بسم الله الرحمن الرحيم







( قصــــة ) ابــــــن الأفاضـــــل !
( القصة للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد )
( القصة للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد )
الأعين حين تفقد الحكمة تزدري .. والفراسة عملة النبهاء .. والساحات مهزلة حين تعج بالبلهاء .. وفي كل ألف قد نجد واحداَ هو ذلك الفطن اللبيب .. ذلك الحريص الذي يتخذ الحكمة بالتأني والتريث حتى يكتشف حقيقة الآخرين .. وأعين الناس دائماَ تتعجل الأحكام .. وفي أحكامها تقتدي بالمظاهر دون الجواهر .. والناس بأفعالها وليست بأشكالها .. والرجل في الحياة بمقدار العطاء وليس بمقدار الغطاء الذي يغطي الصورة يزيف من الطلاء .. والقصة هنا تحكي عن ذلك النمط المعهود حيث بديهيات الظن في الناس دون ذلك الحرص بالفحص والتنقيب .. فتلك الأحكام من البعض بمجرد الأوهام .. قصة فتية في بداية مشوار الحياة .. كانت تحدثهم الأنفس بأنهم على ذلك القدر في كشف أغوار النوايا .. وأحداث القصة بدأت ذات يوم حين توجهت مجموعة من الشباب بسيارتهم الخاصة في زيارة قصيرة إلى دولة مجاورة .. وقد سلكوا ذلك الطريق الذي يمثل الشريان بين الحدود والعمران .. طريق يشق متحدياَ تنوع الصحراء حيث الجبال حينا والوديان حينا والسهول حينا والواحات حيناَ ثم الكثبان الرملية أحياناَ .. والأسفار في الصحاري قد لا تخلو من نفحات الشقاء في بعض الحالات .. وقد تعكرت أمزجة الفتية حين تعطلت سيارتهم في قلب الصحراء .. فتلك الأقدار تلاحق حين تشاء وكيف تشاء .. فوجدوا أنفسهم وحيدين في منطقة تشتكي من ندرة الإنسان .. اجتهدوا كثيراَ في أصلاح العطل بالسيارة .. ولكن خابت المساعي وأبت تلك الآلة الحدباء أن تستجيب .. فانتظروا في ظلال الصبر على أمل الرحمة من السماء .. فمرت الساعات تلو الساعات وكأنها الدهور دون أية علامات تبشر بالفرج القريب .. وبدأ مخزون الزاد والماء يشتكي من الندرة والنفاذ .. فباتوا ليلتهم تلك في الأرض بجوار السيارة .. يفترشون الأرض فراشاَ ويلتحفون السماء لحافاَ .. رقدوا والأعين تنقب حزينة في آفاق السماء .. تعمق أحدهم بالنظر في أغوار السماء ثم أظهر تنهيدة حزن وقال : ( هذه تجربة ليلة تفقد مباهج الأحلام ) .. فرد عليه آخر قائلاَ : ( نم يا أخي فإن الصباح ربـاح ! ) .. وقد صدق رغم أن الرمية جاءت من قبيل المزاح .. فقد كان ذلك الصباح الرباح حين توقفت بالجوار سيارة صغيرة .. ثم نزل منها ذلك الإنسان .. كان قليل الحجم متواضع المظهر .. برئ الملامح .. رقيق المعاشر لطيف البشاشة .. تقدم إليهم يستفسر عن أحوالهم .. فقاموا يستقبلونه بشغف شديد .. فهو بالرغم من مظاهر التواضع وقلة الحجم يمثل ذلك الأمل الوحيد في تلك المحنة الصحراوية .. وبعد مراسيم السلام والتحيات توقف الرجل على حقيقة المحنة .. وعلم بقصة السيارة المعطلة .. فقدم إليهم المقدور المتاح من الزاد والماء .. ثم وعدهم جازماَ بأنه سوف يغيب لمدة ساعة واحدة فقط ليعود إليهم بالمدد والسند .. ثم انطلق بسيارته مبتعداَ واختفى في عمق الصحراء .. فقال أحدهم أراهنكم بعشرة ألف من الريالات بأنه لن يعود إطلاقاَ .. وقال آخر : أنت محق فأمثال هؤلاء عادة يتصيدون الفرص لينهبوا التائهين في الصحراء من أمثالنا .. وحين يقدمون العون والمساعدة فلا يفعلون إلا لحاجة في نفس يعقوب .. ولا بد أن ينالوا الأضعاف بالمقابل .. ومرت الدقائق والدقائق ثم دارت الساعة .. فإذا بالرجل ومعه مجموعة من السيارات التي تحمل الزاد والمشروبات الباردة والساخنة .. ثم مجموعة من رجال الصيانة الذين يجيدون التعامل مع أعطال السيارات .. وفي دقائق قليلة تمكن هؤلاء من إصلاح السيارة .. وبعد أن أصبحت الأمور على ما يرام .. تقدم إليهم ذلك الرجل الشهم النبيل يسألهم إذا كانوا يريدون أية مساعدات أو خدمات أخرى .. ولكنهم كانوا زمرة ضحلة التفكير ضعيفة الحسابات .. زمرة مازالت على تلك السجية الطفولية الفجة .. تهامسوا بينهم .. ثم بعد ذلك بإيعاز من الآخرين انفرد أحدهم بالرجل بعيداَ يسأله كم يريد من المال في مقابل تلك الخدمات والمساعدات التي قدمها لهم .. فنظر ذلك الرجل الشهم الكريم إلى الأرض لدقائق .. ثم سكت ولم ينطق بحرف واحد .. ولكنه أشار لجماعته بالرحيل فوراَ والعودة من حيث أتوا .. فتحركت السيارات وفي دقائق معدودة أصبحت المنطقة خالية كعهدها .. وقد اختفى الرجل مع فرقته في عمق الصحراء .. فوجد الشباب أنفسهم وحيدين عند حافة الطريق مرة أخرى .. والأحداث التي جرت كأنها أحلام كابوس تلاشت عندما أفاقوا من النوم .. تلك الحالة المربكة التي أدخلت الشباب في ذهول واستغراب .. ولكنهم اعتبروا تلك الأحداث مجرد صدفة من صدف الأشياء التي قد تصيب مسارات الحياة .. ثم واصلوا مشوار رحلتهم .. وفي الطريق كانوا يلتمسون تلك اليافطات التحذيرية الكثيرة التي تنبه بضرورة توخي الحذر من ظهور الإبل فجأة في الطريق .. وبعد مسافة وجدوا معسكراَ فيه الآلاف من الإبل .. فتوقفوا عند ذلك المعسكر .. فاستقبلهم العاملون بالمعسكر بمنتهى الحفاوة والتكريم .. ولما سألوا عن المعسكر قالوا ذاك معسكر من عشرات المعسكرات لسعية ( ابن الأفاضل ) .. مكثوا قليلاَ بالمعسكر ثم واصلوا المشوار .. وفي الطريق كانت اليافطات هنا وهنالك تتحدث عن ممتلكات ابن الأفاضل .. الكثير من المصانع والكثير من المزارع .. والكثير من معسكرات الإبل والأنعام والنعام .. وسار بهم الدرب حتى وصلوا عاصمة البلاد .. تلك العاصمة التي تعج بالأهواء وتعج بالمسرات .. كما تعج بساحات الفضيلة وبيوت العبادة .. وكل متجه إليها يجد المراغم والمغانم حسب المرام وحسب المقاصد .. فتلك المقاصد قد تشتهي الأهواء وتروم الشهوات والنزوات .. كما أن تلك المقاصد قد تشتهي الخيرات كما تشتهي العبادات والصلوات .. وكل نفس بما كسبت رهينة .. فتلك السفريات والهجرات خلفها الكثير من النوايا والخبايا .. والأعمال بالنيات .. وهؤلاء الشباب قد نالوا في تلك المدينة ذلك القدر من مباهج اللهو ومغريات الأهواء .. وقد قدموا إليها من أجل ذلك .. ثم كان الإسراف منهم في متاهات الطيش والسكر والعربدة .. ذلك الإسراف الذي أوقعهم في عراك مع أصحاب الفندق الذي يقيمون فيه .. فقاموا بتحطيم الكثير من موجودات الفندق وأثاثاتها الفخمة .. وتم التبليغ عنهم لدى الشرطة المحلية .. وعندها أصبحوا أسرى في أيدي السلطات والقانون .. فمكثوا في الحبس لمدة ثلاثة أيام .. ثم أطلق سراحهم بعد أن تم حجز السيارة والأوراق الثبوتية لحين المحاكمة .. فدخلوا في حيرة من أمرهم .. وهم في بلاد غير بلادهم ولا يعرفون أحداَ في تلك الديار .. ولما اشتدت عليهم المجريات كانت نصيحة الناس لهم بأن يلتمسوا السند والفرج عن طريق ( ابن الأفاضل ) .. وفي تلك اللحظة فقط استدركوا أهمية ذلك الاسم الذي ينازع بالشهرة الكبيرة .. فبدئوا يسألون عن مكان تواجد صاحب الاسم .. فقيل لهم أن ابن الأفاضل يستقبل الناس في مكتبه يومياَ للمساعدات الضرورية .. ثم أشاروا إليهم بعنوان مكتب ابن الأفاضل .. فذهبوا إلى هنالك .. وكانت الدهشة حين وجدوا الصفوف الطويلة من الذين يودون مقابلة ابن الأفاضل .. وعندما تقدموا للتسجيل والدخول قيل لهم أن المجال غير متاح لهم إلا بعد أسبوع بالتمام والكمال .. وعلى مضض سجلوا الأسماء ليكونوا في حضرة ابن الأفاضل بعد أسبوع .. ثم مرت أيام الأسبوع كالحة حزينة عليهم .. وكانوا دائماَ يتساءلون بينهم عن ذلك الرجل الذي يدعى ( ابن الأفاضل ) .. المشهور بذلك القدر من الشهرة والصيت والمكانة ؟.. وأعدوا العدة ليوم لقاءه بتجهيز أفخم الملابس حتى يكونوا بذلك المقدار الذي يليق بمقام ابن الأفاضل عند المقابلة .. وعندما جاء دورهم ونادى المنادي بالأسماء دخلوا على ابن الأفاضل .. فكانت المفاجأة الكبرى حين وجدوا أن ذلك الرجل ( ابن الأفاضل ) هو نفس الرجل المتواضع صاحب السيارة الصغيرة الذي ساندهم في قلب الصحراء .. لحظات ساد فيها الصمت والوجوم .. وجرت الحيرة في نفوس الشباب .. وحين التقت أعينهم بأعين ابن الأفاضل مالت هاماتهم إلى الأرض خجلاَ .. سكتوا ولم يأتوا بحرف واحد .. ولكن حينها تكلم ابن الأفاضل وقد أجاد الكلام .. فقال لهم : أهلاَ بالضيوف الكرام .. ماذا لديكم ؟؟ .. تكلموا وأفصحوا بمكنونات الصدور حتى نقدم لكم السند المستطاع .. فتحدثوا عن محنتهم بإيجاز مقرون بالحياء .. فرفع الرجل سماعة التلفون وتحدث مع أحدهم .. ثم أفادهم بأن جلسة المحاكمة سوف تكون بعد يومين وطمئنهم بأنه سيكون حاضراَ بالجوار .. ويوم الجلسة كان الرجل حاضراَ في قاعة المحكمة .. وكان حكم القاضي الذي أوجز الحكم قائلاَ أن الأدلة والبراهين ثابتة لا تقبل التداول والنقاش .. وأن الجزاء يتعلق بشقين .. الحق المادي لأصحاب الحق .. وحسب التقديرات فإن الخسائر التي لحقت بالأثاث الفخمة للفندق قد قدرت بمبلغ الثلاثمائة ألف ريال .. أما الحق الجنائي فالسجن لمدة ثلاثة أشهر مع الأشغال الشاقة .. فتقدم ابن الأفاضل للقاضي بورقة يلتمس فيها الرحمة في الجانب الجنائي .. وأنه مستعد بأن يتكفل الجانب المادي الذي يغطي الخسائر .. فقرأ القاضي ورقة الالتماس المقدمة من ابن الأفاضل ثم قال : أن مقام ابن الأفاضل وخدماته الجليلة التي يقدمها لوطنه ولأهل وطنه يجعلنا بكل فخر أن نتنازل عن ذلك الحق الجنائي ونكتفي فقط بالجانب التعويضي لأصحاب الحق .. وهكذا أسدل ستار القضية وتمت تسوية الأمور .. وقد مثلت كلمات القاضي برداً وسلاماَ على فتية عاشت لحظاتها الأخيرة في جحيم .. كما مثلت تلك النقطة تحولاَ كبيراَ في مفاهيم هؤلاء الشباب الذين كانوا يتوهمون المقدرات العقلية على فهم الأمور .. وعلى فهم أوزان الآخرين .. فإذا بالتجربة تؤكد لهم بأنهم ما زالوا في بداية المشوار .. وأن الحياة بأسرارها وبرجالها .

( القصة للكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد )
ـــــــــ

الكاتب السوداني / عمر عيسى محمد أحمد