها. من المتوقع أن تستعمل هذه المقاربات الحديثة لعلاج الملايين من مرضى قصور قلب الاحتقاني المختلط بالقصور الشديد في الصمام التاجي، فمعدل البقيا عند هؤلاء المرضى لا يزيد عن الـ 50% بعد سنة واحدة من التشخيص لكن خطورة التصنيع الجراحي التقليدي للصمام التاجي مرتفعة جداً. بذلك، قد تكون التقنيات الجديدة هامة جداً عند هذه المجموعة من المرضى، إلا أن تأثيرها على العدد الكلّي لمرضى جراحة الصمام التاجي سيبقى ضئيلاً.
جراحة الشرايين الإكليلية
يأتي التهديد الأخطر لمستقبل جراحة القلب من ظهور تقنيات القثطرة الحديثة الموجهة نحو معالجة أمراض الشرايين الإكليلية. لقد أجرى Gruentzig أول توسيع للشرايين الإكليلية بالبالون عام 1979، ومنذ ذلك الحين ظهرت تقنيات جديدة عدّة منها: زرع الشبكات الإكليلية، استئصال العصيدة الشريانية بطريقة التجريف الدوّار، استئصال العصيدة الشريانية الموجّه، التوسيع الموجّه بمساعدة الليزر، إعادة تروية العضلة القلبية المباشر، المعالجة الشعاعية الموضعية داخل الشريان، الشبكات المغلّفة بمواد فعّالة حيوياً، وأخيراً شرينة الأوردة الإكليلية عبر الجلد والمجازات الإكليلية عبر الجلد. سوف يعتمد النجاح النهائي لأي من التقنيات المذكورة بدرجة كبيرة على مقارنتها مع ما يعتبر "حجر الزاوية" في المعالجة الإكليلية وهو: مجازة الشريان الثدي الباطن الأيسر إلى الشريان الإكليلي الأمامي النازل.
من المعترف به عموماً أن مجازة الشريان الثدي الباطن الأيسر إلى الشريان الإكليلي الأمامي النازل هي معالجة فعّالة لنقص التروية الإكليلية، وأن 95% من هذه المجازات تبقى سالكة بعد عشر سنوات من الجراحة، وأن هذا النجاح يطيل من بقيا هؤلاء المرضى. حتى هذا اليوم لم يستطع أيّ من أنماط المعالجة الأخرى تحقيق ما يقارب هذا النجاح، إلا أن الجراحة التقليدية تترافق مع العديد من المساوئ، وهي التي شكلت الدافع نحو تطوير تقنيات القثطرة، ومنها: الرض الجراحي أثناء فتح الصدر أو حصاد الطعوم، الاضطرابات الجهازية المرافقة لاستخدام جهاز القلب-الرئة الاصطناعي، خطر حدوث الاضطرابات النفسية أو العصبية بعد الجراحة، واحتمال انسداد الطعوم الوريدية. بالمقابل ولحسن الحظ، فقد تم ابتكار العديد من التقنيات التي تجعل الجراحة التقليدية أقل سوءاً.
قبل البحث في هذه التقنيات الجديدة، لابد من مقارنة النتائج الحالية لمعالجة التضيقات المتعددة في الشرايين الإكليلية بالجراحة التقليدية أو عبر القثطرة. تم تقديم دراستين حول هذا الموضوع في مؤتمر الكلية الأمريكية لأمراض القلب American College of Cardiology عام 2001. أجريت الدراسة الأولى باسم MASS (Medicine, Angioplasty, or Surgery Study) وتم فيها توزيع 611 مريضاً بشكل عشوائي إلى المعالجة الدوائية أو المعالجة التداخلية عبر القثطرة أو الجراحة الإكليلية التقليدية. تم زرع شبكة واحدة على الأقل في 70% من مرضى المجموعة الثانية. لدى المتابعة لمدة سنة واحدة، تطلّب 8% من مرضى المعالجة الدوائية و 14% من مرضى المعالجة التداخلية إلى إجراء إضافي لإعادة التروية، في حين لم يتطلّب أيٌ من مجموعة الجراحة التقليدية أي تداخل إضافي. إضافة إلى ذلك، عادت أعراض خناق الصدر عند 13% من مرضى المعالجة الدوائية و 25% من مرضى المعالجة التداخلية، بالمقارنة مع 6% فقط من مجموعة المعالجة الجراحية. الدراسة الثانية حملت اسم SoS (Stent or Surgery) وتم فيها توزيع حوالي 1000 مريض في 53 مركز مختلف في أوروبا وكندا عشوائياً إلى معالجة التضيقات المتعددة في الشرايين الإكليلية بالجراحة التقليدية أو عبر القثطرة. لدى المتابعة لمدة سنتين، تطلّب 13% من مرضى المعالجة التداخلية إجراء تداخل إضافي لإعادة التروية بالمقارنة مع 4.8% فقط من مرضى المعالجة الجراحية. إضافة إلى ذلك، ترافقت المعالجة التداخلية عبر القثطرة بنسبة وفيات بلغت 4.1% بالمقارنة مع نسبة 1.2% للمعالجة الجراحية.
يؤكد الاختصاصيين أن تقنيات الشبكة الإكليلية تتطور بشكل سريع وأن هذه النتائج لا تعكس الواقع الحالي لهذه التداخلات. قد تستطيع الشبكات الجديدة المغلّفة بمواد فعّالة حيوياً أن تحسّن هذه النتائج بشكل كبير. لقد أظهرت الدراسات الحديثة أن استخدام الشبكات المغلّفة بالـ Rabamycin يؤدي إلى انخفاض نسبة عودة التضيّق بشكل كبير كما أكّدت الدراسات المخبرية نقص حدوث فرط تصنّع البطانة، إلا أن هذه التقنية تحتاج إلى المزيد من الدراسات. وكذلك، لم يتم تحديد دور المعالجة الشعاعية الموضعية داخل الشريان كمعالجة بدئية أو كتدبير لحالات عودة التضيّق.
على الرغم من هذه التطورات، فان المعالجة التداخلية عبر القثطرة لا تلائم المرضى ذوي الإصابات الشديدة في الشرايين الإكليلية لأن نسبة عودة التضيّق مرتفعة. كذلك، لا يُنصح بمعالجة المصابين بتضيق الجذع الرئيسي الأيسر بهذه التقنية على الرغم من سهولة إجراءها لأنهم لا يتحمّلون حدوث عودة التضيّق. قد تفيد التقنيات الحديثة للشبكات في تحسين نتائج المعالجة التداخلية لهؤلاء المرضى، إلا أن هذا يتطلب الإثبات العلمي.
هناك مجموعة أخرى من المرضى الذين لا يستفيدون من المعالجة التداخلية المتوفرة حالياً وهم المصابين بانسداد إكليلي تام مزمن. برزت مؤخراً تقنيتين جديدتين واعدتين لإعادة تروية العضلة القلبية بعد الانسداد الإكليلي التام المزمن وهما: المجازات الإكليلية عبر الجلد (percutaneous in-situ coronary artery bypass) وشرينة الأوردة الإكليلية عبر الجلد (percutaneous in-situ coronary venous arterialization). تعتمد طريقة المجازات الإكليلية عبر الجلد على إدخال السلك الدليل إلى لمعة الوريد الموازي للشريان الإكليلي المسدود عبر جداره قبل منطقة الانسداد ثم عودة الدخول إلى الشريان بنفس الطريقة بعد منطقة الانسداد، وذلك بالاعتماد على التصوير بالصدى داخل الأوعية. يتم بعد ذلك إدخال شبكة مغلّفة على السلك الدليل لتصبح بمثابة مجازة شريانية-شريانية تتجاوز الانسداد. هناك حالات لا يكون فيها الشريان الإكليلي بعد الانسداد التام المزمن ملائماً للتقنية المذكورة بسبب الإصابة المعممة للقسم البعيد من الشريان، وهنا يمكن لطريقة شرينة الأوردة الإكليلية عبر الجلد أن تفيد. تقوم هذه الطريقة على صنع ناسور بين الشريان الإكليلي قبل الانسداد وبين الوريد الإكليلي الموازي، مما يسبب شرينة السرير الوريدي الذي ينزح المنطقة ناقصة التروية. يتم عزل الوريد عن باقي الشبكة الوريدية الإكليلية بسدادة خاصة لمنع حدوث شنت أيسر-أيمن هام. إن هذه التقنيات الحديثة في غاية الإبداع كما أنها واعدة جداً، إلا أن سلامتها وإمكانية تطبيقها المتكرر لم تثبت سريرياً بعد، كما التأثيرات البعيدة لشرينة الأوردة غير معروفة حتى الآن. على الرغم من أن التطور المستمر لتقنيات المعالجة التداخلية عبر القثطرة سوف يزيد من الخيارات المتاحة للمرضى، إلا أن الإبداعات الجديدة في مجال جراحة القلب قد تحدّ في نفس الوقت من الدوافع نحو تجنب إعادة التروية جراحياً.
كما أشرنا من قبل، فهناك العديد من المساوئ التي تدفع المرضى بعيداً عن الجراحة التقليدية ونحو المعالجة التداخلية عبر القثطرة. من هذه المساوئ الاستجابة الالتهابية الجهازية المرافقة لاستخدام جهاز القلب-الرئة الاصطناعي، خطر حدوث الاضطرابات النفسية أو العصبية بعد الجراحة، النسبة المرتفعة لانسداد الطعوم الوريدية، والرض الجراحي أثناء فتح الصدر أو حصاد الطعوم. بالمقابل، فقد تم ابتكار تقنيات جديدة موجّهة نحو كلٍ من العوامل السابقة، مما قد يكون له أثر إيجابي هام على الرغبة في اللجوء إلى الجراحة الإكليلية التقليدية.
جراحة الشرايين الإكليلية على قلب نابض (دون استعمال دارة القلب-الرئة الاصطناعية)
ازداد الاهتمام في السنوات القليلة الماضية بالجراحة الإكليلية على القلب النابض وذلك بسبب زيادة المعرفة بالتأثيرات السلبية المحتملة لدارة القلب-الرئة الاصطناعية، وقد ساعد تطوير الطرق والأدوات الجراحية الحديثة في إجراء هذه العمليات الجراحية بسلامة على نطاق واسع. على الرغم من أن فوائد تجنب استعمال دارة القلب-الرئة الاصطناعية قد تكون محدودة في العديد من المرضى، إلا أن هذه الفوائد تصبح هائلة في مجموعات خاصة من المرضى.
أحد المزايا المحتملة لتجنب استعمال دارة القلب-الرئة الاصطناعية هو انخفاض نسبة حدوث الإصابات العصبية والذهنية بعد الجراحة. لقد أثبتت الدراسات الدقيقة أن 30-50% من المرضى يصابون بأحد أشكال الاضطرابات الذهنيّة بعد عمليات زرع المجازات الإكليلية إلا أن سبب هذه الاضطرابات لم يتم تحديده، فالبعض أشار إلى أن تجنب استعمال دارة القلب-الرئة الاصطناعية يقلل من خطر حدوث هذه الاضطرابات بينما نفى البعض الآخر وجود هذه العلاقة. لذلك، يبدو أن بعض العوامل الأخرى قد تلعب دوراً في حدوث هذه الاضطرابات، ومنها انطلاق صمّات جزيئية أثناء المناورة على الأبهر الصاعد. على الرغم من أن الجراحة الإكليلية على قلب نابض لا تتضمن قثطرة الأبهر الصاعد أو تطبيق ملقط الأبهر، إلا أنها تتطلب وضع ملقط لإغلاق الأبهر جزئياً لكي يتمكن الجراح من إجراء المفاغرات القريبة. لقد تم حديثاً ابتكار أدوات جديدة تتيح للجراح زرع النهاية القريبة للطعم على الأبهر آلياً دون الحاجة إلى المساس بالأبهر، وقد يفيد ذلك في خفض نسبة حدوث الاضطرابات العصبية والذهنية.
مازال انسداد الطعوم الوريدية يشكّل مشكلة كبيرة بعد جراحة الشرايين الإكليلية. تبلغ نسبة انسداد الطعوم الوريدية حوالي 50% بعد مرور 5 سنوات على الجراحة كما تحتوي 50% من المجازات التي تبقى سالكة على تضيقات هامة. لقد دفعت هذه المشكلة الجراحين إلى استخدام الطعوم الشريانية بشكل أوسع، كما دفعت الباحثين إلى محاولة تطوير الطعوم الوعائية ومنها استخدام الأنسجة البشرية الذاتيّة (التأمور) أو الأنسجة المغايرة (مخاطية الأمعاء الدقيقة) أو المواد الاصطناعية المغلّفة بالخلايا الذاتيّة. كان الهدف الأولي من هذه التجارب هو الحصول على طعوم وعائية للاستعمال في حال عدم توفر الطعوم الوريدية، إلا أنها قد تثمر في الوصول إلى طعوم وعائية متفوقة.
يتم حالياً تطوير جراحة القلب دون فتح الصدر وذلك للحد من شدة الرض الجراحي. لقد أثبتت الدراسات إمكانية حصاد الشريان الثديي الباطن الأيسر وزرع المجازات الإكليلية دون استعمال دارة القلب-الرئة الاصطناعية وذلك بمساعدة الحاسوب. ما يزال تطبيق هذه التقنية محدوداً في عدد صغير فقط من المرضى، إلا أن التطوير المستمر للطرق الجراحية وللحاسوب في المستقبل قد يسمح في انتشار هذه العمليات بشكل أوسع، كما قد يكون لتطوير الأدوات الآلية لإجراء المفاغرات الإكليلية ومثبّتات القلب النابض دون فتح الصدر أثر كبير على تطور هذه العمليات الجراحية. أخيراً، فان المستقبل مفتوح أمام تقنيات الجراحة التنظيرية المتطورة التي ستجعل من جراحة القلب دون فتح الصدر ودون مساعدة الحاسوب أمراً ممكناً. لاشك أن إمكانية زرع المجازات الإكليلية دون فتح الصدر ودون استعمال دارة القلب-الرئة الاصطناعية بطريقة يمكنها تحقيق نتائج مماثلة لتلك التي تحققها الجراحة الإكليلية التقليدية سيكون له أثر إيجابي هام على رغبة الكثير من المرضى في اللجوء إلى الجراحة.
من المتوقع أن يستمر دور جراحة الشرايين الإكليلية في معالجة نقص التروية القلبية لعقد آخر من الزمن على الأقل، ولن تغيب هذه الجراحة بين صفحات كتب العمليات الجراحية المهجورة إلا إذا تطورت علوم الوقاية من التصلب العصيدي الشرياني. قد تتقدم معرفتنا بالأسس الوراثية والكيميائية لنقص التروية الإكليلية، وقد تصبح الوقاية هي الوسيلة الأساسية لمعالجة الأشخاص ذوي الخطورة العالية لحدوث التصلب العصيدي.
القلب الاصطناعي وزرع القلب الغيري
تعتبر المعالجة الجراحية لقصور العضلة القلبية إحدى المجالات الهامة لتطور جراحة القلب، فالتقدم المستمر في تصميم الأجهزة المساعدة لعضلة القلب يجعل منها أكثر سلامة وأسهل استعمالاً وأوسع انتشاراً. يجري الآن كذلك تطوير أجهزة تقوم بتعديل شكل أو حجم البطين الأيسر عبر الدعم الخارجي لجدار البطين الأيسر، مما يؤدي إلى تخفيف توتر جدار البطين وتحسين أداء العضلة القلبية. أخيراً، فان تقدم علم الأدوية سوف يؤدي إلى تحسّن نتائج زرع القلب. على الرغم من تحدد عدد عمليات زرع القلب التي تجرى حالياً بسبب نقص عدد الأعضاء المتوفرة، إلا أن الكثير من الأبحاث يهدف الآن إلى زيادة عدد الأعضاء المتوفرة عبر زرع القلب الغيري.
الخلاصة:
على الرغم من صحة القول بأن معالجة أمراض القلب عبر القثطرة سوف تتوسع، إلا أن مستقبل جراحة القلب سيبقى باهراً. يجب علينا أن نعترف بقيمة ومزايا هذه التقنيات التداخلية الجديدة، كما يجب علينا أن نقبل هذا التحدي بالعمل على تطوير تقنياتنا بهدف تحسين نتائج العمل الجراحي وتخفيف عواقبه وتطوير بدائل علاجية مبتكرة لعلاج أمراض القلب. لن يضمن ذلك مستقبل جراحة القلب فقط، لكنه سوف يؤدي أيضاً إلى تحسين حياة المرضى المصابين بأمراض القلب


مع تحيات : سعيد محمد علي
GENIUSSHARK