(( الله أكبر ))
- السلام عليك يا بدر..
- گود مورنين يا.. أمجد..
- قل عليك السلام يا أخي..
- ماذا ؟.. هل (گود مورنين) حرام كذلك !..
زفر أمجد بنفاذ صبر و هو يتجاوز بدر إلى مدخل الكلية.. و شيّعه هذا الأخير بنظرات خبث و سخرية..
* * *
كانا متلازمان منذ سن البراءة.. كانا (توأمان) كما أُطلق عليهما..
كانا رمزا للصداقة..
بدر و أمجد.. ذانك الطفلان الهادئان، المسالمان... في ساحة المدرسة تراهما يمشيان.. جنبا إلى جنب و الأطفال المزعجون ورائهما يتهامسون و يكيدون لهما المكائد..
و في القسم كانت المرتبة الأولى لبدر و الثانية لأمجد..
درسا الابتدائي كله معا.. و احتكرا هذين المركزين طيلة أعوام المدرسة !..
كبر عودهما و ولجا الثانوية، و هناك اختلفا و تناقضا.. ثم افترقا.. و لم يكن يتوقع أحد افتراقهما !..
هناك بالذات اتخذ كل واحد منهما سبيلا مختلفا..
بدر.. الشاب الوسيم الذكي، بدأ يتّصف بالعجب و الكبر.. انحرف و صاحب الفتيات.. شرب الخمرة و دخّن المخدرات.
أمجد.. الشاب الرصين، الهادئ.. أصبح ملتحيا.. و لم يتغير من طباعه شيء.. بقي على سجيته الأولى.. تديّن و التزم حتى صار محطّ الأنظار و يشار إليه بالبنان كلما تكلموا عن الالتزام و الأخلاق الحسان..
لم يتقبل أمجد، الطيّب، انحراف صديق عمره عن الصراط و استغرب للتحول الخطير الذي طرأ عليه !..
هما اللذان كانا يذهبان لصلاة الجمعة يدا في يد و يتنافسان في تجويد القرآن.. آية بآية !..
كرّس أمجد جهوده كلها لنصح صاحبه و استدراجه لطريق الحق و الصواب.. الطريق الوحيد بين آلاف طرق الضلال..
و لكن بدر كان عنيدا للغاية.. كان متكبرا للغاية..
هزمته نفسه.
* * *
أتى رمضان.. شهر القرآن و الإحسان.. دخل برائحته الإيمانية و تناثرت بركته في كل مكان !..
أتى رمضان.. فتنهدت نفوس طيبة و تأففت أخرى خبيثة.. فهي إما أحلى أيام أو أثقلها على مرّ الزمان.
استعد أمجد و للعزم عقد.. سيختم القرآن إن شاء الله.. سيقوم الليالي إن شاء الله.. و لسوف لن يقول شيئا يغضب الله..
أما إذا أطللنا على غرفة بدر فأول ما يصدمنا هو موّال طويل لمطرب يتأوّه حبا و عشقا !..
أين القرآن ؟
أتت أم بدر و بطيبوبتها نصحته و على استحياء و شيء من الخوف كلمته.. فنهرها !.. و قال لها أف !..
و كيف لا يفعل و قد استهان بحرمات الله في شهره المبارك ؟.. لم يبق شيء أعظم.
* * *
لله شكت الأم أمر ابنها ثم لأمجد الذي يزورهم كلما سنحت له الفرصة.. فاحمرّت أذناه و تجعّد جلده لما وصلته كلمات الأم الباكيات..
إلى هذا الحد يا بدر ؟.. إلى هذا الحد هان عليك القرآن ؟.. إلى هذا الحد تنصت للشيطان ؟..
إلى هذا الحد يا بدر ؟.. إلى هذا الحد غيرك الدّهر ؟..
و تكلم معه ذات صبيحة أمام باب الثانوية.. فصرخ بدر و أزبد و كاد ينقضّ على أمجد.. تعوّذ الأخير بالله من الشيطان اللعين و ابتعد في صمت.
* * *
ليته اكتفى بهذا.. لكن السيل بلغ حد الزبى !..
في أواسط رمضان، كانت عشية من عشيات الشتاء حين هرع أمجد ليحمل الهاتف الرنان و قد رأى عليه اسم (أم بدر)..
- السلام عليكِ و رحمة الله.. خير يا خالتي ؟
- (بكاء) !..
- خالتي !.. أسألك بالله، كفّي.. هاتيني ما عندك ؟..
- بدر !.. إنه.. إنه يأكل في رمضان و يصاحب البنات المنحلات !..
- مَ.. ؟
-... لم أكتشف هذا إلا أمس عندما.. عندما فاجأته في غرفته يأكل شطيرة خبز !..
- لا حول و لا قوة إلا بالله !
- ثم إني فتشت بعض حاجياته فوجدتـُ.. (بكاء حاد)..
- خالتي ؟.. اثبتي أرجوك.. الله المستعان.
لكنها واصلت البكاء الذي زلزل قلب أمجد..
- أم بدر ؟.. استعيني بالله.. ماذا وجدتِ ؟..
-... وجدتُ واقيات ذكرية و صور فتيات.. علبة سجائر و رسائل من إحدى الباغيات..
ثم تابعتْ بعد زمن من الذهول المشوب بالتنهدات:
- و في تلك الرسائل قرأت العصيان و الاستهزاء برمضان.. و بالقرآن !..
- ! ! !..
* * *
إلى هذا الحد تنصت للشيطان ؟
* * *
كان يتهرب كلما حاول أمجد الاقتراب منه و يصده في الشارع إذا هم بالكلام معه..
و لما تعذّر الأمر و استصعب و انغلقت الأبواب بالأقفال.. لما انتهت الأسباب و بارت الحيل و أصبحت ضربا من المحال.. تضرّع أمجد إلى ربه و تهجّد.. و دعا مولاه و رجاه أن يهدي صاحبه.. و يعيد له صوابه..
و كان ذلك قبل ثلاث ليال من الواقعة !..
* * *
هزمته نفسه..
* * *
حتما كان ذلك اليوم من الأيام العشر الأواخر..
كانت صلاة المغرب قد انتهت و كالعادة يخرج بدر وقتها و لا يتناول الإفطار مع والديه و إخوته !..
يخرج ليدخن و يلهو مع رفقائه، يتسكع ثم يذهب لأماكن لا يعلمها إلا الله، ليعود في وقت متأخر جدا و يصعد لغرفته دون أن يكلم أحدا أو يلتفت لأمه التي تبكي وراء الباب المغلق !..
خرج تلك الليلة من إحدى البيوت مترنحا، يقهقه و معه فتاة متبرجة.. كان البيت بزقاق جانبي مظلم و كان ذلك وقت التراويح !..
افترق مع الباغية و واصل وحده المشي في الزقاق لما انفتح باب أمامه..
التصق بالحائط و طأطأ رأسه.. فهو لا يريد أن يراه أحد مترنحا من سكره !..
لكن الذي خرج من الباب كان مجرد طفل صغير!..
أوصد الباب بسكينة و نظر خلف كتفه ليرى بدر الذي عاد يمشي مترنحا غير مبالي !..
تجاوزه بدر قليلا ليصيح الطفل:
- يا رجل !..
توقف بدر الذي ضمّ عليه معطفه و قد بدأت قطرات الماء تتناثر على الأرض..
- ؟ ؟
- هل تعلم ؟
قالها الطفل بصوت رقيق و الخطورة على وجهه الذي يرى بدر نصفه فقط..
- هه ؟؟
- قالت لنا المعلمة اليوم أنّ... الخمر حرام !..
* * *
إلى هذا الحد يا بدر ؟
* * *
لا يعلم ما الذي صدمه في كلام الطفل بالضبط.. و كأنها صفعة انهالت على خده فاستدار بعنف و هرول..
حثّ الخطى.. و كل خطوة تتبعها أخرى أعنف منها..
و كلما تسارعت خطواته تسارعت كثافة المطر المنهمر..
حتى خرج إلى شارع مليء بالأضواء.. و أسند ظهره إلى حائط تملأه كتابات الشباب القذرة..
ثم اهتز صدره بالبكاء..
بكى و بكى.. حتى خرجت من فمه رغوة بيضاء..
و ربما جاءه أشخاص يسألونه عمّا به.. لكنه لم يكن يحس بشيء حوله..
كان في الخواء..
و واصل الركض.. قطع شوارعا و سمع العربات تحتج عن يمينه و يساره..
أضواء.. أضواء
لم يعد يثق بشيء.. يريد أن يختفي.. يريد أن يتلاشى من كل هذا الجنون.
مر بمسجد ضخم ورأى بنصف عين المصلين خارجين تعلوهم الابتسامات..
و واصل الركض..
الآن يرى منزله.. لابد أنه منزله، فهاهو الباب الأخضر
من فتح له ؟.. أمه أم أخته ؟.. لا يعرف بالضبط !..
سمع صوت القرآن من جهاز والده العتيق الذي يشغله كلما عاد من التراويح و سمع صوت دعاء و ابتهال من المطبخ و سمع اسمه وسط الدعاء.. لابد أنها أمه.
ما كل هذا ؟.. أين كان يعيش بالضبط ؟..
صعد الدرج.. و كاد يسقط على وجهه لما التوت رجلاه المذعورتان.. وواصل الصعود.. كأنه يفر من الشيطان.
سمع من يتحدث بالأسفل عنه.. هي أخته، طبعا، تخبر أمها عن منظره الذي لا يفهمه هو أيضا !..
و أغلق عليه الباب..
و لم تُسمع من الغرفة طيلة ساعة إلا الشهقات و التنهدات..
و بعد ذلك كان جسمه تحت الماء.. كان يدلك كل مكان منه و يغسله غسلا..
لقد عقد العزم !..
و صلاة الفجر تنتظر..
* * *
بلى قد آن..
* * *
ما هذا الصوت المستفز ؟..
انتفض بدر بعد أن تعكّر صفوه..
و لما فهم قفز من مضجعه !
إنه المنبه الذي وضعه على وقت صلاة الفجر.. و قد مرت الآن نصف ساعة !
بلا تبذير لمزيد من الوقت ارتدى معطفه الذي لا يزال مبللا بمطر البارحة و هرع إلى الخارج..
ركض بعنف.. كان يحس بشيء ثمين يضيع منه، ينسكب من بين يديه و لا يملك أن يمنع انسكابه !
"كلا.. لن تفوتني الصلاة"
لم يبالي بالمطر الكثيف و لا بالظلام القاتم الذي يخفي برك ماء لا يراها، يضربها برجليه فيتقافز الماء مع الوحل ليلطخ وجهه المفزوع !
يمسح عينيه في كل مرة و يواصل عدوه المحموم..
كان المكان خاليا إلا من بعض الأجسام البيضاء التي مرت عليها عيناه فقدّر أنها للمصلين الخارجين من المساجد..
زاده هذا سعارا و لهفة لـ.. الصلاة !
و لاح أخيرا أمامه..
أبيضا، فخما، مقدسا، يُذكِّر بالله العظيم.
سرت على جسده المبتل قشعريرة و سالت من مقلتيه عبرات دافئة..
الصومعة تخترق عنان السماء حتى تختفي بين طيات الضباب الأسود،
و لا أحد هناك..
صفير الرياح الباردة.. و قطرات المطر السميكة.. و ضوء شاحب للمصباح الضبابي فوق المدخل..
سكن مكانه متأملا المشهد.. و تهاوت منه القطرات بسخاء..
ثم اتسعت عيناه المحمرتان.. إن الباب موصد !
لم يصدّق.. و لكنه موصد.
لم يشعر برجليه المنهكتين و هما تقودانه إلى الباب الخشبي الضخم !
ما ذلك الشعور الذي اعتراه ؟
كأن الباب المغلق يعني...
لا.. لا..
"إن الله غفور رحيم"
لامست يداه الباب.. كان دافئا..
"يا ليتني أدخل.. أريد أن أصلي.. أريد.. أريد أن أتوب إليك يا رب"
و انفجر الماء من عينيه..
و انهار..
أرجعته خطوات مترنحة للوراء..
و جثا على ركبتيه..
حطّ جبهته على الوحل و الماء.
و اهتزّ صدره و شفتيه..
ثم ارتفع نياحه مغطيا.. الدعاء.
* * *
دعا مولاه و رجاه أن يهدي صاحبه.. و يعيد له صوابه..
* * *
جاءه الخبر كالصاعقة و هو يقرأ القرآن..
فهمه من حديث أخيه الصغير اللهفان..
" عثر بعض الناس.. عثروا على.. شاب.. ولد، شاب يعني... عثروا عليه ميتا.. رحمه الله.. و هو ساجد.. قبالة المسجد... المسجد الكبير هناك قرب.. "
قاطعه أمجد: " إنا لله و إنا إليه راجعون.. لا حول و لا قوة إلا بالله "
ثم واصل الولد الصغير متأثرا:
" هل تعرف من هو ؟.. تعرف ؟.. هه ؟.. إنه بدر "
تجمدت ملامح أمجد و سالت قطرة سرعان ما مسحها و هو يخفض رأسه.. ثم يرفعه صائحا و على فمه ابتسامة..
" الله أكبر "
تمت بحمد الله
" الأحداث خيالية.. لكن لا تعتبروها مبالغا فيها فلا يعلم إلا الله إلى أي مدى قد يجر الشيطان لجام الإنسان الذي يرضى أن يكون.. حيوان "