بسم الله الرحمن الرحيم

يَعُضُّ على شفَتِهِ العُليا ،
يتنفس ما تبقى من هواء غُرفته الصغيرة ، مُراقباً تلك العقارب الساعيّة التي تتحرك على الجدار ...
أمسك حقيبته وضمّها بشِدّة عندما راح العقرب الصغير يُسرعُ في لَسعهِ وهو يُلاحق الأوسط مُحاولاً الوصول إلى الأكبر الواقف بجانب الشّارة الحادية عشرة .
قُرِعَ الباب : هيّا أسرِع ... الحافلة ستتحرّك.
نهضَ من مكانه ووَدّع الجدران التي حملت لوحاته وهمومه وودع الوِسادة التي أودعها أسراره
،فِراشه الذي تحمّل ثُقلَ أوجاعه ، وحمل حقيبته التي وضع فيها أيامَه وأحلامَه .
قُرعَ الباب من جديد ، : أنا قادم .
أطفأ مصباح الغُرفة الشاحب وخرجَ بعد أن لملم في صدره بقايا رائحة طفولته .
: هيّا ما بِك ؟ ألم تنظر إلى الساعة ؟ لقد بقيت خَمسُ دقائق ...
انتزع أحد أصدقائه الحقيبة من يده وجَرّه الآخر من يده ،
التفت إلى أمه المُرتجفة ِ بكاءً والى إخوتهِ الصغار بثيابهم الرَثّة . : مِن أجلكم ...من أجل أن تعيشوا حياةً أفضل سأرحل ...لا تبكوا سأعود يوماً لأغيّر حياتكم .
ردد هذه الكلمات وأغلق باب الدار خلفه ، وراح يلتقِطُ بذاكِرَته صُورَ منازل الحارة التي تعِبت من طفولته الشقيّة ،دُكّان السّمان،عواميد الكهرباء ومصابيحها المُحطمة،
الساحة التُرابية التي أفرغ فيها لَهوَه ، الجامع الذي كم ذهب إليه نَظِيفاً برفقة والده ،
والشارعُ الحُب الطويل الذي مزّق عليه أيامه ، والتقط صوراً كثيرة لباب الحبيبة المؤصد ..للقِطة الواقفة فوقه...لشُبّاكها المُظلِم البخيل ..لِلَبِنات الحائط واحدةً تلو الأخرى...
لقد تأخّرَ لكنه سافر، نعم سافر.....

لازالَ يحتفظُ بتلك الصور ....
يستعرضُها كلما هَدّه تعبُ الغُربة .... لم ينسى .
ولم ينسى أخوتُه وأمه كلماته تلك ووُعوده التي لم يَفي بها بَعد.....