كان الحجاج يأتون من بلادهم إلى جدة..
تُستقبل البواخر في عرض البحر وتذهب السواعي والسنابيك والقوارب، وتنقل الحجاج من مراكبهم إلى ميناء جدة ويسمى وقتها (البُنط)..

تقوم علاقات تجارية واجتماعية بين بعض الحجاج والعائلات في جدة..
وخاصة الميسورين منهم، والذين يؤدون مناسك الحج كل عام..
فهم في خير كبير يسمح لهم بأداء الفريضة مع عائلاتهم..
يقابل ذلك سفر وكلاء المطوفين في جدة لزيارة هذه العوائل في بلادها..
وتنشأ صداقات وأفراح وأنساب بين هذه العوائل..

فلا تكاد السنة تقضى إلا وقد اجتمع شمل هذه العوائل ببعضها، لا يفرقها أكثر من ستة أشهر..
فاجتماع لأداء الفريضة.. أو اجتماع في مصيف أو مشتى في البلاد الأخرى..
وهكذا تدخل الثقافات والعادات والتقاليد والأكلات واللغات.. إلى جدة فتختلط الأخلاقيات المتبادلة..
وكان الكل مع الكل.. كلاً في كل..

ومن خلال هذا تتعاقب الأجيال فتتوارث هذه الشمائل والصفات والأرحام والتقارب ليشكل نموذجاً من "إنا خلقناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"..
وتنعم الأسر.. فهذا يتزوج من ابنة الآخر.. والابنة تتزوج من الأخ الآخر.. وهكذا..

صاحبنا.. توارث هذه العادة عن جده ووالده..
فقد كانا مواظبان في الحضور إلى جدة للحج، وكان يصحبهما وهو طفل صغير..
ووكيل المطوف في البيت أخ صغير له، ونشأت بينهما الصداقة..
أصبحا في محبة متلازمة ورفقة جميلة يطرب لها كل من يراها في مروءتها.. وتعاملها..
والعائلتان متواصلتان ومتحابتان..
ولهما من الذكريات ما يؤنس فقدان الآباء والأجداد وذكرى الماضي القريب البعيد..

أتى هذا إلى صاحبه يوماً.. وطلب منه أن يقابل فلاناً من الناس..
امتعض وجه صاحبه فكيف لهذه الخلق وهذه الصلة والمعرفة والتدين والالتزام أن يسأل عن فلان..
يرى أنها غير أهل له ولمعرفته..
وللمرة الأولى يختلفان..
فهذا يريده.. والآخر يمنعه لما يربطهما من محبه وتقدير واحترام..
أبدى أن يدله على داره.. وليس مسئولاً عنه ولا يعرفه.. ولا ولا..

وكان يصف من يُسأل عنه بأنه رجل غير سويّ ولا يمكن أن يخاطبه أو يراه..
أو يقبل زيارته.. فضلاً عن أن يزوره..
حتى أنه أخبر صاحبه بأنه يتبرأ من علاقته وصداقته..

ذهب صاحبنا إلى الباب وطرقه.. فإذا بفتى في عمر الزهور لا يتجاوز الثامنة عشر من عمره..
جميل الخلقة.. لطيف الأخلاق.. يشع أدباً وتواضعاً .. أناقة ولباقة..
سأله: "هل أنت فلان؟.."
قال الشاب: "لا.. إنه أبي.."
"سوف أستأذن لك.."
وأذن له بالدخول.. فإذا به أمام ديوان كبير..
به أدوات الطرب والنغم.. وما يتبع ذلك عادة من حضور..
استقبل بترحاب كبير ونغمات الغناء.. وأدوات الطرب ترحب به في كلمات غزلية..
تدغدغ الحواس.. وتهتز لها الأبدان..
طلب له من مشروبهم.. فاعتذر بأدب..
وقال لصاحب البيت: "إن لك أمانة عندي.. أريد أن أعطيها لك على انفراد.."
ضحك صاحبنا بأعلى صوته وقال له: "يا حاج.. هات أمانتك فهؤلاء صحبتي ورفاقي..
وكما ترانا في مرح وفرح وسعادة.. فلا يخفى عليهم شيء من أمري.."
أصرّ صاحبنا على أن يعطيه الأمانة منفرداً.. وكان يأبى أن يقوم من مكان إلى مكان آخر..
حتى أن بعض أصحابه نصحوه أن يذهب مع الضيف ويأخذ الأمانة..
وإكرام الضيف واجب.. وهكذا كان..
قال الحاج: "إني أحسب أن جدي وأبي كانا من الصالحين.. صلاة وزكاة وصوماً وحجاً..
وكان أبي يصحب جدي إلى مكة كل عام لأداء الفريضة..
ثم أصبح أبي يصطحبني..
وإني قد حججت -منذ ولادتي- حتى هذا اليوم ما يفوق الأربعين مرّة..
مرافقاً أبي وجدي، ثم مرافقاً لأبي.. وقد توفاهما الله..

"لقد رأيت أبي قبل ثلاث ليال في رؤيا.. يأمرني بأن آتي إليك باسمك وأقرئك السلام..
وفي الليلة التي بعدها رأيت جدي.. يأمرني بأن آتي إليك وأقرئك السلام..
ثم رأيت في الليلة الثالثة أبي وجدي.. يأمراني بأن أقرئك السلام..

وقد أتيت إليك اليوم لأعطيك هذه الأمانة التي حملتها.. وإني قد فعلت..

ولا أخفيك بأني قد صدمت لما تتمتع به من حذر وخوف منك..
وسمعة تشوبها الكثير من الشكوك.. وعدم الرضا..

وقد مُنعت من زيارتك أو حتى الوقوف أمام بيتك.. وبعد أن رأيت..
وجدت أن أصحابي كانوا محقين.. فحياتك هنا.. لهو وصخب..
استوقفني كثيراً وأنا أروي لك رؤى أبي وجدي.. لماذا أنت؟!"

"فهلا أخبرتني عنك أكثر.. لعلي أجد جواباً أو تفسيراً لما رأيت..
نظر إليه صاحبنا وقال له: "لقد أديت أمانتك.. ووفيت بعهد جدك وأبيك..
فهل تريد مني شيئاً؟"..
وعلامات الشك، وكأنه يقول له (على مين؟!)..
قال: "أريد أن أعرف خيراً فعلته أو أمراً كتمته.. أو سراً حفظته.. أو عملاً باراً أكملته.."

"لابد أن يكون هناك شيء فيك فهلا أخبرتني.."

وجد الشك في عينيه فأردف قائلاً:
"لمْ آتيك محتالاً ولا محتاجاً ولا متطفلاً.. فإني في خير من الله كبير.. وعطاء وفير.."

قال صاحبنا وقد اطمأن إلى نواياه:
"هناك شيء واحد فقط لا يعلمه إلا الله .."
"سوف أحكي لك حكايتي..
كان أبي وأمي متحابين جداً.. وليس لهما غيري.. أعيش في حنان وعز بين أحضان سكني..
فقد كان الليل سكناً والبيت سكناً .. وأمي كانت سكناً وأبي كان سكناً..
ومحبتهما للرسول -صلى الله عليه وسلم- سكناً لكل هذا السكن..
حياة جميلة تحيط بها السعادة من كل جوانبها..
فخير الله علينا.. بكل جوانبه..
صحة وعافية في المال والجسد والحب والتسامح والعطاء..
تٌوفِّىَ أبي وأمي في يوم واحد.. فلم يكد أبي يلفظ أنفاسه وهي بجانبه..
إلا وقد رأيتها تقول له: "سألحق بك.. وهي سويعات وقد ذهبت.."

حزنت حزنا شديداً ..وانهمكت في شرب الخمر والملذات لعلّي أنسى..
وأخذت أصدقائي الذين رأيتهم معي أكثر من عقدين من الزمان..
والخير يأتيني من كل مكان.. أبيع وأكسب.. وأشتري وأكسب.. وأبني وأكسب..
أؤجر بيتاً وأكسب.. لم أشعر يوماً بأني خسرت تجارة أو مالاً..
والكل يعرف ويرى هذا.. وأمي وأبي في رأسي وقلبي لا يفارقاني أبداً حتى هذه اللحظة التي أنا معك فيها..

الشيء الوحيد الذي لا يعرفه أحد ولا يعلمه غير الله..
أني مررت ذات ليلة بجوار مسجد وقت صلاة الفجر مخموراً.. تائهاً بين أصحابي ورفاقي..
أقضي ليلي من مكان إلى آخر..
رأيت امرأة تضع زنبيلاً.. فاقتربت منه فوجدته مولوداً وبجانبه صرّة من المال..
فتبعتها إلى أن دَخَلَتْ بيتها.. وعرفتُ عنوانها..
أخذتُ ذلك الزنبيل والمولود..

وذهبت به إلى بيتي ووجدت عليه مبلغ من المال يكفي لحضانة المولود بيسر وعناية..
كان يبكي لا أعرف ماذا أفعل به غير قطرات الماء..
ذهبت إلى بيتها..
خطبتها من أبيها..على أن يزوجني إياها في نفس تلك اللحظة وأعطيته كثيراً لكي يوافق.. وتم ذلك..
وأحضرتها إلى بيتي وأعطيتها ابنها وذلك هو الابن الذي فتح لك الباب..
رأيتها فقط يوم تزوجتها.. ورأيتها ثانية بعد أن ظلت تلاحقني لكي تقول لي قصتها.. وحكايتها.."

قالت: "كنا في قريتنا.. وتقدم لخطبتي رجل من القبيلة يكبرني بخمسين عاماً وله أحفاد أكبر منّي سناً..
ونحن عائلة فقيرة.. وقد أغرى أبي بماله وأعطاه الكثير ليوافق..
وتم عقد قراني عليه ظهراً على أن تقام دعوة العشاء للنساء والرجال ليلاً..
وجرت العادة ألا يدخل الرجل بعروسه إلا بعد الوليمة..
ولكنه أتى بعد ظهر ذلك اليوم.. وبعد عقد القران.. اختلى بي في بيت أبي.. وقد أصبحت زوجته..
وكان ما كان..
وخرج على أن يعود في المساء لحضور الوليمة ودعوة أهل القرية..
ولم يعد فقد قضى عليه الموت في مغرب ذلك اليوم.. وكان لي حق في الميراث.. بصفتي زوجته..

وتحرك الجنين في بطني.. وأخبرت أمي وأبي بذلك..
وقررا ألا جلوس لنا في هذه القرية.. فالناس لا يصدقون أن زوجك قد دخل بك في ذلك اليوم..
ورحلنا حتى ولدت.. وأعطاني أبي كل ما ورثته.. ووضعته مع ابني..
وأتيت فتزوجتني وأعدتني إلى ابني.. واعدت ابني لي..

قال صاحبنا.. أبقيتها في البيت تخدم ابنها.. وتربيه وتعلمه.. ولقد كان ابناً صالحاً.. ذكياً ملهماً..
أساله عن أمه فلا يقول إلا أنها تدعو لك دائماً وهي تقول: "اللهم.. كما سترت سيدنا محمد –صلى الله عليه وسلم- وصاحبه في الغار.. استره في دنياه وأخراه.. من سترني استره.."

قال الحاج: "لقد سترت عرضاً.. واحتضنت يتيماً وبررت أماً وأباً.."
"وكان حقاً على الله أن يهديك سواء السبيل..
انتهى وقت اللهو والصخب.. اذهب واغتسل.. ولنذهب سوياً لصلاة العشاء.."
ذهب صاحبنا.. وأخرج من في بيته واغتسل..
وصلى مع صاحبه..
وعندما ودعه قال له: "أخي.. يقول الله تعالى: { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً}.."
عاد الحاج في عامه التالي.. وسأل صاحبه عنه..
قال له: "لقد تبدل البيت وأصبح مكاناً ولقاء أهل القرآن والسنة واستقام الأمر..
فهلا نذهب إلى هناك.."
قابله بعناق شديد ومحبة وتقدير وقبّل يده..
وودّعه وهو يسأله: "هل من أمانة؟"
قال: "(ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفوراً).."