كان أصغر إخوته.. وأقربهم إلى أمه وأبيه.. مطيعاً.. خلوقاً.. مجتهداً.. مساعداً لإخوانه وضيوفهم وأصحاب والده وأرحامهم.. يقضي وقته يطوف من مكان لآخر.. يؤدي حاجة هذا، ويلبي رغبات هذا.. حتى كأس الماء الذي يريده أخوه الأكبر سناً، لابد أن يقوم به.. لا اعتراض أو امتعاض.. لا رفض ولا عصيانَ.. اشتكي لأمه ذلك الوضع.. نصحته بأن يجتهد في علمه حتى يحتاجوه يوماً.. ويكون له عليهم سلطان..
اجتهد صاحبنا.. تحصّل على شهادة الثانوية بتفوق كبير.. وسط فرح أسري اجتاح معارفه.. التحق بكلية الطب.. وعمل جاهداً في تحصيل أعلى الدرجات وأحسن وأفضل المعلومات.. مثابراً، يصل الليل بالنهار في عمل مضني لبلوغ غايته.. واستطاع أن يحقق آماله في سنته الأولى.. وفي الإجازة السنوية عاد لما كان عليه في سابق عهده ملبياً كل المطالب.. فالعرف والعادة والتقاليد تجعل من سنه الأصغر مطية لتلبية رغبات من هو أكبر منه سناً.. اشتكي لأمه، بأنه أصبح الآن أكبر سناً.. ولا يجوز لإخوته أن يعاملوه بتلك الطريقة.. فعاودت نصـائحها له.. "اجتهد وتفوق حتى يحتاجوك.. ويجعل الله لك سلطاناً نصيراً"..
تحمّل السنوات المتبقية.. يؤدي دوره بإتقان وصبر وخلق كريم ومحبة من إخوانه الأكبر سناً.. وهم الأكثر سعادة ممن يخدمهم.. ذهبت العائلة إلى سفرة خارج المدينة لقضاء شهر الصيف.. امتنع صاحبنا عن السفر معهم ليتابع دروسه واهتماماته العلمية.. ومرت الأعوام وهو ملتزم بعمله.. وملتزم أمام إخوانه وعائلته.. فهو الابن الخلوق المثالي المطيع..
تخرج من كلية الطب بامتياز وقرر أن يتخصص.. ولكن والدته ألحت عليه أن يتزوج أولاً.. أقنعها بأن جهده في الدراسة يحتاج إلى تركيز وعناية.. وهكذا كان.. فقد تخصص الطبيب وأصبح جراحاً قديراً يشهد له الجميع بالتفوق والنبوغ.. خطبت له أمه فتاة.. رآها في لمحة خفيفة ووافق عليها.. مشغول بين المستشفي والمناوبة وغرف الجراحة.. تم إقرار يوم الزفاف.. حضر في اللحظات الأخيرة.. وتم الزفاف والكل يفرح ويرقص ويأكل ويغني..
وصاحبنا مشغول لشوشته بمرضاه وعمله..
فتح عيادة باسمه.. فأصبح أكثر مسئولية عن ذي قبل.. أقبل عليه أخوانه وأولادهم وأرحامهم وأقرباؤهم عندما يمرضون.. يدعون له بالتوفيق.. ومنهم يسأل هل يدفع؟.. ومنهم يرى ألا يسأل عن أجرة الكشف فهذا واجب أخينا وعمّنا.. ومنهم من يقول: "إذا أراد فعليه أن يخبرنا".. وهكذا تمر عليه الأيام والسنون..
أنجبت له زوجته الابن الأول وسمته باسم أبيها فوافق وبارك.. ورزق منها فيما بعد ببنتِ، سمتها باسم أمها فوافق وبارك.. يطلبون سيارات.. يشتري.. يحتفلون بالمناسبات.. يدفع.. يرغبون في المجوهرات.. لا يمانع.. مطيعاً كعادته.. كريماً حسب ظروفه وقدرته..
تخرج الابن من جامعته.. فأهداه سيارة فارهة، ومكتباً فخماً يديره مع موظفيه..
تخرجت ابنته فشاركت أخاها في هداياه، وفوقها مجوهرات، وفساتين وسفر ورحلات.. حياة هانئة سعيدة فيها بحبوحة العيش ورفاهية المظهر والمخبر..
يخبرونه بأنه أصبح جداً.. يبتسم ويفرح ويهني ويبارك..
وهكذا.. بين العيادة والمستشفي والبيت.. يكسب من هنا.. ويصرف هنا.. والكل سعيد وهو سعيد بسعادتهم.. وسعيد بعمله وعطائه.. فالحياة وزخرفها لا تمثل عنده غير العمل والاستقامة والجد والاجتهاد والإخلاص.. بلغ السبعين من العمر.. وقررت إدارة المستشفى، والجامعة ووزارة الصحة إيقافه عن العمل.. فقد أصبحت يده ترتعش وهو يمسك مبضع الجراحة، وبالطبع لا يمكن له الاستمرار على هذا النحو..
أقيمت له حفلة كبيرة.. وألقيت فيها الكلمات وأطيب التمنيات.. ونوهت عن مجهوداته الكبيرة ومساهماته العديدة في بناء الإنسان وصحته.. وما استشعروه من عطائه لأبنائه الطلبة، وزملائه في العمل.. قدمت له جوائز وهدايا ودروع تذكارية.. كان مسروراً جداً بذلك التقدير.. ودموع الفرح والبهجة والامتنان تملأ عينيه.. وكان قلبه مليئاً بالعاطفة والعرفان لزملائه وطلبته وبعض مرضاه الذين تمت دعوتهم لذلك الحفل الكبير.. وعاد إلى بيته..
أول يوم من غير عمل.. اسيتقظ مبكراً واسترخى فـي المكتبة يقرأ بعض الكتب..
تناول إفطاره مع العاملين لديه.. إفطاراً جميلاً استمتع به كثيراً، وشكر الله تعالى على عطائه وكرمه.. الساعة الثانية عشرة ظهراً.. استعد ليذهب للصلاة في المسجد المجاور..
ورأى زوجته وقد همّت بالخروج على عجل.. وسيارتها في انتظارها..
أخبرته أن موعد اجتماع الجمعية الخيرية التي ترأسها بعد قليل، ولابد أن تذهب قبل الموعد لمقابلة وفد من الخارج أتى لزيارة مقر الجمعية.. عادت الساعة الرابعة عصراً، بينما كان يستعد للخروج لصلاة العصر.. سلمت عليه واستأذنت منه لأنها كانت متعبة وتحتاج إلى بعض الراحة.. في السادسة والنصف.. بدأ استعداده للخروج لصلاة المغرب، ورآها أمامه تنصحه بأن يجلس في المسجد إلى صلاة العشاء.. لأن لديها ضيوفاً في البيت سيأتين لمناقشة ما تم في اجتماع الجمعية، وستكون مشغولة معهن..
وتكررت المواقف.. وهو صامت.. يقبل ويعذر ويسامح ويتقبل.. وفي اليوم الثالث.. لم تجلس معه زوجته، لتتكلم معه وتؤنس وحدته.. فهي دائماً مشغولة باجتماعات جمعياتها، وصديقاتها وحفلاتها..
قال في نفسه.. لقد عملت هذه السيدة لنفسها شيئاً يسعدها.. وأثنى على ذلك فيها.. وقال: "عفارم (برافو).. ممتاز.. الله يهنيها"..
وقرر أن يذهب لزيارة ابنه الذي فرح به جداً، واستقبله بترحاب شديد.. ونادى على زوجته: "أبوي هنا.. تعالوا يا أولاد سلموا على سيدو (جدكم)".. وما هي إلا دقائق، حتى قال الابن مودعاً أباه: "لقد آنستنا بوجودك معنا اليوم.. الأولاد راح يبسطوك.. وراح تسعد بهم.. نستأذن منك.. فعندنا دعوة الليلة على العشاء"..
نام ليلته.. ثم ذهب لابنه مرة أخرى فقد أعجبه لقاء أحفاده.. فلم يجدهم في البيت.. وقال له حارس الفيلا التي يقطنها ابنه أنهم في البحر على متن قارب.. ولن يعودوا إلا بعد يومين.. فرح وقال فـي نفسه.. لقد عمل هذا الابن الشاب لنفسه شيئاً يسعده.. وأثنى على ذلك فيه.. وقال: "عفارم (برافو).. ممتاز.. الله يهنيه"..
ذهب في الليلة التالية إلى ابنته.. فرحت به وبزيارته.. وقــابل أولادها وزوجها.. ثم رأى ضيوفاً وحفلاً غنائياً وطعاماً شهياً.. وأخبرته بأن الليلة هي موعد سهر أصدقاء العائلة عندهم..
وعاد في اليوم الثاني فقد أحب أولاد ابنته، وأدخلوا على قلبه السعادة والبهجة.. فهم في غاية اللطف والبراءة.. وسأل عن والديهما فعلم أنهما مدعوان خارج البيت وسيعودان متأخرين.. فرح.. وقال في نفسه.. لقد عملت ابنتي شيئاً لنفسها يسعدها.. وأثنى عليها.. وقال: "عفارم (برافو).. ممتاز.. الله يهنيها"..
مرت أيام وليالي.. كلُُ يغني على ليلاه.. وصاحبنا لا يغني أبداً.. استعرض حياته كاملة منذ أن كان طفلاً وحتى يومه، وقال لنفسه:
"لقد عملوا لأنفسهم شيئاً.. وسعدوا به.. ولم أعمل لنفسي شيئاً"..
زار أحد مرضاه لعله يتذكر.. فقابله بكل المحبة والاحترام والاعتزاز.. بروح الصديق الصدوق.. ولم يجد نفسه إلا وهو يحكي له ما مر به منذ طفولته وحتى يومه.. وقال: "كلٌ عمل شيئاً لنفسه.. وهكذا تراني".. فرد عليه قائلاً: "اعمل لنفسك شيئاً".. قال: "ماذا أفعل؟"..
قال: "تزوج".. راقت له الفكرة.. وارتاح لها..
سأله: "من يقبلني؟".. قال: "أنت في عز شبابك.. ولك مكانتك.. وسوف تقبل بك وتتمناك أي فتاة (سيدة) تطلب يدها.. هل تريد أن تجرب؟".. واتفقا على ذلك.. وذهبا إلى بيت صديق له، وخطب منه ابنته التي لم تتجاوز الثلاثين عاماً.. ووافقت وتزوجها.. وقضى معها عاماً واحداً فقط قبل أن ينتقل إلى مثواه الأخير.. وليس في جنازته أحدٌ من أولاده ولا أمهم أو أقاربهم.. كان فيها فقط أهل زوجته الجديدة الشابة.. وبعد انقضاء العدة الشرعية.. سألتها صديقتها: "عندك الآن مال وسكن وسيارة ورصيد كبير في البنك.. يمكنك الآن أن تتزوجي من شاب صغير في مثل سنك، ليرزقك الله بذرية منه تسعدين بها"..

نظرت إليها وقالت:
"الله يلهمك الرشد.. هذه نصيحة لكِ يا حبيبتي.. أنا فـي انتظار طبيب متقاعد (آخر)"..