من تحت الركام ؟!
قصة قصيرة
كتبها : أحمد كمال
برق يخطف الأبصار .
رعد يصم الآذان .
ظلام دامس .
ثبات عميق .
جسدي محشور بين الركام ، أحجار البيت والآلام ، جسد لا تزال فيه بقايا من الحياة ، وروح تأبى البعث والاستسلام .
لا أدري كم من الزمن مكثت في الظلام ؟! وإلى متى سوف أبقى في ثبات ؟أسئلة أطرحها منذ قديم الزمان ولم أجد لها أي جواب .
عبرت إلى أذني دمدمت محركات ، وزلزلت أقدام ، فاستبشرت خيراً ورحت أصيح ، وأصيح ، مستغيثاً تارة ، وتارة متوسلاً ، ولكن بلا جواب ، فرحت أتلوى بجسدي الهزيل ، لأخرج من بين الركام .
وبعد شقاء وعناء ، انسلخ جلد جسدي وسط الركام ، وتحررت من أسري ، وبدأت أصعد إلى الأعلى ، والضوء المريض يتسلل إلى عبر نفق مظلم يملأه الحطام ، بصرت عيني ، واستبشرت روحي ، ورحت أزحف نحو الآمال ، حتى برأت رأسي من تحت الركام .
نظرت حولي بإعياء ، وأنا أكاد لا أرى إلا أشباح ، ولا أسمع إلاطقطة البنادق ، وهدير المدرعات ، وأزيز الطائرات .
ولمع في ذهني بريق الذكريات ، كنت جالساً وسط أهلي ، في بيتي الذي يحيط به بستان ، وتطل شرفته على مسرى سيد البشرية ، وأري من غرفة نومي قبة المعراج ، لكن أين بيتي ؟ ماذا حدث لأهلي ؟ وكيف أشجار الزيتون ؟ ومن هؤلاء الأشرار .
وإذا برافعة جرافة توشك أن تطيح برأسي ، وأنا أصيح في هياج :
- توقف أيها السائق إنني لا زلت على قيد الحياة !!
فساد صمت ، فسكون تام ، واحتشد الجميع من حولي يتأملونني كأنني شيء هام ، ثم تبادلوا نظرات الدهشة والاستغراب وإذا بقائدهم يسألني بصوت كعواء الذئاب :
- كيف بقيت إلى الآن على قيد الحياة ؟!
فرفعت رأسي إلى السماء ، ثم رنوت إليه ببصري قائلاً :
- لقد نكب بيتي بالأمس ، وينجي من يشاء !!
سرت دهشة عظيمة بين العقول ، والأذهان حتى عاد قائدهم يسأل بصوت الذئاب :
- أتدعي أنك هنا منذ الأمس ، ألا ترى ما حولك من متغيرات ؟!
فدرت برأسي والألم يعتصرني بلا رحمة ، وأنا أتفاجأ بما قال ، بيتي غير موجود ، ولا بيوت كانت حوله ، وبستان الزيتون ذهب وصار بستان من الدماء ، عشرات البيوت الشاحبة أتت مع الأشرار .
فصرخت وأنا أنفجر من الغيظ قائلاً :
- ماذا فعلتم بأرض الرباط ؟ أين ذهب أهلي أيها الأوغاد ؟ وماذا حل بأشجار الزيتون يا أشرار ؟
فانحنى القائد ودنا برأسه من أذني هامساً :
- الأرض لنا بالميعاد !! وأهلك تجدهم بين راقد تحت الثرى ، أو مشتت في الأمصار ، وأشجار زيتونك أحرقناها لنعيد حضارة شعب مختار .
وعاد منتصباً وهو يصيح في سائق الجرافة قائلاً :
- اسحقه يا فتى ولا تترك منه يوماً واحداً ؟!
وراح سائق الجرافة يعتدل بجرا فته ليسحقني ، ورحت أقاوم بكل ما أوتيت من ميراث ، وما كادت رافعة الجرافة تدهسني حتى تحررت من بين الركام ، ورحت أتدحرج نحو لا شيء ، حتى أنجو من موت لا مستحق ، وعلى يد جماعة من الأشرار ، وبالرغم من كل الآلام وقفت ، وانتصبت هامتي وعلت إلى السماء ، وأنا أصيح في غضب :
- هيا ارحلوا مع من رحلوا ، ولا تعودوا مرة أخرى لهذه الديار !!
إستشاط القائد غضباً ، وهو يرى الجسد الذي ظن إنه ميت ، لا تزال فيه الحياة ، ووميض الذكريات التي بداخلي ، صارت وهجاً أحرق كل آمالهم في البقاء ، فصرخ بصوت الذئاب قائلاً :
- اقتلوه ، انسفوه ، لا أريد حتى ذكراه ؟!
فتدافعت نحوي عشرات الجنود المدججة بالسلاح ، وعشرات الدبابات الوحشية بزمجرة العنفوان ، وعشرات الطائرات الحربية بأزيز الكبرياء ، وراحت الطلقات ، والقذائف ، والصواريخ تلاحقني ، ورحت أركض نحو لا شيء وأنا أتطلع إلى السماء متمتاً :
- يا ربي درع وسيف واستشهاد
وتفتق جسدي الهزيل ، بدرع من حديد ، ما أدركته إلا بثقل حركتي ، وغصن زيتون يابس مهمل على الأرض ينجذب إلى يدي سيف مسلولاً، جامحاً ، وينبعث من بين التراب حصان أبيض تحيط به الدروع من كل جانب ، اقترب ، وحنا رأسه ، ثم جثا على ركبتيه لأمتطيه ، وانطلق نحو الأفق يطوي الأرض وأنا أظنه غوي شارداً ، فإذا به بعيداً ، بعيداً ، من تحت الشمس ، يغازل الأرض بحافره ، ثم راح يركض سريعاً ، وصهيله يملأ الآفاق ، متجهاً نحو المعركة ، وأنا أتمنى رمحاً فيأتيني ، فأرم به طائرة فتتحول إلى أشلاء ، وأتمنى قوساً وأسهماً ، فتأتيني وأرم بها الدبابات فتتحول إلى فتات ، وما أن اقتربت من الالتحام ، حتى وجدت كل ذرات تراب الديار من خلفي ينبعث منها فارس يرتدي درعاً ويمسك سيفاً ، ويمتطي جواد ، وراح الأوغاد يفرون في كل واد ، ونحن نقتلهم بلا هوادة ، وأنا أبحث عن قائدهم حتى وجدته يتحول إلى أفعى لها خمسين رأساً ونيف ، تطوحنا بذيلها ، وتسممنا بأنيابها ، فتكاتفنا جميعاً ، وأحطنا بها ، فتشتت جهدها ، وراحت تتلقى ضربات قاتلة على الأعناق ، حتى هوت وسقطت على الأرض بلا حراك .
وانتهت المعركة بنصر ساحقاً لا لبس فيه ، وانطلقت والجيش من خلفي، أحمل راية لا كونية ، إيذاناً بانتهاء آلام البشرية .
انتهى