[frame="5 10"]
كان سيدنا أبوبكر رضي الله عنه يجلس مع سيدنا رسول الله إلى منتصف الليل ، ثم يأذن له سيدنا رسول الله بالإنصراف – وكان بيت سيدنا أبو بكر بالعوالى خارج المدينة – وعندما يصل إلى بيته يقول: اشتقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ردونى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ،

وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم على هذه الشاكلة ، حتى أن أحدهم وهو سيدنا عبد الله بن زيد لما وصله خبر لحاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى قال: اللهم خذ بصرى حتى لا أرى بعد حبيبى محمد أحداً أبداً ، فأخذ الله بصره فى الحال

إن الذى يؤجج هذا الغرام لرسول الله صلى الله عليه وسلم الشوق الدائم إلى حضرته صلى الله عليه وسلم والذى يزيده هياماً إذا لاحت بارقة من أنوار طلعته ، فالإنسان يحتاج إلى الجهاد فى البداية حتى تلوح له بارقة من أنوار حضرته ، بعد ذلك لن يلتفت لا إلى يمين ولا شمال لكن الإنسان الذى يريد المال والأولاد وغير ذلك ويريد مع ذلك حضرة النبى ، أين القلب الذى يسع كل ذلك {مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} الأحزاب4

فلا يدخل القلب إلا واحد ، ورسول الله حدَّد الجهاد فى هذا الباب فقال: {لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}{1}

فالإنسان إذا لم يصل لهذا الحال عليه أن يجاهد ، فيذهب إلى أهل هذا المقام العالى ويزاحمهم ويُكثر من زيارتهم ويُكثر من مودتهم حتى يُعديه حالهم وهذا سبب تردد الناس على الصالحين ، لأن الإنسان عندما يكون مع الصالحين يكون كأصحاب حضرة النبى صلى الله عليه وسلم ، قال سيدنا حنظلة رضي الله عنه:

{كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ فَوَعَظَنَا فَذَكَّرَ النَّارَ ، قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ إِلَىٰ الْبَيْتِ فَضَاحَكْتُ الصِّبْيَانَ وَلاَعَبْتُ الْمَرْأَةَ ، قَالَ: فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ أَبَا بَكْرٍ ، فَذَكَرْتُ ذٰلِكَ لَهُ فَقَالَ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا تَذْكُرُ ، فَلَقِينَا رَسُولَ اللّهِ ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللّهِ نَافَقَ حَنْظَلَةُ ، فَقَالَ: مَهْ ، فَحَدَّثْتُهُ بِالْحَدِيثِ ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَأَنَا قَدْ فَعَلْتُ مِثْلَ مَا فَعَلَ ، فَقَالَ:يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ تَكُونُ قُلُوبُكُمْ كَمَا تَكُونُ عِنْدَ الذِّكْرِ ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلاَئِكَةُ حَتَّىٰ تُسَلِّمَ عَلَيْكُمْ فِي الطُّرُقِ}{2}

وكانوا رضوان الله عليهم يُطَّبقون فى الحال ، فكانوا يرون الملائكة وتراهم الملائكة وكانوا يتمتعون بالأنوار الذاتية والربانية والنورانية فى ذات خير البرية فى كل أنفاسهم فى حياتهم الدنيوية ، فإذا فارقوا الدار الدنيوية فهم إما فى المعية وإما فى العندية وإما فى اللدنية وكلهم فى قاب قوسين أو أدنى فى مقامات القرب من رب البرية عز وجل

ولذلك يذهب الناس للصالحين حتى يُحضِّروا قلوبهم ويُشوقوا نفوسهم ويُزَهِّدوهم فى الفانى ويُرَغِّبوهم فى الباقى ، ويلوح لهم فى هؤلاء الصالحين جمال سيد الأولين والآخرين صلى الله عليه وسلم ، جمال أحواله وجمال أخلاقه وجمال صفاته وجمال تواضعه وجمال علمه

ثم بعد ذلك إذا داوموا يلوح لهم جمال أنواره وجمال أسراره وكمالات ذاته صلى الله عليه وسلم ، وهذا سرُّ تردِّد الناس إلى الصالحين ولا يوجد شئ يُقَوِّى الوجد والهيام إلا هذا الأمر ، والصالحون لا يحتاجون إلى أحد من الخلق بل إن كل واحد منهم يريد أن يفرَّ من الخلق حتى يظل فى جلوة وخلوة مع الحق ، وفى ذلك يقول الإمام أبوالعزائم رضي الله عنه:


لولا الذين تحبهم لفررت من كلِّ الخلائق سائحا فرَّارا
قلبى لديك وبالبرلس هيكلى أوصلْ إليك الصبَّ أعْلِ منَارا



فالصالحون هم الذين يؤجِّجون نار الغرام وهم الذين يُقوون الهيام وهم الذين يزيدون الوجد والإصطلام وهم الذين يُظهرون كمالات الحبيب المصطفى للأنام ، فلذلك تتردَّد عليهم الخلائق لأن التردُّد على الصالحين هو الذى يُجلى القلب من الدنيا والشهوات والحظوظ والأهواء والمستحسنات والمستلذات ، فالذى يجلى القلب من هذه الأمور مودَّة الصالحين والجلوس معهم

والذى يذهب للصالحين لابد أن يذهب وهو مسافر من الدنيا وذاهب إلى الآخرة ويترك كل أمور الدنيا وراء ظهره {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} آل عمران153

فيجد اليقين ويجد النور المبين ويجد معارج المقربين ويجد شراب الأرواح ويجد طلعة الكريم المنعم الفتاح ، يجد كل هذه النعم والمنن النورانية والإلهية فى حضرات الصالحين ، لكن الذى يذهب للصالحين ليأكل ويشرب فإنه يأكل فى بطنه ناراً ، لكن قبل أن تذهب للصالحين لابد أن تُعلى همتك من أجل الأنوار الراقية والمقامات السامية والمواجهات الراقية الموجودة فى هذه الحضرات ، لكن الطعام والشراب جعلوه من أجل الملاطفات والمؤانسات لأنه لو لم يكن الطعام والشراب فإن الذى يذهب إليهم لن يعود مرة أخرى للأنام لأنه سيشرب الراح ويترك الدنيا ، قال صلى الله عليه وسلم: {حُبِّبَ إليَّ مِنَ الدُّنْيا النساءُ والطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي في الصَّلاةِ}{3}
لماذا؟ حتى يظل بيننا

كثير من الصالحين عندما يعلو ويرتقى ويصبح فى الإلهانية يعود مرة أخرى إلى البشرية حتى يظل فى الحياة الوسطية التى نادى بها الله هذه الأُمة المحمدية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} البقرة143

فيُرَّد إلى الوسطية وإلا سيظل فى الإلهانية على الدوام وبالتالى لن ينتفع به الخلق ولا أحد من الأنام ، فجعل الله رياض الصالحين هى المقار التى يتم فيها تجهيز المقربين والمرادين لمواجهات سيد الأولين والآخرين ، فهى مراكز التدريب النورانية التى تُدرِّب القلوب التقية النقية وتؤهلها وتفتح لها الباب لمواجهة خير البرية ، وذلك لمن أخلصوا لله وطلبوا الله بصدق ويقين

لكن الذين يترددون على الصالحين ولو لسنين وهَمُّهُم طلب الدنيا والطعام والشراب فإنهم يضحكون على أنفسهم ، لكن الشراب المخصوص لا يخرج إلا لمخصوص ، وهذا المخصوص لا يوجد فى قلبه إلا الحبيب: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} الإنسان21

والربُّ هنا أى المُربِّى ، ووصف الشراب بأنه طهور لأنه يُطهر القلب من كل غين ومن كل غير ومن كل بعد ومن كل صدود ومن كل الشواغل ومن كل الأغيار حتى يُصبح هذا القلب مؤهلاً للأنوار:


من غيرنا فى عصرنا لا تُكشفن إلا لنا وبنا بسر الوالى


كيف نكون من العارفين والواصلين؟ قال الإمام أبوالعزائم رضي الله عنه:


سر الوصول إلى الجناب العالى حب النبى محمد والآل


ولكن هذا الحب ليس فيه شريك ولا هوى ولا نفس ولا شهوة زائلة ولا دنيا فانية ، لا يريدون إلا الحب الصادق رغبة فيما عند الله وطلباً لرضوان الله وقرباً لحَبيب الله ومُصطفاه صلى الله عليه وسلم :


ألا يا أخى بالحب ترقى وتُرفعن وبالزهد تُعطى ما له تتشوق


ونختم بسؤال جاءنا من أحد المحبين الذين يترددون على روضات الصالحين ليتعلم حقيقة وأسرار الصلاة على سيدنا رسول الله إذ قال السائل: أن السالك قد يعقد النيًّة أحياناً ويصلى على حضرة النبى صلى الله عليه وسلم لكى يراه ويتمتع برؤية طلعته البهيه ومحيَّاه ، ولكنه يرى شيخه فما تفسير ذلك؟

ونقول للمحبِّ السائل ولكل إخواننا وقرائنا الكرام: إعلموا إن الشيخ المربى هو صورة من صور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولذا فإن المصلى على رسول الله بنية أن يراه صلى الله عليه وسلم فإنه إن رأى شيخه فهو بذلك قد رأى صورة من صور رسول الله ، وذلك لأن صور رسول الله لا تحد ولا تعد ، وكل رجل من الصالحين على قدره صورة لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يوحى إليه وإنما يُلهم، لأن الإلهام مرتبة من مراتب الوحى


{1} صحيح مسلم عن أبى هريرة رضي الله عنه {2} صحيح مسلم {3} مسند الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه
[/frame]