المصير

أسئلة تتبادر إلى ذهنه دائماً: من هو؟ ماذا يريد مني؟ ماذا سيخبرني؟ ماذا سيقدم لي؟ لماذا هو مصر على اللقاء بي؟ لماذا الاجتماع معه أمر صعب إلى هذه الدرجة؟

يحاول دوما ألا يشغل الهاتف، إنه موقن أنه سيتصل به، لقد وعده، لا يعرف شيئاً عنه؛ لا اسمه ولا أين يعيش، يعرف فقط أنه شخص مهم جداً واللقاء به ضروري.

لم يتقابلا إلا مرة واحدة فقط، كان لقاءاً عابراً، لم يذكر ما دار بينهما، انقضى اللقاء في بضع ثوان، لكنه يتذكر مدى أهمية ذلك الشخص وأهمية وجوده في حياته، أصبح ذلك اللقاء جزءاً من حياته وصار يشغل كل تفكيره.

لم يعد يحتمل هذا الصبر، لماذا تأخر عنه؟! لماذا لم يتصل به؟! ما معنى أنه لم يتصل؟! هل سيصاب بمصيبة في حياته؟! إذا لم يلتق به ويخبره بذلك الأمر الذي أراد أن يخبره به مسبقاً لكنه لم يستطع! إذا لم يحدث ذلك فهل سيخسر شيئاً هاماً في حياته؟! هل سيفوته أي شيء؟!

وجوده في حياته غير له حياته، جعله يفكر دوماً بأفكار وقضاياً ما كانت لتخطر على باله مسبقاً، صار يتساءل: لماذا يصر ذلك الشخص الغريب على رؤيتي ومكالمتي؟ هل أعني له شيئاً كثيراً؟ هل يريد مني خدمة ما؟ هل يريد أن يحذرني من أمر خطير؟ هل بعثه أحد إلي برسالة فأراد أن يسلمني إياها؟..

استغرب ذلك اليوم حين رأى خط الهاتف مقطوعاً، ما هذه الجريمة البشعة! كيف يقطع أحدهم خط الهاتف! لا بد أنه حاول الاتصال به كثيراً لكن العابثون وقفوا أمامه ومنعوه من الاتصال، أصلحه وعاد من جديد ينتظره.

لا بد أنها قضية أخطر مما كان يعتقد، لا بد أن ذلك الشخص هام جداً بالنسبة له، لا بد أنه كان يبحث عنه هو ويريد أن يخبره عن أمر خطير، وهكذا قرر ألا يستسلم أبداً، وقرر أن يسخر حياته في البحث عن ذلك الشخص وعن الحقيقة وراءه، وعن الشيء الذي يمنعونه من إيصاله له، بل قرر أن يجعل لحياته معنى، وأن يقوم بأي شيء يخدم به ذلك الشخص في مراده، وبدأ يهتم بحياته أكثر ويعتني بنفسه أكثر من ذي قبل ويقدر ذاته ويعتقد أن له شأناً وأن له مسؤوليات لا يعرفها بعد.

خرج وفي نيته أن يراه، نعم، لابد أن يراه، إن لقاءه سيؤثر في مسيرة حياته، ذهب حيث التقيا أول مرة، وكانت خيبة الأمل أنه لم يره.
في اليوم التالي خرج أيضاً إلى المكان الذي اجتمعا فيه، بل خرج في الساعة نفسها التي التقيا فيها كانت الساعة الواحدة أي في منتصف النهار حيث الحر الشديد لكن لا يهمه أبداً حر الظهيرة، فالموضوع أكبر من ذلك وما عاد بالنسبة إليه يحتمل تأخيراً أكثر من هذا التأخير.
وهكذا كل يوم يخرج ساعة من الزمن ينتظر وينتظر .. ولكن دون أن يراه.

على التلفاز شاهد بعض ألعاب السيرك وخداع البصر وتنبؤات الأبراج وما يشبه السحر، ثم في قناة أخرى شاهد خبراً مفاده أنهم ألقوا القبض على الشخص الغريب، وقالوا أنه رجل مجنون يثير قضايا خرافية، ويستخدم الحيل والخرافات والسحر كي يستطيع جذب الناس إليه والسيطرة على عقولهم، وفي قناة أخرى شاهد برنامج مسابقات وشاهد بعض الأغاني والحفلات.

يأس كلياً، وقرر أن ينساه وينسى كل ذلك الأمر، نعم، وكما قالوا له إنه رجل يلعب، يمزح معه ليس إلا ولا يوجد شيء مهم ولا شيء آخر يريد أن يخبره إياه، بل يريد أن يخبره كذباً وكلاما ملفقاً، نسيه وأراد أن يعود لحياته كما كانت قبل التعرف عليه.

رآه في منامه تلك الليلة ذاتها، بعد كل محاولاته وجهوده في نسيانه يُذَكّره الحلم به، بعد اليقين بأنه لن يراه ثانية، يراه في المنام بكل سهولة، الواقع يحول دون لقاءهما، أما باطنه وفطرته فيناديانه ويقولا له لا تيأس أبداً، لقد نسيه ظاهرياً لكنه في قلبه يذكره دوماً.

في صباح شتوي كانت بضعة حمامات تفطر قطع الخبز على شرفته، كانت إحداها تحمل رسالة إليه، قرأ الرسالة:

"أراك غداً"

وقف ذلك الرجل الغريب منتظراً .. وجده!

نعم وجد الفتى أخيراً، التقيا بعد طول عناء، عرف أن إرادته الصادقة ستجمعهما، عرف أن معاناته وتضحياته ومحاولة إيصال صوته لذلك الفتى وإخباره الحقيقة لم يذهب سدى وأنه لن يستسلم أبداً.

ومع ذلك فما زال الخوف يتملكه، مازال يخاف أمراً واحداً، هل سيحصل هذا اللقاء؟ أم أنهم سيمنعون الفتى من الاقتراب منه! هل سيقدر الفتى على التخلص منهم ومن إعاقاتهم! أم أنه سيطيعهم ويبتعد عن الغريب! هل سيستطيع الفتى رؤيته أم أنهم سيمنعونه من ذلك؟

علت وجه الغريب ابتسامة عندما وجد الفتى متجهاً إليه بسرعة ونشاط يبحث عنه يمنة ويسرة، ها هو يقترب منه، لكن الفتى لا يراه! لماذا لم يره؟ إنه أمامه، هاهو يقترب أكثر، لقد رآه! آه! وأخيراً حقق ما كان يطمح إليه، لكن ما الذي حصل؟ لماذا أبعد نظره عنه؟ أما عرفه؟ لكنه ومن نظراته واضح أنه يبحث عن الشخص الغريب، ما الذي أصابه؟! مشى بقربه وتابع المسير وكأنه ليس بجانبه! نادى الغريب به لكنه لم يسمعه، أعاد النداء بصوت أعلى لم يسمع أيضاً، ركض إليه أمسكه أراد أن يمسكه لكنه لم يستطع، مد يده إلى يده فلم تلتق اليدان، تبعه وتبعه، إنه يرى الكل من حوله ولا يراه هو، إنه يراهم كلهم ولا يرى الغريب، يحاول الإمساك به يحاول بكلتا يديه لكن يداه لا تقدران على ذلك، كأنه يمسك بالماء أو بالهواء، كأنه سراب أو خيال، كأن جداراً أو حاجزاً يفصلهما عن بعض، استطاع هو أن يحطم هذا الجدار ويعثر على الفتى أما الفتى فلم يستطع بعد أن يتعدى حدود الجدار، حاول بشتى الوسائل أن يلفت انتباه الفتى لكنه لم يستجب مطلقا، بل كان يستمر في البحث يمنة ويسرة ولا يعثر عليه.

توقف الرجل عن اتباعه، حزن على الفتى المسكين وهو بهذا المظهر هائم لا يجد ضالته وهي حوله، نظر نظرة استنكار من حوله، لقد فعلوها، لقد منعوا الفتى من رؤيتي، ثم نظر نظرة اطمئنان إلى الفتى الذي يركض مسرعاً أمامه، فقال في نفسه عما قريب ستجدني.