وصل لبريد جريدة الأهرام الصادرة ليوم الجمعة 28 / 2 / 1431 هـ - 12 / 2 / 2009 م
طريق النور
ما دفعني للكتابة اليك هو قراءتي لرسالة( هكذا كانت وكان) فأنا تلك السيدة صاحبة الحكاية, فقد اذهلني وأبكاني واحزنني أن رسمتني هذه القصة امرأة نادرة فعلت المستحيل, فأردت أن أضع النقاط علي الحروف واعطي كل ذي حق حقه,
فما كان هذا العطاء من فراغ وقد صدق الله حين قال : (هل جزاء الإحسان إلا الإحسان).. فمنذ مرض زوجي وانا اتمني الكتابة عن احداث الحياة ومايمر بنا, ليس شكوي وتبرما.. لا والله ولكن تسجيلا لاحساس بالاحتواء الرباني في كل خطوة نخطوها وتمر علينا في حياتنا.
فقد كان زوجي ينبوع عطاء منذ زواجنا وتعاهدنا علي ان يكون كتاب الله وسنة رسوله مرجعين لاي شيء يمر بنا من مشكلات وعوائق وان يضحي كل منا لبناء هذا البيت المسلم... فرأيت الزوج الملتزم دينه المحافظ علي صلاته, لايترك كتاب الله من يده.
رأيت زوجا كريما في أهل بيته واقاربه واصدقائه زوجا طموحا يشهد له الجميع بالتقوي والامانة في محل عمله, عرف زوجي ان اساس الحياة الزوجية هو المودة والرحمة فسار علي نهج رسول الله( صلي الله عليه وسلم):ـ( خيركم. خيركم لاهله): فكان طيلة احد عشر عاما قبل مرضه خير الازواج دينا ومعاملة لم يؤذني بفعل او كلمة او حتي حرف يجرحني قط.
تعلمت من خلقه معي ان قوامة الرجل ليست سيفا علي رقاب النساء كما هو سائد ذاك الفهم الخاطئ, ولكن القوامة هي بذر بذور المودة واللين والتسامح والعفو فتملك الجوارح قبل ان تملك القلوب, فتكون هي عينه فلا يري منها الا كل حسن وتكون هي لسانه فلا ينطق الا بكل خير, تعددت مشاكلي الصحية اثناء فترات الحمل والولادة في كل مرة مع بناتي الاربع فلم ار منه الا كل رحمة وشفقة وقلق ودعاء فيقف بجانبي حتي استرد صحتي, وعلي الرغم من كثرة سفره نتيجة لظروف عمله لم يمنعه ذلك بعد عودته ان يعاونني في بعض اعمال المنزل ويشاركني مسئولية وعبء الاطفال, رحمك الله زوجي الغالي فما اعظم تواضعك وروحك السمحة, واسأل ماشئت عن بره بأهله واخوته, والأعجب من ذلك خلقه السامي مع اهلي فكان نعم الابن لوالدي, ونعم الاخ لاخوتي, وكان لايتواني عن تقديم المساعدة لاي شخص كان قريبا او بعيدا..
ومن جانب آخر فقد كان مؤمنا انه من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم, اذ كان دائم الاهتمام بأخبار المسلمين والدعاء لهم ولقد تمني الشهادة في سبيل الله وكان دائم الدعاء بها وكثيرا ماكان يسألني ويسأل الجميع ان يدعو له بها.
علم ان تقوي الله هي الطريق ورضا الله هو الهدف, فرزقه الله طهارة القلب( فالقلوب أوان تنضح بما فيها علي الجوارح) عاش قلبه كقالبه وسره كعلانيته حفظ الله فحفظه الله, وكانت هذه المحنة الربانية اذ اصيب زوجي بجلطة شديدة في جذع المخ اصيب علي أثرها بغيبوبة وقد كان في السابعة والثلاثين من عمره.. نام هذا الجسد ولم يتوقف العطاء الزاخر فما كان ابتلاء إلا ومعه لطف وما كان شدة الا ومعها يسر وماكانت محنة الا ومعها صبر, انهال هذا العطاء الرباني طوال سبع سنوات وقد كانت من اهم عوامل التثبيت في هذه الفترة الشعور بالمعية الربانية, فمع اول لحظة من مرض زوجي كان هذا الهاتف الداخلي يذكرني بقول السيدة خديجة لرسول الله صلي الله عليه وسلم( والله لايخزيك الله ابدا).
فكانت اول رسالة ربانية سريعة بالتثبيت, ومن نعم الله علينا في هذه الفترة ذاك الفضل العظيم اذ اتمت بنتاي بعد مضي ثلاث سنوات من مرض والدهما ختم كتاب الله حفظا.. اول فرحة ملأت قلبي واكدت لي ان الله معنا ويبارك خطانا ولم تتوقف هذه النعم الربانية طوال فترة الابتلاء, وتكفل الكريم الوهاب الرزاق وأسبل علينا سبل ستره ثم التفاف الناس حولي فلم اشعر بالغربة بل اصبح لي مئات الاخوة والاخوات, ولم يكن العطاء الرباني ماديا فقط بل كان ماديا ومعنويا فرزقنا الله نعمة الصبر والثبات وقد صدق الله في حديثه القدسي(ياعبدي ان عبدي فلان مريض اما انك لو زرته لوجدتني عنده) حقا فما دخل احد حجرته الا وشعر بالطمأنينة والسكينة وكثيرا مامرت بي ازمات صحية فلا اكاد ادخل غرفته الا واشعر بالقوة بل والاكثر من ذلك اللذة والرضا في العناية والاهتمام به ولم لا!!! سبع سنوات من المرض تعتبر تكفيرا للذنوب ورفع درجات بغير ذنوب جديدة بل زيادة في الاجر والثواب فلم يكن سليما في جسده سوي جهاز الاحساس فهو يشعر بالألم. بكل ألوانه.
وعندما اصيب بكسر في عظمة الفخذ اثناء جلسة علاج طبيعي قام باجراء عملية كبري( سبحان الله) مازال يبتلي وهو في ابتلاء, اجر وراء اجر, ثم كانت الايام الاخيرة ثم اللحظات الاخيرة هدأ هذا الجبل الشامخ وسكن هذا الجسد الذي كثيرا ما تألم( إنا لله وإنا اليه راجعون... لاكرب بعد اليوم. لاشدة بعد اليوم.. هنيئا لك الجنة) كلمات لم ازل ارددها حين لفظ انفاسه الاخيرة, شعوران غريبان شعرت بهما لحظة وفاته رهبة ورجفة الموت ثم هذه الفرحة والطمأنينة التي ملأت قلبي, فأنا مؤمنة بوعد ربي انما يوفي الصابرون اجرهم بغير حساب( اللهم ربي ان عبدك ابتليته وصبر فأنجز له وعدك وارزقه اجر الشهداء الصابرين)آمين.
جزاك الله خيرا زوجي الغالي يا من تعلمت منه حسن الخلق وطهارة القلب في صحته والصبر واللطف والمعية الربانية اثناء مرضه والبشري الحسنة بعد موته, فقد اتصلت بي زوجة احد الشيوخ الفضلاء الذي حضر جنازته, وانا احسبه علي خير ولا ازكي علي الله احدا, فقالت يا ابنتي لم تكن هذه جنازة بل كانت عرسا وان شاء الله ختم له بخاتمة السعادة..
وهو لاقي ربه راضيا عليه غير غضبان.
حقا صدق الله...
فصدقه الله
وهذه رسالة شكر خاصة لوالدي لما قدماه لي منذ زواجي حتي الان( اللهم بارك لي فيهما وارزقني برهما وطاعتهما) وشكر لاخوتي واختي الحنون فقد كانوا سندي وظهري سترهم الله وبارك لهم في ابنائهم وزوجاتهم. وشكر الي اصدقاء زوجي واخوانه فقد كانوا سدا منيعا لنا بارك الله فيهم جميعا وشكر خاص الي الممرضات الفضليات اللاتي ساعدانني في رعاية زوجي.
وختاما: شكرا لك ربي.. شكرا لك ربي
اللهم لاتحرمني سبل سترك..
ولاتحرمني برد عفوك وكرمك وفضلك, رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلي والدي وأن أعمل صالحا ترضاه, وأصلح لي في ذريتي إني تبت إليك وإني من المسلمين.
** سيدتي.. ها أنت تطلين علينا لتكشفي عن وجهك المضيء وسيرتك العطرة, بعد أن لامستها صديقتك في رسالتها لنا منذ أسبوعين وقالت لنا عنك هكذا كانت, ولكنك بطيب أصلك ورقي تواضعك, استكثرت علي نفسك أن نراك إمرأة نادرة فعلت المستحيل, وآثرت أن تعيدي الفضل إلي زوجك الراحل, ولكن رسالتك المشحونة بمشاعر الحب الإنساني والإلهي, لم تغير في الأمر شيئا: مازلت امرأة نادرة, وصورة رائعة للزوجة كما يجب أن تكون, وإن أكدت لنا أن الحب يجب أن يسير دائما في الاتجاهين المتقابلين وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان, وأن من يسير في طريق النور مستمدا طاقته من طاعة الله, فإن الله حتما سيرعاه ويحفظه ويهون عليه مصائبه ويجعل له من الكرب فرجا, ومن الصبر سراجا, ومن الألم ثوابا ودرجات علا, وهذا هو ما أطلقت عليه سيدتي التعبير الرائع المعبر الاحتواء الرباني,
سيدتي.. لم أنشر رسالتك رثاء لزوجك الراحل العظيم والذي يستحق أن ننظر إلي رحلته القصيرة في الحياة بكل انبهار وتأمل لهذا النموذج من البشر الذي لم نعد نراه بسهولة في حياتنا, ولكن لأن سطور رسالتك تفيض ببعض منه ومن تدينه والتزامه وخلقه ومحبته, فإنني وجدتني مدفوعا لنشر الرسالة من منظور آخر وهو الزواج, فأغلب مشكلات المجتمع الآن تتمحور حول العلاقات الزوجية, فنري المحاكم مكتظة بقضايا الطلاق والخلع وحضانة الأطفال.
وانتشرت جرائم القتل بين الأزواج والآباء والأبناء, فيما يبدو كاشفا لغياب هذا الاحتواء الرباني الذي ظلل رحلة حياتك الرائعة والقصيرة. بعد أن غيبنا كتاب الله واحتفظنا به في البيوت وتابلوهات السيارات بدون فهم وتأمل لما فيه.
فغاب التراحم والحب وحل محلهما البغض والقسوة.
من من الرجال لا يتمني ويحب أن يكون مثل زوجك الراحل, وهل لو كان ما وجد زوجته مثلك تحت قدميه؟!.. ما الذي يمنع الرجال من أن يبذروا المودة واللين والتسامح والعفو والعطاء وصلة الرحم؟
لا أعتقد أن أحدا سيري أنه الفقر أو الأزمات الاقتصادية, فالحال يجمع الآن بين الأغنياء والفقراء, التفكك والعنف متشابهان ومتماسان. وهل لو رأت زوجة ـ مثلك ـ زوجها بهذا الخلق الكريم هل تبخل عليه بروحها لتمنحه السعادة والهناء, وترعاه في يسره كما في عسره.
فإذا كانت الأمور واضحة إلي هذا الحد, الحد الذي يجعلنا نجمع مابين سعادة الدنيا ونعيم الآخرة, فلماذا نضل الطريق, ونضيع الأيام ـ وهي وإن طالت قصيرة ـ في خلافات وصراعات وتشريد وتعذيب للأبناء.
رسالتك سيدتي بلسم للأرواح الباحثة عن الراحة وعن فهم سر الوجود والفناء لمن يريد أن يفهم ويعي, ولمن يريد أن يعيش ويموت في سلام ورضا.. جعلنا الله منهم..
وإلي لقاء بإذن الله.