بسم الله الرحمن الرحيم


جـن : Demons

القسم السادس

ولماذا لن تتملكهما الصدمة؟ فكم من كائنٍ منا سمِع بالمخلوق ولم يره, لا سيما ان يكون أساساً في الوجود, فلطالما سمعا كلمة الأم وكلمة الأخت وكلمة المراة وكلمة الفتاة, هذا ما ترك الصبيان في دهشة لما رأوه أمامهم فلا تستغرب لهكذا امر.
نظر كلٌ من (
بون) و (هوب) بإمعان ودقة شديدين، رُبما لا تتكرر هذه الوهلة الخاطفة, كانت الفتاة قصيرة القامة لم تكبرهما عُمراً ولم تفُقهما حجماً كانت بشرتها مُجهرة البياض، بياضها بياض أسنان (هوب) وكان شعرُها ينزل اسفل كتفيها يُغطي جزءاً من جبينها بلونه اللوزي المتلألئ، وكان وجهها مُستديراً صغير المعالم بالكاد تُرى عيناها الخضراوتين وشفتيها التي يُشبه لونها لوْن حبوب الرمان، فهي لم تكن الفتاة البسيطة التي تشبههما بل كانت الفتاة التي كانت ستُعجبهما دون سائر الفتيات.
وما زالت تنظر لهُما مُتمعنة فهي لم تكن مُختلفة، عنهما فلقد حُبست كما حُبسا ولكن ما لطفلة وحيدة قد يمتلك اهلُها ما لن يمتلكه مئات رجُلٍ بسيطٍ في شوارع المدينة الصغيرة ان تفعل، لديها ما تُريد ويأتيها ما تشتهي وتُعامل كما يجِب فلما قد تُفكر في التمرد والتطلع للخارج.
كان كُلٌ من الصبيين مُستمراً في النظر بهدوء حتى مرت دقائق معدودة، فنسي الصبيان اللوز والماء وما معهما وهما يُحدقان في تفاصيل الفتاة لعلهما لا يرآها ثانية.
"
لا تبدو قوية كما اعتقدت"
"
لماذا ترتدي هكذا؟"
فكَّر كلٌ من الولدين فكرةً أخيرة فلقد اعتقد (
هوب) دائماً ان الأنثى يجب ان تكون قويةً فهو لا يتذكر صورة حقيقية واضحة عنها سوى تلك المرأة التي كان (يان) يخافها ويستعِد لمجيئها، هذا ما دفع الصبي للاعتقاد بقوة الانثى بحضورها، فهل ما رآه قد دحض ما اعتقده؟
وكعادة الآخر لم يُبقي (
بون) أي فكرة في رأسه لوقتٍ طويل، فهو لا اي صورةٍ عن الانثى ولم يكترث لهذا لكن ما لفت نظرهه هنا إبداء الفتاة لذراعيها كاملةً، فهو لم يعتد على رؤية أذرُعٍ مكشوفة فلما لن ينتبه وقد برُزت ذراعاها ببشرتها البيضاء وفستانها الزهري.
وبما أن رادعاً لم يمنعها قررت الفتاة ان تتحدث لتُسكت الصمت فابتسمت قائلةً
"
لم أرَكُما هنا من قبل.."
اقتربت الفتاة لهُما وقد استرخى الصبيان رويداً لما رأوه من لطْف
"
أنا آتي إلى هنا كل يوْم"
استطاع (
بون) ان يتمالك نفسَه فالتفت إلى (هوب) الذي ما زال يُحدِّقُ في الفتاة مُتهجماً، فقرر أن يخطو الخطوة بنفسه فرفع رأسه وشدَّ صدرَهُ وقد كان قلقاً لم قد يحدُث
"
أنا بون المتمرد الأول في القطاع"
بُهِت (
هوب) لما سمعَهُ فتصلب في مكانه وهو يحاول إزاحة عينه ليرى حالَ (بون) وهو يتفوه بكلمة كهذه أمام شخص قد يُعرضُهم لخطرٍ آخر، لكن الفتاة ردت بهدوء تام ووجهها تملؤه البراءة
"
ماذا تعني المتمرد؟"
خف اشتداد (
بون) مرة أُخرى، وتجمد ما في (هوب) في طمأنينةٍ متوترة فاغتنم فرصته مُكملاً ما بدأه (بون) بصرخة متوترة
"
أبطال!!"
فالتفتت الفتاة إليها قلقةً لصُراخهِ وابتسم له (
بون) ساخراً، فلمح (هوب) بسمةَ اخيه فاكمل بهدوء وقد ارتخى جسده كاملاً
"
إنها تعني البطل، هو البطل الأول في القطاع وانا البطل الثاني"
صغُرت عينا الفتاة وهي في حيرةً تامة فأضافت لهُما
"
ما معنى بطل؟"
ضحك (
بون) بصوت عالٍ واغمضَ (هوب) عيناه في خجلٍ مُبتسماً، فلقد كان الامر بينهما كالتحدي، لقد فهِم (بون) أن ما أراده (هوب) مُجاراته في التحدُث إلى الفتاة لكنهما فشلا معاً
"
اسمي هوب"
لم تَفهم
الفتاة ما كان يحدث بين الصبيان فابتسمت وسط دُعابتِهم وقالت
"
اسمي رون"
جلس الاطفال وسط العُشب مع جرار الطعام يتداولون قصصهم الصغيرة, (
بون) مع جرة اللوز، و(رون) مع جرة الرُّمان، و(هوب) مع جرة البرتقال..دون رغبته..
"
إن في جرة (بون) لوزاً وفي جرة (هوب) برتقالاً وفي جرتي حبوب رمان"
فمن كانت (
رون
لقَد كان المدينة التي يعيش فيها الصبية مدينة صغيرة ضمن مملكة بعيدة الاطراف، كان لهذه المملكة ملكٌ واحد له ثلاثة أبناء، كلٌ منهم كان أميرا وكان كبيرهم ولي العهد والمُنتظر من بعد الملِك، لكن الملك هذا كان له هدُف غريب، ليس على شعبه ان يسأل إن كان ما يُريده ملكهم صواباً أم خاطئاً، لأن الصواب كان طاعته وإتباعه، فلقد كان هدف الملك فتح العالم بأسره وإخضاعه لسيطرته، فلقد رُزق هذا الملك الكبير بثلاثة أبناءٍ لا مثيل لهم في القيادة والتخطيط والبطولة، بل كان يُراهن على حياتهم بأنهم لن يخسَروا في أي معركة يتوجهون لها تحت كل الظروف حتى عُرفوا بالأمراء الموثوقين.
كائنا ما كان ما يفعله بشعبه او شعوب العالم حُلفاءً أو أعداءً، فإن قلة من تمكنوا من معرفته شخصياً، فأقل من عرفه سيكون أول ما يقوله أن هذا الملك لا يخلف وعداً ولا يقطع عهداً، هذا الجواب حين يسأل سائلٌ لماذا لا يتزوج ملكٌ بقوته وطموحه عشرات النساء للعديد من الاسباب، فالجواب هو وفاءه لزوجته وأم الأمراء الثلاث والابنة الأخيرة (
رون).
لم يستطع الملك بأن يُفكر بطريقة يُبقي فيها روح ابنته الأخيرة وأميرة مملكته الواسعة سوى أن يبني لها حصناً وحيداً يتركها فيه محميةً في وسط إحدى المدن التي لا يلاحظها البسيط او الجبار من اعدائه.
(
رون) كانت ابنته القاطنة شهوراً بعيدة عنه، هي وبلا علم الصبيين وبلا علمها شبيهةٌ بهم بالنصف، لعلهما حُبسا للا سبب ولكنها حُبست لحياتها، قد يُريد الصبيان أن يأخُذاها عند علمهم بحالها، ليس لحمايتها ولكن لأنها تَفقد ما فقداه، الحرية والقدرة على الوطأ على الارض الغريبة.
"
أتُحبين الرُمان يا (رون"
سألها (
هوب) وهو ينظر إلى شفتيها اللتان تلمعان مع حبوب الرمان في فمها، فابتسمت لهُ
"
نعم إنه المُفضل لدي"
فابتسم وقد فقد السيطرة على عينيه الزرقاوتين وقد كان (
بون) ينظر إليه بكرهٍ فتكلم (هوب) بخجلِ
"
هل لي بالقليل؟"
فتدخل (
بون) بصوت مُرتفعٍ
"
عليك بالبُرتقالِ إنُّه يُعجبك"
فنظر (
هوب) الى (بون) مُستغرباً من تغيُّره ثم مرت ثانيتين من الصمت و(رون) في حيرة لما بينهما فتدخلت ضاحكة
"
اهدأ يا (بونو)"
فابتسم (
بون) في خجل وظهرت على وجه (هوب) بسمة سُخريةٍ فلما لما وقد أعطت الفتاة لـ(بون) اسماً خاصاً ثم ادخلت يدها في جرتها واخرجت قليلاً من حبوب الرمان ومدت يدها إلى (هوب) وقد عاد الكره إلى نفس (بون) محدقاً له فمد يدَه
"
رون!"
فزِع الصبيان فتركا جرتيهما ووقفا مُبتعدين وهم يحدقان إلى
للمرأة الواقفة على مقربة منهما وقد بقيت (رون) جالسة فالتفتت للمرأة واجابت فرِحةً
"
نعم يا (جيلا)"
ظلت
المرأة تُحدُّق بصمت فما مرت ثوانٍ قليلة حتى اعادت (رون) حبوب الرمان إلى الجرة وقامت ثم اكملت
"
إن هذين الصبيان (بونو) و(هوبو) من ابطال القطاع"
شحُب وجه
المراة لسماع هذه الكلِمة وقد اتسعت عيناها وكان كل من الاطفال ينظُران إليها في كامل حيرتهم فقالت وهي مُترددة
"
ودِّعيهم لأنه حان وقت الدخول"
ابتسمت (
رون) لكلا الصبيين وذهبت نحو (جيلا) وامسكت يدها فالتفت وذهبت نحو مدخل القصر القريب في الحديقة مُغلقةً الباب خلفها وما زال الصبيان ساكِنين يتساءلان
"
إنها السيدة التي تأتي إلى الميتم"

سار الصبيان والحزن يلبسهما نحو الميتم لا غيرَهُ وقد بدأت الشمس بالمغيب فكان الحزن المُخيِّم على رؤوسهما راجعاً لا لفقدانهما حريتهما في الخارج ولا لفقدانهما مغامراتهما الصغيرة ولا لانهما لم يحصلا على فرصة للانتقام ممن اساء اليهما ولا لانهما لن يتذوقا الطعام الفاخر ثانية ولكن لأنهما فقدا الصديق الوحيد الذي كان مثلهما وفقدا الشخص الوحيد الذي لن يجدا مثله فهما قد فقدا رؤيتهما لتلك الفتاة التي عاملتهما بلطف رغم كونهما أيتاماً ضعفاء فهل من فتاة أخرى قد تضاهيها او على الاقل شخصٌ يُسعدهم كما هم اثناء وجودهم بقربها، لعلها ليست المحبوسة مثلما هم محبوسون فهم سُجناء للأبد تحت وطأة الحياةِ المُظلمة التي عجز عنها الالاف قُبلهم فبما يُفكران الآن ..

"
أتعرف بما أفكر فيه الآن؟"

"
أن نراها غداً"