الإدانـــــــة

وأخيرا جادت الأمطار فبللت المكان.
وهبت العواصف فمزقت الأردية والحجب . وجثا الضحية القرفصاء خلف أحزانه وآلامه .
يتتبع فلول السحب الهاربة في اتجاه الشمال ، مهزومة أمام قيظ الحر .
باحثة عن موطئ قدم بسماء أراضي الخصب والخضرة والماء المتدفق .
ابتلع الفضاء الشاسع آخر قوافل السحب الداكنة .
وبقي وحيدا يواجه مصيره .
يستأنس كلما جن الليل بصلصلة الصراصير ،المختفية وراء أكوام الحجارة المتناثرة هنا وهناك .
وكأنها لا تجرؤ على المغامرة ،
فتغادر مخابئها .
بطول المراس ، وفعل الاحتكاك .
يفهم أنها تستنجد همسا .
وتندد في نفسها .
وتحتج بغمغمة غير مفهومة على حرمانها وضياعها .
لا تقوى على المواجهة .
ولا تغادر مكامنها إلا بعد أن يسدل الظلام أرديته .
ما أشبه واقعه بحال الصراصير .
هو بدوره لا يبرح معتقله الطوعي .
ولا يجرؤ على البوح ببنت شفة ، بما يفيد الرغبة في تحرره من قيوده .


وبل ...


لا يتلذذ بأكل ولا مرح ولا شراب.
ولا يقوى على قول ولا إشارة ولا تفكير .
ولا يتمكن من أن يبصر ولا أن يسمع ولا أن يتحرك .


هو حي ...


شبيه بنزلاء القبور .

يتذكر أنه ضاق يوما بجدران رمسه .
فقرر الخروج إلى العراء .
أطل في البداية من كوة كوخه ، مرسلا نظراته المنكسرة المترقبة .
يتحسس المحيط وأهله .
ثم يلقي بمحاولته الأولى في تردد وتوجس .
يكتب فيصيح ثم ينادي ..
ينطلق صوته مدويا في الأفق .
لا أثر لأي مجيب .
يبدو أن الخطر قد انحسر .
استمر يتأرجح ويتمايل ، محاولا بث التعود على المشي المستقيم .
يصر على السير منتصب القامة ، رافع الهامة .
مشعرا بشموخه وعزته وصلابته .
يبحث بإلحاح بين النفايات ، عن مصدر رزق مدرار .
وفي الأماكن المهجورة عن مأوى فسيح آمن . وفي الفضاء الملوث عن مهب هواء نقي منعش .
لم يهنأ بفسحته طويلا .
فجأة انقض عليه حراس المكان
وساقوه بتهمة التحريض على التمرد ،
والعمل على تشكيل عصابات إجرامية ، والتخطيط لتهديد الأمن والعباد والبلاد .
أنكر أمام القاضي كل ما اتهم به ،
وأكد أنه لا يرغب إلا في التمتع بالعيش الكريم وتوفير الراحة والاستقرار .
مكنوه من الدفاع (النزيه) ،والحاكم (العادل)، والشهود (الصادقين) .
وفي ظرف وجيز ، وزمن قياسي ،
أدانوه وقرروا تنفيذ عقوبة شنقه على الأعمدة بالساحة العامة .
مع توصية بقاء جثته في العراء تنهشها الغربان والبوم والهوام .
ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه أن يغادر مخبأه أو يرفع صوته ، و يبحث عن لقمة يسد بها رمقه ويكفي بها أود أهله وذويه .


بأعجوبة ...


استغفل جلاديه ... ،
وارتدى سترة الظلام الحالك ... ،
ومشى حبوا عبر قنوات الصرف في اتجاه مقبرته الأولى ....

عاد من حيث أتى ....

واستقرمن جديد في مكان الراحة والاستقرار ....






الحواط
aminwalid