المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجوع كافر



vireri.9
13-09-2002, 07:43 AM
الجوع كافر


--------------------------------------------------------------------------------

- 1 -

جلس مرزوق القرفصاء في البرد القارس ، وعيناه الجاحظتان أغنية حزينة . معدته خاوية منذ أيام ينتظر لقمة حتى لو كانت من جنس الفضلات . في الحقيقة لم يعرف مرزوق نكهة للطعام منذ زمن طويل ، كل ما هناك رطوبة يسبح في جداولها ، ورائحة كريهة تنبعث من جسده النتن وتخنقه . سكان الحي غالبا ما يستهزأون منه بقولهم

ألم تكف بعد عن ممارسة اليوغا ؟ يقينا أنك ستموت على هذا الوضع يا مرزوق

ومع اقتراب كل وجبة طعام تزداد ضربات قلبه ، ويزداد لهاثه المجنون عند رؤيته لأي قطعة طعام . يعيش على أمل أن ينتشل جوعه فاعل خير مهما بلغت درجة حقارته ، ليعطيه أي شيء يمكن أن يحرك فكيه المضرب عن الحركة قسرا . أحيانا كثيرة تمنى لو خلق حيوانا يستطيع اجترار طعام الطفولة

مرزوق يتوجع ، والجوع كافر لايرحم . طرق كل الأبواب بوجه تلونت اشكاله بحثا عن وظيفة . لم يفكر في نوعيتها ، المهم لاتجعله يستجدي اللقمة . في كل مرة يرجع خائباً ، ومنبوذا . مزيد من الأبواب الموصدة ، واتهامات خطيرة تنهال عليه ، كتلك التي اتهمته بالسبب في الازمة الأقتصادية المتفاقمة

عندما يمشي مرزوق ينسى نفسه ، ويؤتي بحركات غريبة رغما عنه . أحيانا يحرك جسمه بطريقة كاريكتيرية مضحكة ، وأحيانا يضرب الجدران بقبضة يده ، ودائما يكلم الأرض من تحته في طريقه . ولم تبخل عليه الأرض بالرد ، طلبت منه أن لايحزن كثيرا . هي أيضا يحكم عليها بظروف أقسى . هي أحيانا يفترسها العطش ، وتتألم للحصول على قطرة ماء . تقتل جذورها في اعماقها ، لا لتموت ، بل لتعيش . تطرد الدخلاء بلا تفكير ، لا ليس بخلا ، ولكنها ضرورة الحياة. تطلب الأرض منه الانتظار - كما في حالتها - الذي قد يطول ، وتواسيه برحمة الله الواسعة التي تأتي بالمطر ، وتذهب ريح الأحزان . عش للأمل يا مرزوق ولاتيأس من رحمة الله . بصق مرزوق على الأرض الحالمة ، فهي تستطيع التحمل ، وهو يستحيل أن يفض الاشتباك الناشب في مصارينه المتصارعة

رفع مرزوق رأسه قليلا ، وعلى امتداد نظره رأى من بعيد نافذة علوية ينبثق منها ضوء خافت. لاحظ مرزوق انها تبقى مضاءة حتى ساعة متأخرة من الليل . ولما تعب من التحديق الأبله نام كطفل مشاغب يلتحف السماء الحنونة . نام القرفصاء أيضا كي لايفترسه الجوع فيستيقظ في الصباح ولايجد نفسه



- 2 -

في ذلك اليوم لم يغالب النعاس جفون مرزوق ، بعد أن رافقته السوائل اسبوعا طويلا . تجمد في موقعه على الرصيف القذر . استوطنته العفونة في كل الأوقات . كل المحاولات الطيبة ، والماكرة فشلت بامتياز للحصول على طعام

نظر مرزوق الى النافذة المضيئة . نظرة أخرى خبيثة . خاطبه ضميره " السرقة حرام " ، وأجابه عقله "ولكن الجوع كافر". هو الآن غير متوضأ . تركبه الجنابة منذ ذلك اليوم الذي مارس فيه العادة السرية متخيلا الساق العاري للفتاة الأجنبية التي مرت من امامه . لايستطيع مرزوق أن ينام . يريد مرزوق أن يصرخ .. ايها العالم الوحشي لماذا وضعت الضمير في مجاري قذارتك ؟ ينظر مرزوق للاعلان الكبير الذي بقربه عن الشاي السيلاني الممتاز ، وأتته رغبة عارمة لارتشافه ثم التدخين بشراهة . تراجع مرزوق عن هذه الأمنية خوفا من أن يلفظ نفسه مع الدخان

نظر مرزوق الى النافذة بحسم هذه المرة . رأى شبحا يتحرك في انحاء الغرفة . تجاهل ما شاهده، وقرر المضي قدما في تنفيذ مخططه الشرير . تسلل مرزوق في الأجزاء المظلمة من الزقاق . حفيف الآشجار يقلقه ، وكذلك أصوات نباح الكلاب المتقطعة. كغزالة رشيقة وصل مرزوق الى المكان المقصود، شقة في الطابق الرابع . النافذة لاتزال مضيئة رغم أن الساعة تجاوزت الثانية صباحا

الباب موصد بالتأكيد ولايوجد منفذ أخر في الطابق الأرضي. لأول مرة يفكر مرزوق . وجدها أخيرا. أنابيب المياه التي تسلقها بخفة ورشاقة ، مستفيدا من خفة وزنه الناشئة من جوعه المزمن. فكر مرزوق بخبث " الجوع مفيد في بعض الأحيان " . لحسن حظه هناك منفذ مكيف الهواء الشاغر ، وخمن ان حظه في قمته لأن المكيف في حالة صيانة على ما يبدو . دخل مرزوق بحذر ولم ينسى أن يمتن للجوع الذي مكنه من الدخول بسهولة . لم يجد مرزوق أحدا في هذه الغرفة التي هي بالتأكيد غرفة النوم . اختبىء في خزانة الملابس عندما سمع خطوات قادمة ، وأقفلها عليه ، وعلى خوفه . تجمد في مكانه عندما وجد نفسه وجها لوجه مع امرأة فاتنة بملابس داخلية . يد مرزوق النحيفة منعت في التو استغاثة عاجلة



- 3 -

أصبح الخوف قاسما مشتركا . قواسم أخرى بدأت في الطفو ، اللهاث ، الريبة ، الحذر ، وحتى محاولة الصراخ. قيد مرزوق المرأة وجلس أمامها لايدري ماذا يفعل . المرأة الفاتنة أمامه شبه عارية ، وبكامل حسنها الآخاذ . قام راكضا نحوها بسرعة . أغلقت المرأة كل المعابر استعدادا للمقاومة . ارتمى مرزوق عليها وغطى جسدها بالمفرش حتى رقبتها ، ثم عاد الى مكانه والعرق يغسل وجهه

أين المطبخ ؟ تكلمي بسرعة

لقد نسى مرزوق من فرط خوفه أنه كمم فمها . تسلل من غرفة النوم الى باقي البيت بحذر . الشقة فخمة جدا . أهتدى الى المطبخ . انه عامر حقا بما يتمناه ويشتهيه. سال لعابه ، وحمل معه أطباق من كل الأصناف ، سلطات ، لحوم متنوعة ، مشروبات ، وحتى الخمرة التي لم يذقها قط في حياته . كوم الأطعمة أمامه وجلس يلتهمها في لهفة ، بدون أن يتذوق طعمها . المرأة تراقبه بذهول . تجشأ مرزوق للمرة المليون

لاتؤاخذيني يا سيدتي . انه الجوع المارد . هل تعلمين ان البيت الأزرق في الركن المقابل يرمون بطعام كثير في صندوق القمامة . سجنت عدة مرات - بحجة السرقة - لأنني كنت أحاول أخذ الطعام قبل القطط ، وسيارة البلدية

يرمي مرزوق ببقية الطعام ، ويسرح بعيدا . ربما أيقظته ذكريات الأيام الأليمة من رغوة الحلم الذي يعيشه الآن . ثم واصل حديثه الحزين

كنت ابحث عن لقمة أطفأ بها لهيب الجوع في النفايات ، وكففت عن هذه العادة عندما أصبت بالتسمم وأدخلت المستشفى الحكومي . وهناك تمنيت ان لاأخرج . مأوى صحي ، ومعاملة حسنة ، وطعام نظيف يأتي في موعده والغاية سرير يزيل التعب . وهناك يا سيدتي لم يرحمونني أيضا ، ألقوا بي خارجا عندما تعمدت اطالة مدة البقاء . كدت أرجع للقمامة ولكنني تراجعت خوفا من تهديدهم الجاد لي بعدم استقبالي مرة أخرى

هل تعلمين يا سيدتي بأنني تقدمت مرارا لمجلس البلدية باقتراح غير مكلف . لجنة صغيرة مهمتها جمع الأكل الفائض من المقتدرين والراغبين ، ومن ثم توزيعه على الفقراء والمحتاجين . لكنهم طردوني ، وبرروا موقفهم السلبي بان اقتراحي من شأنه تفشي البطالة، وأن أغلبية المحتاجين ينظرون على انها طريقة مهينة للاحسان

قام مرزوق من مكانه بصعوبة وتوجه للمرأة المقيدة والممدة على السرير . اقترب منها وانحنى ببطء . تكلم الخوف في عينيها . وبهدوء شديد حل مرزوق وثاقها ، ونزع المنديل الذي يكمم فمها ، ثم قال باعياء شديد بسبب كثرة الأكل

- تستطيعين الصراخ الآن يا سيدتي فأنا لست بمغتصب أو لص . كل ما في الأمر أنني انسان جائع يسعى لأن لاينتهي

توجه مرزوق للمنفذ الذي دخل منه ليرجع ثانية للرصيف الذي افتقده . أتخمه الطعام ولم يستطع المرور . رجع للمرأة خائبا . كان حزينا الى درجة فظيعة لأنه أدرك انه يجب أن يعود نحيفا ، وجائعا

" النهاية "

ما رأيك في القصة؟

كيف وجدت الأحداث وما هو تقييمك للأسلوب وطريقة إختيار الشخصيات؟ ما هي السلبيات والإيجابيات؟ هل أستحقت وقتك؟ وأشياء أخرى تجدها مناسبة للتقييم ،،