أشواق الفراق
رحلت سمر عن بيتنا اليوم لقد تركت فراغا وهدوءا رهيبا في المنزل جعل الجميع يشعر
بالحزن، بدا
غيابها واضحا في كل مكان من المنزل، فلم نعد نسمع ضحكاتها ولا صوتها الجميل حتى
أرجوحتها التي كانت لا تفارقها بدت اليوم مهجورة تداعبها نسمات الهواء كيف شاءت.
كنت أجلس في غرفتي وحيدة أحمل بين يدي آخر ما كتبت سمر، تلك الورقة الصغيرة
كانت تحمل آخر
و أوجع ذكرى عن ملاكي الصغير، إنها الآن هناك في ذلك المكان البعيد أين ستعيش
حياتها كما أرادت
هي ، لقد زاد غيابك يا سمر الشتاء برودة و قساوة علي لكني سأرضى بهذا القدر يا
غاليتي فقط لأنك اخترته.
بدأت حبات المطر في التساقط على نافذتي كنت أسمع صوتها جيدا، وقفت وأخذت أنظر
عبر نافذتي الى
الخارج، لا شيء يتحرك سوى الأشجار التي تهزها الرياح يمينا وشمالا، و قطرات المطر
التي تنزلق بسرعة على نافذتي ، وسط هذا الهدوء الموحش حملتني ذكرياتي إلى أول
لقاء لي بسمر، هل تذكرونه؟
ذلك اليوم في الحديقة العامة أين كانت تجلس وحيدة تراقب الأطفال يلعبون، كانت حزينة و
يائسة، لقد أحببتها منذ أول وهلة، أحببت تلك البراءة في عينيها و ذلك الوجه الملائكي
وصوتها العذب الرقيق لقد
أحببت في لحظة كل ما في تلك المخلوقة الصغيرة...كم أشتاق إليك يا سمر!
في ذلك المساء جلسنا كلنا في غرفة المعيشة، كان يبدو على الجميع الحزن، لكن لا أحد
يتكلم عنها،
وكأن كل واحد منا كان يحاول أن يحبس حزنه بداخله...أي فراغ تركت يا سمر؟
في هذه الأثناء قطع السكون المخيم على الأجواء رنين الهاتف، نهض أبي و حمل
السماعة:
- ألو...مرحبا...نعم...آ...كيف حالك...و كيف حال الصغيرة...الحمد لله أنكما وصلتما بخير.
انه عم سمر هذا مؤكد اتصل ليعلمنا بوصولهما إلى لندن، تحلق الجميع حول أبي، أمي و
روعة وسامر
كل منهم يريد التكلم مع سمر إلا أنا لأني ربما لا أملك ما أقوله لها، أو ربما كنت لأبدأ في
البكاء ما ان
أسمع صوتها، أخذت أمي عن أبي السماعة الآن:
-مرحبا صغيرتي...كيف حالك ؟...أجل الكل بخير...ونحن أيضا نشتاق إليك عزيزتي...نعم إنها هنا سأطلب منها ذلك فقط دقيقة...
توجهت نظرات أمي إلي في هذه اللحظة:
-روان سمر تريد أن تكلمك...
تكلمني أنا؟ لا أعرف ما سأقوله لها لكنها فرصة لأسمع صوتها مرة أخرى، حملت
السماعة ببطء
فجاءني صوتها الرقيق العذب:
-مرحبا روان...كيف حالك؟
-بخير...و أنت؟
-أنا بخير...لكني متعبة من السفر.
-أتخيل ذلك...
لم أجد ما أقوله، لذا هي من كان يبادر بالسؤال:
-هل أنت غاضبة مني...يا روان؟
-لا أنا لست غاضبة منك...أنا سعيدة من أجلك يا سمر ستعيشين الآن مع عمك ولن
ينقصك شيء وهذا يفرحني .
كانت هذه كذبة خطرت ببالي حتى لا أشعرها بالألم الذي كان يخنقني خنقا:
-حقا...روان أنت لست غاضبة لأني رحلت عنكم...
- طبعا لا...عزيزتي...بالمناسبة هل لندن مدينة جميلة؟
بهذا كنت أحاول تغيير مجرى الحديث لم أكن أريد أن أفجر عذابي و لوعتي بها الآن في
هذه اللحظة.
-نعم...إنها جميلة و واسعة جدا ومكتظة بالسكان هم يتكلمون لغة غريبة لا أفهمها...
-هم يتكلمون الانجليزية ستتعلمينها قريبا و تفهمين كل ما يقولونه سترين...
-تعلمين روان منزل عمي مدهش انه يشبه القصور ...فيه حديقة ومسبح رائع ولديه
طفلان "ندى" و
"وديع" وهما سعيدان بوجودي معهما...آ نسيت أن أخبرك أن عمي وعدنا بان يأخذنا إلى
السيرك غدا
سيكون هذا مذهلا أعرف ذلك.. و قال أنه سيشتري لي الكثير من اللعب و...
توقفي يا سمر فأنت تحرقين قلبي بهذه الكلمات، التفت حولي فوجدت روعة تنتظر دورها
لتكلم سمر فقاطعتها قائلة:
-سمر عزيزتي روعة تريد أن تكلمك إلى اللقاء اعتن بنفسك .
و ناولت روعة السماعة لم أكن أريد سماع المزيد عن لندن وعن عمها و عن كل ما يزيد
عذابي.
تركت الصالة وصعدت إلى غرفتي ، لعدة ساعات صارعت الأرق لكنه تمكن مني، فنهضت
من فراشي
وخرجت من غرفتي ، كان السكون يعم الأجواء، يبدو أن الجميع نيام فلقد تأخر الوقت،
توقفت عند باب
غرفة سمر، فتحت باب الغرفة المظلمة و أشعلت النور، لقد أصبحت غرفة مهجورة هادئة
وكئيبة، لم تعد
سمر موجودة فكل ما بقي هنا هو دفاترها ولعبها و ملابسها، اقتربت من سريرها الصغير
أين كنا نرسم
ونلون معا، فوجدت الدمية التي لا تفارق صغيرتي أبدا، كانت سمر تعشق هذه اللعبة
لدرجة أنها كانت
تنام وهي تحضنها، أخذت الدمية معي و خرجت، عدت إلى غرفتي و استلقيت على
سريري ،
احتضنت دمية سمر الصغيرة ، كما تفعل هي ولا أدري كيف نمت بعدها....
***
مر اليوم أسبوعان على رحيل سمر عنا، هي ما تزال تتصل بنا من حين لآخر لتحكي لنا
يومياتها
الممتعة في لندن مع عمها و طفليه، يبدو أنها بدأت تألف حياتها الجديدة، فلقد أخبرتني ف
ي اتصالها
الأخيرأن عمها يتولى تعليمها اللغة الانجليزية وهي تحرز تقدما جيدا، أما أنا فقد بدأت
أعتاد على الاكتفاء
بسماع صوتها عبر الهاتف، لم يكن من السهل علي أن أتجاوز محنة فراقها لكني بت
متيقنة بأنها
اختارت الطريق الصحيح...، بالنسبة لي ولنديم فقد قررنا أن نبدأ التحضيرات للزفاف،
وكما اتفقنا
سابقا، سوف نقيم في الخارج أين سأتم دراستي للطب وبعد حصولي على شهادتي نفتح
أنا وهو عيادة
متعددة التخصصات ، لقد تغبر نديم كثيرا خلال الأسبوعين الماضيين فقد أصبح أكثر
هدوءا و تفهما وهذا يسعدني.
بدأنا التحضيرات اللازمة للزفاف و أنا مشغولة جدا بها علي القيام بمئات الأشياء كالذهاب
الى السوق
لشراء الملابس و مستلزمات العرس و تحضير جواز سفري و...و الكثير الكثير من
الأمور المشابهة، لم
أعد أجد الوقت الكافي حتى للراحة على الرغم من أن أمي تساعدني في كل شيء، لكن
أمرا ما كان
يحيرني هو سمر فهي لم تتصل منذ أسبوع كامل ليس من العادة أن تنقطع أخبارها كل هذه
المدة:
-أمي...برأيك لم لم تتصل سمر بنا في الأيام الماضية؟
-لا أدري ربما هي مشغولة بالدراسة أو اللعب هي ما تزال طفلة...والأطفال ينسون كل
شيء إن وجدوا ما يلهيهم.
-أتمنى أن يكون هذا هو السبب فعلا لكن علي أن أطمئن عليها... سأحاول الاتصال بها.
خرجت من غرفتي وتوجهت إلى الصالة، وأخذت من دليل الهاتف رقم منزل عمها رفعت
السماعة
وانتظرت قليلا فجاءني صوت امرأة أعتقد أنها زوجة السيد فريد عم سمر:
-ألو...مرحبا من المتصل؟
-مرحبا...أنا روان كيف حالك سيدتي؟.
-أهلا روان...أنا بخير و أنت؟.قالت زوجة عم سمر
-بخير شكرا لك...في الحقيقة سمر لم تتصل بنا منذ مدة فقلقنا عليها...هل يمكن أن
أكلمها؟
-آ...سمر...لا... لا ليست هنا إنها تلعب في الخارج مع ندى...لا تقلقي عليها إنها بخير
سأطلب منها أن
تكلمك حين تعود.
-شكرا لك سيدتي...إلى اللقاء.
حسنا إذن المدللة الصغيرة بخير وكما قالت أمي فعلا انشغلت باللعب فنسيت الاتصال بنا
من المؤكد أن
زوجة عمها ستخبرها أني اتصلت بها اليوم و لن تتأخر في مكالمتي.
في ذلك المساء بقيت أنتظر مكالمة سمر لساعات طويلة، تخيلوا أني كنت أحمل السماعة
كلما رن الهاتف
اتصل جميع من اتصل الا سمر، شعرت باليأس حين دقت الساعة العاشرة ليلا فأويت إلى
فراشي لقد
تأخر الوقت كثيرا ولا أعتقد أن المدللة ستتصل اليوم أيضا...
في صباح اليوم الموالي أعدت الاتصال بمنزل عم سمر و طبعا ردت علي زوجة عمها مرة
أخرى:
- مرحبا...أنا روان هل سمر موجودة؟
-آ...روان...متأسفة عزيزتي... لكن سمر ذهبت إلى...إلى مدينة الملاهي مع عمها و
الأولاد...هم لن
يعودوا حتى المساء...سأخبرها عن اتصالك حين تعود.
-حسنا شكرا لك...إلى اللقاء.
وهكذا وللمرة الثانية لم تكن سمر موجودة في المنزل و اضطررت مرة أخرى أن أراقب
الهاتف طوال
المساء دون جدوى، و لأني لا أيأس بسهولة عاودت الاتصال للمرة الثالثة لكن هذه المرة
كان هاتف
منزل عم سمر مقفلا:
-ها يا روان هل كلمتها؟
-لا أمي...هاتف المنزل مقفل...تعلمين لقد بدأت أشك في أمر زوجة السيد فريد.
-ما الذي تقصدينه يا ابنتي؟
-لم يكن صوتها طبيعيا في أثناء محادثتي معها بدت و كأنها لا تريدني أن أتكلم مع
الصغيرة... لقد
وعدتني أن تتصل بي سمر أكثر من مرة لكن سمر لم تفعل، والآن هاتف المنزل مغلق...
بدأت تراودني شكوك مريبة حول ما يحدث هناك، لم لم تتصل سمر بنا كل هذه المدة؟ و
أين هي...؟ وما
الذي تخفيه زوجة عم سمر؟، كل هذه التساؤلات كانت تحيرني لكن لن يهدأ لي بال حتى
أعرف الحقيقة
كاملة....
**يتبع..**