[frame="2 10"]

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا رجل فعل ما لم يفعله أحد ومن شدَّة خزيه من أفعاله أرسل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: يا نبي الله لم أترك ذنباً حرَّمه الله إلا وفعلته فقد زنيت وقتلت وشربت الخمر ولم أدع شيئاً حرَّمه الله إلا وفعلته فهل لي من توبة؟

هذا الرجل يسمى وَحْشي ، وهو الذي قتل في غزوة أحد سيدنا حمزة عم النبي والذي حزن عليه صلى الله عليه وسلم حزناً شديداً – فقال صلى الله عليه وسلم: نعم لك توبة ، فأرسل إلى رسول الله يقول: أريد آية صريحة فصيحة من كتاب الله تُعْلمني بقبول توبتي فنزل قول الله: {إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ} النساء48

فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم بالآية ، فلما تُليت عليه قال: إن هذه الآية فيها شرط وهو تعليق التوبة على مشيئة الله تعالى: {لِمَن يَشَاءُ} فإذا لم تقتضي مشيئة الله غفران ذنبي فيا ويلتي ماذا أفعل؟ أريد آية أصرح من هذه الآية ، فنزل قول الله: {مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} الفرقان70

فقال: ومن يضمن لي أن أعيش حتى أعمل عملاً صالحاً ربما يتداركني الموت بعد التوبة ولا أوفق للعمل الصالح أريد آية أرجى من هذه الآية فنزل قول الله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} الزمر53
فلما تليت عليه تاب وأناب

وإذا نظرنا في سيرة النبي الوهاب نجد عَرْضاً شاملاً لكل حالات المعاصي وكيفية علاجها والأخذ بناصية أصحابها ، وترك لنا هذا الميراث وجعل جميع المسلمين جامعيين أو أميين ، أطباء رحماء بالنيابة عن سيد المرسلين يقومون برسالة الهداية وردّ الخلق إلى رب العالمين في كل زمان ومكان

وإياك أن تعتقد أن رسالة الهداية على العلماء فقط لأن ديننا أهله كلهم حكماء وكلهم علماء وكلهم فقهاء ، وقد يهدي إنسان أمي رجلاً يعجز العلماء عن الأخذ بيده إلى طريق الله لأنه دخل إليه من الطريق الذي نبَّه إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فليست كل الهداية عن طريق العلم والبيان

لكن من الناس من يهتدي إلى الله برفقة أخ صالح في طريق الله ومنهم من يهتدي إلى الله بمعاملة تاجر صدوق مع الله ومنهم من يرجع إلى الله برجل يصنع البر لوجه الله - وإن كان فقيراً يحتاج إلى ما يُقيم به أوَدَه في هذه الحياة - فجعل الله لكل مسلم من الإسلام ميزة خصَّه بها يدعو بها الناس إلى الله ويستجيب له نفر جعل الله استجابتهم موقوفة على هذه الميزة التي وهبها له الله

وورد فى الأثر: {إذا تاب العبد المؤمن يقول الله تعالى بشرى يا ملائكتي فقد اصطلح عبدي معي افتحوا أبواب السموات لقبول توبته ولدخول أنفاس حضرته ، فلنفس العبد التائب عندي يا ملائكتي أعز من السموات والأراضين ومن فيهن}

إن أعظم حلاوة تقدمها لأهلك ولذوي رحمك ولجيرانك ولرفقائك في العمل في هذا الوقت الكريم أن تُذيق قلوبهم حلاوة الإيمان ، فالحلاوة التي يتذوقَّها الفم واللسان سهلة وموجودة في كل الأركان لكننا في عصرنا وفي هذه الأيام من زماننا في أمسَّ حاجة إلى حلاوة الإيمان ولا يتذوقها إلا القلب السليم الذي اختاره الله وجعله محِلاً لنوره عز وجل

واعلموا علم اليقين أن كل من قال لا إله إلا الله محمد رسول الله ولو كان من رأسه إلى أخمص قدميه يتمرَّغ في المعاصي إلا أن الله حينما اختار قلبه لنور الإيمان جعل فيه الذَّوْق الذي يتذوق به آيات القرآن وحديث النبي العدنان ، والذي يميل به إلى فعل الصالحات واستباق الخيرات ، وما انتابه مِنْ فَتَرات في عصره وأيامه يكون لمرض ألمَّ به نتيجة البعد عن الله والميل إلى معاصي الله

فإن الإنسان السَّوي الجسم يشعر بالمرارة والحلاوة وبالحموضة وباللَّسوعة لكنه إذا أصيب بالحمى وهذا مرض عارض يمرض فيه الذوق ، فتعطيه السكر فينبأك بأنه مُرّ لأن فمه في هذا الوقت مُرّ ، وكذلك المؤمن عندما يكون في معمعة المعاصي وفي أودية الغفلة عن الله يكون مريضاً لكنه مرض عارض ، أثناء هذا المرض قد لا يحسّ بحلاوة القرآن ولا يشعر بتذوق كلمات النبي العدنان، لكنه لا يدوم مرضه فإذا شفاه الله ولابد من ذلك فهنا يستطعم القرآن ويتذوق حديث النبي العدنان ويشعر للطاعات بأنوار بينات

وكم رأينا في مجتمعنا هذا من نماذج مازالت تعيش بيننا ونعرفها جميعاً من أناس كانوا في قمة المعاصي لا يتحجبن كنساء ، ولا يعرفن المساجد كرجال فهداهم الله فصرن مؤمنات ومؤمنين يحجون بيت الله ويعتمرون إلى حرم الله ويحافظون على الصلاة ويدعون غيرهم إلى طاعة الله لنعلم أن سر الإيمان المعجز موجود في كل قلب آمن بالله

إياك أن تصف مؤمناً بأنه ليس له توبة أو ليس له رجوع أو ليس له إنابة أو ليس له عودة إلى الله ، فإن الله لم يتفضل عليه بكلمة الإيمان إلا لاصطفاء خصَّه به الرحمن ، ولكن ربما تأخر عنه الزمان لكن سينكشف عنه في وقت: {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} ق22

فعلينا أن نبحث في هذه الأيام عن إخواننا الضالين والشاردين والتائهين الذين ضحك عليهم الشيطان وأخذتهم زخارف الدنيا وزينتها إلى حين ، فلا نحاول أن نردهم بل نرسل لهم بارقة الأمل ونعرِّفهم ونُعْلمهم أن الله في انتظارهم وأنه يشتاق إلى رجوعهم ويحنّ إلى توبتهم وأنه سيقابلهم بكل مغفرة وبكل رحمة وبكل خير وبكل برٍّ وبكل تكرمه ، قال صلى الله عليه وسلم: {حَببُوا اللَّهَ إِلَى عِبَادِهِ يُحِبُّكُمُ اللَّهُ}{1}

وورد فى الزهد لأحمد بن حنبل أن الله أوحى إلى داود: {إنك إن استنقذت هالكا من هلكته سميتك جهبذا}
(والجهبذ يعني العالم الكبير)


{1} عن أبى أمامامه رواه السيوطي في الجامع الصغير وللحديث رويات أخرى قريبة
[/frame]