التفاؤل.. هو السبب

أحيا هذه الأيام، وكأنني في حالة انتظار.. أصغي إلى صوت نفسي الذي ملأنّي بالضجيج.. ترتسم الأحداث، وتدون في ذاكرتي سطورا سطورا. كل يوم يفاجئني بما لا أريد.. كل ما اختزنه في أعماقي، يقطر دما، فقد جفت دموعي منذ آلاف السنين.‏
لذا.. فاجأني تحفزي في هذا الصباح الممطر الجميل. وامتلأ جسدي بدفق غريب، دفعني إلى ارتداء ملابسي بسرعة عجيبة، وكأنني أكاد، أخرج من جلدي.. وأحسست أن بقائي في المنزل سوف يسبب لي توقفا في ضربات قلبي.. ربما هاجمتني نوبة من نوبات الجنون.. هزت كياني، وكأنني على موعد مع الحبيب. لم أقاوم تلك الهجمة، بل استسلمت لها.. فهي تغزوني على فترات متباعدة، وأعترف، أنني أقف مهزومة أمامها.‏
هل يقاوم أحدنا نوبات الجنون، حيث يتصارع الروح مع الجسد، ويتخاصم أحدهما مع الآخر، وكل منهما يبغي الطلاق الأبدي.. خرجت من بيتي، وصفقت الباب بقوة، كادت تهشمه..‏
غمرت روحي حالة من اللامبالاة.. دفعتني للتسكع في طرقات المدينة علني أهرب من ذاتي.. وعجبت من نفسي وأنا أتحدث على هذه الصورة، وأنا إنسانة نهاية القرن العشرين.. أأستسلم ببساطة للكون الذي يضحك من حولي في هذا الصباح الساحر.. فأنطلق لاهية، متناسية، ما يدور حولي من جرائم في هذا العالم؟‏
هل التفاؤل عاد إلي بعد هجر طويل؟؟‏
أم أن مفاجآت مثيرة سوف تملأ حياتي غبطة، وتضيء ما أظلم من روحي؟‏
أم هي النسائم الناعمة سحرتني وأنا العاشقة للجمال؟‏
لم ترضني موجات السعادة، التي جرفتني للاستسلام للحلم.. ولكن لماذا نضع العراقيل في طريق سعادتنا؟ بل يجب أن نضع العراقيل.. أهناك ما يسمى سعادة في نهاية هذا القرن المارق؟ الكون في حال من التخبط، وشريعة الغاب تسيطر بلا رحمة. القوي ينهش الضعيف.. وليته يكتفي بذلك، بل يصول، ويجول باحثاً عن فرائس جديدة في أرجاء هذا الكون.‏
كشفت لنا الأيام الغطاء عن جرائم، يرفضها الضمير الإنساني ولكن السؤال هنا: هل هناك ضمير إنساني؟ ... معاذ الله.. ولماذا يكون؟ وإن كان نائماً لم يصحو؟ وهو لم يعد له دور في زحمة الأحداث المتسارعة، وفي زخم الحياة المضطربة كبركان هائج.‏
وللحظات قصيرة.. ابتسمت عيون الأزهار الملونة.. كانت غارقة في العشب الأخضر الندي.. وأعترف أنني بادلتها الابتسام.. وأنا أتخيل أطفال بلدي يمرحون بينها بأقدامهم الصغيرة مثل عصافير الدوري.‏
وفجأة.. استقرت في قلبي صفعة قوية.. وكأنها أبت أن أستسلم لحالات من الطفولة.‏
وقعت عيناي على مشهد رهيب، لم يصدقه عقلي.. ورفضته روحي.. أحسست بغثيان شديد.. الدماء علقت بي.. هطلت من عيني وفمي.. قتلتني..‏
وحين رأيت وجهي في المرآة، خفت من نفسي.. الدماء غطتني من رأسي وحتى قدمي.. قطع رأسي، رميت بأيد غليظة على الأرض الباردة. تلفت حولي، فرأيت جثثاً.. تملأ المكان، جثثاً لشباب في عمر الزهور.‏
كثرت الغصات في حلقي.. تأملت وجوههم المشعة بالبراءة والحالمة بمستقبل أفضل..‏
ما الذي جاء بي إلى هنا؟ إلى الحرم الابراهيمي في مدينة الخليل؟.. ومن الذي دفعني للصلاة في هذا الفجر الحزين؟ نسيت كل شيء.. وأصغيت إلى صوتي يشارك الآخرين عبارة "الله أكبر" هلل الجميع.. وصلينا جماعة.. ثم هتفنا قائلين: "يا رب يا رحمن يا رحيم.. خلصنا من كيد الظالمين.. وخلص أطفالنا من كيدهم اجمعين.. يا رب.. أعد إلينا فلسطين.‏
يا رب.. أعنا على إكمال ما بدأناه.. وهبنا القوة لاسترجاع ما فقدناه.. طالت صلاة الفجر، وطال النداء، وطال الدعاء..‏
وحين غرقنا في محيط من النشوة الإلهية.. أيقظتنا زخات متتابعة من الرصاص، عكرت سكون الكون من حولنا. وسقطت أنا مضرجة بدمائي، وسقط الشباب وهم ساجدون.. مات الجميع.. ولكن كيف تخرج هذه الكلمة القبيحة من فمي.. لا.. لم يموتوا.. بل حلّقوا.. صعدت أرواحهم إلى البارئ العظيم.. تشكو له ظلم الأيام..‏
اخترقتني زخات الرصاص من جديد..‏
كنت أسقط، وأنهض، وكأنني أستعذب طعم الألم..‏
ثقب الرصاص عينيّ، أذنيّ، فمي، واستقر في عنقي وقلبي.. اختفى صوتي.. تدفقت دمائي.. وخرجت من مسامات جلدي...‏
لم أعر دمائي التفاتا.. انتزعت نفسي من أحضان الموت.. لأمسح دماء أبناء أمي.. جففتها بخصلات شعري.. بوجهي.. بقلبي.. بمشاعري وأحاسيسي.. غدوت ضمادات.. ضمادات بيضاء ناصعة كلون الطهارة.‏
انتصب أمامي وجه كريه.. لطمني على وجهي لطمة، سببت لي دواراً غريباً.. ربض اليأس على صدري.. وملأتْ الدهشة ناظري.. وجاءت الأحلام، فأفزعتني، وهشمتني..‏
وها أنذا أموت.. ثم أحيا.. ثم أذبح من جديد.‏
بدأت أتلوى كمن فقد السيطرة على نفسه.. هاجمني صوت الغربان، فأثار ضجة مخيفة من حولي.. كل ما رأيته أرعبني.‏
أصوات الشهداء جميعها، شقت جبيني، صغرتُ وصغرتُ.. تضاءلت وتضاءلتُ.. متُ.. حييتُ.. تمزقتُ، صرختُ وضاع صوتي في الضجيج.. وعرفت المجرم، وهالني الحقد المرتسم على سحنته. عرفت اسمه.. ولكن.. ماذا تهمني الأسماء؟..‏
الجميع لهم اسم واحد.. ولا فرق بين.. الأولين والآخرين ممن حصدوا الإيمان والبراءة؟‏
اقتربت من المجرم بسرعة عجيبة.. فقأت عينيه، جدعت أنفه، وقطعت أذنيه.‏
العالم صامت من حولي.. أصغيت من جديد، علني أسمع صوتا عادلا.. ولما فشلت، أطلت وجوه أبناء الحجارة، وسمعت صوتهم المدوي يقول بحرقة وثبات: نحن هنا عانقتهم.. والدماء ما زالت تغطيني.‏
هزني الخبر.. مذبحة في الخليل..خمسون قتيلا.. ومئات من الجرحى.. مذبحة في الحرم الابراهيمي.. القاتل رجل مجنون.. جاء إلى المسجد وحيداً.. ولم يخف أحداً وراءه..‏
ترددت الأصوات تنفي الجريمة..‏
ووصلني صوت ظالم يقول: لم تسمونها مذبحة.. إنها مجرد حادثة لإطلاق الرصاص؟‍‍‍!!‏
وغرقت من جديد في ضجيج الكلمات والعبارات..‏
يا لسخفي.. لا أصلح أنا لشيء.. فلأعترف بجبني..‏
أطفال الحجارة فعلوا كل شيء.. ماذا فعلت أنا؟‏
هم سقطوا هناك.. وأنا ما زلت أحيا.. أتابع نشرات الأخبار.. وأصغي إلى عدد القتلى..‏
أنا أراقب من هنا.. وهم يموتون ثم يبعثون، ثم يموتون من جديد.. ويملؤون الأرض ضجيجاً.. والسماء شكوى وانينا..‏
مشاهد المجزرة، ما زالت ترافقني، تملؤني الدماء، تسد حلقي.. أختنق.. فمتى ينتهي اختناقي؟.‏
التفاؤل هو السبب.. وحده دفعني للاعتقاد أنني سعيدة، يالتفاهة عقلي!! أصابني الخبل فأحسست بالفرح، كيف تفرح إنسانة نهاية القرن العشرين؟!!‏