حكمت ، فظلمت ، فقلقت ، ولا نمت !!
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
في قاعة المحكمة ، تملكني اليأس ، فدفنت رأسي بين معصمي ، وحاولت أن أستدعي نوماً عميقاً ، وإذا بأصوات صراخ تتعالى ، وهرج ، ومرج ، يتزايد ، وطقطقات اصطدام الكراسي تشبه هدير المدافع ، فرفعت رأسي المدفون بحذر خشية الإصابة ، وإذا بالقاعة قد ازدحمت جداً بالجمهور ، صماً ، وبكماً ، يحاولون أن يتكلمون ، فلا يستطيعون ، فيصرخون ، بعواء غير مفهوم ، ولكن ملامح وجوههم كانت تقول ، غضب ، تمرد ، ثورة ، وسرعان ما ينكسرون ، فتسللت من وسط الزحام ، لأنزوي في ركن هاديء بجوار قفص الاحتجاز ، وإذا بي أرى القفص صار ذهبياً ، والمتهمون أطفالاً ، يلعبون ويأكلون الحلوى ، وبمن حولهم لا يكترثون ، تعجبت كثيراً ، وناديت عليهم متسائلاً :
- ماذا هنا تفعلون ؟
فنظروا إلي بدهشة وقالت طفلة بوجهها الملائكي :
- أنت المدافع عنا وتسألنا ؟ الآن !!
فشعرت بخزي يتملكني ، وخجل يحيطني وقلت :
- ربما أكون قد نسيت فذكروني ؟
فضحك طفل تتقافز الشقاوة من عينيه قائلاً :
- وكيف تتذكر وليس لديك عقل في رأسك ؟
فتحسست رأسي بكفي وإذا برأسي فارغاً ليس به مخ !! أردت أن أصيح فإذا بالطفلة ملائكية الوجه ، تكتم فمي بيدها البيضاء الرقيقة جداً وتقول بصوت آسر مطمئن :
- لا تخاف لقد بقي عندك ضمير ولهذا اخترناك لتدافع عنا !!
نظرت إليها والفزع يملأني ، والدهشة أدركتني ، لكن شيئاً ما في عينيها الزرقاواتين ، طمأنني ، وأبحرت في صفاء عينيها ، حتى نادي الحاجب على القضية ، فشدت على يدي قائلة والأمل يملأها ، وابتسامة عريضة على شفتيها :
- هيا ، ولا تضيعنا !!
فأسرعت ألملم أشلائي ، وأقتحم الزحام الشديد ، لأصل بعد إعياء إلى منصة القاضي ، كانت أعلى مما تعودت ، فرفعت رأسي عالياً ، لأنظر إليه ، فإذا بالقاضي له وجه غليظ ، غليظ ، ورأسه أجوف ، وليس به مخ ، ولا تكاد تراها عين واحدة والأخرى مفقوعة ، وأذن واحدة والأخرى مقطوعة ، وكتف مائل تارة ناحية اليمين وتارة ناحية اليسار ولكنه لا يستقيم !! فنظر إلي القاضي مستغرباً قائلاً :
- ألن تترافع عن المتهمين أيها المحامي ، أم ستبقى تتأمل في ؟
وشعرت لأول مرة ببركان يتدفق من أعماق ، أعماقي ، يقذف بكلمات صادقة على لساني وأدركت عن يقين معنى الضمير وقلت :
- سيدي ، سعادتك ، سيادتك ، فضيلتك ، إن المحتجزون في القفص أطفال ، لا يزال الأمل فيهم ، والمستقبل أمامهم فلماذا نسجنهم وندفن طموحهم المشروع ، والبراءة لا تزال فيهم لم يلوثوا مثلنا !!
فهاجت القاعة ، وعاد الصياح ، والعواء المكتوم ، والقاضي يدق بشاكوشه الحديدي ، على طاولته الحديدية ، ليصدر رنيناً مزعجاً ، وإذا بكلاب سوداء تزين رقبتها أطواق جلدية ، مرصعة بنجوم ذهبية ، يتدافعون إلي القاعة ، يهاجمون بضراوة ، والجمهور يصيح ، ويصرخ مستغيث ، حتى أخليت القاعة ولم يبق غيري والكلاب من خلفي ، والأطفال في القفص يرتعشون من الرعب ، فهمس القاضي قائلاً :
- أتدافع عن المتهمين بنفس الاتهامات الموجهة إليهم ؟!
استغربت كثيراً ، الأمل ، والطموح ، والبراءة ، أصبحت تهمة فتداركت قائلاً :
- أنا لا أخاطب القاضي الذي أمامي ، أنا أخاطب ضميرك الخامد وأترجاه أن يثور لهذه الأطفال البريئة !!
سارت قشعريرة ممتعة في جسدي ، ورأيت القاضي يهتز ويوميء برأسه ، وقد تهللت أساريره وقال وهو ينصرف :
- الحكم بعد المداولة !!
وألتفت نحو القفص والكلاب السمينة من حولي ، وأنا أنظر للأطفال متسائلاً ، فردوا بابتسامة متفائلة ، وإذا بالحاجب يصيح بصوت أجش معلناً دخول القاضي ، ويد غليظة توقظني من غفوتي العميقة ، فوقفت سريعاً ، ولا يزال النعاس يداهمني ، تحسست رأسي فوجدت عقلي عاد إليها ، والبركان بداخلي لا يزال يتدفق ، والقاضي ينطق ببراءة المتهمين ، والقاعة تهيج فرحاً ، وتنطلق الزغاريد ، فأسرعت أقتحم الزحام ، حتى دنوت من قفص الاحتجاز ، وإذا به نفس القفص القديم ، وليس به أطفال ، به إنســــــــــــــــان
انتهى