تكملة الفصل الثاني:
أصوات؟
بعد مرور ما يقارب السنة وجدت جثة (رضا) متدلية و معلّقة في غرفته بحبل ممدود إلى مروحية السقف.
لا لا، أنا هكذا أستبق الأحداث بعض الشيء...
عَلَيّ أن أشرح أولاً ما الذي دفعني لدخول غرفة رجل أنفر منه نفوري من مريضٍ بالجذام.
ربما من الأفضل أن أذكر ما حدث لـ(سارة)، رغم أنني لم أرها ثانية أبداً، و هذا أمر طبيعي بما أنها ميتة.
نعم، كان ذلك بعد شهر أو شهرين من"حادثة" المقهى، و كنت على وشك أن أنسى كل ما يتعلق به عندما وقعت عيناي على خبر طويل عريض منمّق عن وفاة (سارة عبد الغني)، الطبيبة الصاعدة و ابنة عائلة (الخضير) المرموقة، بعد صراع قصير مع مرض السرطان. العزاء سيكون في منزل العائلة القديم، و خاص بالأقارب فقط.
لم أكترث كثيراً للأمر، فأنا لا أعرفها على أية حال حتى أبدي أي ردة فعل تجاه وفاتها، لكن شيئاً ما لمع في ذهني حين أعدت قراءة الخبر مرتين. سرطان؟ هل يمكن...؟ كيف لم أنتبه لهذا من قبل؟ هذا هو إذن سبب تساقط شعرها بكمية كبيرة دون أن تحس بالألم! (بالطبع ليس لأن أعصابها حديدية أو لأن أختها لها أصابع خارقة).
تذكرت نظرتها الفاترة الجامدة إلى كومة شعرها الملقاة على الأرض.. هل كانت تعرف بأنها مريضة؟ أشك بأن أختها كانت تعرف و إلا لما عاملتها بتلك القسوة الوحشية و تلذذت بالإنتقام منها.
ترى هل ماذا حدث للصغيرة (سمر)؟ هل كان ذلك الشجار آخر مرة ترى فيها أختها قبل أن تموت طريحة الفراش؟ هل ذاب قلبها كمداً عليها بعدها؟ أم أنها تابعت حياتها و تزوجت حبيب القلب الذي هاجمت أختها المريضة من أجله؟
لم يدم فضولي سوى بضع دقائق، و تبخّر سرعان ما شغلت نفسي بالعمل في المشرحة.
لم أذهب إلى المقهى تلك الليلة، لا أدري لماذا، بل عدت إلى شقتي في وقت متأخر و أطرافي بالكاد تحمل جسدي المنهك، شعرت بأنني أترنح أكثر من مرة و أنا أصعد السلالم - المصعد لا زال معطلاً طبعاً - حتى أن إحدى جاراتي مرت بجانبي و قد ضاقت عيناها و زمّت شفتاها بإشمئزاز، إما أن رائحتي كانت أسوأ مما ظننت أو أنها حسبتني سكراناً!
ألقيت بجسدي المثقل بالإرهاق على سريري، دون أن أكلّف نفسي عناء خلع حذائي، و بقيت دافناً وجهي على وسادتي بلا حراك، كتلك الجثث الباردة التي أراها كل يوم في المشرحة، و أحسست بنبضات قلبي تتباطىء تدريجياً بعد أن توقفتُ عن اللهاث ككلب ظمآن.
و.. لا شيء.. كالعادة... لا أدري ماذا كنت أتوقع. لن يتسلل النوم إلى جفوني مهما انهار جسدي، و لولا الحبوب المنومة التي تمنحني ساعة أو ساعتين كل ليلة لمِتّ أو أصبت حتماً بالجنون، هذه هي مشكلة أمثالي من المصابين بالأرق المزمن.
كثيراً ما حذرني (عصام) من خطورة الإدمان على هذه الحبوب، و نصحني عشرات المرات أن أخفف من عوامل التوتر و العصبية في حياتي حتى أخفف من حدة الأرق.
يقول: "لم لا تأخذ إجازة لأسبوع و تستمتع برحلة استجمامية"؟، نسي صديقي العزيز أن الشيء الوحيد الذي أدمنته هو عملي، فما الذي سافعله في الإجازة إذن؟ أنا من النوع الذي استعبدتهم أعمالهم، فما أن ينعمون بساعة فراغ حتى لا يدرون ماذا يفعلون بها.
قد يثير عملي اشمئزاز الكثيرين - كجارتي اللطيفة ذات العينين الضيقتين و الشفتين المزمومتين - لكنني بصراحة من القليلين المحظوظين اللذين يستمتعون بوظائفهم. و هل هناك أجمل من أن تتقاضى راتباً محترماً على أداء عمل تؤديه عن طيب خاطر؟
شاب أعزب يعيش في شقة مريحة و يعمل في وظيفة يحبها يكسب منها ما يفوق حاجته، فهل هناك ما يستحق التوتر و العصبية؟
صحيح أن حياتي الاجتماعية شبه معدومة، لكنني أفضّلها هكذا. معظم الناس يزعجونني، لكن الأموات يسهل التعامل معهم.
لو سُأِلت عن رأيي لقلت أن من يستحق رحلة استجمامية بحق هو جاري العزيز.
فلم يسبق لي أن رأيته يخرج من العمارة السكنية، و لم يتجاوز عتبة شقته إلا مرات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. و عندما يتحفنا بطلته البهية فلا ينظر إلى محدثه في عينيه و يتلعثم إذا تكلم و تحمّر وجنتاه بحنق مكبوت إذا ما طال حديث (سكينة) معه (التي كانت الوحيدة، بطبيعة الحال، التي كلّفت نفسها عناء فتح حديث وديّ معه)، و أذكر أنني لمحته مرة أو مرتين يختلس النظر إليّ بطريقة غريبة حين أعود من عملي في المشرحة.
ببساطة، الرجل تظهر عليه علامات التوتر العصبي من ألفها إلى يائها.
كان مفعول الحبوب المنومة بدأ يثقل جفوني و يشوش حواسي عندما تناهى إلى سمعي صوت.. صوت ما...
صوت بكاء خفيض متقطع.
صوتان؟ ..
نعم، بل صوتان...
أحدهما يتحدث و يبكي و الآخر...
يضحك؟
تذكرت أن لـ(رضا) عادة مزعجة في الحديث مع نفسه ليلاً. ربما ليس مع نفسه، لعله يتحدث مع أحدهم على الهاتف، لكن كانت هذه المرة الأولى التي أسمع فيها صوت شخص آخر. زائر؟ في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟
قبل تسع سنوات كانت الغرفة 25 و 24 عبارة عن شقة واحدة كبيرة، و تم فصلهما إلى غرفتين متلاصقتين بعد تزايد أعداد ساكني العمارة. لا زال حائط الإسمنت الفاصل بين غرفتينا رقيقاً بعض الشيء (أستطيع تحطيمه ببضع طرقات من مطرقتي لو حاولت)، لذلك استطعت سماع شيء من نحيب و همهمات (رضا) المخنوقة حتى و أنا شبه مخدّر هكذا.
(رضا) يبكي؟ ما قصته؟
لا بد أن الحبوب عبثت بعقلي، لأنني أكاد أقسم أنني سمعت ضحكة مكبوتة لا تشبه ضحكة الآدميين في شيء، و صوت (رضا) الحاد و هو يردّد اسماً ما كأنه آلة تسجيل معطلة.
ســـ ....
ســ ....
...
(سارة)؟؟؟
هل قال (سارة)، أم...
(سمر)؟؟؟
لا أدري لأنني غططت في نوم عميق لأول مرة منذ سنتين.