[frame="7 10"]

بسم الله الرحمن الرحيم

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} الأحزاب21


جعل الله نموذجنا الذي نحتذيه في أفعالنا وفي سلوكياتنا وفي أخلاقنا وفي جميع أحوالنا هو رسولنا صلى الله عليه وسلم ، ولكي نعمل بهذه الآية حتى نكون من أهل العناية وجب علينا أن نعلم أحواله وأخلاقه وأفعاله وسلوكياته في كل أحيانه ، مع زوجه ومع أهله ومع أولاده ومع جيرانه ومع أعدائه ومع اليهود والنصارى المناوئين والمعارضين له

فنعلم حاله في الصلاة ونعلم هيئته في الزكاة ونتعلم كيفية صيامه لمولاه ، وكذلك كيف أدّى مناسك الحج ابتغاء وجه الله ونعلم كذلك كيفية نومه وأكله وشربه وجلوسه ووقوفه وكل شئ عنه صلوات الله وسلامه عليه ، فكل أحواله لازمة لنا جميعاً ، وواجب علينا أن نتعلمها ثم نعلمها لأبنائنا وبناتنا وزوجاتنا حتى نكون جميعاً كما قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ}

والحمد لله من عجيب صنع الله أنه لا يوجد رجل في الوجود من بدئه إلى نهايته ذكرت لنا كتب التاريخ والسِّير كل أحواله وهيئاته وأفعاله كما كان مع رسولكم الكريم صلوات الله وسلامه عليه ، فلم يترك الرواة والمؤرخون شيئاً في حياته إلا وذكروه وفصَّلوه وأسْهبوا في ذلك إسهاباً كبيراً فإن كانت المشاغل اجتاحتنا والأوقات التي كثر فيها اللعب واللهو اغتالتنا فإن ذلك لا يمنعنا من مطالعة سيرة نبينا صلى الله عليه وسلم

وقد قال سيدنا سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه عن حاله وحالة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم {كُنَّا نُعلِّم أبنائنا سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومغازيه (يعني غزواته) كما نُعلِّمهم السورة من القرآن} حتى كان الولد منهم وهو طفل صغير من شدة تعلقه برسول الله صلى الله عليه وسلم يستحضره في كل أوقاته وكأنه يراه

كما ذُكر عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه وهو طفل صغير ذهب إلى منزل خالته أم المؤمنين ميمونة بنت الحارث فرأى في المنزل مرآة فنظر فيها فرأى في هذه المرآة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنادى على خالته وقال: يا خالتي إنِّي أرى في هذه المرآة وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهل ترينه؟ وكانت هي لا تراه ، ولكنه من شدة استحضاره لما يسمعه عن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم هُيِّئ له أنه أمامه ينظر إليه ويراه في كل حركاته وسكناته

ونحن في هذا الوقت القصير لا نستطيع إتيان كل هذه الأحوال وكل هذه الأفعال لكننا نذكر نبذة مختصرة عن حاله في تعامله مع الآخرين لعلَّنا نتأسَّى به في حياتنا ونمشي على دربه إماماً لنا فنُخفّف من غَلْواء هذه الحياة على أنفسنا وعلى إخواننا أجمعين

فقد كان صلى الله عليه وسلم في تعامله مع إخوانه صُورة للأدب العالى قلَّما يجُود بها الله على أحد من الناس ، فقد كان صلى الله عليه وسلم يُحدِّث أصحابه ومن شدّة حياءه لا يستطيع أن يثبت بصره في عين أحدهم أثناء الحديث، حتى قالوا في شأنه صلى الله عليه وسلم {كَانَ أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ الْعَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا}{1} يعنى البنت البكر في خلوتها

وكان إذا تكلم يتكلم بترسّل وبصوت هادئ تقول فيه السيدة عائشة رضي الله عنها: {مَا كانَ رَسُولُ اللَّهِ يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا وَلَكِنَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِكَلاَمٍ يُبَيِّنُهُ فَصْلٌ يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إلَيْهِ}{2}

يكاد يعدّه العادّ لهدوءه وترتيب كلماته واتّضاح مخارجه ، حتى أنك إذا استمعت إليه لا يكاد يفوتك كلمة من كلماته ، وكان إذا تكلّم ينصت جُلساؤه ، وإذا تكلَّم أحد جلسائه أنصت حتى ينتهى حديثه وقد علّم أصحابه ذلك حتى لا يُقاطع بعضهم بعضاً ، ولا ينصرف مَنْ في المجلس إلى الأحاديث الجانبية فتصير غوغاء هذا يتحدث مع هذا ، وذاك مع ذاك

وكان إذا أراد أن يُفضي بسرّ إلى واحد منهم انتظر حتى ينفض المجلس ثم استدعاه وحدَّثه فيما بينه وبينه ، ويقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه مُعلِّماً: {إِذَا كُنْتُمْ ثَلاَثَةً فَلاَ يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ}{3}

فلو كنا ثلاثة نجلس مع بعضنا وأخذ اثنان منا يتكلمان مع بعضهما فقط ولا يُسمعان الثالث فإنه ربما يظن أنهم يتحدثون عنه أو أنهم لا يجدون فيه ثقة ليُسمعونه حديثهم فيحزن في نفسه ، وكان يقول لهم صلى الله عليه وسلم في نهاية المجلس: {الْمَجَالِسُ بِالأَمَانَةِ}{4}
يعنى المجلس الذي جلستموه لا تكشفوا سرّه ولا تخبروا بشأنه إلا إذا استأذنتم من الحاضرين والسامعين حرصاً على العلاقات بين المؤمنين أجمعين

وكان إذا جلس معهم يفوح عطره فلا يشم منه الحاضرين إلا أطيب ريح ، حتى كانت يده صلى الله عليه وسلم إذا وضعها في يد أحد يُشم العطر في يده لمدة طويلة وإذا وضعها على رأس غلام ، وسار هذا الغلام في مكان ، يقول من يشمّون رائحته إن النبي صلى الله عليه وسلم مشى في هذا المكان من شدة نفاذ رائحته صلى الله عليه وسلم ، ويقول للمؤمنين: {مَنْ أَكَلَ ثُوماً أَوْ بَصَلاً فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ}{5}

وليس للمسجد فقط بل أي مجلس من مجالس المؤمنين إذا جلس فيه الرجل المؤمن ، فلابد أن يغسل أسنانه بالسِّواك أو بمعجون الأسنان ولا يأكل النباتات الخبيثة ذوات الروائح الكريهة حتى لا يؤذي الحاضرين برائحة فمه تأسِّياً بسيّد الأولين والآخرين صلوات الله وسلامه عليه.

وكان مجلسه صلى الله عليه وسلم كما قيل فيه: {مجلس علم ورحمة ، لاتُؤبَّن فيه الحرمات ولا تُنْتهك فيه الأعراض} يعنى لاتذكر فيه الغيبة والنميمة ولا الوقيعة ولا السبّ والشّتم ولا المؤامرات ولا المخادعات أو ماشاكل ذلك

وكان صلى الله عليه وسلم إذا وضع يده في يد إنسان لا يسحب يده حتى يكون الرجل هو الذي يسحب يده ، وإذا نادى أصحابه يناديهم بأحب أسمائهم ويكنِّيهم بأكبر أبنائهم ، والذي حُرم من نعمة الولد كان يكنيه بأبي يحي تبشيراً له بأن الله قد يرزقه كما رزق سيدنا زكريا عليه السلام بعد أن بلغ ثمانين عاماً بغلامه يحي

آداب كثيرة لا نستطيع أن نُحيط بها ولكننا في أشدَّ الحاجة إليها في زماننا هذا


{1} رواه مسلم وابن حبان وابن ماجة عن أبي سعيد الخدري {2} أخرجه أبو داود وأحمد والنسائي
{3} رواه الشيخان ومالك عن ابن عمر، والشيخان ومالك أيضاً والترمذى وابن ماجة عن ابن مسعود
{4} رواه الديلمى والقضاعى والعسكرى عن علي ورواه أبو داود والعسكري أيضاً عن جابر بن عبد الله {5} رواه الشيخان عن ابن عمر

[/frame]