بسم الله الرحمن الرحيم

عندما دخل جند رسول الله صلى الله عليه وسلم المدائن فاتحين ورأوا كنوز كسرى وهي لا حدّ لها ولا عدّ لها ولم يكن شيئاً قريباً منها أو يضاهيها ، لم تغرَّهم ببريقها ولم تخضعهم بوهجها ، ولذلك عندما قال لهم قائدهم:

ليؤدي كل واحد منكم أمانته ، أسرعوا إليه وكل واحد أحضر بين يديه ما عثر عليه حتى الذي وجد مِخْيطاً (إبرة) أحضره وتعفَّف عن أخذه وألقاه بين يدي القائد فكانت كنوزاً عجيبة وغريبة حملوها على ظهر الإبل ما يقرب من أربعة آلاف كيلومتر فكان أولها في المدينة المنورة وآخرها في بلاد فارس

فعندما وُجدت في مسجد رسول الله نظر إليها أصحاب رسول الله - وهم الحفاة العراة الذين لا يحصلون على ضرورة الحياة إلا بمشقة بالغة ولم يسمعوا عن السندس والاستبرق إلا من رسول الله في كتاب الله - تعجبوا من هذه العفة الإيمانية التي تخلَّق بها جند الله فقال سيدنا عمر رضي الله عنه: {إِنَّ أَقْوَامَاً أَدُّوا هذَا لَذَوُو أَمَانَةٍ ، فَقَالَ عَلِيٌّ رضي الله عنه: إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّت الرَّعِيَّةُ}{1}

هذه الأخلاق وهذه القيم هي التي بها يكون الإنسان إنساناً ، والتي بها يمتاز عن عالم الحيوان أما ما قد يحدث في عصرنا أن يفتخر الإنسان بأنه قد ضحك على أخيه فغشّه أو خدعه أو اختال زوجته أو افترس ابنته في غيبته فتلك الأخلاق تعفّ عنها الحيوانات لأنها لا تهبط إلى هذه الدرجة الدانية ، فالإنسان حقيقة لا يكون إنساناً إلا بصدقه وأمانته ومروءته وأخلاقه الكريمة التي أخذها من كتاب الله واهتدى فيها بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال رسول الله: {إِنَّـمَا بُعِثْتُ لأُتَـمِّـمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَق}{2}

وقال: {إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ}{3}

اعلموا علم اليقين أننا جميعاً مسافرون للدار الآخرة ، وقد كان الذي يجعل الناس في كل زمان ومكان ولا يزالون للآن يقعون في الذنوب والعصيان والجحود والنكران للحنان المنان هو نسيانهم يوم الحساب ونسيانهم يوم العرض على الله ، فلما جاء الإسلام وجاء نبي الإسلام علَّم الناس أن الدنيا دار ممر وأن الآخرة دار مقر ، وأننا في دار عمل لا حساب فيها ومقبلون على دار يحاسبنا الله فيها على النّقير والقطمير والقليل والكثير ، فكان ذلك الذي دعاهم إلى ترك الغي والقبيح ، والاتصاف بكل خلق جميل ومليح

صفتان أصلح بهما النبي صلى الله عليه وسلم الزمان والمكان ، ولا صلاح لأي زمان ولا لأي مكان إلا بهاتين الصفتين: الأولى أن يعلم الإنسان أن هناك إله يطلع على حركاته وسكناته ويعلم خفيَّات صدره ويسمع تمتمة لسانه ويرى كل غَدْرة ينظرها بعينه ويسمع كل لفظة ينطقها بلسانه ويُنصت إلى خلجات قلبه وإلى حركات سرِّه ويرى كل أفعال جوراحه وسيحاسبه على ذلك كله يوم لقائه

إذا اعتقد الإنسان هذه العقيدة وعلم أنه: {مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} المجادلة7

لو اعتقد هذه العقيدة ما طاوعته نفسه ولا أطاع نفسه في عصيان الله ، حتى أن الإمام علي رضي الله عنه وكرم الله وجهه وهو في حَوْمة الوغى وفي ميدان القتال ، نازله فارس من الكفار ومكثا يتصارعان حتى كُسر سيفيهما فأخذا يتصارعان بأيديهما حتى تمكن منه الإمام علي فحمله بيده وألقاه على ظهره وبرك فوقه وأخرج خِنْجره ليقضي عليه وإذا الرجل يتفل في وجهه ، فما كان من الإمام علي إلا أن تركه وقام

فتعجب الرجل وقال له: لم تركتني بعد أن تمكنت منِّي؟ فقال له رضي الله عنه: كنت أقاتلك لله أرجو رضاه وأبغي ثوابه ، فلما تفلت في وجهي خفت أن اقتلك انتقاماً لنفسي فأحرم رضاء الله ، فقال الرجل: وهل تراقبون الله في تلك المواطن؟ فقال رضي الله عنه: وفي أدقَّ منها

فالإنسان الذي يراقب الله في أعداء الله ، يراقب الله في الأرزاق حتى أن بعضهم من شدة مراقبته لله كان ينبض عرق من يده عندما تمتد يده للحرام حتى سُمِّي بالمحاسبي ، لأنه يحاسب نفسه إذا امتدت للحرام خوفاً من الملك العلام عز وجل ، هذه هي الدرجة العليا التي بها صلاح الزمان والمكان في أي زمان ومكان

والدرجة الأدنى منها أن يعتقد الإنسان تمام الاعتقاد أنه سيموت وبعد موته سيبعث ويحاسب على كل شئ ، فيا أخي المؤمن علِّم نفسك ودرّب نفسك ووطّن نفسك وعلِّم زوجك وأولادك ومن تعولهم أن يراقبوا الله ، وأن يعتقدوا فيما بعد الموت أن هناك حشر ونشر وحساب يسير على المؤمنين ، عسير على الجاحدين والكافرين ، وأن هناك حياة أبدية لا نهاية لها ، إما في نعيم مقيم وإما في عذاب مهين

بهذين الخصلتين تنصلح أحوالنا وينصلح مجتمعنا ، لأن الله وحده هو الذي بيده صلاح الحال وحده


{1} جامع المسانيد والمراسيل عن مخلد بن قيس الْعَجلي عن أَبيهِ {2} أحمر والخرائطي وأبو يعلى واللفظ له عن أبي هريرة {3} الدارمي والبيهقي في شعب الإيمان وأحمد عن أبي هريرة