لم تكن تلك القرية الصغيرة تحقق أحلامهم، وأمالهم.. فانطلق ثلاثتهم.. كل منهم يبحث عن رزقه ومستقبله..
أخذ على عاتقه أن يكون مستقلاً عن بقية زملائه..
فاتجه إلى المدينة المنورة بحثاً عن علم أو مال أو فرصة تتاح له ليخرج إلى نور المعرفة.. واتجه زميلاه إلى جده.. والآخر إلى الطائف.. وعسى أن يتلاقوا..
بعد ربع قرن.. خمس وعشرون عاماً.. التقيا سوياً.. وقررا زيارة صاحبهما الذي ذاع صيته وعرفت مكانته..
وصلا إلى بيته.. فرحب بهما بفرحة كبيرة.. وغمره إحساس يوم أن كان في الخامسة عشر من عمره.. وقد ذهب كل منهم إلى حاله..
كان بجانبه شابان.. كلاً منهما كالبدر في طلعته.. والأسد في نظرته.. يحرسانه، أو يرافقانه، أو يخدمانه.. قل ما شئت.. فهما لها..
نظر إلى صاحبيه وقال: "ابني عبدالعليم، وابني عبدالحكيم.." فاقتربا منه.. قال له أحدهما: "حظك في رجولك.. لابد أنها جميلة.."
وقال الآخر: "الله يهنيك"..
والابتسامة والمحبة تصافح وجوه الزملاء اللذين التقوا بعد غيبة طويلة.. يجمع الحب تلك القلوب.. بعد الضيافة وجداه رجلاً غنياً له مريدين.. ومكاناً يرتاح له زواره.. وعلماً ينتفع به.. وحكمةً يتميز بها في قوله وحركته..
انفض القوم.. وجلس بين صاحبيه.. كلاً منهما يذكر رحلته في الخمس وعشرين عاماً الماضية.. والجميع يشكر الله أن أعاد لقاءهم في صحة وعافية..

وبدأ صاحبنا حكايته.. فهو المضيف..
قال: رحلت إلى المدينة وقد أشرقت شمس يوم جديد.. وبدأ القوم يتحركون الى أماكن أعمالهم.. فالسوق يمتلئ بالباعة والمشترين.. حركة دءوبة.. روح متفائلة.. وابتسامات متبادلة..
سماحة في البيع.. وسماحة في الشراء.. شيء لم أتعود عليه ولم أراه في قريتنا الصغيرة وأهلها..
وبينما أسير متعجباً.. امتدت لي يد لتعطيني صدقةً.. فرددت إليه ذلك..
وقلت له أني لست في حاجة.. قال: "يا أخي لا تردني.. تصدق بها إلى غيرك فربما توفق أكثر مني.. وزد عليها من عندك إن أردت.."

"وكان هذا أول درس تلقيته.."
"أمسكت به.. وقلت: "يا أخي أنا أتيت إليكم لأتعلـم.. فهل تأخذني معك تعلمني وأخدمك مقابل تعليمي؟.."
قال لي: "سآخذك إلى أهل العلـم والتقى.. أما أنا فرجل عامي لا أستطيع أن أعطيك ما لا أملك.."

حان وقت صلاة الظهر.. وذهبت معه إلى مكان غير بعيد..
وتوضأنا، وصلينا سوياً.. ثم انطلق بي إلى بيت فيه (قوم كثيرون).. وخير كثير.. ومائدة فيها طعام وشراب ولذائذ الفواكه.. وتركني بعد أن قال لي هذا مكانك..
جلست ضمن من جلس.. وأكلنا من الأطايب ما لم آكله من قبل.. طعماً، ونوعـاً.. وحمدت الله تعالى وهممت بالانصراف كغيري.. ولكني توقفت لعلي أجد جواباً لما يدور في ذهني.. وسألت عن هذا..
فقيل لي أنه الشيخ العالم الفاضل المربي.. وقد منَّ الله عليه مالاً وعلماً.. وهو ينفق من ماله وعلمه على مريديه.. وهو الرجل المحبوب خلقاً وكرماً..

إذا اختلف الناس أتوه مصالحاً... وإذا فرح الناس كان معهـم.. وإذا أصابهم ما يصيب الناس كان أول المُواسين..ذو مروءة، وشهامة، ونخوة، وتواضع، وهيبة، وحزم، ورجولة، وعطف، وحنان لا يبخل ولا يسرف..
إذا أقبلت عليه مع غيرك فإنك تشعر بأنك الوحيد المقرّب عنده.. يجمع بين المتضادين والخصوم.. وفي مجلسه السكينة والطمأنينة..
حلو الحديث جميل الطلعة.. ذو ابتسامة تفرح القلوب.. لم تراه يوماً حزيناً أومتألماً أو شاكياً..

(فكل شيء عنده (قدر الله) ومشيئته..)

أقبلت عليه بعد أن أصبحت الأخير.. وقلت: "يا سيدي.. أتيت هنا لأتعلم.. فهل تقبلني في بيتك تعلمني وأخدمك.. ومأكلي ومشربي ونومي عندك؟.." وقد كان..
"مكثت في هذا البيت مع أستاذي خمسة أعوام أنهل العلم والمعرفة..

أرى الخلق الكريم.. فعلاً لا قولاً..عيناً لا روايةً..

أصبحت مميزاً ومرافقاً.. أقرأ من المكتبة التي يملكها.. وأثابـر وأجتهد..
وكان لي عنده مودة ومحبة، ومنزلة خاصة.. فقد كان ودودا ًمعي.. لا يتحرك إلا كنت رفيقه وخادمه.."
كنا يوماً نتحدث في أمر العلاقة بين النبي المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وأمهات المؤمنين رضي الله عليهن..حديثاً ممتعاً.. ودمعت عيناي وبكيت حتى رَقّ لحالي.. ولم أره يوماً تسيل دموعه حتى ابتلت لحيته.. إلا في ذلك اليوم ..
حتى في بكائه لا يصدر صوتاً.. يوحي لك بأنه يبكي.. فالعين تدمع .. والقلب حزين.. ولا صوت ينبهك لذلك..
وقد استوقفني أن هذه الحالة أصابته عندما مر على سيرة السيدة فاطمة الزهراء -ابنة النبي (صلى الله عليه وسلم)- وزوجة سيدنا علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه..
والتفت إلي جاداً.. بوقاره المشهود وحنانه المعهود.. وسألني: "ألا تريد أن تتزوج؟.."
أجبته: "بلى.. ولكن كما ترى.. وكما قال سيدنا موسى (ربي إني لما أنزلت إلي من خير فقير).."
قال: "اذهب إلى أصحابك واخطب منى ابنتي.."
ذهبت إليهم فرحاً مسروراً لمرافقتي لخطبة ابنة شيخي وأستاذي..
ضحكوا مني جميعاً..
وعرفت منهم أنه قد أتى إلى الشيخ من هو أكثر مالاً وعلماً ونسباً وحسباً ومعرفة وقربى، ولم يزوجها أحداً منهم.. وعلمت منهم أنهم يعلمون أن لديه بنتاً.. لم يرها أحد.. لا تزور.. ولا تزار.. وفي بيت أبيها..
وكنت أعلم أن القوم يأخذون عليه ويعيبون هذا المسلك.. وأقنعتهم بأني قد استأذنت منه في التقدم..
ذهبنا إليه.. وزوجني منها.. على أن أبقى معه طوال حياته في خدمته ووافقت..
ودخلت من الباب الذي لا يدخله غيره.. ولا يعرف ما بداخله غير شيخي وأستاذي.. فرحاً مسروراً منتشياً.. وفي طريقي سجدت شكراً لخالقي العاطي الوهاب..
وطرقت الباب.. وإذا بي أمام امرأة دميمة لا تملك من الجمال شيئاً..
كانت مفاجأة غير محسوبة..
رأت مني هذا الوجوم.. وهذه الصدمة التي أظهرها صمتي.. وتعبيرات وجهي..
بادرتني قائلة: "لقد حدثني أبي عنك كثيراً.. ورأى منك وفيك ما لا يراه في غيرك..
ولقد ائتمنك على سره.. ووثق في أمانتك وعهدك ووعدك.."
دفعت لي بمال وفير..
قائلةً: "خـذ هذا واذهب وتزوج.. لاتفضح أبي في سرّه.. فإني سرّ أبي..
نزلت على قلبي سكينة وطمأنينة وسادني هدوء نفس عجيب..
وحادثتها.. فإذا بي أمام حكمة تفوق أبيها.. وعقل راشد يهدي للقلوب الأمل..
واحترام للنفس يعطي الثقة.. وأناقة وكرم.. ولياقة ولباقة وكأني في واحة خضراء..
نبعها في كلماتها.. ثقافتها في دينها... بالخير تشع روحها.. وكأني في لحن ملائكي.. أو تغريد طيور عادت إلى وطنها..
لقد كانت ذكيةً.. ملهمةً.. نفسها مطمئنة وقلبها آمن..
فيها من حكمة بلقيس.. ومن إيمان آسيا.. ومن دعم خديجة..
استشعرت قيمتي وكرامتي.. لقد كانت لي إلهام المستقبل.. تبعث في روح العلم والعمل..
رزقني الله منها هذين الولدين وقد جاءا توأماً..
كلاً منهما يشع جماله منذُ ولادته..
سألتها: "ما هذا الجمال الذي رزقنا الله؟"
قالت: "لقد أخلصت الدعاء لله.. وأمعنت فكري وكل كياني لأن يرزقني الله ولداً كريماً وسيماً خلوقاً أميناً تقياً باراً صادقاً.. (تعتز بصحبته.. ويكون لك سنداً.. وأباً لك عند هرمك).. والكريم الأكرم رزقني اثنين.. وأستأذنك في أن نسمّيهما عبدالعليم وعبدالحكيم.."
قلت: "نعم الاختيار ولكن.."
وقبل أن أكمل قالت:
اقرأ:"إن ربي لطيف لما يشاء.. إنه هو العليم الحكيم.."
ولقد كان..
وقد فارقتني قبل عام.. ولم يعرف حكايتي هذه غيركما.. ولو كانت على قيد الحياة لما ذكرتها..
قال أحد ولديه: "لقد كانت حنونة رقيقة.. حازمة حاسمة صادقة.. عاشقة لله ورسوله..
كانت تتكلم وهي لنا جميعاً أماً وأختاً وابنةً وصديقةً.. تفرح بنا وتسعد بسعادتنا.. تتكلم بألحان هادئة ونغمة يطرب لها كياننا..
كنت أعمل وأحصي ليلاً ما عندي.."
قالت: "لا تحصي ما عندك.. سوف يؤتيك الله كثيراً.. وأعرف كيف أتاك.. فإن الكمية لا تغير الكيفية.."
قال الابن الآخر: "رحمها الله.. لقد كنت عند قدميها في أخر يوم لها وقلت الصبر يا أمي.."
قالت: "يا بني.. الصبر أقل الدرجات وأكبر منه الحمد مع الصبر..
وأكبر منهما الصبر مع الحمد مع الرضا..
والأكبر الأكبر.. الصبر مع الحمد والرضا والطمأنينة..
وإني صابرة حامدة راضية مطمئنة.. أوصيك بأبيك خيراً.."
قال له أحد أصحابه: "لابد وأن تتزوج..!"
نظرا إلى السماء وقال: "إني في انتظار اللقاء..!"