هذا الشاعر الفارس وإحباطاته المتكررة
قراءة في ديوان (للعشق أجنحة أخرى)
للشاعر الكبير الدكتور /عزت سراج
بقلم الشاعر الناقد الكبير الأستاذ / علي عبيد
****
الشاعر الكبير الدكتور / عزت سراج ، شاعر جامح له بريق وصهيل ، رقيق أحيانا ، له عرف ونسيم ، وهو ـ بين جموحه ورقته ـ مهذب أبدا إلى درجة النبالة .
عرفته يافعا مع قصيدته البيتية الكلاسيكية ، لينمو على مرأى مني ومسمع ، ويتطور خارجا من رحم القديم ، ومن ثم لم تولد قصائده الحديثة سفاحا ، إنما تطورت تطورا طبيعيا ، لتحمل قصيدته من ضمن ما تحمل في صبغياتها دلائل استمراريتها ، مطبوعة على شريط الجينوم الخاص بها ، في لغة قوية مطواعة .... ذاق فعرف فغنى شعرا .
ولما كان الشعر مغامرة لغوية ، إذ يتركب أي خطاب ويتشكل في جملته من أبنية لغوية ، سواء أكان هذا الخطاب شعرا أو نثرا ، وعلى هذا الخطاب أن يستمد مادته من تحليل النصوص تحليلا "علاقتيا" بما لا يفصله عن الحس الإنساني في لحظة مختطفة اختطاف النار "البرومثيوزية " ، مع تحمل تبعات هذا الاختطاف من معاناة تعني تحمل الوجع في صمت ، وتحمل الآلام والانكسارات والرغائب والآمال والأحلام المحبط منها ، والمؤجل ، بل والمتحقق ، كل هذا يعجنه في نار " جوانياته " انتحارا عذبا غير مألوف إلا لمن هم على شاكلته . ومع ذلك تظل القصيدة ياقوتة المستحيل ، تلك التي كان يبحث عنها الشاعر الراحل " أمل دنقل " والتي يبحث عنها كل شاعر شاعر ، فهل وجدها " عزت سراج " ؟ ( تظللها خوخة في سلام
يموت الجميع
وتبقى القصيدة ) تلك التي تضيء دم الشاعر .
ولما كان لكل شاعر طقوسه ليتجيش فانيا فينا فيما يكتب على جدار الروح أولا قبل أن ينزل على رقاع التلامس ، لا للكشف ولكن مسا يحرق ويضيء ، كان لابد من التصدع والتماسك والوعي واللاوعي في علاقات بنائية لا يدركها إلا من علمه ربنا الشعر تداخلا يربط بين الشعر والتجربة ، وبين الذات والأنا ، وبين الذات والله ، ثم الكون بما حوى 0
هذا تصدع الفن ، لا تصدع المتصوفة ، وفي كل خير 0
تصدع لا ليلبس الخرقة ، وإنما ليتزود بالأقنعة والمرايا في تطوحات صوفية متداخلة مع الفن تمتح من العالم منه وإليه في رقص مستمر بين ذؤابات الحقائق اللامرئية ، والأفكار الكينونية التي لا تنكشف إلا بالمجاهدة والمثابرة حتى وان كان
( الليل
يا ليلى طويل
والقصيدة هاربة ) لكأنها عذابات لا تنتهي ....القصيدة لا تنتهي .
إن مجموعة ( وللعشق أجنحة أخرى ) للشاعر الناقد الدكتور/ عزت سراج والتي تقع في ست وثلاثين قصيدة : منها عشر طوال ، منهن القصيدة الرأس ، وسبع متوسطات الطول ، وتسع عشرة ومضة ، تلك الومضات هي " إبجرامات " تذكرنا بـ "الهايكو " الياباني ، والتي سقت منها قصيدة (سفر) ، سقتها بأعلى ، ومنها قصيدة ( ضيق ) وكذلك قصائد ( بحر– قدر– ميلاد – موعد – شموخ – صمود ) والتي تبرق من بينها قصيدة (جوع) :
( الخيل
يا ليلى
جياع
والحقل ممتلئ خصيب ) هذا الجوع الجنسي الطافح النهم إلى درجة كبيرة مما أدى إلى تخليص الومضة من كل فائض لغوي ، اللهم إلا ( ليلى ) ، الاسم ، ذلك الحقل الممتلئ الخصيب ، مما يجعلها من الشعر المصفى .
هذا الشاعر الفارس النبيل ابن محلة مرحوم إحدى قرى مركز ( طنطا ) بمحافظة الغربية ... هذا الشاعر الفلاح المداح الدكتور الناقد ( وأقصد بالمداح هنا منشدي القرى ودراويشها ) أقول هذا الشاعر الفلاح يفخر أنه ابن فلاح " حينما جاء من الحقل أبي " ويفخر بأنه ابن سفايني يركب النيل بل ويحمله شراعا ومع ذلك فالملاح مات غريقا : مفارقة عجيبة لاذعة
( كان يبكى
ونساء الحي تبكي
ومن النيل غريقا
أخرجوا جثة جدي
حطمت ريح شراعه )0
وفي استخدام الشاعر لفظة ( ريح ) بما لها من مداليل العذاب والنقمة ـ كما جاءت في القرآن المجيد ـ استخدام موح ، قتل الرجل غريقا في نيله الذي يعشقه ..وهذا لا يكون إلا متى انقلب النهر عليه ، وهذا لا يأتي إلا إذا انقلبت الموازين والأمور ، ولا يكون ذلك إلا في الهوجات مثل هوجة (عرابي) أو هوجة (1919 ) بما يشي بأن القتل تم في واحدة من ثورات الشعب إما ضد حاكمه ( الخديوي ) أو محتله الإنجليزي أو......
ومن العجيب أيضا أن أباه حمل جريحا – لا شك تحت أقدام الخيول / العساكر – ومات متأثرا بجراحه . ومن ثم ورث هذا الصغير ثأرا يحمله وحده .
ولكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن ، هذا الثأر موجه ضد من ؟ لكن الشاعر الناقد يهرب هروبا ذكيا ، إذ وجد التعويض في ابنه
( حينما أنجبت طفلا
صار كل الكون طفلي ) ، فهل يا تراه نسي ثأره ؟ إذ رأى امتداد جده في أبيه ثم فيه هو ، ثم امتداده هو في ابنه ذلك ( الحفيد) ...ربما ..لكن هناك هما ملحا يأخذ بروح الشاعر وتلابيبه ووجداناته يجعله يكتشف أن (للعشق أجنحة أخرى ) ، تلك هي القصيدة الرأس . وعنون بها مجموعته لتحمل وهجها الذي تبدى للشاعر في أنه ما كان يسبح إلا ضد التيار ، ضاربا بقدر طاقاته وامكانياته ليقطع ما تيسر من البرزخ .
وان كان في عودته جريحا مهزوما مأزوما ما يفجر ثورته من جديد ضد كل عوامل القهر والزيف والعهر والخوف بما يشعل حتى ثورة الموتى " حتى من بليت عظامهم ليعاود طرق المغاليق ، متحملا بصبر المسيح ، وما تحمل من عذابات الصعود إلى " الجلجثة " ، وتبشر السحابة بالمطر تلك الحبلى ولكنه كان حملا كاذبا لأن معشوقته لم تتحرر من قيودها
( يا قيدها الدامي الحزين )
( من ذا يفك قيودها ) حتى تحلق في الفضاءات العلى .فالتحليق في الواسع هو قمة الحرية ، تلك هي اللحظة التي يعيشها الشاعر حين يبدع ويمارس حريته فعلا ، إلا أن هناك من يحول دون ذلك ، يقهرها بالقوة وآلاتها التدميرية ومن هنا تحمل القصيدة النبوءة والإنذار بالخطر والإنذار بالقيامة ، تلك هي التي ينتظرها على الرصيف .
هذه هي مجموعة الإحباطات المتكررة ، والأحلام الموءودة ،والانتحار على صخرة الواقع المعيش بخلق واقع مواز متخيل يخرج بالعاشق والمعشوق – الأغنية/ الحلم من ضباب الانكسارات والوجيعة إلى فضاءات الحرية من خلال مجموعة من الوسائل التعبيرية تضفيرا وتضمينا وتناصا وتكرارا بينها الكثير من التقابلات والمفارقات والإشارات ، بما يستلزم دراسة أسلوبية منفردة ، ولكن لهذا قصة أخرى 0 المهم أن كل ما سبق يفضي إلى عالم (عزت سراج) الشاعر الفارس النبيل الدكتور الناقد الفلاح الأصيل ، الذي يمتح من العالم ، منه وإليه ( ليعمد أشجارك الخالدة ) 0
الشاعر الناقد الأستاذ / علي عبيد

طنطا 10 / 8 / 2003 م
من ديوان (للعشق أجنحة أخرى)
للشاعر الكبير الدكتور /عزت سراج