النتائج 1 إلى 5 من 5

الموضوع: " الرحيل .. " قصة لفيصل الزوايدي (تونس)

  1. #1
    التسجيل
    11-07-2007
    المشاركات
    4

    " الرحيل .. " قصة لفيصل الزوايدي (تونس)

    الرحـيــلُ ..

    يا الصابرونَ على الـهمِّ ، ضاقَت عِندَ العُمر أُمنِياتـي ، و ذاقَت نَفسي وَجَعَ الفَجائِعِ ..
    من جَنوبٍ كان الرحيلُ يومًا .. باردًا يومًا .. لكن لهيبًا ما يلفحُ وَجهـي ، و شتاتٌ مُبعثَرٌ مِني تعبثُ بِهِ رياحٌ شتى ، تقفُ أُمي عند عتبةِ البابِ و بيدها إناءُ ماءٍ لِتَصبه ورائي حتـى أعودَ إليها ، و فـي عَيْنَيْها بريقُ ماءٍ آخر .. لَـم تَقُل شيئًا لكن تـمتمات تصدرُ مُبهمةً عن شَفَتَيْها ، خـمنت أنـها أدعيةٌ بالـحفظِ و العودةِ .. أخي الصغير واقـفٌ حذوها بقميصهِ الـمتهدلِ و إصبعه تعبثُ بِأنفِهِ ، ينظرُ بغرابةٍ إلينا ، فهو لا يَـعلم بعدُ معنـى الرحيلِ .. مِنَ النافذةِ الـخشبية الزرقاء تُطل أختي و هـي تُلقي بيـن الـحين و الآخر بنظراتٍ جزعةٍ إلى داخلِ الغرفة ، هنالك أبـي على فراشٍ سقيمًا ، مرضٌ داهـمَه فلازَمَهُ فأقعَدَهُ .. تـحسَّنت حالُــه قبلَ يومين فأخبرتُه بـموعدِ الرحيل ، لَـم يقُل شيئًا لكني أحسستُ في صمتهِ الرهيبِ توسلا بالبقاءِ .. و مِن عَينَيْهِ اللتين تـهدَّلت عليهما الأجفان صَرَخَ استجداءٌ مزلزلٌُ بعَدَمِ الرحيلِ .. و لكن أنّى لـي ذلكَ و لَـم أبلُغ فرصة َ السـفرِ هَذِهِ إلا بعناءٍ قد لا أستطيعُه ثانيةً.. كذلك الـحصولُ على تأشيرةِ سفرٍ إلـى البلاد التي أقصدُ ليس متيسرًا دومًـا .. و يـتَعَثَّرُ تدفق الـدم عَبرَ الشرايين فأدركُ أن اِنـخِسافَ الأرضِ بـمَن عليها ليس دائمًـا أشدَّ الـمَصائِبِ ..
    ارتفع صوتُ مُـحَرِّكِ السيارةِ الـمتوقفةِ أمامَ البـيت ، فقد ضغطَ السائقُ على دَواسةِ البنزين لِيَستَحِثَّني ، بابُ العربةِ مفتوحٌ يطلُبُني إلـى حياةٍ جديدةٍ .. حياة رسـمَتها أحلامٌ و أوهامٌ .. هنالك بعيدًا خلفَ سفرٍ طويلٍ إلـى أرضِ الوُجوهِ الشقراء و الـمالِ الوفير و الـمباهجِ .. ينفتحُ بـهدوءٍ بابُ منزلٍ مُـجاورٍ تـخرجُ مِنه فتاةٌ اتفقَت عائلتان يومًا على تزويـجي مِنها فهي ابنةُ خالـي .. لـم تَكُن الفتاةُ قبيحةً حتى أرفضَها زوجـةً بل على النقيض مِن ذلك كانت من ذوات الـحُسنِ خاصةً مَعَ ابتسامةٍ ساذجةٍ تُذكِّـرنـي كثيرًا بابتسامةِ أبيها الطيبِ .. لكني كُنتُ أرفُضُ ذلكَ الارتباطَ الذي يَشُدُّنـي إلى حياةِ البُؤس هنـا، تـمسَحُ أمي أنفَها بِطَرَفِ ردائِها و أَلـحَظُ غــيابَ أختي عن النافذةِ . يُصبِحُ التقاطُ الـهواءِ إلى صدري عمليةً أكثرَ صعوبةً ، تذَكَّرتُ كلامَ أبـي الكثير عن كَونـي رجلَ الدارِ بعدَه فكنت أُجيبُه بأن أدعوَ له بطولِ العُمرِ فيُجيبُنـي : يَطولُ العُمرُ أو يَقصُر فلابد للإنسانِ أن يُقبَـر .. تداخَلَت الصورُ أمامي مِن صبـيٍّ أسـمرَ يَلهو عند مَشارِف الصحراء إلـى شُقرِ الوجوهِ فـي بِلادٍ ثلجيةٍ و اختلطت الألوانُ فـي مزيجٍ غريبٍ ، أفقـدُ كلامًا كثيرًا كان مِنَ الـمُمكِنِ قولـه فـي هذا الـمقامِ ، فلا أجِـد مـا أقول فأصمتُ، لـم يَكُن للحظةِ و لا للزمنِ غـير معنى واحدٍ مُـختَلفٍ لا يعرِفُهُ الساعاتِِيّون .. و أخشى انفجارًا بداخلي فأُلقي حَقيبَتي الصغيرة على الـمقعدِ الـخَلفي و أهُـمُّ بإلقاءِ نفسي داخلَ السيارةِ و لَكن..
    يسقُطُ إناءُ مـاءِ على الأرض فقد كان ولدي الصغيرُ قد أوقع قدحًـا من يَدَيْهِ .. تـمامًا مثلما سَقَطَ إناءُ الـماءِ من يَدَيْ أمي يومَها عندما ارتفَعَ صوتُ أختي مِن النافذةِ الخشبيةِ الـزرقاء بصيحةٍ مـجروحَةٍ تُعلِنُ وقوعَ الفادحةِ ..
    تنحنـي زوجتي تُلَمْلِمُ شظايا القَدَحِ و تبتَسِمُ بطيبةٍ ساذجةٍ تُذَكِّرُنـي بـخالـي الطيب.

    فيــــصل الزوايـــــــدي

  2. #2
    التسجيل
    28-12-2007
    الدولة
    دولة الكويت
    المشاركات
    11

    رد: " الرحيل .. " قصة لفيصل الزوايدي (تونس)

    أهلا بالأستاذ فيصل الزوايدي

    نرحب بك في أروقة المنتدى الأدبي ، و قد اتضح لي من حروفك أنك ستثري العقول و الأرواح بما لديك من معين الكلمة العذب القوي ..
    حروفك ترسم لنا تفاصيل ذاكرتك المثخنة بتوترات الماضي و قلق المستقبل ،، رسمتها في لوحةٍ ناصعة الجمال ..

    حياك الله ،، حروفك تنهمر كفيض الزلال ..


    تحياتي ...

  3. #3
    التسجيل
    23-08-2007
    الدولة
    Tunisia
    المشاركات
    734

    رد: " الرحيل .. " قصة لفيصل الزوايدي (تونس)

    مرحبا بولد بلادي...
    لن اجاملك لانك تونسي لكن ....
    كلماتك تجعلني لا اجد غير كلمات الثناء....
    اخذتني كلماتك في ماساة كبرى و احسست بالحزن الشديد و انا اقراها
    لكن الخاتمه كانت رائعه....اعتقد ان الوالد في القصه قد مات فاضطر صاحبنا للبقاء و تزوج من بنت خاله تلك و انجب منها ولدا........
    و الله اسلوبك رائع و اتمنى ان تواصل اتحافنا بالمزيد....
    التعديل الأخير تم بواسطة Anisovic ; 07-07-2008 الساعة 04:21 PM

  4. #4
    التسجيل
    11-07-2007
    المشاركات
    4

    رد: " الرحيل .. " قصة لفيصل الزوايدي (تونس)

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة احمد القحطاني مشاهدة المشاركة
    أهلا بالأستاذ فيصل الزوايدي

    نرحب بك في أروقة المنتدى الأدبي ، و قد اتضح لي من حروفك أنك ستثري العقول و الأرواح بما لديك من معين الكلمة العذب القوي ..
    حروفك ترسم لنا تفاصيل ذاكرتك المثخنة بتوترات الماضي و قلق المستقبل ،، رسمتها في لوحةٍ ناصعة الجمال ..

    حياك الله ،، حروفك تنهمر كفيض الزلال ..


    تحياتي ...
    أخي أحمد القحطاني شكرا لهذه الحفاوة الراقية و المشاعر العفوية و ارجو ان اكون عند حسن الظن
    اعتز برأيك في القصة
    دمت في الخير
    مع الود

  5. #5
    التسجيل
    11-07-2007
    المشاركات
    4

    رد: " الرحيل .. " قصة لفيصل الزوايدي (تونس)

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة Anisovic مشاهدة المشاركة
    مرحبا بولد بلادي...
    لن اجاملك لانك تونسي لكن ....
    كلماتك تجعلني لا اجد غير كلمات الثناء....
    اخذتني كلماتك في ماساة كبرى و احسست بالحزن الشديد و انا اقراها
    لكن الخاتمه كانت رائعه....اعتقد ان الوالد في القصه قد مات فاضطر صاحبنا للبقاء و تزوج من بنت خاله تلك و انجب منها ولدا........
    و الله اسلوبك رائع و اتمنى ان تواصل اتحافنا بالمزيد....
    أهلا بك أخ Anisovic و يسعدني هذا اللقاء في المنتدى .. أعتز بفهمك المتمكن من النص و اسعدني كثيرا اعجابك به .. اعدك بالمزيد ان شاء الله
    دمت في الخير
    مع الود الممتد

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •