إنجازات علمية كثيرة بدت بسيطة في وقتها (وربما كانت كذلك بالفعل) قبل أن تتضح نتائجها العظيمة لاحقا (ولهذا السبب يبدو العباقرة وكأنهم ولدوا قبل عصرهم)..

مازلت أذكر قصة العالم البريطاني مايكل فارادي الذي كان مغرما بالكهرباء وعلاقتها بالقوى المغناطيسية. وذات ليلة صرخ على زوجته بأعلى صوته طالبا منها الحضور الى المختبر.. وحين وصلت بملابس المطبخ قال لها انظري لهذه الإبرة كيف أصبحت تدور.. رمقته بنظرة حادة وهي تحمل ملعقة ضخمة وقالت: ألهذا ناديتني، ألا تعلم أنني تركت الدجاجة في الفرن اعتقادا أن مكروها وقع لك..

ولكن فارادي كان حينها قد اكتشف مبدأ "المحرك الكهربائي" الذي يُسير اليوم اختراعات وأجهزة لا يمكن إحصاؤها.. ومحركه هذا يمكنه أن يولد (بصورة معاكسة) الطاقة الكهربائية حين يدار بقوى خارجية كالتوربينات الهوائية والسدود المائية - ولا تخفى عليكم أهمية توليد الكهرباء في حياتنا المعاصرة!

.. خذ كمثال آخر عالم الكيمياء الروسي مندليف الذي وضع الجدول الدوري للمواد (الذي لم يكن حينها بهذا الازدحام والتعقيد).. وكان هدفه حينها بسيطا ومتواضعا ولا يهدف لأكثر من وضع ترتيب يمكن لغير المتخصصين فهمه.. ولكنه في الحقيقة قام بأكثر من ذلك كون ترتيب العناصر الكيميائية (بحسب أوزانها الذرية) أتاح لعلماء الكيمياء التنبؤ بوجود عناصر أخرى مجهولة اكتشف معظمها بعد وفاته عام 1907!!

وما قدمه مندليف في نظري أعظم بكثير من مجرد ترتيب للعناصر الكيميائية.. فقد قدم دليلا يؤكد عدم وجود العشوائية أو الأحداث الاعتباطية فيما يحدث حولنا.. نبهنا الى احتمال وجود مظاهر طبيعية كثيرة تترتب في نمط رياضي ذكي أو تتكرر بطريقة دورية مقصودة..

خذ كمثال ثالث المفكر الانجليزي روبرت مالتس الذي أشار عام 1798 إلى أن البشر يتناسلون بمتوالية هندسية (64,32,16,4,2) في حين تتزايد غلات الأرض بمتوالية حسابية فقط (4,3,2,1) ما يهدد بحتمية ظهور المجاعات عند مستوى معين من الافتراق، واتضح اليوم أن مبدأه كان صحيحا إلى حد كبير ويصلح للتطبيق على أي متواليتين حسابية وهندسية تربطهما علاقة..

.. أما أكثر المتواليات تكرارا ولفتا للانتباه فتلك التي اكتشفها عالم الرياضيات الايطالي فيبوناسشي في القرن الثاني عشر، وهي متوالية تعتمد على حقيقة ان (ثالث رقم فيها) يساوي حاصل جمع (الرقمين السابقين له) كما يتضح من المثال التالي: (987.610.377.233.144.89.55.34.21.13.8.5.3.2.1)

هذا التسلسل العجيب نلاحظه في معظم المظاهر الطبيعية حولنا من توزع بتلات الأزهار ونمو أوراق الأشجار إلى تقسيمات المحار وتناسل الفئران والأرانب.. فلو أطلقت مثلا أرنبين في مزرعة سيقضيان أول شهر في الحقل كزوج واحد، ثم يصبحان زوجين في بداية الشهر الثاني, ثم 3و5و8و13و21 و43 مع بداية كل شهر جديد!!

.. هذه المتوالية (الفيبوناسشية) تتكرر في معظم النباتات والكائنات الحية لدرجة جعلت العلماء يلجأون إليها لاستنتاج المظاهر المرضية المعقدة (كمعدل نمو الخلايا السرطانية) والظواهر الفلكية البعيدة (كعدد النجوم والكواكب البعيدة) أو الدورات الاقتصادية (حيث نسمع اسمه كثيرا في سوق الأسهم) أو حتى المظاهر الاجتماعية المتوقعة (كمعدل توالد المنظمات المتطرفة في ظل الثقافات العربية المتشددة)!


.. من المؤسف أن ينتهي المقال قبل أن نتحدث بعد عن أعاجيب اللوغاريتمات في الرياضيات، أو الليزر الذي وصف وقت اكتشافه بالانجاز الذي يبحث عن "اختراعات"!!

من الكاتب فهد عامر الاحمدي.
زاوية حول العالم.
جريدة الرياض.