إن ما يجري في قطاع غزة ليس حدثاً عابراً، ولا فصلاً محدوداً من فصول المواجهة التاريخية مع أعداء الله وقتلة أنبيائه الكرام: اليهود الصهاينة. بل هو نقطة تحول مفصلية حاسمة، حتى ليصح فيها التأريخ مستقبلاً بما قبل ملحمة غزة وما بعدها. وذلكم هو شأن الأحداث الفاصلة، لما يترتب عليها من آثار عميقة وتبدلات بعيدة المدى!!


ففي المعنى الإيماني، يستدعي ثبات المؤمنين في القطاع المجاهد صوراً مشرقة من القرون المفضلة، حيث سطّر السلفُ الصالح صفحاتِها الناصعة بمداد طاهر من دماء الشهداء، فكان النصر الرباني المؤزر للقلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، وسقطت موازين القوى التي كانت تميل غالباً إلى جانب أهل الباطل من جهة العتاد والتجهيزات، وخابت آمال المنافقين الذين طالما تمنوا اندحار معسكر الخير، وسعوا إلى توهين الصف المؤمن وبث اليأس ونشر الأراجيف، في حرب نفسية تنبئ عما في قلوبهم الملأى بالحقد والتي ينهشها الغل.


فها هي القلة المؤمنة تقف ببسالة في وجه جيش يعد الأقوى في المنطقة ومن أقوى بضعة جيوش في عالمنا المعاصر، من حيث التجهيزات والتقنيات، فضلاً عن وحشية ليس لها نظير، وحشد ضخم من قوى الكفر مالياً وعسكرياً وسياسياَ وإعلامياً. وليس في أيدي القلة المجاهدة سوى أسلحة بدائية - باعتراف العدو ورهط المنافقين - وشعب أنهكه حصار شامل من البر والبحر والجو!! وبعد خمسة عشر يوماً من الهمجية الفظيعة التي استهدفت المساجد والمنازل والمستشفيات والأطباء والمُسْعِفين، وحتى مباني الأمم المتحدة وموظفيها!!


واضطر مرضى القلوب والخونة والجبناء والمتخاذلون جميعاً إلى ابتلاع هرائهم وإشاعاتهم المغرضة وشماتتهم وتخذيلهم، ووجدوا أنفسهم مكرهين على التقهقر والترقب!!


وكم آذاهم وزادهم غيظاً، ثبات الناس في القطاع الممتحن وراء فصائل المقاومة، بعد أن راهنوا طويلاً مع سادتهم في تل أبيب وواشنطن على أن الآلام التي سيتجرعها أهل غزة المُرْهَقُون سوف تدفعهم إلى السأم من استمرار الجهاد والكلل من تبعاته الباهظة عليهم.


لقد بهر الغزاويون الدنيا كلها ونالوا تقدير أمتهم بل وحصلوا على احترام الأعداء الشانئين.
إن عبيد المادة لن يستطيعوا أن يفهموا كيف تفقد امرأة خمسة من أولادها في يوم واحد،ثم تقف كالخنساء تحمد مولاها سبحانه أن شرّفها باستشهادهم، بل وتبدي استعدادها لدفع ولَدَيْها الباقيين إلى ساحة الوغى وميادين الشرف.


وهؤلاء لن يتمكنوا من استيعاب السيدة التي هدم العدو منزلها فإذا هي شامخة فوق أنقاضه تؤكد المجرمين أن أهل غزة لن يركعوا، وأن الأعداء لن يجدوا لدى نساء غزة سوى الحجارة والأحذية في مواجهتهم!!


أهل غزة المؤمنون يثقون بأن الله عز وجل سوف ينصرهم على عدوهم ما داموا يتكلون عليه وحده ويسعون إلى التزام دينه الحق عقيدة وشريعة وأخلاقاً. وهم يَتْلُون في محكم التنزيل قول الحق تبارك وتعالى: ((وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا )) سورة النساء:الآية104،وقوله سبحانه: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ )) - سورة البقرة:الآية216.
أجل، فإن ملحمة غزة شهادة عملية على أن النصر من عند الله، تكفي لإقناع عبيد الدنيا أن نهاية الحروب ليست تحصيل حاصل لعدد الجند وحجم تسليحهم ومستواه التقني.


وإذا كان الوهن المديد قد ران على الأمة وأضعف ثقة كثير من المسلمين بأنفسهم فغلب عليهم الميل إلى الدعة وتصديق أكاذيب السلام مع أعداء السلام؛ فإن ملحمة غزة هذه سوف تُقْصي -بإذن الله - هذا الصدأ وتصبح برهاناً ملموساً على أن الجهاد الحق المنطلق من مبادئ الإسلام، هو السبيل الوحيدة لاستعادة الحقوق والكرامة. كما أن ما سطّره أهل غزة الشجعان في هذه الملحمة أسقط الشعارات الزائفة عن أدعياء للمقاومة لا يقاتلون إلا بقرار خارجي وخدمة لخطط وأغراض دنيوية دنيئة؛ فالحمد لله إذ امتاز اليوم الخبيث من الطيب.


http://almoslim.net/node/105153