المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : النظام الإقتصادي



rajaab
16-05-2005, 01:40 PM
http://www.sawtalummah.com/sawtalummah2/bk3-nidham_al_iqtisaad_fey_islam.pdf (http://www.sawtalummah.com/sawtalummah2/bk3-nidham_al_iqtisaad_fey_islam.pdf)

سهم الاسلام
17-05-2005, 12:25 AM
السلام عليكم

بارك الله فيك ,,
أفضل أن تنقل ما بداخل الرابط ,, و ذلك لأن الرابط محجوب في بلدنا أي مغلق

و شكراً ,

rajaab
19-05-2005, 04:18 PM
تقي الدين النبَهاني



النظام الاقتصادي

فـي


الإســـــــــــــــــــــلام










الطبعة الثانية














بسم الله الرحمن الرحيم



) وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة
ولا تنسَ نصيبك من الدنيا
وأحسن كما أحسن الله إليك
ولا تَبغِ الفساد في الأرض
إن اللــــــــه لا يحــــب المفسـدين (






بسم الله الرحمن الرحيم




مقدمــــــة



إن الأفكار في أية أمة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها إن كانت أمة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفكر المستنير.

أما الثروة المادية، والاكتشافات العلمية، والمخترعات الصناعية، وما شاكل ذلك فإن مكانها دون الأفكار بكثير، بل إنه يتوقف الوصول إليها على الأفكار، ويتوقف الاحتفاظ بها على الأفكار.

فإذا دُمِّرت ثروة الأمة المادية فسرعان ما يمكن تجديدها، ما دامت الأمة محتفظة بثروتها الفكرية. أما إذا تداعت الثروة الفكرية، وظلت الأمة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة، وترتدّ الأمّة إلى حالة الفقر. كما أن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها. أما إذا فقدت طريقة التفكير المنتجة فسرعان ما ترتد إلى الوراء وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات. ومن هنا كان لا بد من الحرص على الأفكار أولاً. وعلى أساس هذه الأفكار، وحسب طريقة التفكير المنتِجة تُكسب الثروة المادية، ويُسعى للوصول إلى المكتشفات العلمية والاختراعات الصناعية وما شاكلها.

والمراد بالأفكار هو وجود عملية التفكير عند الأمة في وقائع حياتها ، بأن يَستعمل أفرادها في جملتهم ما لديهم من معلومات عند الإحساس بالوقائع للحكم على هذه الوقائع، أي أن تكون لديهم أفكار يبدعون باستعمالها في الحياة. فينتج عندهم من تكرار استعمالها بنجاح، طريقة تفكير منتجة.

والأمة الإسلامية اليوم تعتبر فاقدة الأفكار، فهي طبيعياً فاقدة لطريقة التفكير المنتجة. فالجيل الحاضر لم يتسلم من سلفه أية أفكار إسلامية، ولا أفكاراً غير إسلامية، وبالطبع لم يتسلم طريقة تفكير منتِجة. ولم يكسب هو أفكاراً، ولا طريقة تفكير منتجة. ولذلك كان طبيعيةً أن يُرى في حالة الفقر رغم توفر الثروات المادية في بلاده، وأن يُرى في حالة فقدان للاكتشافات العلمية والمخترعات الصناعية رغم دراسته نظرياً لهذه الاكتشافات والمخترعات وسماعه بها ومشاهدته لها. لأنه لا يمكن أن يندفع إليها اندفاعاً منتجاً إلا إذا كان يملك طريقة تفكير منتجة، أي إلا إذا كانت لديه أفكار يبدع في استعمالها في الحياة. ومن هنا كان من المحتم على المسلمين أن يوجِدوا لديهم أفكاراً وطريقة تفكير منتجة، ثم على أساسها يمكن أن يسيروا في اكتساب الثروة المادية، وأن يكتشفوا الحقائق العلمية، ويقوموا بالاختراعات الصناعية. وما لم يفعلوا ذلك لا يمكن أن يتقدموا خطوة، وسيظلون يدورون في حلقة مفرغة، يفرغون في دورانهم مخزون جهدهم العقلي والجسمي، ثم ينتهون إلى حيث ابتدءوا.

وهذا الجيل من الأمة الإسلامية ليس معتنقاً أفكاراً مضادة للفكر الذي يراد إيجاده لديه حتى يدرِك هذا الفكر الذي يعطى له، ويجري الاصطدام بين الفكرين فيهتدي من هذا الاصطدام إلى الفكر الصواب، وإنما هو خالٍ من كل فكر من الأفكار ومن أي طريقة من طرق التفكير المنتجة، فهو قد ورث الأفكار الإسلامية باعتبارها فلسفة خيالية، تماماً كما يرث اليوم اليونان فلسفة أرسطو وأفلاطون. وورث الإسلام باعتباره طقوساً وشعائر للتدين، كما يرث النصارى دين النصرانية. وهو في نفس الوقت عشق الأفكار الرأسمالية من مجرد مشاهدته نجاحها لا من إدراكه لواقع هذه الأفكار، ومن خضوعه لتطبيق أحكامها عليه، لا من إدراك انبثاق هذه المعالجات عن وجهة النظر الرأسمالية للحياة. ولذلك بات خالياً من الأفكار الرأسمالية تفكيرياً، وإن كان يخوض غمار الحياة على منهجها، وأضحى خالياً من الأفكار الإسلامية عملياً، وإن كان يتدين بالإسلام ويدرس أفكاره.

أما ميله للأفكار فقد جاوز محاولة التوفيق بين الإسلام وبين الأحكام والمعالجات الرأسمالية، ووصل إلى حد الشعور بعجز الإسلام عن إيجاد معالجات لمشاكل الحياة المتجددة، والشعور بضرورة أخذ الأحكام والمعالجات الرأسمالية كما هي دون حاجة إلى التوفيق، ولا يرى ضيراً في ترك أحكام الإسلام وأخْذ غيرها من الأحكام ليتمكن من السير قدماً في معترك الحياة مع العالم المتمدن ويلحق بقافلة الأمم الرأسمالية أو الشعوب التي تطبق الاشتراكية وتسير نحو الشيوعية باعتبارها في نظره الشعوب الراقية. وأمّا البقية الباقية من المتمسكين بالإسلام فلديهم نفس الميل للأفكار الرأسمالية ولكنهم لا يزالون يأملون بإمكانية التوفيق بينها وبين الإسلام. غير أن هؤلاء المحاولين للتوفيق بين الإسلام وغيره لا أثر لهم في معترك الحياة ولا وجود لهم في المجتمع –أي في العلاقات الدائرة فعلاً بين الناس.

ومن هنا كان إعطاء الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية لمعالجة مشاكل الحياة يصطدم بعقول خالية من الفكر ومن طريقة التفكير، ويصطدم بميول للأفكار الرأسمالية أو الاشتراكية لدى الجميع، كما يصطدم بواقع الحياة العملية وهو يتحكم فيها النظام الرأسمالي، فما لم يكن الفكر قوياً إلى درجة إحداث رجّة في النفوس والعقول فإنه لا يمكن أن يهز الناس، بل لا يمكن أن يصل إلى حالة تَلفت النظر، لأنّ على هذا الفكر أن يَحمل هذه العقول الخاملة الضحلة على التعمق في التفكير وأن يهز الميول المنحرفة والأذواق المريضة حتى يوجِد الميل الصادق للأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية.

ومن هنا كان لزاماً على حامل الدعوة للإسلام أن يتعرض للأسس التي تقوم عليها الأحكام والمعالجات الرأسمالية، فيبين زيفها ويقوضها، وأن يعمد إلى وقائع الحياة المتجددة المتعددة فيبين علاج الإسلام لها باعتباره أحكاماً شرعية تكتسب وجوب الأخذ بها من حيث كونها أحكاماً شرعية مستنبَطة من الكتاب والسنّة أو مما أرشد إليه الكتاب والسنّة من أدلة، لا من حيث صلاحيتها للعصر أو عدم صلاحيتها؛ أي يبين وجوب أخذها عقائدياً لا مصلحياً، فيعمد في إعطاء الحكم إلى بيان دليله الشرعي الذي استُنبط منه أو إلى تعليله بالعلة الشرعية التي ورد بها أو يمثلها النص الشرعي.

وإن من أعظم ما فُتِن فيه المسلمون وأشد ما يعانونه من بلاء في واقع حياتهم الأفكار المتعلقة بالحكم والأفكار المتعلقة بالاقتصاد، فهي من أكثر الأفكار التي وَجدت قبول ترحيب لدى المسلمين، ومن أكثر الأفكار التي يحاول الغرب تطبيقها عملياً ويسهر على تطبيقها في دأب متواصل. وإذا كانت الأمّة الإسلامية تُحكم على صورة النظام الديمقراطي شكلياً عن تعمّد من الكافر المستعمر ليتمكن من حماية استعماره ونظامه، فإنها تُحكم بالنظام الاقتصادي الرأسمالي عملياً في جميع نواحي الحياة الاقتصادية، ولذلك كانت أفكار الإسلام عن الاقتصاد من أكثر الأفكار التي توجد التأثير على واقع الحياة الاقتصادية في العالم الإسلامي من حيث أنها ستقلبها رأساً على عقب، وستكون من أكثر الأفكار محاربة من قِبل الكافر المستعمر، ومن قِبل عملائه والمفتونين بالغرب من الظلاميين والمضبوعين والحكام.

ولذلك كان لا بد من إعطاء صورة واضحة عن الاقتصاد في النظام الرأسمالي تنتظم الأفكار الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد السياسي عند الغرب حتى يَلمس عشاق النظام الاقتصادي الغربي فساد هذا النظام وتناقضه مع الإسلام، ثم يروا أفكار الإسلام الاقتصادية وهي تعالج مشاكل الحياة الاقتصادية المعالجة الصحيحة، وتجعلها طرازاً خاصاً من العيش يتناقض مع الحياة الرأسمالية في الأسس والتفاصيل.

rajaab
19-05-2005, 04:20 PM
وإذا استعرضنا النظام الاقتصادي في المبدأ الرأسمالي نجد أن الاقتصاد عندهم هو الذي يبحث في حاجات الإنسان ووسائل إشباعها ولا يبحث إلاّ في الناحية المادية من حياة الإنسان، وهو يقوم على ثلاثة أسس:

أحدها: مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات بالنسبة للحاجات؛ أي عدم كفاية السلع والخدمات للحاجات المتجددة والمتعددة للإنسان، وهذه هي المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع لديهم.

ثانيها: قيمة الشيء المنتَج، وهي أساس الأبحاث الاقتصادية وأكثرها دراسة.

ثالثها: الثمن والدور الذي يقوم به في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، وهو حجر الزاوية في النظام الاقتصادي الرأسمالي.

أمّا مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات فهي موجودة لكون السلع والخدمات والوسائل التي تشبع حاجات الإنسان، ذلك أنهم يقولون إن للإنسان حاجات تتطلب الإشباع، فلا بد من وسائل لإشباعها. أمّا هذه الحاجات فلا تكون إلاّ مادية بحتة، لأنها إما حاجة محسوسة ملموسة للناس كحاجة الإنسان إلى الغذاء والكساء، وإما حاجة محسوسة للناس ولكنها غير ملموسة لهم كحاجة الإنسان إلى خدمات الطبيب والمعلم. أمّا الحاجات المعنوية –كالفخر- والحاجات الروحية –كالتقديس- فإنها غير معترَف بوجودها اقتصادياً من قِبلهم ولا محل لها عندهم، ولا تلاحَظ حين البحث الاقتصادي.

وأمّا وسائل الإشباع فإنه يُطلق عليها عندهم اسم السلع والخدمات. فالسلع وسائل الإشباع للحاجات المحسوسة الملموسة، والخدمات وسائل الإشباع للحاجات المحسوسة غير الملموسة. أمّا ما هو الذي يُشبِع في السلع والخدمات فإنه في نظرهم المنفعة التي فيها، وهذه المنفعة هي خاصّة، إذا توفرت في الشيء جعلته صالحاً لإشباع حاجة، ومن حيث أن الحاجة معناها اقتصادياً الرغبة، فإن الشيء النافع يكون اقتصادياً، كلما يُرغَب فيه، سواء أكان ضرورياً أو غير ضروري، وسواء اعتبره بعض الناس نافعاً واعتبره البعض الآخر مضراً، فإنه يكون نافعاً اقتصادياً ما دام هناك من يرغب فيه. وهذا ما يجعلهم يعتبرون الأشياء نافعة من الوجهة الاقتصادية ولو أن الرأي العام يعتبرها غير نافعة أو مضرة، فالخمر والحشيش هي أشياء نافعة عند الاقتصاديين، إذ يرغب فيها بعض الناس، وعلى ذلك ينظر الاقتصادي إلى وسائل الإشباع –أي إلى السلع والخدمات- باعتبارها تشبع حاجة، بغض النظر عن أي اعتبار آخر؛ أي ينظر إلى الحاجات والمنافع كما هي لا كما يجب أن تكون، فينظر إلى المنفعة من حيث كونها تشبع حاجة ولا يتعدى هذه النظرة، فينظر إلى الخمر من حيث كونها لها قيمة اقتصادية لأنها تشبع حاجةً لأفراد، وينظر إلى صانع الخمر باعتباره يؤدي خدمة من حيث كون هذه الخدمة لها قيمة اقتصادية لأنها تشبع حاجةً الأفراد.

هذه هي طبيعة الحاجات عندهم، وهذه هي طبيعة وسائل إشباعها. فالاقتصادي الرأسمالي لا يهتم بما يجب أن يكون عليه المجتمع، بل يهتم بالمادة الاقتصادية من حيث كونها تشبع حاجة. ولذلك كانت مهمة الاقتصادي هي توفير السلع والخدمات؛ أي توفير وسائل الإشباع من أجل إشباع حاجات الإنسان بغض النظر عن أي اعتبار آخر. وبناء على هذا يبحث الاقتصادي في توفير وسائل الإشباع لحاجات الناس. ولمّا كانت السلع والخدمات التي هي وسائل الإشباع محدودة في نظرهم فإنها لا تكفي لسد حاجات الإنسان، لأن هذه الحاجات غير محدودة حسب رأيهم، فهناك الحاجات الأساسية التي لا بد للإنسان من إشباعها بوصفه إنساناً، وهناك عدد من الحاجات التي تزداد كلما ارتقى الإنسان إلى مرتبة أعلى من مراتب المدنية، وهذه تنمو وتزداد فتحتاج إلى إشباعها جميعها إشباعاً كلياً، وهذا لا يتأتى مهما كثرت السلع والخدمات. ومن هنا نشأ أساس المشكلة الاقتصادية، وهو كثرة الحاجات وقلة وسائل إشباعها، يعني عدم كفاية السلع والخدمات لإشباع جميع حاجات الإنسان إشباعاً كلياً، فتواجه المجتمع حينئذ المشكلة الاقتصادية، وهي مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات، والنتيجة الحتمية لهذه الندرة هي أن تظل بعض الحاجات إما مشبَعة إشباعاً جزئياً فقط، أو غير مشبَعة إطلاقاً، وما دام الأمر كذلك فلا بد من قواعد يتواضع عليها أفراد المجتمع لتقرر أي الحاجات ستحظى بالإشباع وأيها سيكون نصيبها الحرمان، وبعبارة أخرى لا بد من قواعد تقرر كيفية توزيع الموارد المحدودة على الحاجات غير المحدودة. فالمشكلة عندهم إذن هي الحاجات والموارد وليس الإنسان؛ أي هي توفير الموارد لإشباع الحاجات وليس إشباع حاجات كل فرد من الأفراد. ولمّا كان الأمر كذلك كان لا بد أن تكون القواعد التي توضع هي القواعد التي تضمن الوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج حتى يتأتى توفير الموارد؛ أي حتى توفَّر السلع والخدمات لمجموعة الناس لا لكل فرد منهم. ومن هنا كانت مشكلة توزيع السلع والخدمات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمشكلة إنتاجها، وكان الهدف الأسمى للدراسات الاقتصادية هو العمل على زيادة ما يستهلكه مجموع الناس من السلع والخدمات. ولهذا كانت دراسة العوامل التي تؤثر على حجم الإنتاج الأهلي تحتل مكان الصدارة بين جميع الموضوعات الاقتصادية، لأن البحث في زيادة الإنتاج الأهلي من أهم الأبحاث لمعالجة المشكلة الاقتصادية، ألا وهي الندرة في السلع والخدمات بالنسبة للحاجات، إذ أنهم يعتقدون أنه لا يمكن معالجة الفقر والحرمان إلاّ عن طريق زيادة الإنتاج، فعلاج المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع إنّما يكون بزيادة الإنتاج.

وأمّا قيمة الشيء المنتَج فهي تعني درجة أهميته إما بالنسبة لشخص معين، وإما بالنسبة لشيء آخر. ففي الحالة الأولى يطلَق عليها اسم قيمة المنفعة، وفي الحالة الثانية يطلَق عليها اسم قيمة الاستبدال. وقيمة منفعة الشيء تتلخص في أن (قيمة منفعة أي وحدة من شيء واحد تقدَّر بمنفعته النهائية، أي بمنفعة الوحدة التي تشبِع أضعف الحاجات)، وهذا ما سموه نظرية (المنفعة النهائية أو الحدّيّة)؛ أي أن المنفعة لا تقدَّر بحسب وجهة نظر المنتِج فتقدَّر بتكاليف إنتاجها، لأنها حينئذ تكون قد روعيت فيها وجهة نظر العرض فقط دون الطلب، ولا تقدَّر بحسب وجهة نظر المستهلك فتقدَّر بمقدار ما فيها من منفعة ومن شعور بالحاجة إلى هذه المنفعة مع ملاحظة عامل الندرة، لأنها حينئذ تكون روعيت فيها وجهة نظر الطلب فقط دون العرض، وإنما يجب أن تراعى فيها وجهة نظر العرض والطلب معاً، فتؤخد منفعتها عند آخر حد تُشبَع فيه الحاجة (عند آخر من إشباعها)؛ أي تؤخذ قيمة الرغيف عند آخر الجوع لا عند أوله، وفي وقت توفر الخبز عادياً في السوق لا في وقت ندرته. هذه هي قيمة المنفعة، أمّا قيمة الاستبدال فإنها خاصّة، إذا توفرت في الشيء جعلته صالحاً للاستبدال، ويعرَّفونها بأنها قوة الاستبدال للشيء بالنسبة لغيره، فقيمة استبدال القمح بالنسبة للذرة تقدر بكمية الذرة التي يجب التنازل عنها للحصول على وحدة من القمح، ويطلق على قيمة المنفعة اسم المنفعة فقط، ويطلق على قيمة الاستبدال اسم القيمة فقط. والاستبدال إنّما يتم بوجود بدل للسلعة أو الخدمة موازٍ لها أو قريب منها في القيمة. ومن هنا كان لا بد من بحث القيمة عند الاقتصاديين الرأسماليين لأنها أساس الاستبدال، ولأنها هي الصفة التي يمكن قياسها، ولأنها هي المقياس الذي تقاس به السلع والخدمات وتُميَّز به الأعمال المنتِجة من الأعمال غير المنتِجة. ذلك أن الإنتاج هو خلق المنفعة أو زيادتها، وهو يتم بأعمال. فللتمييز بين هذه الأعمال من حيث كونها منتجة أو غير منتجة ولمعرفة أيها أكثر إنتاجية من الآخر لا بد من مقياس دقيق للمنتجات والخدمات المختلفة، وهذا المقياس الدقيق هو القيم الاجتماعية للمنتجات والخدمات المختلفة، أو بعبارة أخرى هو ذلك التقدير الجماعي للعمل الذي يُبذل أو الخدمة التي تؤدى، وقد أصبح هذا التقدير أمراً ضرورياً لأن الإنتاج على ذمة الاستبدال قد حل بالجماعات الحديثة محل الإنتاج على ذمة الاستهلاك، فأصبح كل فرد يستبدل اليوم إنتاجه كله أو معظمه بأشياء أخرى كثيرة أنتجها غيره من الناس، وهذا الاستبدال إنّما يتم بوجود بدل للسلعة أو الخدمة، فلا بد من تقدير قيمة للسلعة حتى يتم استبدالها، ولذلك كانت معرفة القيمة -ما هي- أمراً ضرورياً للإنتاج وأمراً ضرورياً للاستهلاك، أي أمراً حتمياً لإشباع حاجات الإنسان بوسائل الإشباع.

إلاّ أن قيمة الاستبدال هذه قد خُصصت في العصر الحديث بواحدة من قيمها وصارت هي الغالبة عليها. ففي الجماعات المتمدنة لا تُنسب قيم السلع إلى بعضها البعض، وإنما تُنسب إلى سلعة معينة تسمى النقود، وقد أُطلق على نسبة استبدال الشيء بالنقود اسم الثمن، فالثمن هو قيمة استبدال الشيء بالنسبة للنقود، وعلى ذلك يكون الفرق بين قيمة الاستبدال والثمن هو أن قيمة الاستبدال هي نسبة استبدال الشيء بغيره

rajaab
19-05-2005, 04:22 PM
مطلقاً سواء أكان نقوداً أو سلعاً أو خدمات، أما الثمن فهو قيمة استبدال الشيء بالنقود خاصة. ويترتب على هذا أن أثمان السلع يمكن أن ترتفع كلها في وقت واحد، وتهبط كلها في وقت واحد، في حين أنه يستحيل أن ترتفع أو تهبط قيمة استبدال كل السلع بعضها ببعض في وقت واحد. وكذلك يمكن أن تتغير أثمان السلع من غير أن يترتب على ذلك تغير في قيمة استبدالها. وعلى ذلك فثمن السلعة هو إحدى قيم هذه السلعة، وبعبارة أخرى هو قيمة السلعة بالنسبة للنقود فقط. ولمّا كان الثمن هو إحدى القيم كان طبيعياً أن يكون هو مقياس كون الشيء نافعاً أو غير نافع ومقياس درجة المنفعة في الشيء، فالسلعة أو الخدمة تعتبر منتجة ونافعة إذا كان المجتمع يقدر هذه السلعة المعينة أو الخدمة المعينة بثمن معين، أمّا درجة المنفعة لهذه السلعة أو الخدمة فتقاس بالثمن الذي تَقبَل جمهرة المستهلكين دفعه لحيازتها، سواء أكانت هذه السلعة من المنتجات الزراعية أو الصناعية، وسواء أكانت الخدمة خدمة تاجر أو شركة نقل أو طبيب أو مهندس.

أمّا الدور الذي يقوم به الثمن في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع فذلك أن جهاز الثمن هو الذي يقرر أي المنتجين سيدخل إلى حلبة الإنتاج وأيهم سيظل بعيداً عن زمرة المنتجين بنفس الكيفية التي يقرر بها أي المستهلكين سيتمتع بإشباع حاجاته وأيهم ستظل حاجاته غير مشبَعة. وتكاليف الإنتاج للسلعة هي العامل الرئيسي الذي يحكم عرضها في السوق، والمنفعة التي في السلعة هي العامل الرئيسي الذي يحكم طلب السوق لها، وكلاهما يقاس بالثمن، لذلك كان بحث العرض والطلب بحثين أساسيين في الاقتصاد عند الرأسماليين، والمراد بالعرض هو عرض السوق، والمراد بالطلب هو طلب السوق. وكما أن الطلب لا يمكن تعيينه من غير ذكر الثمن فكذلك العرض لا يمكن تقديره من غير الثمن. إلاّ أن الطلب يتغير بعكس تغير الثمن، فإذا زاد الثمن قل الطلب وإذا قل الثمن زاد الطلب، بخلاف العرض فإنه يتغير بتغير الثمن وفي اتجاهه؛ أي أن العرض يزداد بارتفاع الثمن ويقل بهبوطه، وفي كلتا الحالتين يكون للثمن الأثر الأكبر في العرض والطلب؛ أي يكون له الأثر الأكبر في الإنتاج والاستهلاك.

وجهاز الثمن عندهم هو الطريقة المثلى لتوزيع السلع والخدمات على أفراد المجتمع، ذلك أن المنافع هي نتيجة المجهودات التي يبذلها الإنسان، فإذا لم يكن الجزاء مساوياً للعمل فلا شك أن مستوى الإنتاج ينحط. وعلى ذلك فالطريقة المثلى لتوزيع السلع والخدمات على أفراد المجتمع هي تلك التي تَضمن الوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج، وهذه الطريقة هي طريقة الثمن، وهي ما يطلقون عليها جهاز الثمن أو ميكانيكية الثمن، لأنهم يرون أن هذه الطريقة تُحدث التوازن الاقتصادي بشكل آلي لأنها قائمة على ترك الحريات للمستهلكين في أن يقرروا بأنفسهم توزيع الوارد التي يملكها المجتمع على فروع النشاط الاقتصادي المختلفة بإقبالهم على شراء بعض المواد وعدم إقبالهم على بعضها، فينفقون دخولهم التي يكسبونها على شراء ما يحتاجونه أو يرغبون فيه، فالمستهلك الذي لا يرغب الخمر يمتنع عن شرائه وينفق دخله على شيء آخر، فإذا كثر عدد المستهلكين الذين لا يرغبون الخمر أو أصبح جميع الناس لا يرغبونها يصبح إنتاج الخمر غير مربح لعدم توافر الطلب عليه، فيقف طبيعياً إنتاج الخمر، وهكذا جميع المواد، فالمستهلكون هم الذين قرروا كمية الإنتاج ونوع الإنتاج في تركهم وحريتهم، والثمن هو الذي جرى بواسطته توزيع السلع والخدمات في توفره من المستهلكين أو عدم توفره لديهم، وفي إعطائه للمنتجين أو عدم إعطائه لهم.

وجهاز الثمن هو الحافز على الإنتاج وهو المنظم للتوزيع وهو أداة الاتصال بين المنتج والمستهلك؛ أي هو الذي يحقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك.

أمّا كونه هو الحافز على الإنتاج فذلك أن الدافع الرئيسي لقيام الإنسان بأي مجهود منتج أو أية تضحية هو مكافأته المادية على بذل هذا المجهود أو تلك التضحية، ويَستبعد الاقتصاديون الرأسماليون قيام الإنسان ببذل أي مجهود بدافع معنوي أو روحي، والدافع الأخلاقي الذي يعترفون بوجوده يرجعونه إلى مكافأة مادية، ويرون أن المجهودات التي يبذلها الإنسان إنّما هي لإشباع حاجاته وسد رغباته المادية، وهذا الإشباع إمّا أن يكون عن طريق استهلاك السلع التي ينتجها مباشرة أو عن طريق الحصول على جزاء نقدي يخوله الحصول على السلع والخدمات التي أنتجها الآخرون، وبما أن الإنسان يعتمد في إشباع معظم حاجاته -إن لم تكن كلها- على مبادلة مجهوداته بمجهودات غيره، كان إشباع الحاجات منصباً على طريق الحصول على جزاء نقدي لمجهوداته يخول له الحصول على السلع والخدمات، وليس منصباً على الحصول على السلع التي ينتجها، ولذلك كان الجزاء النقدي –وهو الثمن- هو الدافع للإنسان على الإنتاج، ومن هنا كان الثمن هو الذي يحفز المنتجين على بذل مجهوداتهم، فالثمن هو الحافز على الإنتاج.

أمّا كون الثمن هو الذي ينظم التوزيع فذلك أن الإنسان يرغب في إشباع جميع حاجاته إشباعاً كلياً، ولذلك يسعى للحصول على السلع والخدمات التي تشبِع هذه الحاجات، ولو تُرِك لكل فرد من بني الإنسان حرية إشباع حاجاته لَما توقف عن حيازة واستهلاك ما شاء من السلع، ولكن لمّا كان كل فرد من بني الإنسان يسعى إلى نفس هذا الغرض كان لا بد من أن يقف الفرد في إشباع الحاجات عند الحد الذي يستطيع فيه مبادلة مجهوداته بمجهودات غيره؛ أي عند حد الجزاء النقدي الذي يحصل عليه من بذل مجهوداته؛ أي عند حد الثمن. ومن هنا كان الثمن هو القيد الذي يوضع طبيعياً ويجعل الإنسان يتوقف عن الحيازة والاستهلاك عند الحد الذي يتناسب مع موارده، فوجود الثمن هو الذي جعل الإنسان يفكر ويوازن ويفاضل بين حاجاته المتنافسة التي تتطلب الإشباع، فيأخذ ما يراه ضرورياً، ويستغني عما يراه أقل ضرورة، فهو الذي يرغِم الفرد على الاكتفاء بإشباع بعض حاجاته إشباعاً جزئياً كي يتسنى له إشباع البعض الآخر الذي يراه لا يقل أهمية عن الحاجات التي اكتفى بإشباع بعضها جزئياً. فالثمن هو الذي نظم توزيع الحاجات التي يتطلبها الفرد، وكذلك هو الذي ينظم توزيع المنافع المحدودة على العدد الكبير من المستهلكين الذي يطلب هذه المنافع، فتفاوت موارد المستهلكين يجعل استهلاك كل فرد قاصراً على ما تسمح به موارده، وبذلك يصبح استهلاك بعض السلع قاصراً على من تسمح له موارده ويصبح استهلاك بعض السلع عاماً على جميع الناس الذين يملكون أدنى حد من الثمن، وبهذا يكون الثمن بارتفاعه لبعض السلع وانخفاضه لبعضها وتوفر الجزاء النقدي عند البعض وعدم توفره عند الآخرين، يكون الثمن بذلك منظِّماً لتوزيع المنافع على المستهلكين.

وأمّا كون الثمن يحقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك –أي يكون أداة اتصال بين المنتِج والمستهلك- فذلك أن المنتِج الذي يحقق رغبات المستهلكين يكافأ على ذلك بالحصول على ربح، والمنتِج الذي لا تجد منتجاته قبولاً لدى المستهلكين لا بد أن ينتهي بالخسارة. والطريقة التي يستطيع المنتج أن يقف بها على رغبات المستهلكين إنّما هي الثمن، فعن طريق الثمن يعرف رغبات المستهلكين، فإذا زاد إقبال المستهلكين على شراء سلعة معينة ارتفع ثمنها في السوق، وبذلك يزداد إنتاج هذه السلعة تحقيقاً لرغبات المستهلكين، وإذا أعرض المستهلكون عن شراء سلعة معينة انخفض ثمنها في السوق، وبذلك يقل إنتاج هذه السلعة فتزيد الموارد المخصصة للإنتاج بزيادة الثمن، وتقل الموارد المخصصة للإنتاج بقلة الثمن. وبذلك يكون الثمن هو الذي حقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، وهو الذي كان أداة الاتصال بين المنتج والمستهلك، وهذا يجري بطريقة آلية. ومن هنا كان الثمن هو القاعدة التي يقوم عليها الاقتصاد في نظر الرأسماليين، وهو حجر الزاوية في الاقتصاد عندهم.

هذه هي خلاصة النظام الاقتصادي في المبدأ الرأسمالي، وهو ما يسمونه (الاقتصاد السياسي)، ويتبين من دراسته والتعمق في بحثه فساد النظام الاقتصادي الرأسمالي من عدة وجوه:

فالاقتصاد عندهم هو الذي يبحث في حاجات الإنسان ووسائل إشباعها، فيجعلون إنتاج السلع والخدمات التي هي وسائل إشباع الحاجات مع توزيع هذه السلع والخدمات على الحاجات بحثاً واحداً؛ أي يجعلون الحاجات ووسائل إشباعها متداخليْن بحيث يكونان شيئاً واحداً وبحثاً واحداً لا ينفصل أحدهما عن الآخر، بل ينطوي أحدهما في ثنايا الآخر، إذ ينطوي توزيع السلع والخدمات في بحث إنتاج هذه السلع والخدمات. وبناء على ذلك ينظرون إلى الاقتصاد نظرة واحدة تشمل المادة الاقتصادية وكيفية حيازها، دون فصل بينهما ودون تمييز أحدهما عن الآخر؛ أي ينظرون إلى علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي نظرة واحدة دون فرق بينهما، مع أن هنالك فرقاً بين النظام الاقتصادي وعلم الاقتصاد. فالنظام الاقتصادي هو الذي يبين توزيع الثروة وتملّكها والتصرف بها وما شاكل ذلك، وهو في بيانه هذا يسير وفق وجهة نظر معينة في الحياة. ولذلك كان النظام الاقتصادي في الإسلام غيره في الاشتراكية والشيوعية وغيره في الرأسمالية، لأن كل نظام منها يسير حسب وجهة نظر المبدأ في الحياة، بخلاف علم الاقتصاد، فإنه يَبحث في الإنتاج وتحسينه وإيجاد وسائله وتحسينها، وهذا عالمي عند جميع الأمم لا يختص به مبدأ دون آخر، كباقي العلوم، فمثلاً النظرة إلى الملكية تختلف في النظام الرأسمالي عنها في النظام الاشتراكي والشيوعي وعنها في الإسلام، بخلاف تحسين الإنتاج، فإنه بحث واقع، والنظرة إليه نظرة علمية، وهي واحدة عند جميع الناس من حيث النظرة مهما اختلف الفهم.

فهذا الاندماج بين الحاجات والوسائل في البحث –أي بين إيجاد المادة الاقتصادية وكيفية توزيعها وجعلهما شيئاً واحداً وبحثاً واحداً- خطأ نتج عنه هذا الخلط والتداخل في أبحاث الاقتصاد عند الرأسماليين، ولذلك كان أساس تكوين الاقتصاد في المبدأ الرأسمالي أساساً خاطئاً.

أمّا كون الحاجات التي تتطلب الإشباع لا تكون إلاّ مادية بحتة، فهو خطأ ويخالف واقع الحاجات، فهناك الحاجات المعنوية وهناك الحاجات الروحية، وكل منهما يتطلب الإشباع كالحاجات المادية، وكل منهما يحتاج إلى سلع وخدمات لإشباعها.

وأمّا نظرة الاقتصاديين الرأسماليين إلى الحاجات والمنافع كما هي لا كما يجب أن يكون عليه المجتمع، فإن هذه النظرة تدل على أن رجل الاقتصاد الرأسمالي ينظر إلى الإنسان بأنه إنسان مادي بحت مجردٌ من الميول الروحية والأفكار الأخلاقية والغايات المعنوية، وهو لا يبالي ما يجب أن يكون عليه المجتمع من رِفعة معنوية بجعل الفضائل أساس علاقاته وما ينبغي أن يسوده من سمو روحي بجعل إدراك الصلة بالله هو المسيِّر للعلاقات من أجل نوال رضوان الله، هو لا يبالي بكل ذلك، بل همّه المادة البحتة التي تشبِع الجوعات المادية البحتة، فهو لا يغش في البيع حتى تربح تجارته، وإذا ربحها بالغش يصبح الغش مشروعاً، وهو لا يطعم الفقراء إجابة لأمر الله بالصدقة، وإنما يطعمهم حتى لا يسرقوه، فإن كان تجويعهم يزيد ثروته فإنه يقدِم على تجويعهم. وهكذا يكون همّ الاقتصادي النظرة إلى المنفعة باعتبارها تشبع حاجة مادية فحسب. فهذا الإنسان الذي ينظر هذه النظرة إلى الإنسان من خلال نظرته إلى المنفعة ويقيم الحياة الاقتصادية على أساس هذه النظرة يعتبر من أخطر الأشخاص على المجتمعات وعلى الناس. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأموال والجهود التي يسمونها السلع والخدمات إنّما يسعى إليها الفرد للانتفاع بها، وتبادل الناس لها يكوِّن بينهم علاقات يتكون بحسبها المجتمع، فلا بد أن يًنظر إلى ما يكون عليه المجتمع في علاقاته جملة وتفصيلاً حين النظرة إلى الأموال والحاجات. فالاهتمام بالمادة الاقتصادية من حيث كونها تشبع حاجة دون الاهتمام بما يجب أن يكون عليه المجتمع هو فصل للمادة الاقتصادية عن العلاقات، وهذا غير

rajaab
19-05-2005, 04:24 PM
طبيعي، لأن هذه المادة الاقتصادية يتبادلها الناس فتكوِّن علاقات بينهم، ، والعلاقات تكوِّن المجتمع، فلا بد من النظرة إلى ما سيكون عليه المجتمع حين النظر إلى المادة الاقتصادية، ولذلك لا يصح أن نعتبر الأشياء نافعة بمجرد وجود من يرغب فيها سواء أكانت في حقيقتها مضرة أم لا وسواء أكانت تؤثر على علاقات الناس أم لا وسواء أكانت محرمة في اعتقاد الناس في المجتمع أم كانت محللة، بل يجب اعتبار الأشياء نافعة إذا كانت حقيقة نافعة باعتبار ما يجب أن يكون عليه المجتمع، ولهذا لا يصح اعتبار الحشيش والأفيون وما شاكلها سلعاً نافعة واعتبارها مادة اقتصادية لمجرد وجود من يرغب فيها، بل يجب ملاحظة أثر هذه المواد الاقتصادية على العلاقات حين النظر إلى منفعة الأشياء؛ أي حين النظر إلى الشيء باعتباره مادة اقتصادية أو عدم اعتباره؛ أي يجب أن يُنظر إلى الأشياء باعتبار ما يجب أن يكون عليه المجتمع، ولا يجوز الاقتصار على النظرة إلى الشيء كما هو فحسب وغض النظر عما يجب أن يكون عليه المجتمع.

وقد نتج من جراء اندماج بحث إشباع الحاجات في ثنايا بحث وسائل إشباعها ومن جراء نظرة الاقتصاديين إلى وسائل الإشباع باعتبارها فقط أنها تشبع حاجة، لا بأي اعتبار آخر، نتج من جراء ذلك أن صارت نظرة الاقتصاديين منصبة على إنتاج الثروة أكثر من انصبابها على توزيعها لإشباع الحاجات، بل صارت نظرة التوزيع ثانوية، وعلى هذا فإن النظام الاقتصادي الرأسمالي يهدف إلى غاية واحدة هي زيادة ثروة البلاد جملة، ويعمل للوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج ويجعل تحقيق أقصى ما يمكن من الرفاهية لأفراد المجتمع نتيجة لزيادة الدخل الأهلي ورفع مستوى الإنتاج في البلاد، وذلك بتمكينهم من أخذ الثروة حين يَترك لهم الحرية في العمل لإنتاجها ولحيازتها. فالاقتصاد لا يوجَد لإشباع حاجات الأفراد وتوفير الإشباع لكل فرد من أفراد المجموعة، وإنما هو منصب على توفير ما يشبع حاجات الأفراد -أي منصب على إشباع حاجات المجموعة- برفع مستوى الإنتاج وزيادة الدخل الأهلي للبلاد. وعن طريق توفر الدخل الأهلي يحصل حينئذ توزيع هذا الدخل بواسطة حرية الملك وحرية العمل على أفراد المجتمع، فيُترك للأفراد حرية نوال ما يستطيعونه من هذه الثروة، كلٌّ بحسب ما يملك من عوامل إنتاجها، سواء حصل الإشباع لجميع الأفراد أو حصل لبعضهم دون البعض.

هذا هو الاقتصاد السياسي –أي الاقتصاد الرأسمالي-، وهذا خطأ محض ومخالف للواقع ولا يؤدي إلى رفع مستوى المعيشة للأفراد جميعهم ولا يحقق الرفاهية لكل فرد.

ووجه الخطأ في هذا هو أن الحاجات التي تتطلب الإشباع هي حاجات فردية مع كونها حاجات إنسان، فهي حاجات لمحمد وصالح وحسن وليست حاجات لمجموعة الإنسان أو لمجموعة أمّة أو لمجموعة شعب، والذي يسعى لإشباع حاجاته هو الفرد سواء أكان إشباعه لها مباشرة كالأكل، أو إشباعه لها عن طريق إشباع المجموع كالدفاع عن الأمّة، ولذلك كانت المشكلة الاقتصادية متركزة على أساس توزيع وسائل الإشباع على الأفراد؛ أي توزيع الأموال والمنافع على أفراد الأمّة أو الشعب، وليس على الحاجات التي تتطلبها مجموعة الأمّة أو الشعب دون النظر إلى كل فرد من أفراده، وبعبارة أخرى المشكلة هي الحرمان الذي يصيب الفرد لا الحرمان الذي يصيب مجموع البلاد. والبحث في النظام الاقتصادي إنّما يكون في إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد لا البحث في إنتاج المادة الاقتصادية.

ومن هنا لم تكن دراسة العوامل التي تؤثر على حجم الإنتاج الأهلي هي موضع البحث في إشباع جميع حاجات الأفراد الأساسية فرداً فرداً إشباعاً كلياً، وإنما موضع البحث هو دراسة حاجات الإنسان الأساسية من حيث هو إنسان، ودراسة توزيع الثروة على أفراد المجتمع لضمان إشباع جميع حاجاتهم الأساسية، وهو الذي يجب أن يكون ويحتل مكان الصدارة. على أن معالجة فقر البلاد لا يعالج مشاكل فقر الأفراد فرداً فرداً، ولكن معالجة مشاكل فقر الأفراد وتوزيع ثروة البلاد يحفز مجموعة أهل البلاد وأفرادهم على العمل لزيادة الدخل الأهلي. وأمّا دراسة العوامل التي تؤثر على حجم الإنتاج وزيادة الدخل الأهلي فإنّ بحثها يكون في علم الاقتصاد؛ أي في بحث المادة الاقتصادية وزيادتها، لا في بحث إشباع الحاجات التي ينظمها النظام الاقتصادي.

أمّا كون الندرة النسبية للسلع والخدمات هي المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع، وادعاء أن كثرة الحاجات وقلة إشباعها، أي عدم كفاية السلع والخدمات لإشباع جميع حاجات الإنسان إشباعاً كلياً، هو أساس المشكلة الاقتصادية، فذلك خطأ يخالف الواقع. وذلك أن الحاجات التي تكون معالجتها حتمية هي الحاجات الأساسية لدى الفرد بوصفه إنساناً لا الحاجات الثانوية أو الكمالية، وإن كانت الحاجة الكمالية يُسعى ويُعمل لإشباعها. وعلى هذا فإن الحاجات الأساسية محدودة، والأموال والجهود التي يسمونها السلع والخدمات الموجودة في العالم كافية لإشباع الحاجات الأساسية. ويمكن إشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً للأفراد المستهلكين، فلا توجد مشكلة في الحاجات الأساسية فضلاً عن جعلها المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع. وإنما المشكلة الاقتصادية هي توزيع هذه الأموال والجهود على كل فرد من الأفراد لإشباع جميع حاجاتهم الأساسية إشباعاً كلياً ومساعدتهم على السعي لإشباع حاجاتهم الكمالية.

أمّا مشكلة زيادة الحاجات المتجددة فإنها لا تتعلق بزيادة الحاجات الأساسية، لأن الحاجات الأساسية للإنسان من حيث هو إنسان لا تزيد، وإنما الذي يزيد ويتجدد هو حاجاته الكمالية. فالزيادة في الحاجات التي تحصل مع تقدم الإنسان في حياته المدنية إنّما تتعلق بالحاجات الكمالية لا الحاجات الأساسية، وهذه يُعمل لإشباعها، ولكن عدم إشباعها لا يسبب مشكلة، بل الذي يسبب مشكلة إنّما هو عدم إشباع الحاجات الأساسية. على أن مسألة زيادة الحاجات الكمالية مسألة أخرى تتعلق بالمجموع الذي يعيش في قطر معين لا في كل فرد من أفراد هذا القطر، وهذه المسألة يحلها اندفاع الإنسان الطبيعي لإشباع حاجاته، فيدفعه هذا الاندفاع الناتج عن زيادة الحاجات الكمالية إلى العمل لزيادة وسائل الإشباع إمّا بزيادة استغلال موارد بلاده أو بالعمل في بلاد أخرى أو بالتوسع والاندماج في بلاد أخرى. وهذه المسألة غير مشكلة إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد من أفراد المجتمع إشباعاً كلياً، لأن مشكلة توزيع الثروة على الأفراد فرداً فرداً لإشباع جميع حاجاتهم الأساسية إشباعاً كلياً ومساعدة كل فرد على إشباع حاجاته الكمالية، هذه المشكلة تتعلق بوجهة النظر في الحياة، وهي خاصة بأمّة معينة أو مبدأ معين، بخلاف مسألة زيادة الدخل الأهلي بزيادة الإنتاج، فإنها تتعلق بالواقع المحسوس للبلاد من حيث معرفة زيادة الثروة بالاستغلال أو الهجرة أو التوسع أو الاندماج، وهي منطبقة على الواقع ويقوم بها كل إنسان، وهي عامة لا تتعلق بوجهة نظر معينة ولا تخص أمّة معينة ولا مبدأ معيناً.

وعلى هذا فالقواعد الاقتصادية التي توضع هي القواعد التي تضمن توزيع ثروة البلاد الداخلية والخارجية على جميع أفراد الأمة فرداً فرداً، بحيث يُضمن إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد فرداً فرداُ إشباعاً كلياً، وتمكين كل فرد منهم من إشباع حاجاته الكمالية.

وأما رفع مستوى الإنتاج فيحتاج إلى أبحاث علمية، وبحثه في النظام الاقتصادي لا يعالِج المشكلة الاقتصادية، وهي إشباع جميع حاجات الأفراد فرداً فرداً إشباعاً كلياً، لأن زيادة الإنتاج تؤدي إلى رفع مستوى ثروة البلاد ولا تؤدي إلى إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد إشباعاً كلياً، وقد تكون البلاد غنية بإنتاجها كالعراق والسعودية مثلاً، ولكن الحاجات الأساسية لأكثر أفراد الشعب هناك ليست مشبَعة إشباعاً كلياً، ولذلك كانت زيادة الإنتاج لا تعالج المشكلة الأساسية التي يجب علاجها فوراً وقبل كل شيء، وهي إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد فرداً فرداً إشباعاً كلياً، ثم مساعدتهم على إشباع حاجاتهم الكمالية. وعلى ذلك فإن الفقر والحرمان المطلوب علاجه هو عدم إشباع الحاجات الأساسية للإنسان بوصفه إنساناً لا الحاجات المتجددة بحسب الرقي المدني، والمطلوب علاجه هو الفقر والحرمان لكل فرد من أفراد المجتمع فرداً فرداً لا فقر البلاد وحرمانها. وهذا الفقر والحرمان بهذا المفهوم لكل فرد لا يعالَج بزيادة الإنتاج، وإنمّا يعالج بكيفية توزيع الثروة على جميع الأفراد فرداً فرداً بحيث يشبِع كل فرد جميع حاجاته الأساسية إشباعاً كلياً ويساعَد على إشباع حاجاته الكمالية.

أمّا موضوع القيمة، فإن النظام الاقتصادي الرأسمالي يعتبر القيمة نسبية وليست حقيقية، فهي إذن عندهم قيمة اعتبارية. وعلى هذا فقيمة ذراع القماش من الصوف هي آخر منفعة له في حالة توفره في السوق، وقيمته كذلك مقدار ما تحصل به من سلع وجهود، وتصبح القيمة ثمناً إذا كان ما تحصل عليه بثوب القماش نقوداً، وهاتان القيمتان عندهم شيئان منفصلان ومسميان مختلفان كل منهما عن الآخر، أحدهما المنفعة، والثاني قيمة الاستبدال. وهذا المعنى للقيمة بهذا التحديد خطأ لأن قيمة أي سلعة إنّما هي مقدار ما فيها من منفعة مع ملاحظة عامل الندرة، فالنظرة الحقيقية لأي سلعة هي النظرة إلى المنفعة مع ملاحظة عامل الندرة سواء ملكها الإنسان ابتداءً كالصيد أو مبادلةً كالبيع، وسواء أكان ذلك بالنسبة للشخص أو بالنسبة للشيء، فالقيمة إذاً اسم لمسمى معين له حقيقة مشخصة وليس هو اسماً لشيء اعتباري ينطبق على مسمى باعتبار ولا ينطبق عليه باعتبار آخر، فالقيمة هي شيء حقيقي وليست شيئاً نسبياً، وعليه فنظرة الاقتصاديين إلى القيمة نظرة خاطئة من أساسها.

rajaab
19-05-2005, 04:25 PM
أما ما يطلقون عليه (القيمة الحدّيّة) فإنه تقدير لتركيز الإنتاج على أسوأ الاحتمالات بالنسبة لتصريف السلع، فتقدَّر قيمة السلعة على أدنى حد حتى يظل الإنتاج سائراً على أساسٍ المضمون، وليست القيمة الحدية حقيقةً قيمة السلعة حتى ولا ثمن السلعة، لأن قيمة السلعة إنّما تقدَّر بمقدار ما فيها من منفعة عند التقدير مع ملاحظة عامل الندرة في ذلك الوقت، ولا يُنقِص من قيمتها نزول ثمنها بعد ذلك، كما لا يزيد من قيمتها ارتفاع ثمنها بعد ذلك، لأن قيمتها اعتُبرت حين تقديرها. وعلى هذه فالنظرية الحدية هي نظرية للثمن وليست نظرية للقيمة. وهنالك فرق بين الثمن والقيمة حتى عند الاقتصاديين الرأسماليين، فالثمن يتحكم في تقديره كثرة الطلب وقلة العرض معاً أو كثرة العرض وقلة الطلب معاً، وهو أمر يتعلق بزيادة الإنتاج لا في توزيعه. أما القيمة فإنه يتحكم في تقديرها المقدار الذي في السلعة من منفعة عند التقدير مع ملاحظة عامل الندرة دون اعتباره جزءاً قي التقدير. ولا يؤثر عليها العرض والطلب تأثيراً كلياً.

وعلى هذا يكون بحث القيمة من أساسه خطأ محضاً فكل ما ترتب عليه من بحث خطأ محض من حيث التفريع. إلاّ أن قيمة السلعة إن قُدَّرت منفعتها بمنفعة سلعة أو جهد كان هو التقدير الصحيح وكان تقديراً أقرب إلى الثبات في المدى القصير، وإن قُدرت بالثمن كان تقديراً اعتبارياً لا تقديراً حقيقياً وتصبح حينئذ أقرب إلى التغير في كل وقت تبعاً للسوق، وحينئذ يَبطل كونها قيمة ولا يَصدق على واقعها حينئذ لفظ قيمة، وإنمّا تصبح أداة يحصل فيها نقود بحسب السوق لا بحسب ما فيها من منافع.

ويقول الاقتصاديون الرأسماليون إن المنافع هي نتيجة المجهودات التي يبذلها الإنسان، فإذا لم يكن الجزاء مساوياً للعمل فلا شك أن مستوى الإنتاج ينحط. ويتوصلون من ذلك إلى أن الطريقة المثلى لتوزيع الثروة على أفراد المجتمع هي تلك التي تضمن الوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج.

وهذا القول خطأ محض. فالواقع المحسوس هو أن المال الذي خلقة الله في الكون هو أساس المنفعة في السلع، والنفقات التي بُذلت في زيادة المنفعة لهذا المال أو إيجاد منفعة فيه مع العمل، هي التي جعلته على الشكل الذي صار إليه يؤدي منفعة معينة. فجعْل المنفعة نتيجة للمجهودات فحسب خطأ مخالف للواقع، وإهدار للمادة الخام وللنفقات التي بُذلت، وقد تكون هذه النفقات بدل مادة خام لا بدل عمل. وعليه فالمنفعة قد تكون نتيجة مجهودات الإنسان وقد تكون نتيجة وجود المادة الخام، وقد تكون نتيجة لهما معاً، وليست هي نتيجة لمجهودات الإنسان فحسب. وأمّا انحطاط مستوى الإنتاج فليس ناتجاً عن عدم مساواة الجزاء للعمل فحسب، فقد يكون ناتجاً عن ذلك وقد يكون ناتجاً عن استنفاد جميع الثروة التي في البلاد، وقد يكون ناتجاً عن الحروب، وقد يكون ناتجاً عن غير ذلك، فانحطاط الإنتاج في انكلترا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية ليس ناتجاً عن عدم مساواة الجزاء للعمل بل هو ناتج عن تقلص ظِل كل واحدة منهما عن مستعمراتها الغنية وعن انهماكهما في الحرب. وانحطاط إنتاج الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية ليس ناتجاً عن عدم مساواة الجزاء للعمل بل ناتج عن انهماكها في الحرب ضد ألمانيا. وانحطاط الإنتاج في العالم الإسلامي اليوم ليس ناتجاً عن عدم مساواة الجزاء للعمل، وإنما هو ناتج عن الانحطاط الفكري الذي تتردى فيه الأمة الإسلامية بمجموعها. وعليه فإن عدم مساواة الجزاء للعمل ليست هي السبب الوحيد لانحطاط الإنتاج حتى يترتب على ذلك أن تكون الطريقة المثلى للتوزيع هي التي تَضمن رفع مستوى الإنتاج. والوصول إلى أرفع مستوى من الإنتاج لا علاقة له بتوزيع الثروة على الأفراد.

ويقول الاقتصاديون الغربيون إن الثمن هو الحافز على الإنتاج لأن الدافع للإنسان على بذل أي مجهود هو مكافأته المادية عليه.

وهذا القول مخالف للواقع، وهو غير صحيح، فكثيراً ما يبذل الإنسان المجهود لمكافأة معنوية كالفخر مثلاً أو لمكافأة روحية كنيل ثواب الله أو للتحلي بصفة خلقية كالوفاء. وحاجات الإنسان قد تكون مادية كالربح المادي، وقد تكون روحية كالتقديس، أو معنوية كالثناء. فحصْر الحاجات بالحاجات المادية غير صحيح، والإنسان قد يبذل مالاً لإشباع حاجة روحية أو حاجة معنوية بسخاء أكثر من بذله لإشباع الحاجات المادية. وعلى هذا فليس الثمن هو وحده الحافز على الإنتاج، فقد يكون الثمن وقد يكون غيره، ألا ترى أن حَجاراً قد يخصص نفس للعمل أشهراً في قطع الحجارة من أجل بناء مسجد؟ وأن مصنعاً قد يجعل إنتاجه أياماً من أجل توزيع منتوجاته على الفقراء؟ وأن الأمّة قد تخصص جهودها في حفر الخنادق وإعداد العدة من أجل الدفاع عن البلاد؟ فهل هذا الإنتاج ومثله كان الحافز عليه الثمن؟ على أن المكافأة المادية نفسها لا تنحصر بالثمن، فقد تكون سلعاً أخرى أو خدمات، فجعْل الثمن وحده هو الحافز على الإنتاج غير صحيح.

ومن أغرب ما ينص عليه النظام الاقتصادي الرأسمالي جعْله الثمن المنظم الوحيد لتوزيع الثروة على أفراد المجتمع، ويقولون إن الثمن هو القيد الذي يجعل الإنسان يتوقف عن الحيازة والاستهلاك عند الحد الذي يتناسب مع موارده، وهو الذي يجعل استهلاك كل فرد قاصراً على ما تسمح به موارده، وبذلك يكون الثمن بارتفاعه لبعض السلع وانخفاضه لبعضها وتوفر النقد عند البعض وعدم توفره عند الآخرين، يكون الثمن بذلك منظِّماً لتوزيع الثروة على المستهلكين، ويكون نصيب كل فرد من ثروة البلاد ليس بمقدار حاجاته الأساسية، وإنما هو معادل لقيمة الخدمات التي ساهم بها في إنتاج السلع والخدمات، أي بمقدار ما يحوز من أرض أو رأسمال أو بمقدار ما قام به من عمل أو تنظيم لمشروعات.

وبهذه القاعدة –وهي جعل الثمن هو المنظم للتوزيع- يكون النظام الاقتصادي الرأسمالي قد قرر أنه لا يستحق الحياة إلاّ من كان قادراً على المساهمة في إنتاج السلع والخدمات، أمّا من كان عاجزاً عن ذلك لأنه خُلِق ضعيفاً أو لأن هناك ضعفاً طرأ عليه فلا يستحق الحياة لأنه لا يستحق أن ينال من ثروة البلاد ما يسد حاجاته، وكذلك يستحق التخمة والسيادة والسيطرة على الغير بماله كل من كان قادراً على ذلك لأنه خُلِق قوياً في جسمه أو في عقله، وكان أقدر من غيره على الحيازة بأي طريق من الطرق، وكذلك يزيد في حيازة الثروة على غيره كل من كانت ميوله للمادة قوية، ويقل في حيازتها عن غيره كل من كانت ميوله الروحية وتعلقه بالصفات المعنوية أقوى لتقيده في كسب المادة بما تفرضه عليه القيود الروحية أو المعنوية التي التزم بأفكارها. وهذا يُبعِد العنصر الروحي والخلقي عن الحياة ويجعلها حياة مادية أساسها النضال المادي لكسب وسائل إشباع الحاجات المادية، وهذا ما هو واقع فعلاً في البلاد التي تعتنق النظام الرأسمالي والبلاد التي تطبقه. وقد ظهرت في البلاد التي تعتنق الرأسمالية في النظام الاقتصادي سيطرة الاحتكارات الرأسمالية واستبد المنتجون بالمستهلكين، وغدا فريقٌ قليل من الناس -كأصحاب الشركات الكبرى كشركات البترول والسيارات والمصانع الثقيلة وغيرها- يسيطر على جمهرة المستهلكين ويتحكم فيهم ويفرض عليهم أثماناً معينة للسلع، وهذا ما دعا إلى وجود محاولات لترقيع النظام الاقتصادي، فجعلوا للدولة الحق أن تتدخل في تحديد الثمن في ظروف خاصة لحماية الاقتصاد الأهلي وحماية المستهلكين ولتقليل استهلاك بعض السلع والحد من سلطة المحتكرين، وجعلوا في تنظيم الإنتاج مشروعات عامة تتولاها الدولة. إلاّ أن هذه الترقيعات وأمثالها بالرغم من أنها تناقض أساس النظام الاقتصادي –وهو الحرية الاقتصادية- فإنها تكون في أحوال وظروف معينة، علاوة على أن كثيرين من الاقتصاديين كأصحاب المذهب الفردي لا يقولون بها وينكرونها، ويقولون إن جهاز الثمن وحده كفيل بتحقيق الانسجام بين مصلحة المنتجين ومصلحة المستهلكين دونما حاجة إلى أية رقابة من حكومة. على أن هذه الترقيعات التي يقول بها أنصار التدخل إنّما تحصل في ظروف وأحوال معينة، ومع ذلك فحتى في هذه الظروف والأحوال لا يُجعَل توزيع الثروة على الأفراد محققاً إشباع جميع الحاجات لجميع الأفراد إشباعاً كلياً، وبذلك يبقى سوء التوزيع الذي قام على أساس حرية الملكية وعلى أساس جعل الثمن جهاز التوزيع الوحيد للثروة، مسيطراً على كل مجتمع يطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي.

أمّا ما يشاهَد في أمريكا من أن الثروة قد نال منها كل فرد أمريكي ما يشبِع حاجاته الأساسية جميعها إشباعاً كلياً ويشبع بعض حاجاته الأخرى، فإن ذلك ناتج عن وفرة غنى تلك البلاد إلى حد يتيح لكل فرد أن يتمتع بإشباع حاجاته الأساسية كلها وبعض حاجاته الكمالية، وليس راجعاً لجعل نصيب الفرد معادلاً لقيمة الخدمات التي ساهم بها في الإنتاج. ومع ذلك فإن جعل جهاز الثمن هو الذي يقيد التوزيع قد جعل الاحتكارات الرأسمالية في الغرب تخرج إلى خارج بلادها تبحث عن أسواق حتى تحصل منها على المواد الخام وعلى الأسواق لبيع مصنوعاتها. وما يعانيه العالم من استعمار ومناطق نفوذ وغزو اقتصادي إن هو إلاّ نتيجة هذه الشركات الاحتكارية ونتيجة جعل الثمن هو الذي يوزع الثروة. فتُجمَع ثروات العالم على هذا الأساس لتوضع في أيدي الاحتكارات الرأسمالية، وذلك كله من جراء سوء القواعد التي نص عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي.

rajaab
19-05-2005, 04:26 PM
هذا من ناحية النظام الاقتصادي الرأسمالي. أمّا من ناحية النظام الاقتصادي الاشتراكي ومنه الشيوعي فإنه نقيض النظام الاقتصادي الرأسمالي. وقد ظهرت أغلب الآراء الاشتراكية في القرن التاسع عشر وحارب الاشتراكيون آراء المذهب الحر محاربة شديدة؛ أي حاربوا النظام الاقتصادي الرأسمالي، وكان ظهور الاشتراكية بشكل قوي نتيجة للظلم الذي عاناه المجتمع من النظام الاقتصادي الرأسمالي وللأخطاء الكثيرة التي فيه، وباستعراض المذاهب الاشتراكية يتبين أنها تشترك في ثلاثة أمور تميزها عن غيرها من المذاهب الاقتصادية:

أولها: تحقيق نوع من المساومات الفعلية.

وثانيها: إلغاء الملكية الخاصة إلغاء كلياً أو جزئياً.

وثالثها: تنظيم الإنتاج والتوزيع بواسطة المجموع.

ولكنها مع اتفاقها في هذه الأمور الثلاثة تختلف عن بعضها اختلافاً بيناً في عدة مواضع، أهمها هي:

أولاً: تختلف المذاهب الاشتراكية من حيث شكل المساواة الفعلية التي تريد تحقيقها، ففئة تقول بالمساواة الحسابية، ويُقصَد بها المساواة في كل ما يُنتَفع به، فيُعطى لكل فرد منه ما يعطى للآخر، وفئة تقول بالمساواة الشيوعية، ويُقصَد بها أن يراعى في توزيع الأعمال قدرة كل فرد، ويراعى في توزيع الناتج حاجات كل فرد، والمساواة تتحقق عندهم إذا ما طُبِّقت القاعدة الآتية: "مِن كلٍّ حسبَ قوّته –أي قدرته- (ويراد بهذا العمل الذي يقوم به)، ولكلٍّ حَسب حاجته (ويراد به ما يوزَّع من الإنتاج)"، وفئة تقول بالمساواة في وسائل الإنتاج، من حيث أن الأشياء لا تكفي في الواقع لسد حاجات كل الأفراد، فيجب أن تكون قاعدة التوزيع (من كلٍّ حسب قوته –أي قدرته-، ولكلٍّ بنسبة عمله)، وتتحقق المساواة إذا تهيأ لكل فرد من وسائل الإنتاج مثل ما للآخر.

ثانياً: تختلف المذاهب الاشتراكية من حيث مقدار ما تقول بإلغائه من الملكية الخاصة، ففئة تقول بإلغاء الملكية الخاصة على الإطلاق، وهذه هي الشيوعية، وفئة تقول بإلغاء الملكية الخاصة بالنسبة لثروات الإنتاج، وهي التي يطلق عليها اسم رأس المال، مثل الأرض والمصانع والخطوط الحديدية والمناجم ونحوها؛ أي تمنع ملكية كل سلعة تنتج شيئاً، فلا يملك بيتاً يؤجره ولا مصنعاً ولا أرضاً ولا ما شابه ذلك، ولكنهم يحتفظون بالملكية للأفراد بالنسبة لثروات الاستهلاك، فيصح أن يملكوا كل ما يستهلكونه، فيملكون بيتاً للسكنى فقط ويملكون ما تنتجه الأرض والمصانع، وهذه هي اشتراكية رأس المال. وفئة لا تقول بإلغاء الملكية الخاصة إلاّ بالنسبة للأرض الزراعية دون غيرها، وهؤلاء هم الاشتراكية الزراعيون، وفئة تقول: "تُدرس كل حالة يدعو الصالح العام فيها إلى استملاك الملكية الخاصة بالملكية العامة وبتقييد أصحاب الملكية الخاصة في كثير من المواطن بأن يضع المشرِّع حداً أقصى للفائدة والإجارة وحداً أدنى للأجور، وأن يمنح العمال نصيباً في رأس المال ونحو ذلك، وهذه يقال لها اشتراكية الدولة.

ثالثاً: تختلف المذاهب الاشتراكية من حيث الوسائل التي تقول بها لتحقيق أغراضها، فالنقابية الثورية تعتمد في تحرير العمال على ما تسميه الفعل المباشر –أي جهود العمال أنفسهم-، كالإكثار من الإضراب المتقطع وإتلاف الآلات ونشر فكرة الإضراب العام بين العمال والتأهب لتحقيقها حتى يأتي يوم يتمكنون فيه من تنفيذ مطالبهم، فتُشَل الحركات الاقتصادية وينهار النظام الاقتصادي الحالي.

وأمّا الاقتصاديون الماركسيون فيؤمنون بسنّة التطور في المجتمع، ويعتقدون أنها وحدها كفيلة بالقضاء على النظام الموجود واستبداله بنظام آخر يقوم على أساس الاشتراكية.

وأمّا أصحاب اشتراكية الدولة فوسيلتهم في تنفيذ أفكارهم هي التشريع، فإنّ في سنّ القوانين ما يكفل حماية المصالح العامة وتحسين حالة العمال، كما أن في فرض الضرائب وخصوصاً المدرَجة منها على الدخل ورأس المال والميراث ما يؤدي إلى تقليل التفاوت في الثروات.

رابعاً: تختلف المذاهب الاشتراكية من حيث الهيئة التي يراد أن يوكَل إليها إدارة المشروعات في النظام الاشتراكي. فمثلاً يريد أصحاب اشتراكية رأس المال إسناد تنظيم الإنتاج والتوزيع إلى الدولة، في حين أن النقابيين يريدون إسناد الإدارة إلى جماعات من العمال منظمة على رأسهم زعماؤهم.

وأشهر نظريات الاشتراكية وأكثرها تأثيراً نظريات كارل ماركس الألماني، فقد سادت نظرياته العالم الاشتراكي وقام على أساسها الحزب الشيوعي ودولة الاتحاد السوڤييتي في روسيا، ولا يزال لنظرياته تأثير كبير حتى اليوم.

ومن أشهر نظريات كارل ماركس نظرية القيمة التي أخذها من علماء الاقتصاد الرأسمالي وهاجمهم بها، وذلك أن آدم سميث الذي يعتبر زعيم المذهب الحر في إنجلترا والذي يعتبر أيضاً واضع أسس الاقتصاد السياسي –أي النظام الاقتصادي الرأسمالي- قد عرَّف القيمة فقال: "قيمة أي سلعة تتوقف على كمية العمل المبذول في إنتاجها، فقيمة السلعة التي يستغرق إنتاجها ساعتين تعادل ضعف قيمة السلعة التي لا يتطلب إنتاجها سوى ساعة واحدة"، وجاء بعده ريكاردو، فحرص على أن يوضح نظرية العمل هذه فقال في تعريف القيمة: "إن ما يحد قيمة السلعة ليس هو مقدار العمل الذي يبذل في إنتاجها مباشرة فحسب، بل لا بد أن يضاف إليه العمل الذي بُذل في الماضي في إنتاج المعدات والأدوات التي تستخدم في عملية الإنتاج"؛ أي أن ريكاردو كان يعتقد أن قيمة السلعة تتوقف على نفقات إنتاجها، وقد رد هذه النفقات إلى عنصر واحد هو العمل.

وقد جاء كارل ماركس بعد ذلك واتخذ من نظرية ريكاردو هذه للقيمة عند النظام الاقتصادي الرأسمالي سلاحاً لمهاجمة الملكية الخاصة والنظام الاقتصادي الرأسمالي بوجه عام، فذكر أن المصدر الوحيد للقيمة هو العمل المبذول في إنتاجها، وأن الممول الرأسمالي يشتري قوة العامل بأجر لا يزيد عما هو ضروري لإبقائه حياً قادراً على العمل، ثم يستغل هذه القوة في إنتاج سلع تفوق قيمتها كثيراً ما يدفعه للعامل، وقد أطلق كارل ماركس على الفرق بين ما ينتجه العامل وما يُدفَع له فعلاً اسم "القيمة الفائضة"، وقرر أنها تمثل ما يغتصبه المُلاَّك وأصحاب الأعمال من حقوق العمال باسم الريع والربح وفائدة رأس المال التي لم يعترف طبعاً بمشروعيتها.

وقد رأى كارل ماركس أن المذاهب الاشتراكية التي جاءت قبله تعتمد في انتصار أفكارها على ما فُطِر عليه الإنسان من حبه للعدل وانتصاره للمظلوم، فكانت تضع طرقاً جديدة تعتقد بالإمكان تطبيقها على المجتمع وتتقدم بها إلى الحكام والمتمولين، والطبقة المتنورة تحثهم على تنفيذها. ولكن كارل ماركس لم يبنِ مذهبه على ذلك ولم يسلك الطرق التي سلكوها، فقد بنى مذهبه على أساس مبدأ فلسفي يُعرف "بالمادة التاريخية"؛ أي ما يسمى بالنظرية الديالكتيكية، ورأى أن قيام النظام الجديد في المجتمع سيتم بمجرد عمل القوانين الاقتصادية وبمقتضى قانون التطور في المجتمع، من غير تدخل إدارة متشرع أو مصلح. وقد أطلق على اشتراكية كارل ماركس اسم "الاشتراكية العلمية" تمييزاً لها عن الطرق الاشتراكية التي تقدمتها والتي أُطلق عليها اسم "الاشتراكية الخيالية". وتتلخص نظرية كارل ماركس الاشتراكية فيما يلي:

ان نظام المجتمع الذي يقوم في عصرٍ ما هو نتيجة للحالة الاقتصادية، وإن التقلبات التي تصيب هذا النظام إنّما ترجع كلها إلى سبب واحد هو كفاح الطبقات من أجل تحسين حالتها المادية. والتاريخ يحدثنا بأن هذا الكفاح ينتهي دائماً على صورة واحدة هي انتصار الطبقة الأوفر عدداً والأسوأ حالاً على الطبقة الغنية والأقل عدداً، وهذا ما يسميه بقانون التطور الاجتماعي، وهو ينطبق على المستقبل كما ينطبق على الماضي، ففي العصور الماضية كان هذا الكفاح موجوداً بين الأحرار والأرِقَّاء، ثم بين الأشراف والعامة، ومن بعد بين الأشراف والفلاحين، وكذلك بين الرؤساء والعُرَفاء في نظام الطوائف، وقد كان ينتهي دائماً بانتصار الطبقة المظلومة الكثيرة العدد على الطبقة الظالمة القليلة العدد، ولكنه بعد انتصارها تنقلب الطبقة المظلومة إلى طبقة ظالمة محافظة. ومنذ الثورة الفرنسية أصبح هذا الكفاح قائماً بين الطبقة المتوسطة (البرجوازية) وطبقة العمال. فقد صارت الأولى سيدة المشروعات الاقتصادية ومالكة رؤوس الأموال كما صارت طبقة محافظة، وفي وجهها تقوم طبقة العمال، وهي لا تملك شيئاً من رأس المال ولكنها أوفر منها عدداً. فهناك تناقض بين مصالح هاتين الطبقتين، وهو يرجع إلى أسباب اقتصادية.

ذلك أن نظام الإنتاج اليوم أصبح لا يتمشى مع نظام الملكية، فالإنتاج لم يعد فردياً أي يقوم به الشخص بمفرده كما كان في الأزمة الماضية، بل أصبح اشتراكياً -أي يشترك فيه الأفراد-، بينما أن نظام الملكية لم يتغير تبعاً لذلك، فظلت الملكية الفردية قائمة ولا تزال هي أساس النظام في المجتمع الحالي، فكان من نتيجة ذلك أن طبقة العمال –وهي تشترك في الإنتاج- لا تشترك في ملكية رأس المال وأن تصبح تحت رحمة أصحاب رأس المال الذين لا يشتركون بأنفسهم في الإنتاج في حين أنهم يستغلون العمال، إذ لا يدفعون إليهم من الأجر إلاّ ما يعادل الكفاف، والعامل مضطر إلى قبوله، إذ لا يملك غير عمله. فالفرق بين قيمة الناتج وأجر العامل –وهو ما يسميه كارل ماركس بالقيمة الفائضة- يتكون منه الربح الذي يستأثر به الرأسمالي، مع أن العدل يقضي أن يكون من نصيب العامل، فالحرب ستظل معلَنة بين هاتين الطبقتين حتى يتلاءم نظام الملكية مع نظام الإنتاج؛ أي حتى تصير الملكية اشتراكية. وسينتهي هذا النضال بانتصار الطبقة العمال تبعاً لقانون التطور في المجتمع لأنها هي الطبقة الأسوأ حالاً والأوفر عدداً. أمّا كيف تنتصر طبقة العمال وأسباب انتصارها فذلك ما ينبئ به قانون التطور للمجتمع، فنظام الحياة الاقتصادية الحاضرة يحمل في نفسه بذور الجماعة المستقبلة وهو يقضي عليه بالزوال بفعل القوانين الاقتصادية التي يخضع لها، فقد جاء وقت انتصرت فيه الطبقة المتوسطة على طبقة الأشراف فلعبت دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية. إذ كانت هي مالكة رؤوس الأموال، ولكنها اليوم انتهت مهمتها وحان الوقت الذي تتخلى فيه عن مكانها لطبقة العمال. ويحتم عليها ذلك قانون "التركز" وفعل المنافسة الحرة. فبفعل قانون التركز أخذ يتناقص عدد أصحاب رأس المال ويتزايد عدد العمال الأُجَراء، كما أنه بفعل المنافسة الحرة تجاوز الإنتاج كل حد فأصبحت كمية الإنتاج تزيد عما يستطيع المستهلكون من طبقة العمال شراءه منها وهم يتناولون أجوراً غير كافية، فأدى ذلك إلى وقوع الأزمات التي من نتائجها أن يفقد بعض الناس رؤوس أموالهم فيدخلون في طبقة العمال، وكلما تقدم النظام الحاضر كلما اشتدت وطأة الأزمات وتقاربت أوقات وقوعها، وكلما تناقص عدد أصحاب رأس المال تزايد عدد العمال، ثم لا يلبث أن يأتي يوم تقع فيه أزمة أكبر من كل ما تقدمها فتكون هي النكبة الكبرى، إذ تقوّض أركان النظام الاقتصادي الرأسمالي فيقوم على أنقاضه نظام الاشتراكية، ويرى ماركس في قيام الاشتراكية آخر دور للتطور التاريخي لأنها إذ تهدم الملكية الخاصة فلا يكون هناك ما يدعو تطاحن الطبقات في المجتمع، وذلك لاختفاء ما بينها من الفروق.

أما قانون التركز الذي يشير إليه كارل ماركس فهو من النظام الاقتصادي الرأسمالي. وخلاصته أن هناك حركة تنقّل في العمل ورأس المال من بعض المشروعات نحو البعض الآخر، إذ يكبر بعضها في حين يصغر البعض الآخر، فهذه كلها حالات تدل على حدوث تركز في الإنتاج، فإذا بحثت في عدد من المشروعات في فرع واحد كمصانع الشوكولاته مثلاً تجد أن عدد المشروعات قد صار إلى التناقص، في حين زاد متوسط ما يستخدم في كل مشروع من قوى الإنتاج، وفي هذا دليل على أنه قد حدث تركز في هذا الفرع من الإنتاج إذ أخذ الإنتاج الكبير يحل فيه محل الصغير، فلو كان عدد المصانع عشرة مثلاً فإنها تصبح أربعة أو خمسة مصانع كبيرة مثلاً وتنقرض باقي المصانع.

وأمّا المنافسة الحرة الواردة في كلامه فهي تعني قاعدة حرية العمل، وهي أن يكون لكل شخص الحق في أن ينتج ما يشاء كما يشاء.

وأمّا الأزمات الاقتصادية التي وردت في كلامه فهي تًطلق على كل اضطراب فجائي يطرأ على التوازن الاقتصادي، والأزمة الخاصة تشمل كل أنواع الأزمات التي تحل بفرع خاص من فروع الإنتاج بسبب ما يحدث من فقد التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، وهذا الحادث ينجم إما عن إفراط في الإنتاج أو قلة فيه أو إفراط في الاستهلاك أو قلة فيه.

وأمّا الأزمة العامة الدولية فهي تظهر على شكل هزة عنيفة تزعزع أركان النظام الاقتصادي كله وتكون هي النقطة التي تفصل بين عهد النشاط وعهد الكساد، وعهد النشاط يتراوح أجله بين ثلاث وخمس سنين، وعهد الكساد يتراوح أجله تلك المدة كذلك، والأزمات العامة الدولية لها صفات خاصة تتميز بها أهمها ثلاث صفات هي: صفة العموم، فهي تصيب في البلد الواحد كل نواحي النشاط الاقتصادي أو على الأقل أكثرها، ثم هي تظهر أولاً في أحد البلاد وتعم فيه ثم تسري منه إلى البلاد الأخرى التي أحرزت نصيباً من التقدم الاقتصادي وكان يربط بعضها ببعض علاقات مستمرة. والصفة الثانية صفة الدورية، وهي أنها تحدث كل مدة بصفة دورية، والدورة التي تفصل بين أزمة وأخرى تتراوح بين 7-11 سنة، إلاّ أن حدوثها ليس في مواعيد ثابتة ولكنها تحدث دورياً. أمّا الصفة الثالثة فهي إفراط الإنتاج، إذ يصادف أصحاب المشروعات صعوبة كبيرة في تصريف منتجاتهم فيزيد العرض على الطلب في كثير من المنتجات فتحصل الأزمة.

فكارل ماركس يرى أن هذه الأزمات تؤدي إلى أن يفقد بعض الناس رؤوس أموالهم فيتناقص عدد أصحاب رؤوس الأموال ويتزايد عدد العمال، وهذا ما يحوِّل المجتمع إلى أن تحصل أزمة كبرى تقوِّض النظام القديم.

rajaab
19-05-2005, 04:34 PM
هذه خلاصة الاشتراكية، والشيوعية نوع من أنواعها. ومن هذه الخلاصة يتبين أن المذاهب الاشتراكية كلها بما فيها الشيوعية تعمل لتحقيق المساواة الفعلية بين الأفراد، إما المساواة بالمنافع أو المساواة في وسائل الإنتاج أو المساواة المطلقة، وكل واحد من أنواع هذه المساواة مستحيل الوقوع وهو فَرَض خيالي، وذلك أن المساواة من حيث هي غير واقعية، فهي غير عملية. أمّا كونها غير واقعية فإن الناس بطبيعة فطرتهم التي خُلقوا عليها متفاوتون في القوى الجسمية والعقلية ومتفاوتون في إشباع الحاجات، فالمساواة بينهم لا يمكن أن تحصل، إذ لو ساويت بينهم في حيازة السلع والخدمات جبراً بالقوة تحت سلطة الحديد والنار فإنه لا يمكن أن يتساووا في استعمال هذا المال في الإنتاج ولا في الانتفاع به، ولا يمكن أن تساوي بينهم بمقدار ما يشبع حاجاتهم، فالمساواة بينهم أمر نظري خيالي.

على أن المساواة نفسها بين الناس مع تفاوتهم في القوى تعتبر بعيدة عن العدالة التي يزعم الاشتراكيون أنهم يحاولون تحقيقها، فالتفاضل بين الناس والتفاوت في حيازة المنافع وفي وسائل الإنتاج أمر حتمي، وهو الأمر الطبيعي، وكل محاولة للمساواة مكتوب لها الإخفاق لأنها مناقِضة لفطرة التفاوت الموجودة بين الأفراد من بني الإنسان.

وأمّا إلغاء الملكية الخاصة إلغاء كلياً فهو يناقض فطرة الإنسان، لأن الملكية أو الحيازة مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهي حتمية الوجود في الإنسان لأنها فطرية فيه، فهي جزء من تكوينه ومظهر من مظاهر طاقته الطبيعية فلا يمكن إلغاؤها لأنها غريزية، وكل ما هو غريزي لا يمكن قلعه من الإنسان ما دامت تنبض فيه الحياة، وأي محاولة لإلغائها إنّما هي كبت للإنسان يؤدي إلى القلق، ولذلك كان الأمر الطبيعي أن يجري تنظيم هذه الغريزة لا إلغاؤها. وأمّا إلغاء الملكية جزئياً فإنه يُنظر فيه، فإن كان يحدد مقدار ما يملك من السلع بمقدار معين لا يتعداه فإنه يكون تحديداً للملكية بالكم وهذا لا يجوز لأنه يحد من نشاط الإنسان ويعطل جهوده ويقلل إنتاجه، فهو حين يمنعه من حيازة ما يزيد على مقدار ما حازه أوقفه عند حد، فحُرِم من مواصلة النشاط وحَرَم الجماعة من الانتفاع بجهود هؤلاء الأفراد.

وإن كان يحدد مقدار ما يملك من السلع والخدمات بكيفية معينة من غير تحديد بالكم فذلك جائز لأنه لا يحد من نشاط الإنسان ولأن ذلك تنظيم لحيازة المال بين الأفراد، وهو يساعد على بذل المجهودات وزيادة النشاط.

أمّا إن كان إلغاء الملكية إلغاء جزئياً يحدد أموالاً معينة يُمنع الفرد من ملكيتها ويباح له أن يملك ما عداها من غير تحديد بمقدار معين فإنه يُنظر فيه، فإن كانت طبيعة هذه الأموال التي وجدت عليها خلقة للانتفاع بها لا تتأتى حيازتها للفرد وحده دون غيره إلاّ بحرمان مجموعة الناس منها نظراً لاشتراك المنفعة فيها بين أفراد الناس طبيعياً كالطرق العامة وساحات البلدة والأنهار والبحار وما شاكل ذلك فإنَ منْع ملكية الفرد لها وحده دون غيره أمر طبيعي قد قررته طبيعة المال، فلا شيء حينئذ في منع الفرد من ملكيتها وحده دون غيره، وأمّا إن كانت طبيعة المال لا تقتضي ذلك يُنظر، فإن كان المال ملحَقاً بما هو من طبيعته أن لا يتأتى ملكه للأفراد إلاّ بحرمان مجموعة الناس منه -كالأموال التي لا يتأتى ملك أصلها كلها للأفراد مثل الماء والمعادن التي لا تنقطع- فإنه لا شيء في منع الفرد من ملكيتها لأنها ملحَقة بما من طبيعته أن لا يملكه الفرد إلاّ بحرمان المجموعة، والذي جعلها ملحَقة بتلك الأموال هو كون أصلها لا يتأتى ملكه للفرد إلاّ بحرمان المجموعة، أمّا إن لم يكن المال ملحَقاً بذلك –كسائر الأموال- فإنه لا يجوز أن يُمنَع الأفراد من ملكيتها لأنه يكون حينئذ تحديداً لملكية الأموال بالسماح لملكية بعضها دون البعض الآخر، فهو كتحديد ملكية المال بمقدار معين، ويصدق عليه ما يصدق على تحديد الملكية بالكم وتحصل له نفس النتائج فإنه يحد من نشاط الإنسان ويعطل جهوده ويقلل إنتاجه ويوقفه عن العمل حين يصل إلى المقدار الذي أُبيح له أن يحوزه وحين يُمنَع مما يزيد عليه.

وإلغاء الملكية إلغاء جزئياً في الاشتراكية هو تحديد بالكم وليس تحديداً بالكيف، وهو منعٌ مِن ملكية بعض الأموال التي من طبيعتها ومن طبيعة أصلها الانفراد في حيازتها، لأنها إما أن تحدد الملكية بالكم كتحديد ملكية الأراضي في مساحات معينة، وإما أن تحدد الملكية بأموال معينة تمنع الأفراد من ملكيتها كتحديد وسائل الإنتاج مع أن هذه الأموال من طبيعتها أن يستقل بها الأفراد، وتحديدات الملكية في الاشتراكية هي من هذا النوع، فهي منع لملكية أموال من طبيعتها أن تُملَك فردياً، ومنع الملكية من هذه الأموال تحديد للنشاط، سواء أعُيِّنَت هذه الأموال –كمنع حق الميراث أو منع ملكية المناجم والسكك الحديدية والمصانع وما شاكل ذلك-، أو تُرك للدولة أن تمنعها كلما رأت الصالح العام يقتضي منعها، فإن ذلك كله يحد من نشاط الأفراد ما دامت الأموال التي مُنعت من طبيعتها أن يَستقل الفرد بملكيتها.

وأمّا تنظيم الإنتاج والتوزيع بواسطة المجموع فإنه لا يتأتى بإثارة القلق والاضطراب بين الناس وإثارة الحقد والبغضاء فيهم على بعضهم البعض، فإن ذلك يعني إيجاد الفوضى وليس إيجاد التنظيم، ولا يأتي طبيعياً في ترك العمال يحسون بظلم أصحاب الأعمال لأنه قد يكون أصحاب الأعمال من المهارة بحيث يُشبعون جميع حاجات العمال كما هي الحال في عمال المصانع في الولايات المتحدة، فلا يحسون بالظلم الواقع عليهم في هضم ثمرات جهودهم، ولا يتأتى حينئذ التطور الذي ينظم الإنتاج والاستهلاك، ولذلك لا بد أن يأتي هذا التنظيم بأحكام ومعالجات صحيحة قطعية الأساس منطبقة على واقع المشاكل، والاشتراكية تعتمد في تنظيم الإنتاج والتوزيع إما على إثارة القلق والاضطرابات بين العمال، وإما على سنّة التطور في المجتمع، وإما على تشريعات وقوانين وضعية غير مستندة إلى أساس قطعي، ولذلك كان تنظيمها هذا خاطئاً من أساسه.

هذا بيان خطأ الاشتراكية من حيث هي. أمّا خطأ اشتراكية كارل ماركس بنوع خاص فهو آتٍ من ثلاث جهات:

الأولى: أن رأيه في نظرية القيمة خطأ مخالف للواقع، فإن كون المصدر الوحيد لقيمة السلعة هو العمل المبذول في إنتاجها يخالف الواقع، إذ العمل المبذول مصدر من مصادر قيمة السلعة وليس هو المصدر الوحيد لأن هناك أشياء أخرى غير العمل تدخل في قيمة السلعة، فهناك المادة الخام التي جري عليها العمل وهناك الحاجة لمنفعة هذه السلعة، فقد تكون المادة الخام تحوي منفعة تزيد على العمل الذي بُذِل في تحصيلها كالصيد مثلاً، وقد تكون منفعة هذه السلعة غير مطلوبة في السوق وغير مصرح بتصديرها -كالخمر عند المسلمين-، فجعْل العمل المصدر الوحيد للقيمة غير صحيح ولا ينطبق على واقع السلعة من حيث هي.

والثانية: أن قوله إن النظام الاجتماعي الذي يقوم في عصر ما هو نتيجة للحالة الاقتصادية، وإن التقلبات المختلفة التي تصيب هذا النظام إنّما ترجع كلها إلى سبب واحد هو كفاح الطبقات الاجتماعية من أجل تحسين حالتها المادية، هذا القول خطأ مخالف للواقع ومبني على فَرَض نظري ظني. أمّا وجه خطئه ومخالفته للواقع فظاهر تاريخياً وواقعياً، فروسيا السوڤييتية حين انتقلت إلى الاشتراكية لم يحصل ذلك نتيجة لتطور مادي ولا إلى كفاح طبقات أدى إلى تغيير نظام بنظام، وإنما وصلت للحكم جماعة عن طريق ثورة دموية فأخذت تطبق أفكارها على الشعب وغيّرت النظام، وكذلك الحال في الصين الشعبية، وتطبيق الاشتراكية على ألمانيا الشرقية دون ألمانيا الغربية وعلى دول أوروبا الشرقية دون دول أوروبا الغربية لم يحصل نتيجة لأي كفاح بين الطبقات وإنما حصل من استيلاء دولة اشتراكية على هذه البلدان فطبقت عليها نظامها تماماً كما يحصل في النظام الرأسمالي، وكما حصل في نظام الإسلام، وكما يحصل في أي نظام. على أن البلاد التي كان يحتم هذا القانون أن يحول النظام لديها بفعل كفاح الطبقات هي ألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة، البلدان الرأسمالية التي يكثر فيها أصحاب رؤوس الأموال والعمال، لا روسيا القيصرية ولا الصين اللتان هما زراعيتان أكثر منهما صناعيتان، واللتان تقل فيهما طبقات العمال والرأسماليين إذا قيست بالبلدان الغربية، وبالرغم من وجود الطبقات بين الرأسماليين والعمال في دول أوروبا الغربية وفي أمريكا لم تُنقَل إلى الاشتراكية ولا تزال كلها تطبق النظام الرأسمالي، دون أن يؤثر وجود طبقة العمال وطبقة مالكي رؤوس الأموال على نظامها أي تأثير، وهذا وحده كافٍ لنقض هذه النظرية من أساسها.

أمّا الجهة الثالثة التي يتبين فيها خطأ نظريات كارل ماركس فذلك ما يقول به من قانون التطور الاجتماعي، وأن نظام الحياة الاقتصادية مقضي عليه بالزوال بفعل القوانين الاقتصادية التي يخضع لها، وإن الطبقة المتوسطة التي انتصرت على طبقة الأشراف وكانت هي مالكة رؤوس الأموال قد حان الوقت الذي تتخلى فيه عن مكانها لطبقة العمال ويحتم عليها ذلك قانون التركز. أما وجه خطأ هذا القول فإن نظرية كارل ماركس في تركز الإنتاج التي يبنى عليها تزايد عدد العمال وتناقص أصحاب رؤوس الأموال هي نظرية فاسدة، فإن هناك حداً لا يتعداه تركز الإنتاج فيصل إلى حد معين ويقف فلا يصلح للتطور الذي يتصوره كارل ماركس إذ يحصل التجمع بين عوامل الإنتاج المشتتة إلى حد يقف عنده ولا يتعداه، علاوة على أن تركز الإنتاج ليس موجوداً مطلقاً في أهم فروع الإنتاج وهو الزراعة فكيف يحصل قانون التطور في المجتمع؟ على أن كارل ماركس يظن أن تركز الإنتاج يستتبع تركزاً في الثروات، مما ينشأ عنه قلة في عدد المتمولين الذين يستأثرون برؤوس الأموال وكثرة في عدد العمال الذين لا يملكون شيئاً وهذا خطأ لأن تركز الإنتاج قد ينشأ عنه كثرة في عدد أصحاب رؤوس الأموال وقد ينشأ عنه أن يصبح العمال أصحاب رؤوس أموال. ففي شركات المساهمة وهي الشكل الذي تتخذه عادة المشروعات الكبرى كثيراً ما يكون مساهموها أكثر من العمال فكيف يحصل تركز الإنتاج؟ وفوق ذلك فإن في المصانع عمالاً لهم أجور عالية كالمهندسين والكيميائيين والمديرين فيستطيعون أن يدخروا جزءاً كبيراً منها يصيرون به من المتمولين من غير حاجة إلى إنشاء مشروع مستقل، وحينئذ لا ينطبق عليهم ما يقوله كارل ماركس عن العمال في التطور.

هذه لمحة خاطفة للأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي والأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الاشتراكي ومنه الشيوعي، وإشارة موجزة إلى ما في هذه الأسس من زيف وفساد. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنها مخالِفة لطريقة الإسلام في أخذ المعالجات ومناقِضة للإسلام. أما من ناحية مخالفتها لطريقة الإسلام في أخذ المعالجات للمشاكل، فذلك أن طريقة الإسلام في معالجة المشكلة الاقتصادية هي نفسها طريقته في معالجة كل مشكلة من مشاكل الإنسان وهي: دراسة واقع المشكلة الاقتصادية وتفهمها ثم استنباط حل المشكلة من النصوص الشرعية بعد دراسة هذه النصوص والتأكد من انطباقها عليها، بخلاف الأحكام والمعالجات الاقتصادية في الرأسمالية والاشتراكية، فإنها في الرأسمالية تؤخذ المعالجات من واقع المشكلة بعد دراستها، وفي الاشتراكية تؤخذ من فروض نظرية يُتَخيَّل أنها موجودة في المشكلة فيوضع العلاج بناء على هذه الفروض، وفي كل واحدة من هاتين الطريقتين مخالَفة لطريقة الإسلام، فلا يجوز للمسلم الأخذ بها.

وأمّا مناقضة الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي –ومنه الشيوعي- للإسلام فذلك أن الإسلام إنّما يأخذ معالجاته أحكاماً شرعية مستنبَطة من الأدلة الشرعية، وهذه المعالجات الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية ليست أحكاماً شرعية بل هي من نظام الكفر، والحكم على الأشياء بها حكم بغير ما أنزل الله، ولا يحل لمسلم أن يأخذ بها ولا بوجه من الوجوه والأخذ بها فسق إذا كان الآخذ لا يعتقد بها، أمّا إذا اعتقد أنها هي الأحكام الصحيحة وأن أحكام الإسلام لا تناسب العصر الحديث ولا تعالج المشاكل الاقتصادية الحديثة فذلك كفر والعياذ بالله.

rajaab
19-05-2005, 04:36 PM
الاقتصــاد



كلمة الاقتصاد مشتقة من لفظ إغريقي قديم معناه (تدبير أمور البيت)، بحيث يَشترك أفراده القادرون في إنتاج الطيبات والقيام بالخدمات، ويشترك جميع أفراده في التمتع بما يحوزون، ثم توسع الناس في مدلول البيت وصار يُقصد به الجماعة التي تحكمها دولة واحدة.

وعليه فليس المقصود هنا من كلمة اقتصاد المعنى اللغوي وهو التوفير، ولا معنى المال، وإنما المقصود هو المعنى الاصطلاحي لمسمى معين وهو تدبير شؤون المال، إما بتكثيره وتأمين إيجاده –ويبحث فيه علم الاقتصاد-، وإما بكيفية توزيعه –ويبحث فيه النظام الاقتصادي-.

وإنه وإن كان علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي كل منهما يبحث في الاقتصاد ولكنهما شيئان مختلفان متغايران، ومفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر، فالنظام الاقتصادي لا يختلف بكثرة الثروة ولا بقلتها ولا يتأثر بها مطلقاً، وكثرة الثروة وقلتها لا يؤثر عليها شكل النظام الاقتصادي ولا بوجه من الوجوه. وعليه كان من الخطأ الفادح جعل الاقتصاد موضوعاً واحداً يُبحَث على اعتباره شيئاً واحداً، لأنه يؤدي إما إلى الخطأ في إدراك المشاكل الاقتصادية المراد معالجتها، وإما إلى سوء فهم العوامل التي توفر الثروة –أي توجدها في البلاد-، ولأن تدبير أمور الجماعة من حيث توفير المال –أي إيجاده- شيء، وتدبير أمور الجماعة من حيث توزيع المال المدبَّر شيء آخر، فيجب أن يُفصل بحث تدبير مادة المال عن بحث تدبير توزيعه، إذ الأول يتعلق بالوسائل، والثاني يتعلق بالفكر، ولهذا يجب بحث النظام الاقتصادي باعتباره فكراً يؤثر على وجهة النظر في الحياة ويتأثر بها، وبحث علم الاقتصاد باعتباره علماً ولا علاقة له بوجهة النظر في الحياة، والبحث الهام منهما هو النظام الاقتصادي، لأن المشكلة الاقتصادية تدور حول حاجات الإنسان ووسائل إشباعها والانتفاع بهذه الوسائل، وبما أن الوسائل موجودة في الكون فإن إنتاجها لا يسبب مشكلة أساسية في إشباع الحاجات، بل إن إشباع الحاجات يدفع الإنسان لإنتاج هذه الوسائل أو إيجادها، وإنما المشكلة الموجودة في علاقات الناس –أي في المجتمع- ناجمة عن تمكين الناس من الانتفاع بهذه الوسائل أو عدم تمكينهم؛ أي ناجمة عن موضوع حيازة الناس لهذه الوسائل، فيكون هو أساس المشكلة الاقتصادية، وهو الذي يحتاج إلى علاج، وعلى ذلك فالمشكلة الاقتصادية آتية من موضوع حيازة المنفعة لا من إنتاج الوسائل التي تعطي هذه المنفعة.



أساس النظام الاقتصادي



المنفعة هي صلاحية الشيء لإشباع حاجة الإنسان. فهي تتكون من أمرين: أحدهما مبلغ ما يشعر به الإنسان من الرغبة في الحصول على شيء معين. والثاني المزايا الكامنة في نفس الشيء وصلاحيتها لإشباع حاجة الإنسان، وليس حاجة فرد معين. وهذه المنفعة إما ناتجة عن جهد الإنسان أو عن المال أو عنهما معاً. وتشمل كلمة جهد الإنسان: الجهد الفكري والجهد الجسمي الذي يبذله لإيجاد مال أو منفعة مال. وتشمل كلمة المال كل ما يُتمَوَّل للانتفاع به بالشراء أو الإجارة أو الإعارة، إما باستهلاك عينه إفنائاً كالتفاحة، أو بعدم استهلاكها كالسيارة، وإما بالانتفاع به مع بقاء عينه كالمنخل إعارة، وكسكنى الدار التي في حيازة غيره إجارة. ويشمل المال النقد كالذهب والفضة، والسلع كالثياب والأغذية، والعقارات كالدور والمصانع، وغير ذلك مما يُتمَوَّل. وبما أن المال هو الذي يُشبِع حاجات الإنسان، وما جهد الإنسان إلاّ أداة للحصول على المال عيناً ومنفعة، لذلك كان المال هو أساس المنفعة. وأمّا جهد الإنسان فهو من الوسائل التي تمكِّن من الحصول على المال. ومن هنا كان الإنسان بفطرته يسعى للحصول على هذا المال ليحوزه. وعليه يكون جهد الإنسان والمال هما الأداة التي تستخدم لإشباع حاجات الإنسان، وهما الثروة التي يسعى الإنسان للحصول عليها ليحوزها. فالثروة هي مجموع المال والجهد.

وحيازة الأفراد للثروة تكون إما من أفراد آخرين كحيازة المال بالهبة، وإما من غير الأفراد كحيازة المال الخام مباشرة. وتكون إما حيازة للعين استهلاكاً وانتفاعاً كحيازة التفاحة وحيازة الدار ملكاً، وإما حيازة لمنفعة العين كاستئجار الدار، وإما حيازة للمنفعة الناتجة عن جهد الإنسان كخريطة دار من مهندس.

وهذه الحيازة بجميع ما تَصدُق عليه إما أن تكون بِعِوَض كالبيع وإجارة المال وإجارة الأجير، وإما بغير عِوَض كالهبة والإرث والعارية.

وعلى ذلك فالمشكلة الاقتصادية إنّما هي في حيازة الثروة وليست في إيجاد الثروة. وهي تأتي من النظرة إلى الحيازة أي الملكية، ومن سوء التصرف في هذه الملكية، ومن سوء توزيع الثروة بين الناس، ولا تأتي من غير ذلك مطلقاً، ولهذا كانت معالجة هذه الناحية هي أساس النظام الاقتصادي.

وعلى ذلك فالأساس الذي يُبنى عليه النظام الاقتصادي قائم على ثلاث قواعد هي: الملكية، والتصرف في الملكية، وتوزيع الثروة بين الناس.



نظرة الإسلام إلى الاقتصاد



تختلف نظرة الإسلام إلى مادة الثروة عن نظرته إلى الانتفاع بها، وعنده أن الوسائل التي تعطي المنفعة شيء، وحيازة المنفعة شيء آخر. فالمال وجهد الإنسان هما مادة الثروة وهما الوسائل التي تعطي المنفعة، ووضعهما في نظر الإسلام من حيث وجودهما في الحياة الدنيا ومن حيث إنتاجهما يختلف عن وضع الانتفاع بهما وعن كيفية حيازة هذه المنفعة، فهو قد تدخّل في الانتفاع بالثروة تدخلاً واضحاً، فحرَّم الانتفاع من بعض الأموال كالخمر والميتة، كما حرّّم الانتفاع من بعض جهود الإنسان كالرقص والبغاء، فحرَّم بيع ما حَرُم أكله من الأموال، وحرَّم إجارة ما حَرُم القيام به من الأعمال. هذا من حيث الانتفاع بالمال وجهد الإنسان، أمّا من حيث كيفية حيازتهما فقد شرع أحكاماً متعددة لحيازة الثروة كأحكام الصيد وإحياء المَوات وكأحكام الإجارة والاستصناع وكأحكام الإرث والهبة والوصية.

هذا بالنسبة للانتفاع بالثروة وكيفية حيازتها، أمّا بالنسبة لمادة الثروة من حيث إنتاجها فإن الإسلام قد حثّ على إنتاجها ورغّب فيه حين رغّب بالكسب بشكل عام، ولم يتدخل ببيان كيفية زيادة الإنتاج ومقدار ما يُنتج بل ترك ذلك للناس يحققونه كما يريدون. وأمّا من حيث وجودها فالمال موجود في الحياة الدنيا وجوداً طبيعياً، وخَلَقه الله سبحانه وتعالى مسخَّراً للإنسان، قال تعالى: )هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً(، وقال: )الله الذي سخّر لكمُ البحر لتجريَ الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله(، وقال: )وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه(، وقال: )فلينظر الإنسان إلى طعامه أنّا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غُلباً وفاكهة وأبّاً متاعاً لكم ولأنعامكم(، وقال: )وعلّمناه صَنعَة لَبوسٍ لكم لتُحصِنَكم من بأسكم(، وقال: )وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس(. فبيّن في هذه الآيات وما شابهها أنه خلق المال وخلق جهد الإنسان ولم يتعرض لشيء آخر يتعلق به، مما يدل على أنه لم يتدخل في مادة المال ولا في جهد الإنسان، سوى أنه بيّن أنه خلقها لينتفع بها الناس. وكذلك لم يتدخل في إنتاج الثروة، ولا يوجد نص شرعي يدل على أن الإسلام تدخّل في إنتاج الثروة، بل على العكس من ذلك نجد النصوص الشرعية تدل على أن الشرع ترك الأمر للناس في استخراج المال وفي تحسين جهد الإنسان، فقد رُويَ أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال في موضوع تأبير النخل: {أنتم أدرى بأمور دنياكم}، ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم أرسل اثنين من المسلمين إلى جُرَش اليَمَن يتعلمان صناعة الأسلحة، وهذا يدل على أن الشرع ترك أمر إنتاج المال إلى الناس ينتجونه بحسب خبرتهم ومعرفتهم.

وعلى هذا فإنه تبين من ذلك أن الإسلام ينظر في النظام الاقتصادي لا في علم الاقتصاد، ويجعل الانتفاع بالثروة وكيفية حيازة هذه المنفعة موضوع بحثه، ولم يتعرض لإنتاج الثروة ولا إلى وسائل المنفعة مطلقاً.

rajaab
19-05-2005, 04:38 PM
سياسة الاقتصاد في الإسلام



سياسة الاقتصاد هي الهدف الذي ترمي إليه الأحكام التي تعالج تدبير أمور الإنسان. وسياسة الاقتصاد في الإسلام هي ضمان تحقيق الإشباع لجميع الحاجات الأساسية لكل فرد إشباعاً كلياً، وتمكينه من إشباع الحاجات الكمالية بقدر ما يستطيع باعتباره يعيش في مجتمع معين له طراز خاص من العيش، فهو ينظر إلى كل فرد بعينه لا إلى مجموع الأفراد الذين يعيشون في البلاد، وينظر إليه باعتباره إنساناً أولاً لا بد من إشباع جميع حاجاته الأساسية إشباعاً كلياً، ثم باعتبار فرديته المشخصة ثانياً بتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية بقدر ما يستطيع، وينظر إليه في نفس الوقت باعتباره مرتبطاً مع غيره بعلاقات معينة تُسيَّر تسييراً معيناً حسب طراز خاص. وعلى هذا فإن سياسة الاقتصاد في الإسلام ليست لرفع مستوى المعيشة في البلاد فحسب دون النظر إلى ضمان انتفاع كل فرد من هذا العيش، ولا هي لجلب الرفاهية للناس وتركهم أحراراً في الأخذ منها بقدر ما يتمكنون دون النظر إلى ضمان حق العيش لكل فرد منهم أياً كان، وإنما هي معالجة المشاكل الأساسية لكل فرد باعتباره إنساناً يعيش طبق علاقات معينة، وتمكينه من رفع مستوى عيشه وتحقيق الرفاهية لنفسه في طراز خاص من العيش. وبهذا تختلف عن غيرها من السياسات الاقتصادية.

فالإسلام في الوقت الذي يشرِّع أحكام الاقتصاد للإنسان يجعل التشريع للفرد، وفي الوقت الذي يعمل لضمان حق العيش والتمكين من الرفاه يجعل ذلك يتحقق في مجتمع معين له طراز خاص من العيش، فهو ينظر إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع في الوقت الذي ينظر فيه إلى ضمان العيش والتمكين من الرفاه، ويجعل نظرته إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع أساساً في نظرته إلى العيش والرفاه. ولذلك تجد الأحكام الشرعية قد ضمنت توفير إشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً لكل فرد من أفراد رعية الدولة الإسلامية من مأكل وملبس ومسكن، وذلك بفرض العمل على الرجل القادر حتى يوفر لنفسه الحاجات الأساسية له ولمن تجب عليه نفقتهم، وفَرَضها على المولود له، وعلى الوارث إن لم يكن قادراً على العمل، أو على بيت المال إن لم يوجَد من تجب عليهم نفقته. وبهذا ضَمِن الإسلام لكل فرد بعينه أن يُشبع الحاجات التي لا بد للإنسان من حيث هو إنسان أن يشبعها، وهي المأكل والملبس والمسكن، ثم حثّ هذا الفرد على التمتع بالطيبات والأخذ من زينة الحياة الدنيا ما يستطيع، ومَنَع الدولة أن تأخذ من ماله ضرائب، مما هو فرضٌ على كافة المسلمين، إلاّ مما يزيد على كفاية حاجاته التي يشبعها فعلاً في حياته العادية، ولو كانت حاجات كمالية. وبذلك ضَمِن توفير حق العيش لكل فرد بعينه، وأتاح له الرفاه في الحياة. وهو في نفس الوقت حدد كسب المال لهذا الفرد في إشباع حاجاته الأساسية والكمالية في حدود معينة، وجعل علاقاته على طراز خاص، فحرّم إنتاج الخمر واستهلاكها على كل مسلم، ولم يعتبرها بالنسبة له مادة اقتصادية، وحرّم أكل الربا والتعامل به على كل من يحملون التابعية الإسلامية، ولم يعتبرها بالنسبة لهم مادة اقتصادية، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، فجَعَل الوضع الذي يجب أن يكون عليه المجتمع حين الانتفاع أمراً أساسياً عند الانتفاع بالمادة الاقتصادية.

ومن ذلك يتبين أن الإسلام لم يفصِل الفرد عن كونه إنساناً، ولا فصَل كونه إنساناً عن فرديته، ولم يفصِل اعتبار ما يجب أن يكون عليه المجتمع عن ضمان إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد وتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية، بل جعل إشباع الحاجات وما يجب أن يكون عليه المجتمع أمرين متلازمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولكن بحيث يجعل ما يجب أن يكون عليه المجتمع أساساً لإشباع الحاجات. ومن أجل إشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً والتمكين من إشباع الحاجات الكمالية، لا بد أن تتوفر المادة الاقتصادية لدى الناس حتى يتمكنوا من إشباع الحاجات، ولا يتأتى أن تتوفر لديهم إلاّ إذا سعوا لكسبها، ولهذا حثّ الإسلام على الكسب، وعلى طلب الرزق، وعلى السعي، وجعَل السعي لكسب الرزق فرضاً، قال تعالى: )فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه(. إلاّ أنه ليس معنى ذلك أنه تدخَّل في إنتاج الثروة أو بيّن كيفية زيادة إنتاجها أو مقدار ما يُنتَج، لأنه لا علاقة له بذلك، بل هو حثَّ على العمل وعلى كسب المال فحسب. وقد وردت أحاديث كثيرة تحث على كسب المال، وفي الحديث: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي الله عنه فإذا يداه قد اكتبتا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أضربُ بالمرّ والمسحاة لأنفق على عيالي. فقبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال: كفّان يحبّهما الله تعالى}، وقال عليه السلام: {ما أكل أحدكم طعاماً قط خيراً من عمل يده}، وقال عليه السلام: {إن من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها الصوم ولا الصلاة. قيل: فما يكفّرهما يا رسول الله؟ قال: الهموم في طلب الرزق}. وروي أن عمر مرّ بقوم من القرّاء فرآهم جلوساً قد نكسوا رؤوسهم، فقال: من هؤلاء؟ فقيل: هم المتوكلون؟ فقال: كلاّ هم المتأكلون يأكلون أموال الناس. ألاَ أنبئكم من المتوكلون؟ فقيل: نعم، فقال: هو الذي يلقي الحَبّ في الأرض ثم يتوكل على ربه عزّ وجلّ. وهكذا نجد الآيات والأحاديث تحث على السعي لطلب الرزق وعلى العمل لكسب المال، كما تحث على التمتع بهذا المال وأكل الطيبات، قال تعالى: )قُل مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(، وقال تعالى: )ولا يَحسبنَ الذين يَبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيُطوَّقون ما بَخِلوا به يوم القيامة(، وقال تعالى: )كلوا من طيبات ما رزقناكم(، وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم وما أخرجنا لكم من الأرض(، وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم(، وقال: )وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً(. فهذه الآيات وما شابهها تدل دلالة واضحة على أن الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد تهدف إلى كسب المال والتمتع بالطيبات. فالإسلام فرض على الأفراد الكسب وأمرهم بالانتفاع بالثروة التي يكسبونها، وذلك لتحقيق التقدم الاقتصادي في البلاد ولإشباع الحاجات الأساسية لكل فرد، وتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية. ومن أجل مراعاة حصول المسلم على المال نجد الإسلام حين شرَّع الأحكام المتعلقة بكيفية حيازة الثروة راعى عدم تعقيد هذه الكيفية التي يحوز بها الإنسان المال فجعلها بسيطة كل البساطة، إذ قد حدد أسباب التملك وحدد العقود التي يجري بها تبادل الملكية، وأطلق للإنسان أن يبدع في الأساليب والوسائل التي يكسب بها حين لم يتدخل في إنتاج الثروة. وقد جعل الأسباب والعقود خطوطاً عريضة تحوي قواعد شرعية وأحكاماً شرعية تدخل تحتها مسائل متعددة وتُقاس عليها أحكام متعددة. فشرع العمل وبيّن أحكامه وترك للإنسان أن يعمل نجاراً وحذّاءً وصانعاً وزارعاً وغير ذلك، وجعل الهدية على وجهٍ بحيث تقاس عليها العطية مثلاً في جعلها سبباً للملك، وجعل الإجارة على حال بحيث تقاس عليها الوكالة مثلاً في استحقاق أجرة الوكيل. وهكذا نجد أسباب التملك والعقود قد بيّنها الشارع وحدّدها في معاني عامة، وهذا يجعلها شاملة كل ما يتجدد من الحوادث ولكنها لا تتجدد بتجدد المعاملات، لوجوب تقيّد الناس بالمعاملات التي وردت في الشرع، ولكنها تنطبق على كل ما يتجدد من حوادث مهما بلغت ومهما تعددت. وبهذا يسير المسلم في كسب المال سيراً حثيثاً دون أن تقف في طريقه عقبات تحُول بينه وبين الكسب، مع الحرص على أن يجعل كسبه طيباً حلالاً. وبذلك يتوفر لكل فرد ما يشبِع له الحاجات التي تتطلب الإشباع. ولم يكتف الإسلام بحثّ الفرد، ولا جَعَل الإشباع مقصوراً على كسب الأفراد بل جعل بيت المال لجميع الرعية ينفَق عليهم منه، وجعل إعالة العاجز فرضاً على الدولة، وتوفير الحاجات للأمّة واجباً من واجباتها، لأن عليها حق الرعاية، قال عليه الصلاة والسلام: {الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته}. ومن أجل أن تقوم الدولة بما أوجبه الشرع عليها جعل لها سلطة جباية أموال معينة جباية دائمية كالجزية والخراج، وجعل أموال الزكاة في بيت المال، وجعل لها حق جباية ما هو فرض على كافة المسلمين كإصلاح الطرق وبناء المستشفيات وإطعام الجائعين وما شاكل ذلك، وجعل الملكية العامة تحت إدارتها تتولاها هي، ومنع الأفراد من أن يتولوها، ومنعها من أن تُملِّكَهم إياها أو تعطيهم إدارتها، لأن الولاية العامة هي لولي الأمر، ولا يجوز للرعية أن يقوم أحد بها إلاّ بتولية من ولي الأمر. وهذه الملكية العامة من بترول وحديد ونحاس وما شاكل ذلك أموال لا بد من استغلالها وتنميتها لتحقيق التقدم الاقتصادي للأمّة، لأن هذه الأموال للأمّة والدولة تتولاها لتنميتها وإدارتها. فإذا قامت الدولة بتوفير الأموال ونهضت بأعباء رعاية الشؤون وقام كل فرد بكسب المال والسعي إلى الرزق فقد توفرت الثروة التي تكفي لإشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً وإشباع الحاجات الكمالية. إلاّ أن هذا التقدم الاقتصادي بالحث على كسب المال من كل فرد وجعْل أموال للدولة وإنماء الملكية العامة إنّما هو من أجل استخدام المال وسيلة لإشباع الحاجات وليس لذات المال ولا للتفاخر به ولا لإنفاقه على المعاصي أو للبطر والتجبر، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من طلب الدنيا حلالاً متعففاً لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلبها مفاخراً مكاثراً لقي الله وهو عليه غضبان}، وقال عليه السلام: {ليس لك من مالك إلاّ ما أكلتَ فأفنيتَ، ولبستَ فأبليتَ، وتصدقت فأبقيت}، وقال تعالى: )ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين(. وليس جعْل القصد من كسب المال أن يكون وسيلة لإشباع الحاجات، لا للتفاخر، هو الذي طلبه الإسلام فقط بل جعل الإسلام تسيير الاقتصاد كله بأوامر الله ونواهيه أمراً حتمياً، وأمر المسلم أن يبتغي فيما يكسبه الحياة الأخرى ولا ينسى نصيبه من الدنيا، قال تعالى: )وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسِن كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض(، ولذلك جعل فلسفة الاقتصاد تسيير الأعمال الاقتصادية بأوامر الله ونواهيه بناء على إدراك الصلة بالله، أي جعل الفكرة التي بنى عليها تدبير أمور المسلم في المجتمع في الحياة هي جعل الأعمال الاقتصادية حسب ما تتطلبه الأحكام الشرعية باعتبارهاً ديناً، وجعل تدبير أمور الرعية ممن يحملون التابعية تقيّد أعمالهم الاقتصادية بالأحكام الشرعية باعتبارها تشريعاً، فيبيح لهم ما أباحه الإسلام ويقيدهم بما قيدهم به، قال تعالى: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(، وقال: )يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور(، وقال: )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(، وقال: )وأنِ احكُم بينهم بما أنزل الله(. وقد ضمِن تقيّد المسلمين والناس بهذه الأحكام بالتوجيه الذي يجعل المسلم ينفذ هذه السياسة بدافع تقوى الله، والتشريع الذي تنفذه الدولة على الناس، قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين(، وقال: )يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بديْن إلى أجل مسمى فاكتبوه( إلى أن يقول: )إلاّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألاّ تكتبوها(. فهو إذن بيّن الكيفية التي تنفَّذ بها هذه الأحكام وبيّن الكيفية التي تضمن تقيّدهم بهذه الأحكام.

وهكذا يشاهَد أن سياسة الاقتصاد في الإسلام مبنية على أساس إشباع الحاجات لكل فرد باعتباره إنساناً يعيش في مجتمع معين، وعلى كسب الثروة لتوفير ما يشبع الحاجات، وقائمة على فكرة واحدة هي تسيير الأعمال بالأحكام الشرعية ومنفـذة من كل فرد بدافع تقوى الله، وبالتنفيذ من قِبل الدولة بالتوجيه وبالتشريع.



القواعد الاقتصادية العامة



يتبين من استقراء الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد أن الإسلام إنّما يعالج موضوع تمكين الناس من الانتفاع بالثروة، وأن هذه هي المشكلة الاقتصادية للمجتمع في نظره. وهو حين يبحث الاقتصاد إنّما يبحث في حيازة الثروة، وفي تصرف الناس بها، وفي توزيعها بينهم. وعلى هذا فإن الأحكام المتعلقة بالاقتصاد مبنية على ثلاث قواعد، هي: الملكية، والتصرف في الملكية، وتوزيع الثروة بين الناس.

أمّا الملكية من حيث هي ملكية، فهي لله باعتباره مالك الملك من جهة، وباعتباره قد نص على أن المال له، قال تعالى: )وآتوهم من مال الله الذي آتاكم(، فالمال لله وحده، إلاّ أن الله سبحانه وتعالى استخلف بني الإنسان على المال وأمدّهم به، فجعل لهم حق ملكيته، قال تعالى: )وأنفقوا مما جعلكم مستخلَفين فيه(، وقال: )ويُمدِدكم بأموال وبنين(. ومن هنا نجد أن الله حين يبيّن أصل ملكية المال يضيف المال له فيقول: )مالِ الله(، وحين يبيّن انتقال الملكية للناس يضيف الملكية لهم فيقول: )فادفعوا إليهم أموالهم(، )خذ من أموالهم(، )فلكم رؤوس أموالكم(، )وأموالٌ اقتَرفتُموها(، )وما يغني عنه ماله(. غير أن حق الملكية هذا الذي جاء بالاستخلاف جاء عاماً لبني الإنسان بجميع أفرادهم، فلهم حق الملكية لا الملكية الفعلية، فهم مستخلَفون في حق التملك، أمّا الملكية الفعلية للفرد المعين فقد شرط الإسلام فيها الإذن من الله للفرد بتملكها. ولهذا فإن المال إنّما يملكه بالفعل من أذِن له الشارع بتملكه، ويكون هذا الإذن دلالة خاصة على أن هذا الفرد قد أصبح له الملكية للمال، فاستخلاف الناس جميعاً في الملكية جاء بالاستخلاف العام، وأفاد بوجود حق الملكية، واستخلاف الفرد المعين في الملكية الفعلية جاء بالإذن الخاص الذي جاء من الشارع للفرد في أن يتملكه.

وقد بيّن الشرع أن هناك ملكية فردية، فلكل فرد أن يمتلك المال بسبب من أسباب التملك، قال عليه الصلاة والسلام: {من أحاط حائطاً على شيء فهو له}، وهناك ملكية عامة للأمّة كلها، قال عليه الصلاة والسلام: {الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار}. وهناك ملكية للدولة، فإن كل من مات من المسلمين ولا وارث له فماله لبيت المال، وما يُجبى من خراج وجزية وغير ذلك إنّما هو لبيت المال. وكل ما هو لبيت المال ملك للدولة ما عدا الزكاة. وللدولة أن تضع المال الذي هو ملكها حيث تشاء بحسب الأحكام الشرعية. وقد بيّن الشرع الأسباب التي يملك بها الفرد والحالات التي تملك بها الأمّة، والأسباب التي تملك بها الدولة، ومنع ما عدا ذلك.

وأمّا التصرف في الملكية فإنه بالنسبة للملكية العامة جُعل للدولة لأنها نائبة عن الأمّة، ولكن الشارع منعها –أي الدولة- من التصرف بالملكية العامة بالمبادلة أو الصلة، وأجاز لها التصرف بها في غير ذلك بحسب الأحكام التي بيّنها الشرع. وأمّا بالنسبة لملكية الدولة وملكية الفرد فالتصرف واضح في أحكام بيت المال وأحكام المعاملات من بيع أو رهن أو غير ذلك. وقد أجاز الشارع للدولة وللفرد التصرف بملكيتهما بالمبادلة والصلة وغير ذلك بحسب الأحكام التي بيّنها الشرع. وأمّا توزيع الثروة بين الناس فإنه يجري في أسباب التملك وفي العقود طبيعياً، غير أن تفاوت الناس في القوى وفي الحاجة إلى الإشباع يؤدي إلى تفاوت التوزيع للثروة بين الناس، ويجعل احتمال الإساءة في هذا التوزيع موجوداً، فيترتب على هذه الإساءة في التوزيع تجمُّع المال بين يدي فئة وانحساره عن فئة أخرى، كما يترتب عليها كنز أداة التبادل الثابتة وهي الذهب والفضة، ولذلك جاء الشرع يمنع تداول الثروة بين الأغنياء فقط ويوجِب تداولها بين جميع الناس، وجاء يمنع كنز الذهب والفضة ولو أُخرجت زكاتهما.

rajaab
19-05-2005, 04:39 PM
الملكية الفردية



من فطرة الإنسان أن يندفع لإشباع حاجاته، ولذلك كان من فطرته أن يحوز المال لإشباع هذه الحاجات، ومن فطرته أن يسعى لهذه الحيازة، لأن إشباع الإنسان لجوعاته أمرٌ حتمي لا يمكن أن يقعُد عنه. ومن هنا كانت حيازة الإنسان للثروة فوق كونها أمراً فطرياً هي أمر حتمي لا بد منه. ولذلك كانت كل محاولة لمنع الإنسان من حيازة الثروة مخالِفة للفطرة، وكانت كل محاولة لتحديد حيازته بمقدار معيَّن أمراً مخالِفاً للفطرة كذلك. ولهذا كان من الطبيعي أن لا يحال بين الإنسان وبين حيازة الثروة، ولا بينه وبين السعي لهذه الحيازة. إلاّ أن هذه الحيازة لا يجوز أن تُترك للإنسان ينالها كيف يشاء ويسعى لها كيف يشاء ويتصرف بها كيف يشاء، لأن هذا يؤدي إلى الفوضى والاضطراب ويسبّب الشر والفساد، لأن البشر يتفاوتون في القوى والحاجة إلى الإشباع، فإذا تُركوا وشأنهم حاز الثروة الأقوياء وحُرم منها الضعفاء، وهلك المرضى والقاصرون وأُتخِم بها المفرِطون في الشهوات. ولذلك كان لا بد من أن يكون تمكين الناس من حيازة الثروة ومن السعي لها سائراً على وجه يَضمن إشباع الحاجات الأساسية لجميع الناس، ويضمن تمكينهم من إمكانية الوصول إلى إشباع الحاجات غير الأساسية. ومن أجل ذلك كان لا بد من تحديد هذه الحيازة بكيفية معينة تتحقق فيها البساطة بحيث تكون في متناول الناس جميعاً على تفاوت قواهم وحاجاتهم وتتفق مع الفطرة بحيث تُشبِع الحاجات الأساسية وتمكِّن من الوصول إلى إشباع الحاجات غير الأساسية. ومن هنا كان لا بد من الملكية المحددة بالكيف، وكان لا بد من محاربة منع الملكية لأنها تتناقض مع الفطرة، ومحاربة تحديد الملكية بالكم، لأنها تحدد سعي الإنسان لحيازة الثروة وهو يتناقض مع الفطرة، ومحاربة حرية التملك لأنها تؤدي إلى فوضى العلاقات بين الناس وتسبب الشر والفساد. وقد جاء الإسلام فأباح الملكية الفردية وحددها بالكيف لا بالكم، فوافق بذلك الفطرة ونظم العلاقات بين الناس وأتاح للإنسان إشباع جوعاته كلها.



تعريف الملكية الفردية



الملكية الفردية هي حكم شرعي مقدَّر بالعين أو المنفعة، يقتضي تمكين مَن يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العِوَض عنه، وذلك كملكية الإنسان للرغيف والدار، فإنه يمكنه بملكيته للرغيف أن يأكله وأن يبيعه ويأخذ ثمنه، ويمكنه بملكيته للدار أن يسكنها وأن يبيعها ويأخذ ثمنها. فالرغيف والدار كل منهما عين، والحكم الشرعي المقدَّر فيهما هو إذن الشارع للإنسان بالانتفاع بهما استهلاكاً ومنفعة ومبادلة. وهذا الإذن بالانتفاع يستوجب أن يتمكن المالك- وهو من أضيف إليه الإذن- مِن أكل الرغيف وسكنى الدار كما يتمكن من بيعها. فبالنسبة للرغيف، الحكم الشرعي مقدَّر بالعين وهو الإذن باستهلاكها، وبالنسبة للدار، الحكم الشرعي مقدَّر بالمنفعة وهو الإذن بسكناها. وعلى هذا تكون الملكية هي إذن الشارع بالانتفاع بالعين. وعلى ذلك فلا تثبت الملكية إلاّ بإثبات الشارع لها وتقريره لأسبابها. وإذن فالحق في ملكية العين ليس ناشئاً عن العين نفسها وعن طبيعتها، أي عن كونها نافعة أو غير نافعة، وإنما هو ناشئ عن إذن الشارع وعن جعْله السبب الذي يبيح الملك للعين منتجاً المسبَّب الذي هو تملكها شرعاً. ولهذا أذِن في تملك بعض الأعيان ومَنَع مِن تملك بعضها، وأذِن في بعض العقود ومَنَع بعضها، فمنع تملّك الخمر والخنزير للمسلم، كما منع تملّك مال الربا ومال القمار لأي واحد من رعية الأمّة الإسلامية، وأذِن في البيع فأحلّه ومَنَع الربا فحرّمه، وأذِن في شركة العَنان، ومنع الجمعيات التعاونية وشركات المساهمة والتأمين.

والتملك المشروع له شروط، كما أن للتصرف في الملك قيوداً بحيث لا تخرج الملكية عن مصلحة الجماعة ومصلحة الفرد باعتباره جزءاً من الجماعة لا فرداً منفصلاً، وباعتباره إنساناً في مجتمع معين. والانتفاع بالعين المملوكة إنّما حصل بسلطان من الشارع، أي أن أصل الملكية للشارع وهو أعطاها للفرد بترتيب منه على السبب الشرعي، فهي تمليك من الشارع لفرد في الجماعة شيئاً خاصاً لم يكن ليحق له ملكه لولا هذا التمليك.

على أن الملكية للعين هي ملكية لذات العين وملكية لمنفعتها، وليست هي ملكية للمنفعة فقط، وإن كان المقصود الحقيقي من الملكية هو الانتفاع بالعين انتفاعاً معيناً بيّنه الشرع.

وعلى ضوء هذا التعريف للملكية الفردية يمكن أن يُفهم أن هناك أسباباً مشروعة للتملك، ويمكن أن تُفهم أن هناك أحوالاً معينة للتصرف بهذه الملكية، ويمكن أن تُفهم أن هناك كيفية معينة للانتفاع بما يُملك، ويمكن أن تُفهم الحوادث التي تُعتبر اعتداء على حق الملكية الفردية. وهكذا يمكن أن يُفهم من التعريف المعنى الحقيقي للحيازة التي أباحها الشارع، ومعنى السعي لهذه الحيازة والانتفاع بما حازه، وبعبارة أخرى يدل التعريف على المعنى الحقيقي للملكية.



معنى الملكيـة



حق الملكية الفردية حق شرعي للفرد، فله أن يتملك أموالاً منقولة وغير منقولة. وهذا الحق مصون ومحدود بالتشريع والتوجيه. وحق الملكية هذا مع كونه مصلحة ذات قيمة مالية يحددها الشرع فإنه يعني أن معنى الملكية الفردية هو أن يكون للفرد سلطان على ما يملك للتصرف فيه، كما له سلطان على أعماله الاختيارية، ولذلك نجد أن تحديد حق الملكية أمر بديهي في حدود أوامر الله ونواهيه.

وقد ظهر تحديد الملكية هذا في أسباب التملك المشروعة التي بها يتقرر حق الملكية، وفي الأحوال التي تترتب عليها العقوبات، والأحوال التي لا تترتب عليها عقوبات مثل تعريف السرقة ومتى تسمى سرقة وتعريف السلب وتعريف الغصب ... الخ، كما ظهر هذا التحديد أيضاً في حق التصرف في الملكية والأحوال التي يباح فيها هذا التصرف، والأحوال التي يُمنع فيها هذا التصرف، وفي تعريف تلك الأحوال وبيان حوادثها. والإسلام حين يحدد الملكية لا يحددها بالكمية وإنما يحددها بالكيفية، ويظهر هذا التحديد بالكيفية بارزاً في الأمور التالية:

1- بتحديدها من حيث أسباب التملك وتنمية الملك لا في كمية المال المملوك.

2- بتحديد كيفية التصرف.

3- بكون رقبة الأرض الخراجية ملكاً للدولة لا للأفراد.

4- بصيرورة الملكية الفردية ملكاً عاماً جبراً في أحوال معينة.

5- بإعطاء من قصُرَت به الوسائل عن الحصول على حاجته ما يفي بتلك الحاجة في حدودها.

وبهذا يظهر أن معنى الملكية الفردية هو إيجاد سلطان للفرد على ما يملك على كيفية معينة محددة جعلت الملكية حقاً شرعياً للفرد. وقد جعل التشريع صيانة حق الملكية للفرد واجباً على الدولة وجعل احترامها وحفظها وعدم الاعتداء عليها أمراً حتمياً. ولذلك وضعت العقوبات الزاجرة لكل من يعبث بهذا الحق سواء بالسرقة أو السلب أو أي طريق من الطرق غير المشروعة. فقد وضع التشريع له عقوبة زاجرة، ووضعت التوجيهات التهذيبية لكف النفوس عن التطلع إلى ما ليس لها فيه حق من حقوق الملكية، وما هو داخل في ملك الآخرين. فالمال الحلال هو الذي ينطبق عليه معنى الملكية، والمال الحرام ليس ملكاً ولا ينطبق عليه معنى الملكية.



أسباب تملك المـال



المال هو كل ما يُتمَوَّل مهما كانت عينه, والمقصود من سبب تملكه هو السبب الذي أنشأ ملكية المال للشخص بعد أن لم يكن مملوكاً له. وأمّا المبادلة بجميع أنواعها فليست من أسباب تملك المال وإنما هي من أسباب تملك الأعيان، إذ هي تملّك عين معينة من المال بعين غيرها من المال، فالمال مملوك أصلاً وإنما جرى تبادل أعيانه. وكذلك لا تدخل تنمية المال كربح التجارة وأجرة الدار وغلة الزرع وما شابهها في أسباب تملك المال، فإنها وإن كان قد نشأ فيها بعض المال جديداً ولكنه نشأ عن مال آخر، فهي من أسباب نماء المال وليست من أسباب تملك المال. والموضوع هو تملّك المال إنشاءً، وبعبارة أخرى هو الحصول على المال ابتداءً. والفرق بين أسباب التملك وأسباب تنمية الملك أن التملك هو الحصول على المال ابتداءً أي الحصول على أصل المال، وتنمية المال هي تكثير المال الذي مُلك، فالمال موجود وإنما نُمّيَ وكُثّرَ. وقد جاء الشرع لكل من الملك ومن تنمية الملك بأحكام تتعلق به. فالعقود، مِن بيع وإجارة، من الأحكام المتعلقة بتنمية المال، والعمل، مِن صيد ومضاربة، من الأحكام المتعلقة بالملك. فأسباب الملك هي أسباب حيازة الأصل، وأسباب تنمية الملك هي أسباب تكثير أصل المال الذي سبق أن حزناه بسبب من أسباب التملك.

ولتملّك المال أسباب شرعية حصرها الشارع في أسباب معينة لا يجوز تعدّيها، فسبب ملكية المال محصور بما بيّنه الشرع. وتعريف الملكية السابق من أنها حكم شرعي مقدر بالعين أو المنفعة يقضي بأن يكون إذن من الشارع حتى يحصل التملك. وإذَن لا بد من أسباب يأذن الشارع بها ليحصل الملك، فإذا وُجد السبب الشرعي وُجد الملك للمال، وإذا لم يوجد السبب الشرعي لا يوجد ملك للمال ولو حازه فعلاً، لأن الملكية هي حيازة المال بسبب شرعي أذِن به الشارع، وقد حدد الشرع أسباب التملك بأحوال معينة بيّنها في عدد معين ولم يطلقها وجعلها خطوطاً عريضة واضحة تندرج تحتها أجزاء متعددة هي فروع منها ومسائل من أحكامها ولم يعللها بعلل كلية معينة فلا تقاس عليها كلّيات أخرى. وذلك لأن المتجدد من الحاجات إنّما هو في الأموال الحادثة وليس في المعاملات، أي ليس في نظام العلاقة وإنما هو في موضوعها، فكان لا بد من حصر المعاملات في أحوال معينة تنطبق على الحاجات المتجددة والمتعددة، وعلى المال من حيث هو مال، وعلى الجهد من حيث هو جهد. وفي هذا تحديد للملكية الفردية على الوجه الذي يتفق مع الفطرة وينظم هذه الملكية حتى يُحمى المجتمع من الأخطار المترتبة على إطلاقها. فإن الملكية الفردية مظهر من مظاهر غريزة البقاء، كما أن الزواج مظهر من مظاهر غريزة النوع، وكما أن العبادات مظهر من مظاهر غريزة التدين، فإذا أُطلقت هذه المظاهر في إشباع ما تتطلب إشباعه أدى ذلك إلى الفوضى والاضطراب وإلى الإشباع الشاذ أو الإشباع الخاطئ. ولذلك لا بد من تحديد الكيفية التي يحصل فيها الإنسان على المال حتى لا يتحكم أفراد قلائل في الأمّة عن طريق المال، ولا يُحرم الكثيرون من إشباع بعض حاجاتهم، وحتى لا يُسعى للمال لأجل المال فيفقد الإنسان طعم الحياة الهنيئة، ويُمنع المال من أن يناله الناس ويختفي في الخزائن والمخازن، ولهذا كان لا بد من تحديد أسباب التملك.

وباستقراء الأحكام الشرعية التي تقتضي ملكية الشخص للمال يتبين أن أسباب التملك محصورة في خمسة أسباب هي:

أ- العمل.

ب- الإرث.

ج- الحاجة إلى المال لأجل الحياة.

د- إعطاء الدولة من أموالها للرعية.

هـ- الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد.



السبب الأول من أسباب التملك :




العمــــــــل



يتبين من إمعان النظر في أية عين من أعيان المال سواء أكانت قد وُجدت طبيعياً كالفِطر أو وُجدت بفعل إنسان كالرغيف والسيارة فإن الحصول عليها يحتاج إلى عمل.

ولماّ كانت كلمة العمل واسعة الدلالة وكان العمل متعدد الأنواع ومختلف الأشكال ومتنوع النتائج، فإن الشارع لم يترك كلمة العمل على إطلاقها ولم ينص على العمل بشكل عام، وإنما نص على أعمال معينة محددة، فبيَّن في نصه هذا على هذه الأعمال أنواع العمل التي تصلح لأن تكون سبباً من أسباب التملك. ومن استقراء الأحكام الشرعية التي نصت على الأعمال يتبين أن أنواع العمل المشروع الذي يكون سبباً لتملك المال هي الأعمال الآتية:

1- إحياء الموات.

2- استخراج ما في باطن الأرض، أو ما في الهواء.

3- الصيد.

4- السمرة والدلالة.

5- المضاربة.

6- المساقاة.

7- العمل للآخرين بأجر.



إحياء المَوات



المَوات هو الأرض التي لا مالك لها ولا ينتفع بها أحد. وإحياؤها هو زراعتها أو تشجيرها أو البناء عليها، وبعبارة أخرى هو استعمالها في أي نوع من أنواع الاستعمال الذي يفيد الإحياء. وإحياء الشخص الأرض يجعلها ملكاً له، قال عليه الصلاة والسلام: {من أحيا أرضاً مواتاً فهي له}، وقال: {من أحاط حائطاً على أرض فهي له}، وقال: {من أحاط حائطاً على شيء فهو له}، وقال: {من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به}. ولا فرق في ذلك بين المسلم والذمّيّ لإطلاق الأحاديث ولأن ما يأخذه الذمي من بطون الأودية والآجام ورؤوس الجبال ملكه ولا يجوز انتزاعه منه، فالأرض المَوات أولى أن تكون ملكه. وهذا عام في كل أرض سواء أكانت دار إسلام أم دار حرب، وسواء أكانت أرضاً عشرية أم خراجية. إلاّ أن شرط التملك أن يستثمر الأرض خلال مدة ثلاث سنين من وضع يده عليها، وأن يستمر هذا الإحياء باستغلالها. فإذا لم يستثمرها خلال مدة ثلاث سنوات من تاريخ وضع يده عليها أو أهملها بعد ذلك مدة ثلاث سنوات متتالية سقط حق ملكيته لها، قال عليه الصلاة والسلام: {عاديّ الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعد. فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنوات}.



استخراج ما في باطن الأرض



ومن أنواع العمل استخراج ما في باطن الأرض مما ليس من ضرورات الجماعة وهو الرِكاز، أي مما ليس حقاً لعامة المسلمين كما في التعبير الفقهي، فإن مُستَخرِجه يملك أربعة أخماسه ويُخرِج الخُمس زكاة له. أمّا إن كان من ضروريات الجماعة أي كان حقاً لعامة المسلمين فإنه يدخل في الملكية العامة. وضابطه أنّ ما كان مركوزاً في الأرض بفعل إنسان أو كان محدود المقدار لا يبلغ أن يكون للجماعة فيه حاجة فهو رِكاز، وما كان أصلياً وللجماعة فيه حاجة لم يكن ركازاً وكان ملكاً عاما، وأما ما كان أصلياً ولم يكن للجماعة فيه حاجة كالمحاجر التي تُستخرَج منها حجارة البناء وغيره فلا يكون ركازاً ولا ملكاً عاماً بل هو داخل في الملكية الفردية. وملكية الرِكاز وإخراج الخُمس منه ثابتة بالحديث الشريف، فقد رَوى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: {سئل رسول الله صلى الله عليه وآله سلم عن اللُّقَطة فقال: ما كان في طريق مأتيّ أو في قرية عامرة فعرّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلاّ فَلَكَ، وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخُمس}، ويلحق بأنواع استخراج ما في باطن الأرض استخراج ما في الهواء كان يُستخرَج منه الأكسجين والايدروجين، وكذلك استخراج كل شيء أباحه الشرع مما خلقه الله وأطلق الانتفاع به.



الصيـد



ومن أنواع العمل الصيد. فصيد السمك واللآلئ والمرجان والإسفنج وما إليها من صيد البحر يملكها من يصيدها، كما هو الحال في صيد الطير والحيوان وما إليها من صيد البر، فإنها ملك لمن يصيدها كذلك، قال تعالى: )أُحِلَّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرَّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً(، وقال: )وإذا حللتم فاصطادوا(، وقال: )يسألونك ماذا أُحِلَّ لهم قل أُحِلَّ لكم الطيبات وما علَّمتُم من الجوارح مُكلِّبين تعلّمونهن مما علّمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه(، وروى أبو ثعلبة الخثني قال: {أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله إنّا بأرض صيد، أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلَّم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلَّم فأخبرني ماذا يصلح لي؟ قال: أمّا ما ذكرتَ أنكم بأرض صيد فما صدتَ بقوسك وذكرتَ اسم الله عليه فكُل، وما صدت بكلبك المعلَّم وذكرت اسم الله عليه فكُل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلَّم فأدركتَ ذكاتهُ فكُل}.

rajaab
19-05-2005, 04:41 PM
السمسرة والدلالة



السمسرة اسم لمن يعمل للغير بالأجر بيعاً وشراء، وهو يصدق أيضاً على الدلال فإنه يعمل للغير بالأجر بيعاً وشراء. والسمسرة نوع من أنواع الأعمال التي يُملَك بها المال شرعاً، فقد روى قيس بن أبي غرزة الكناني قال: كنا نبتاع الأوساق في المدينة ونسمي أنفسنا السماسرة فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمّانا باسم هو أحسن من اسمنا قال صلى الله عليه وسلم: {يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة}، ومعناه أنه يبالغ في وصف سلعته حتى يتكلم بما هو لغو وقد يجازف في الحلف لترويج سلعته فيُندَب إلى الصدقة ليمحو أثر ذلك. ولا بد من أن يكون العمل الذي استؤجر عليه للبيع والشراء معلوماً إما بالسلعة وإما بالمدة. فإذا استأجره ليبيع له أو ليشتري له الدار الفلانية أو المتاع الفلاني صح، وكذلك إذا استأجره ليبيع له أو ليشتري له يوماً إلى الليل صح، وأمّا إذا استأجره لعمل مجهول فهو فاسد.

وليس من السمسرة ما يفعله بعض الأجراء وهو أن يرسل التاجر رسولاً عنه ليشتري له بضاعة من آخر فيعطيه الآخر مالاً مقابل شرائه من عنده فلا يحسبها من الثمن بل يأخذها له باعتبارها سمسرة من التاجر، وهو ما يسمى عندهم القومسيون، فهذا لا يعتبر سمسرة لأن الشخص وكيل عن التاجر الذي يشتري له، فما ينقص من الثمن هو للمشتري وليس للرسول، ولذلك يحرم عليه أخذه بل هو للمرسِل الذي أرسله، إلاّ أن يسامِح به المرسِل فيجوز، وكذلك لو أرسل خادمه أو صديقه ليشتري له شيئاً وأعطاه البائع مالاً أي قومسيون مقابل شرائه من عنده فإنه لا يجوز له أخذه لأنه ليس سمسرة وإنما هو سرقة من مال الشخص المرسِل إذ هو للمرسِل وليس للرسول المشتري عن المرسِل.




المضارَبـة



المضاربة هي أن يشترك اثنان في تجارة ويكون المال من أحدهما والعمل من الآخر، أي أن يشترك بَدَنٌ من شخص ومال من آخر فيكون من أحدهما العمل والمال من الآخر، وأن يتفقا على مقدار معين من الربح كثلث الربح أو نصفه مثل أن يُخرِج أحدهما ألفاً ويعمل فيه الآخر والربح بينهما. ولا بد من تسليم المال إلى العامل وأن يخلَّى بينه وبين المال، لأن المضاربة تقتضي تسليم المال المضارَب. وللعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يُجمِعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوماً جزءاً من أجزاء, ولأن استحقاق المضارِب الربح بعمله، فجاز ما يتفقان عليه من قليل أو كثير كالأجرة في الإجارة وكالجزء من الثمرة في المساقاة. فالمضاربة نوع من أنواع العمل الذي يكون سبباً للمِلك شرعاً فيملك المضارِب المال الذي ربحه من المضاربة بعمله حسب ما اتفقا عليه. والمضاربة نوع من أنواع الشركة لأنها شركة بَدَن ومال. والشركة من المعاملات التي نص الشرع على جوازها، قال صلى الله عليه وسلم: {يقول الله أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه خرجتُ من بينهما}، وقال عليه السلام: {يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا}، ورُوي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان إذا دفع مالاً مضاربةً شَرَط على المضارِب أن لا يسلك به بحراً وأن لا ينزل وادياً ولا يشتري به ذات كبد رطب فإن فعل ذلك ضمن. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فاستحسنه. وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز المضاربة، وكان عمر يدفع مال اليتيم مضاربة، وقد دفع عثمان إلى رجل مالاً مضاربة. وفي المضاربة يُنشئ المضارِب ملكاً له بعمله في مال غيره.




المساقـــاة



ومن أنواع العمل المساقاة، وهي أن يدفع الشخص شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره. وإنما سميت مساقاة لأنها مفاعلة من السقي، لأن أهل الحجاز أكثر حاجة شجرهم إلى السقي لأنهم يستقون من الآبار فسُميت بذلك. والمساقاة هي من الأعمال التي نص الشرع على جوازها، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: {عامَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع}. وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكَرْم بجزء معلوم يُجعل للعامل من الثمر، وهذا في الشجر الذي له ثمر فقط، أمّا ما لا ثمر له من الشجر كالصفصاف، أو له ثمر غير مقصود كالصنوبر والأرز فلا تجوز المساقاة عليه لأن المساقاة إنّما تكون بجزء من الثمرة وهذا لا ثمرة مقصودة له. إلاّ أن يكون ما يقصد ورقه كالتوت والورد فإنه تجوز فيه المساقاة لأنه في معنى الثمر لأنه نماء يتكرر كل عام، ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه فيثبت له مثل حكمه.



إجارة الأجير



أجاز الإسلام للفرد أن يستأجر إجراء أي عمالاً يعملون له، قال تعالى: )أهُم يَقسمون رحمة ربك فنحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرِيّا(، وروى ابن شهاب فقال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: {استأجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً وهو على دين قومه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال}. وقال الله تعالى: )فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن(، وقال عليه الصلاة والسلام: {قال الله عزّ وجلّ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفّه أجره}. والإجارة هي تمليك من الأجير للمستأجر منفعة، وتمليك من المستأجر للأجير مالاً، فهي عقد على المنفعة بعِوَض. والعقد في إجارة الأجير إما أن يَرِد على منفعة العمل الذي يقوم به الأجير وإما أن يَرِد على منفعة الأجير نفسه. فإذا ورد العقد على منفعة العمل كان المعقود عليه هو المنفعة التي تحصل من العمل كاستئجار أرباب الحرف والصنائع لأعمال معينة كاستئجار الصباغ والحداد والنجار. وإن ورد العقد على منفعة الشخص كان المعقود عليه هو منفعة الشخص كاستئجار الخَدَمة والعمال. وهذا الأجير إما أن يعمل للفرد فقط مدة معلومة كمن يشتغل في معمل أو بستان أو مزرعة لأحد الناس بأجرة معينة، أو كموظفي الحكومة في جميع مصالحها، وإما أن يعمل عملاً معيناً لجميع الناس بأجرة معينة عما يعمل كالنجار والخياط والحذّاء ومن شاكلهم، والأول هو الأجير الخاص، والثاني هو الأجير المشترك أو الأجير العام.



تحديد العمـل



والإجارة هي الانتفاع بمنافع الشيء المؤجَّر. وهي بالنسبة للأجير الانتفاع بجهده. ولا بد في إجارة الأجير من تحديد العمل وتحديد المدة وتحديد الأجرة وتحديد الجهد. فلا بد من بيان نوع العمل حتى لا يكون مجهولاً، لأن الإجارة على المجهول فاسدة، ولا بد من تحديد مدة العمل مياومة أو مشاهرة أو مسانهة، ولا بد من تحديد أجرة العامل، قال عليه الصلاة والسلام: {من استأجر أجيراً فليُعلِمهُ أجره}، ولا بد من تحديد الجهد الذي يبذله العامل، فلا يكلَّف العمال من العمل إلاّ ما يطيقون، قال الله تعالى: )لا يكلِّفُ الله نفساً إلاّ وُسعَها(، وقال عليه الصلاة والسلام: {إذا أمرتُكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم}، فلا يجوز أن يُطلب من العامل أن يبذل جهداً إلاّ بقدر طاقته المعتادة. وبما أن الجهد لا يمكن ضبطه بمعيار حقيقي كان تحديد ساعات للعمل هو أقرب ميزان لضبطه في اليوم الواحد، فتُحدد ساعات العمل ضبطاً للجهد، ويحدد معها نوع العمل كحفر أرض صلبة أو رخوة وطرق حديد أو قطع حجارة أو سوْق سيارة أو عمل في منجرة، فإنه يبيّن مقدار الجهد أيضاً. وبذلك يكون العمل قد حُدّد في نوعه ومدته وأجرته والجهد الذي يبذل فيه. وعلى هذا فإن الشرع حين أباح استخدام العامل احتاط في تحديد عمله نوعاً ومدةً وأجرةً وجهداً، وهذا الأجر الذي يأخذه الأجير عِوَض قيامه بالعمل ملك له بالجهد الذي بذله.



نوع العمل



كل عمل حلال تجوز الإجارة عليه، فتجوز الإجارة على التجارة والزراعة والصناعة، وعلى الخدمة وعلى الوكالة وعلى نقل جواب الخصم طالباً كان أو مطلوباً، وعلى جلب البينة وحملها إلى الحاكم، وعلى طلب الحقوق وعلى القضاء بين الناس وعلى حفر الآبار والبناء وسوْق السيارات والطائرات وعلى طبع الكتب ونسخ المصاحف ونقل الركاب وغير ذلك. والإجارة على العمل إما أن تقع على عمل معين أو على عمل موصوف في الذمة، فإن وقعت الإجارة على عمل معين أو أجير معين كأن يستأجر خالد محمداً للقيام بخياطة هذا الثوب أو ليسوق هذه السيارة، وجب على نفس الأجير أن يقوم بالعمل ولا يجوز له أن يقيم غيره مقامه مطلقاً، فإذا مرض وعجز عن القيام بالعمل لم يقم غيره مقامه لأن الأجير قد عين، وإذا تلف الثوب المعين أو هلكت السيارة المعينة لا يجب عليه أن يقوم بالعمل في غيرهما لأن نوع العمل قد عُيّن. أمّا إذا وقعت الإجارة على عين موصوفة في الذمة أو أجير موصوف لعمل معين أو لعمل موصوف فإن الحكم يختلف حينئذ، ففي هذه الحال يجوز أن يقوم الأجير بالعمل ويجوز أن يقيم غيره مقامه، وإذا مرض أو عجز وجب عليه أن يقيم مقامه من يعمله، وكذلك يجب عليه أن يسوق السيارة أو يخيط الثوب، أي سيارة أو أي ثوب يحضره له المؤجر ما دام ينطبق عليه وصف العمل الذي جرى عقد الإجارة عليه، لأن التحديد لم يكن للذات فلا يكون تحديداً لها، بل هو تحديد للنوع، فيكفي فيه أي عين ما دامت من جنس النوع، وفي هذه الحال يكون تعيينه بالوصف لا بالذات جاعلاً الخيار له لأن يأتي بأي ذات من نفس النوع الذي جرى عليه العقد، وتحديد نوع العمل يشمل العامل الذي سيُعمل لبيان جهده كمهندس مثلاً، ويشمل العمل الذي سيُعمل لبيان الجهد الذي يبذل فيه كحفر بئر مثلاً، وعلى ذلك يكون تحديد العمل بالوصف كتحديده بالذات، فيكفي تعيينه بالوصف كتعيينه بالذات، ويكفي أن يكون في الذمة غائباً كما لو كان حاضراً مشاهَداً، فكما يجوز أن نستأجر فلاناً المهندس فيتعين هو، كذلك يجوز أن نستأجر مهندساً وصْفُه كذا، وكما يجوز أن نستأجر شخصاً لخياطة القميص الفلاني كذلك يجوز أن نستأجر شخصاً لخياطة قميص وصفه كذا.

وإذا تقبَّل الرجل العمل من الأعمال فيعطيه لغيره بأقل من ذلك ويربح الباقي جاز، سواء أعان الثاني بشيء أم لم يُعِنه، لأنه يجوز له أن يؤجر غيره عليه بمثل الأجر الأول أو دونه أو زيادة عليه، وعلى ذلك فما يفعله أصحاب الصناعات كالخياطين والنجارين وأمثالهم من استئجار عمال للعمل معهم وكذلك ما يفعله المتعهدون من استئجار عمال للقيام بأعمال تعهدوا بها جاز، سواء أعطوهم المقدار الذي أخذوه أو أكثر أو أقل، لأن هذا استئجار، سواء أكان على أعمال معينة أو كان لمدة معينة، وهو من نوع الأجير الخاص الجائز شرعاً.

أمّا تأجيره العمال على أن يأخذ شيئاً من أجرهم أو وضعه مشرفاً عليهم على جزء من أجرهم فلا يجوز، لأنه حينئذ يكون قد اغتصب جزءاً من أجرهم الذي قدره لهم، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إياكم والقسامة، قلنا: يا رسول الله، وما القسامة؟ قال: الرجل يكون على طائفة من الناس فيأخذ من حظ هذا أو حظ هذا}، فلو قاول متعهد شخصاً على أن يحضر مائة عامل كل عامل بدينار فأعطى العمال أقل من الدينار لا يجوز لأن المقدار الذي قاول عليه يعتبر أجراً محدداً لكل عامل منهم، فإذا أنقص منه أخذ من حقهم، أمّا لو قاوله على أن يحضر له مائة عامل ولم يذكر أجرة لهم وأعطاهم أجرة أقل من المقاولة فإنه يجوز، لأنه لا يكون أنقص من أجرهم المقدر لهم. ويُشترط في تحديد نوع العمل أن يكون التحديد نافياً للجهالة حتى تكون الإجارة على معلوم، لأن الإجارة على مجهول فاسدة، فلو قال: "استأجرتك لتحمل لي هذه الصناديق من البضاعة إلى مصر بعشرة دنانير" فالإجارة صحيحة، أو: "استأجرتك لتحملها لي كل طن بدينار" صح، أو: "لتحملها لي طناً بدينار وما زاد فبحساب ذلك" جاز أيضاً، وكذلك كل لفظ يدل على إرادة حملها جميعها، أمّا إذا قال له: "لتحمل منها طناً بدينار وما زاد فبحساب ذلك" يريد مهما حملت من باقيها فلا يصح، لأن المعقود عليه بعضها وهو مجهول، أمّا لو قال له "تنقل لي كل طن بدينار" صح، كما لو استأجره ليُخرج له ماءً كل متر بقرش جاز، فيُشترط أن تكون الإجارة عل معلوم، فإن دخلت الجهالة لا يصح.

rajaab
19-05-2005, 04:44 PM
مدة العمل



من الإجارة ما لا بد فيه من ذكر العمل الذي يستأجر عليه فقط –كالخياطة وركوب السيارة إلى مكان كذا- ولا يُذكر فيه مدة، ومنها ما لا بد فيه من ذكر المدة التي يستأجره عليها فقط، ولا يُذكر فيه مقدار العمل، كأن يقول: "استأجرتك شهراً تحفر لي بئراً أو قناة" لم يحتج إلى معرفة القدر، وعليه أن يحفر ذلك الشهر قليلاً حفر أو كثيراً، ومنها ما لا بد فيه من ذكر المدة والعمل في مثل بناء دار وإنشاء مصفاة بترول وما شاكل ذلك، وكل عمل لا يُعرف إلاّ بذكر المدة لا بد فيه من ذكر المدة، لأن الإجارة لا بد أن تكون معلومة، وعدم ذكر المدة في بعض الأعمال يجعلها مجهولة، وإذا كانت الإجارة مجهولة لا تجوز، وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة كشهر وسنة ليس لأحدهما الفسخ إلاّ عند انقضاء المدة، وإذا أجّره على مدة مكررة كأن استأجر عاملاً كل شهر بعشرين دينار لزم العقد كل شهر بتلبس الأجير بالعمل الذي استؤجر للقيام به، ولا بد أن يكون ذكر المدة في عقد الإجارة، إلاّ أنه لا يُشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد، بل لو أجّره نفسه فس شهر رجب وهو في شهر المحرم صح، وإذا ذكرت المدة في العقد أو كان ذكرها في العقد ضرورياً لنفي الجهالة يجب أن تحدد المدة بفترة من الزمن كدقيقة أو ساعة أو أسبوع أو شهر أو سنة.



أجرة العمل



ويُشترط أن يكون مال الإجارة معلوماً بالمشاهدة والوصف الرافع للجهالة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من استأجر أجيراً فليُعلِمه أجره}، وعِوَض الإجارة جائز أن يكون نقداً وجائز أن يكون غير نقد، وجائز أن يكون مالاً وجائز أن يكون منفعة، وكل ما جاز أن يكون ثمناً جاز أن يكون عِوَضاً، سواء أكان عيناً أو منفعة، على شرط أن يكون معلوماً، أمّا لو كان مجهولاً لا يصح، فلو استأجر الحاصد بجزء من الزرع لم يصح للجهالة، بخلاف ما لو استأجره بصاع واحد أو مُدّ صحّ، ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته أو يجعل له أجراً مع طعامه وكسوته، لأن ذلك جائز في المرضعة، قال تعالى: )وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف(، فجعل لهن النفقة والكسوة على الرضاع، وإذا جاز في المرضعة جاز في غيرها، لأنه كله إجارة، فهي مسألة من مسائل الإجارة.

والحاصل أنه يجب أن تكون الأجرة معلومة علماً ينفي الجهالة حتى يتمكن من استيفائها من غير منازعة، لأن الأصل في العقود كلها أن تنفي المنازعات بين الناس، ولا بد من المقاطعة على الأجرة قبل البدء في العمل، ويُكره استعمال الأجير قبل أن يقاطَع على الأجرة، وإن وقعت الإجارة على عمل ملك العامل الأجرة بالعقد، لكن لا يجب تسليمها إلاّ بعد العمل، فيجب حينئذ تسليمها فوراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: {أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه}، أمّا إذا اشترط تأجيل الأجر فهو إلى أجله، وإن شرطه منجَّماً يوماً يوماً أو شهراً شهراً أو أقل من ذلك أو أكثر فهو على ما اتفقا عليه، ولا ضرورة لأن يستوفي المستأجر المنفعة بالفعل، بل يكفي تمكينه من الانتفاع لأن يجعل الأجرة مستحقة عليه، فلو استأجر أجيراً خاصاً ليخدمه في بيته وجاء إلى البيت ووضع نفسه تحت تصرفه استحق الأجر بمضي المدة التي يمكن الانتفاع فيها من الأجير، لأنه وإن كان العقد على المنفعة ولم يستوفها بالفعل، ولكن تمكينه من استيفائها وعدم مباشرته لاستيفاء المنفعة كافٍ لاستحقاق الأجرة، لأن التقصير جاء من جهة المستأجِر لا من جهة الأجير، أمّا الأجير المشترك أو الأجير العام فإنه إذا استؤجر على عمل معين في عين فلا يخلو إما أن يوقعه وهو في يد الأجير كالصباغ يصبغ في حانوته والخياط في دكانه، فلا يُبرأ من العمل حتى يسلمها للمستأجر، ولا يستحق الأجر حتى يسلمه مفروغاً منه، لأن المعقود عليه في مدة فلا يُبرأ منه ما لم يسلمه إلى العاقد، وأمّا إن كان يوقع العمل في ملك المستأجر –مثل أن يحضره المستأجر إلى داره ليخيط فيها أو يصبغ فيها- فإنه يُبرأ من العمل ويستحق أجره بمجرد عمله، لأنه في يد المستأجر فيصير مسلّماً للعمل حالاً فحالاً.



الجهد الذي يُبذل في العمل



يقع العقد في إجارة الأجير على منفعة الجهد الذي يبذله، وتقدر الأجرة بالمنفعة، أمّا الجهد نفسه فليس هو مقياس الأجر ولا مقياس المنفعة، وإلا لكان أجر الحجار أكثر من أجر المهندس، لأن جهده أكثر مع أن العكس هو الواقع، وعليه فإن الأجر هو بدل المنفعة وليس بدل لجهد. وكما يختلف الأجر ويتفاوت باختلاف الأعمال المتعددة فإنه يتفاوت كذلك الأجر في العمل الواحد بتفاوت إتقان المنفعة لا بتفاوت الجهد، والعقد في كلتا الحالتين وقع على منفعة الأجير لا على جهد الأجير، فالعبرة بالمنفعة، سواء أكانت منافع أجراء مختلفين في أعمال متعددة أم منافع عملاء مختلفين في العمل الواحد، ولا اعتبار للجهد مطلقاً. نعم، إن المنفعة في الأعمال إنّما هي ثمرة الجهد سواء أكان في الأعمال المختلفة أم في العمل الواحد من الأشخاص المتعددين، ولكن المراد منها هو المنفعة لا مجرد بذل الجهد، وإن كان يلاحظ الجهد، وإذا استأجر رجلاً للبناء لا بد من تقدير الاستئجار بالزمن أو العمل، فإن قدّره بالعمل فظاهر فيه المنفعة في بيان موضعه وطوله وعرضه وسمكه ومادة البناء ..إلخ، وإن قدّره بالزمن فالمنفعة فيه تزيد بكثرة المدة وتنقص بقلتها عادة، فكان وصف العمل وذِكر الزمن مقياساً للمنفعة، وإذا قدر بالزمن لا يعمل أكثر من طاقته العادية، ولا يُلزم بالمشقة غير العادية.



حكم إجارة المنافع المحرَّمة وغير المسلِم



ويشترط لصحة الإجارة أن تكون المنفعة مباحة، ولا تجوز إجارة الأجير في ما منفعته محرمة، فلا تجوز إجارة الأجير على حمل الخمر لمن يشتريها ولا على عصرها ولا على حمل خنزير ولا ميتة، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه لعن حامل الخمرة والمحملة إليه، وكذلك لا تجوز الإجارة على عمل من أعمال الربا، لأنه إجارة على منفعة محرمة، ولأنه قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه}، أمّا موظفو المصارف (البنوك) ودوائر القطع وجميع المؤسسات التي تشتغل بالربا فإنه يُنظر، فإن كان العمل الذي استؤجروا له جزءاً من أعمال الربا سواء نتج عنه وحده الربا أو نتج عنه مع غيره من الأعمال ربا فإنه يحرم على المسلِم القيام بهذا العمل، وذلك كالمدير والمحاسبين والمدققين وكل عمل يؤدي منفعة تتصل بالربا سواء أكان اتصالها بشكل مباشر أو غير مباشر، أمّا الأعمال التي لا تتصل بالربا لا بشكل مباشر ولا غير مباشر –كالبواب والحارس والكناس وما شاكل ذلك- فإنه يجوز، لأنه استئجار على منفعة مباحة، ولأنه لا ينطبق عليه ما ينطبق على كاتب الربا وشاهديه، ومثل موظفي المصارف موظفو الحكومة الذين يشتغلون بعمليات الربا، مثل الموظفين الذين يشتغلون في تحضير القروض للفلاحين بربا، وموظفي المالية الذين يعملون بما هو من أعمال الربا وموظفي دوائر الأيتام التي تقرض الأموال بالربا، فكلها وظائف محرمة يُعتبر من يشتغل بها مرتكباً كبيرة من الكبائر لأنه ينطبق عليه أنه كاتب للربا أو شاهده، وهكذا كل عمل من الأعمال التي حرمها الله تعالى يحرم أن يكون المسلم فيه أجيراً.

أمّا الأعمال المحرم ربحها أو الاشتراك بها لأنها باطلة شرعاً –كشركات التأمين وشركات المساهمة والجمعيات التعاونية وما شاكل ذلك- فإنه يُنظر فيها، فإن كان العمل الذي يقوم به الموظف من الأعمال التي أبطلها الشرع أو كان من العقود الباطلة أو الفاسدة أو الأعمال المترتبة عليها فلا يجوز للمسلم أن يقوم به، لأنه لا يجوز للمسلم أن يباشر العقود الباطلة أو العقود الفاسدة أو الأعمال المترتبة عليها، ولا يجوز له أن يباشر عقداً أو عملاً يخالف الحكم الشرعي، فيحرم أن يكون أجيراً فيه، وذلك كالموظف الذي يكتب عقود التأمين ولو لم يقبلها، أو الذي يفاوض على شروط التأمين أو الذي يقبل التأمين، ومثل الموظف الذي يوزع الأرباح بحسب المشتريات في الجمعيات التعاونية، ومثل الموظف الذي يبيع أسهم الشركات أو الذي يشتغل في حسابات السندات، ومثل الموظف الذي يقوم بالدعاية للجمعيات التعاونية وما شاكل ذلك، فجميع الموظفين في الشركات إن كان عملهم مما يجوز شرعاً أن يقوموا به جاز لهم أن يكونوا موظفين فيه، وإن كان العمل لا يجوز له أن يباشره هو شرعاً لنفسه لا يجوز له أن يكون موظفاً فيه، لأنه لا يجوز أن يكون أجيراً فيه، فما حرم القيام به من الأعمال حرم أن يؤجر عليه أو أن يكون أجيراً فيه.

أمّا الأجير والمستأجر فلا يشترط فيهما أن يكونا مسلمين أو أن يكون أحدهما مسلماً فيجوز للمسلم أن يستأجر غير المسلم مطلقاً لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم ولإجماع الصحابة على استئجار غير المسلمين في أي عمل مباح وفي أعمال الدولة التي يستأجر عليها للقيام بها، فقد استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودياً كاتباً واستأجر يهودياً آخر مترجماً واستأجر مشركاً ليدله على الطريق، واستأجر أبو بكر وعمر نصارى لحساب المال، وكما يجوز للمسلم أن يستأجر غير المسلم كذلك يجوز أن يؤجر المسلم نفسه لغير المسلم للقيام بعمل غير محرم أمّا العمل المحرم فلا يجوز سواء أكان المستأجر مسلماً أو غير مسلم، وعليه يجوز أن يؤجر المسلم نفسه لنصراني يعمل له وليس هذا من قبيل حبس المسلم عند الكافر لإذلاله بل هو إجارة نفسه لغيره وهي جائزة ولا يشترط فيها إسلام المستأجر ولا إسلام الأجير، فقد أجَّر علي رضي الله عنه نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم ينكره، ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلال المسلم. أمّا الأعمال التي فيها قُرَب إلى الله تعالى فيشترط أن يكون الأجير فيها مسلماً، وذلك كالإمامة والأذان والحج وأداء الزكاة وتعليم القرآن والحديث، لأنها لا تصح إلاّ من المسلم فلا يؤجّر للقيام بها إلاّ مسلم فالعلة فيها كونها لا تصح إلاّ من المسلم. أمّا إن كانت الأعمال التي يتقرب فيها إلى الله يصح أداؤها من غير المسلم فإنه يصح استئجاره للقيام بها. والحاصل أن الأعمال التي تعتبر مما يتقرب فيها إلى الله عند المستأجر ولا تعتبر مما يتقرب فيها إلى الله عند الأجير فإنه يُنظر، فإن كانت لا تصح إلاّ من المسلم كالقضاء فإنه لا يجوز أن يستأجر فيها غير المسلم، وإن كانت تصح من غير المسلم كالقتال فإنه يجوز استئجار غير المسلم للقيام بها، فالذمي يجوز أن يستأجر للجهاد ويرضخ له من بيت المال أي تدفع له الأجرة من بيت المال.

rajaab
19-05-2005, 04:46 PM
الإجارة على العبادات والمنافع العامة



إن تعريف الإجارة بأنها عقد على المنفعة بعِوَض واشتراط كون المنفعة مما يمكن للمستأجر استيفاؤه يرشدنا عند تطبيقه على الحوادث إلى أن الإجارة جائزة على كل منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها من الأجير سواء أكانت منفعة الشخص كالخادم أو منفعة العمل كالصانع ما لم يرد في النهي عن تلك المنفعة دليل شرعي، لأن الأصل في الأشياء الإباحة والمنفعة شيء من الأشياء. ولا يقال هنا إن هذا عقد أو معاملة والأصل فيها التقييد لا الإباحة. لأن العقد هو الإجارة وليست المنفعة أمّا المنفعة فهي شيء تجري عليه المعاملة وينصبّ عليه العقد وليست هي معاملة أو عقداً وعلى ذلك تجوز الإجارة على جميع المنافع التي لم يرد النهي عنها سواء أوَرَد نص في جوازها أم لم يرد فيجوز أن يستأجر المرء رجلاً أو امرأة يكتب له على الآلة الكاتبة صحائف معلومة بأجر معلوم لأن ذلك إجارة على منفعة لم يرد نهي عنها، فتجوز الإجارة عليها ولو لم يرد نص في جوازها ويجوز استئجار كيّال ووزّان لعمل معلوم في مدة معلومة لما رًوي في حديث سويد بن قيس أتانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاشترى منا رجل سراويل وثَمَّ رجل يزن بأجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {زن وأرجح} فهذه الإجارة جائزة إذ قد ورد نص بجوازها أمّا العبادات سواء أكانت فرضاً أو نفلاً فإنه يُنظر فيها فإن كانت مما لا يتعدى نفعه فاعله كحجّه عن نفسه وأداء زكاة نفسه فلا يجوز أخذ الأجرة عليها لأن الأجر عِوَض الانتفاع ولم يحصل لغيرة ها هنا انتفاع فإجارته غير جائزة لهذا السبب لأنها فرض عليه. أمّا إن كانت العبادة مما يتعدى نفعه فاعله فإنها تجوز الإجارة عليها وذلك كالأذان لغيره وكإمامته غيره أو كاستئجاره من يحج عن ميت له أو من يؤدي زكاته عنه، فإن ذلك كله جائز لأنه عقد على منفعة بعِوَض، والأجر هنا عِوَض الانتفاع وقد حصل بغيره فجازت الإجارة. وأمّا ما روى عثمان بن أبي العاص من أنه قال: {إنّ آخر ما عهد إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذَ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً}، فهذا الحديث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم فيه عن اتخاذ المؤذن الذي يأخذ أجراً مؤذناً له، ولم ينه عن أخذ المؤذن أجراً، وهو يدل على أن هنالك مؤذنين يأخذون أجراً وآخرين لا يأخذون أجراً، فنهاه عن اتخاذ المؤذن ممن يأخذ أجراً، ونهيه هذا فيه تنفير من أخذ الأجر على الأذان مما يُشعِر بكراهة أخذ الأجرة عليه، غير أنه لا يدل على تحريم الإجارة على الأذان بل يدل على جوازها مع الكراهية.

أمّا التعليم فإنه يجوز للمرء أن يستأجر معلماً يعلم أولاده أو يعلمه هو أو يعلم من شاء ممن يرغب تعليمهم، لأن التعليم منفعة مباحة يجوز أخذ العِوَض عنها فتجوز الإجارة عليه. وقد أجاز الشرع أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فكان جواز أخذ الأجرة على تعليم غير القرآن من باب أولى، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله}، ورُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّج امرأة من رجل بما معه من القرآن، أي ليعلمها إياه. وقد انعقد إجماع الصحابة على أنه يجوز أخذ الرزق على التعليم من بيت المال، فجاز أخذ الأجر عليه، فقد رُوي عن طريق ابن أبي شيبة عن صدقة الدمشقي عن الوضية بن عطاء قال: "كان بالمدينة ثلاثة معلمين يعلّمون الصبيان، فكان عمر بن الخطاب يرزق كل واحد منهم خمسة عشر كل شهر". فهذا كله يدل على جواز أخذ الأجرة على التعليم. أمّا ما ورد من أحاديث النهي في هذا الباب، فإنها جميعها منصبّة على النهي عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لا النهي عن الاستئجار على تعليمه، وهي كلها تدل على كراهة أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا على تحريم الإجارة على تعلمه. وكراهة أخذ الأجرة لا تنفي الجواز، فيُكره أخذ الأجرة على تعليم القرآن مع جواز التأجير عليه.

وأمّا إجارة الطبيب فهي جائزة لأنها منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها، ولكن لا تجوز إجارته على البرء لأنه استئجار على مجهول، ويجوز أن يستأجر الطبيب ليفحصه لأنه منفعة معلومة ويجوز أن يستأجر الطبيب بخدمته أياماً معلومة لأنه عمل محدود، ويجوز أن يستأجره ليداويه فإن مداواته معلومة علماً نافياً للجهالة حتى ولو لم يعلم نوع المرض، إذ يكفي أن يعرف أنه مريض فقط. وإنما جاز استئجار الطبيب لأن الطب منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها فتجوز الإجارة عليها. ولأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز الإجارة على الطب، فقد رُوي عن أنس أنه قال: {دعا النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً فحجمه فأمر له بصاع أو صاعين وكلّم مواليه مخففاً من خراجه}، وقد كانت الحجامة في ذلك الوقت من الأدوية التي يُتطَبب بها، فدل أخذ الأجرة عليها على جواز تأجير الطبيب. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: {كسب الحجّام خبيث} فلا يدل على منع إجارة الحجام بل يدل على كراهة التكسب بالحجامة مع إباحتها، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما.

هذا كله في الأجير الذي منفعته خاصة. وأمّا الأجير الذي منفعته عامة، فإن خدماته تعتبر مصلحة من المصالح التي يجب على الدولة توفيرها للناس وذلك لأن كل منفعة يتعدى نفعها الأفراد إلى الجماعة، وكانت الجماعة محتاجة إليها، كانت هذه المنفعة من المصالح العامة التي يجب على بيت المال توفيرها للناس جميعاً، وذلك كأن يستأجر الأمير من يقضي بين الناس مشاهرة، وكاستئجار موظفي الدوائر والمصالح، وكاستئجار المؤذنين والأئمة. ويدخل في المصالح التي يجب على الدولة استئجار الأجراء لها للناس جميعاً التعليم والتطبيب. أمّا التعليم فلإجماع الصحابة على إعطاء رزق المعلمين قدراً معيناً من بيت المال أجراً لهم، ولأن الرسول جعل فداء الأسير تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل فدائه من الغنائم وهي ملك لجميع المسلمين. وأمّا الطب فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُهدي إليه طبيب فجعله للمسلمين. فكون الرسول جاءته الهدية ولم يتصرف بها ولم يأخذها بل جعلها للمسلمين، دليل على أن هذه الهدية مما هو لعامة المسلمين وليست له، فالرسول إذا جاءه شيء هدية ووضعه للمسلمين عامة يكون هذا الشيء مما هو لعامة المسلمين. وعلى ذلك فإن رزق الأطباء والمعلمين في بيت المال، وإن كان يجوز للفرد أن يستأجر طبيباً وأن يستأجر معلماً، إلاّ أنه يجب على الدولة أن توفر الطب والتعليم للرعية جميعهم لا فرق بين مسلم وذمّيّ، ولا بين غني وفقير، لأن هذا كالأذان والقضاء، فهو من الأمور التي يتعدى نفعها، ويحتاج الناس إليها، فهي من المصالح العامة ومن الأمور التي يجب أن تُوفَّر للرعية وأن يضمنها بيت المال.



من هو الأجير؟



إن الشرع الإسلامي يعني بالأجير كل إنسان يشتغل بأجرة سواء أكان المستأجر فرداً أو جماعة أو دولة. فالأجير يشمل العامل في أي نوع من أنواع العمل بلا فرق في الحكم الشرعي بين أجير الدولة وأجير غيرها. فموظف الدولة وموظف الجماعة وموظف الفرد كل منهم عامل وتجري عليهم أحكام العمل، أي كل منهم أجير وتجري عليهم أحكام الإجارة. فالفلاح أجير، والخادم أجير، وعمال المصانع أجراء، وكتّاب التجار أجراء، وموظفو الدولة أجراء، وكل منهم عامل لأن عقد الإجارة إما أن يَرِد على منافع الأعيان وإما أن يَرِد على منفعة العمل وإما أن يَرِد على منفعة الشخص، فإن ورد على منافع الأعيان لم يدخل فيه بحث الأجير إذ لا علاقة له به، وإن ورد على منفعة العمل كاستئجار أرباب الحرف والصنائع لأعمال معينة أو ورد على منفعة الشخص كاستئجار الخَدَمة والعمال فهذا هو الذي يتعلق بالأجير أو هذا هو الذي ينطبق عليه أنه الأجير.




الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة



الإجارة عقد على المنفعة بعِوَض، ويُشترط لانعقاد الإجارة أهلية العاقديْن بأن يكون كل منهما مميِّزاً، ويُشترط لصحتها رضا العاقديْن، ويُشترط أن تكون الأجرة معلومة لقوله صلى الله عليه وسلم: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملن أجيراً حتى يُعلِمَه أجره}. إلاّ أنه إذا لم تكن الأجرة معلومة انعقدت الإجارة وصحّت ويُرجَع عند الاختلاف في مقدارها إلى أجر المثل. فإذا لم يُسمّ الأجر عند عقد الإجارة أو اختلف الأجير والمستأجر في الأجر المسمى فإنه يُرجَع إلى أجر المثل. وإنما رُجع إلى أجر المثل قياساً على المهر فإنه يُرجَع فيه عند عدم التسمية أو الاختلاف على المسمى إلى مهر المثل، لما رُوي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {قضى لامرأة لم يَفرِض لها زوجها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات. فقال: لها صداق نسائها لا ركس ولا شطط وعليها العدّة ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع ابنة واثق مثل ما قضيت}، ومعنى قوله: {لها صداق نسائها}، أي مهر مثل نسائها. فأوجب الشارع مهر المثل لمن لم يسمَّ لها مهر. ومثل ذلك إذا اختُلف في المهر المسمى. ولماّ كان المهر عِوَضاً في عقد النكاح فإنه يقاس عليه كل عِوَض في عقد، فإنه يُحكم فيه بعِوَض المثل في حالة عدم تسمية العِوَض في العقد أو الاختلاف على العِوَض المسمى. ولذلك يُحكم بأجر المثل في الإجارة وبثمن المثل في البيع عند عدم التسمية عند العقد وعند الاختلاف في المسمى.

وعلى هذا يُحكم بأجر المثل عند اختلاف الأجير والمستأجِر على الأجر المسمى وعند عدم تسمية الأجر عند العقد. فإذا عُرفت الأجرة عند العقد يكون الأجر حينئذ أجراً مسمى، وإذا لم تُعرف أو اختُلف على الأجر المسمى يكون الأجر أجر المثل. وعلى ذلك فالأجرة قسمان: أجر مسمى وأجر المثل. أمّا الأجر المسمى فيُشترط في اعتباره رضا العاقديْن عليه، فإذا رضي العاقدان بأجرة معينة كانت هذه الأجرة هي الأجر المسمى، ولا يُجبر المستأجِر على دفع أكثر منها كما لا يُجبر الأجير على أخذ أقل منها، بل هي الأجرة الواجبة شرعاً. أمّا أجر المثل فهو أجر مثل العمل ومثل العامل إذا كان عقد الإجارة قد ورد على منفعة العمل، ويكون أجر المثل أجر مثل العامل فقط إذا كان عقد الإجارة ورد على منفعة الشخص.

والذي يقدِّر الأجرة إنّما هم ذوو الخبرة في تعيين الأجرة، وليسوا هم الدولة، ولا عُرف أهل البلد، بل هم الخبراء في أجرة العمل المراد تقدير أجرته، أو العامل المراد تقدير أجرته.

أمّا الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة من قِبل الخبراء فهو المنفعة سواء أكانت منفعة العمل أو منفعة العامل، لأن عقد الإجارة وارد على المنفعة فتكون هي الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة. فلا تقدَّر الأجرة بإنتاج الأجير ولا بأدنى حد لمستوى عيشه بين جماعته، فلا دخل لإنتاج الأجير ولا لارتفاع مستوى المعيشة في تقديرها، وإنما يرجع تقديرها للمنفعة، فبحسب تقدير الخبراء لقيمة هذه المنفعة في المجتمع الذي يعيشون فيه يقدرون أجرة الأجير، وحين يقدّر الخبراء أجرة العمل وأجرة العامل ينظرون إلى قيمة هذه المنفعة في المجتمع فيقدرونها بقيمة المنفعة التي أداها العامل أو العمل، فإذا جرى الاختلاف على تقدير قيمة المنفعة في المجتمع لا يجوز أن تقدّر بالبينة والحجة بل يُكتفى برأي الخبراء، لأن المسألة معرفة قيمة المنفعة لا إقامة بينة على مقدارها.

هذا هو الأساس الذي يجري عليه تقدير الأجرة، وهو المنفعة حسب تقدير الخبراء. إلاّ أنه حين يقدِّر الخبراء أجر المثل لا أجرة العمل أو العامل فقط، فإنه يجب عليهم أن ينظروا إلى الشخص المماثل للأجير لذلك العمل، أي أن ينظروا إلى العمل والعامل، وأن ينظروا في نفس الوقت إلى زمان الإيجار ومكانه، لأن الأجرة تتفاوت بتفاوت العمل والعامل والزمان والمكان.

والأصل في الخبراء الذين يقدّرون الأجرة أو أجر المثل أن يختارهم العاقدان أي المستأجِر والأجير، فإن لم يختارا الخبراء أو اختلفا عليهم فالمحكمة أو الدولة هي صاحبة الصلاحية في تعيين هؤلاء الخبراء.



تقدير أجر الأجير



يندفع الإنسان طبيعياً إلى بذل مجهود لإنتاج المال الذي يسد به حاجاته. وحاجات الإنسان تتعدد ولا يستطيع سدّها في عزلة عن غيره. لذلك كان عيش الإنسان في مجتمع يتبادل مع غيره نتائج مجهوداتهم أمراً حتمياً. ولهذا فإن الإنسان الذي يعيش في مجتمع يبذل مجهوده لإنتاج المال لاستهلاكه المباشر وللتبادل، ولا يبذل مجهوده للاستهلاك المباشر فقط، لأن حاجاته متعددة، فهو في حاجة إلى أموال لا توجد عنده، وفي حاجة إلى أن يستفيد من جهد غيره مباشرة كالتعليم والطب، لذلك كانت الأنواع التي ينتجها مهما تنوعت وتعددت غير كافية لإشباع جميع حاجاته، لأنه لا يستطيع أن ينتِج ما يشبِع جميع حاجاته بمجهوده الخاص بل لا بد أن يعتمد على مجهودات الآخرين، فهو في حاجة إلى مبادلة مجهودات الآخرين اللازمة له إما بجهد منه وإما بمال. ومن هنا كان لا بد من وجود التبادل في جهد الناس. وبما أن هذا الجهد قد وُضع بدله جهد آخر أو مال، فصار لا بد من مقياس يحدد قيم المجهودات المبذولة بالنسبة لبعضها كي يمكن مبادلتها، ويحدد قيم الأموال المراد الحصول عليها للإشباع ليمكن مبادلتها ببعضها، أو بجهد. ولذلك كان لا بد أن يكون المقياس الذي يحدد قيم المجهودات وقيم الأموال واحداً، حتى يمكن مبادلة الأموال ببعضها ومبادلة الأموال بمجهودات، والمجهودات بمجهودات. ولذلك اصطلحوا على الجزاء النقدي الذي يخوّل الإنسان الحصول على المال اللازم للإشباع والحصول على المجهودات اللازمة للإشباع. وهو بالنسبة للسلعة يكون ثمناً وبالنسبة للجهد يكون أجراً، لأنه في تبادل السلع مقابل لعينِ السلعة، وفي تبادل المجهودات مقابل لمنفعة الجهد المبذول من الإنسان. ولذلك كان لا غنى للإنسان عن معاملات البيع كما لا غنى له عن معاملات الإجارة. إلاّ أنه لا يوجد ارتباط بين البيع والإجارة إلاّ بكونهما معاملة بين فرد وفرد من بني الإنسان، ولا تتوقف الإجارة على البيع ولا الأجرة على الثمن، ولذلك كان تقدير الأجرة غير تقدير الثمن ولا علاقة لأحدهما بالآخر. وذلك لأن الثمن هو بدل المال فهو حتماً مال مقابل مال، سواء قدّر المال بالقيمة أو بالثمن. أمّا الأجرة فهي بدل جهد، وهو لا ضرورة لأن ينتج هذا الجهد مالاً، بل قد ينتج مالاً وقد لا ينتج مالاً، إذ منفعة الجهد غير مقتصرة على إنتاج المال، بل هناك منافع أخرى غير المال، فالجهد الذي يُبذل في الزراعة أو النجارة أو الصناعة مهما كان نوعها ومهما قل أو كَثُر مقدارها ينتج مالاً وتزيد ثروات البلاد به مباشرة، أمّا الخدمات التي يقدّمها الطبيب والمهندس والمحامي والمعلم وما شابهها فإنها مجهودات لا تنتج مالاً ولا تزيد ثروة الأمّة مباشرة، فإذا كان الصانع أخذ أجراً فقد أخذه مقابل مال أنتجه، ولكن المهندس إذا أخذ أجراً لم يُأخذ مقابل مال لأنه لم ينتج أي مال. ولذلك كان تقدير الثمن مقابل مال حتماً، بخلاف تقدير منفعة الجهد فهو ليس مقابل مال بل مقابل منفعة قد تكون مالاً وقد تكون غير مال. ومن هنا يختلف البيع عن إجارة الأجير، ويختلف الثمن من حيث التقدير الفعلي عن الأجرة. على أنه ليس معنى اختلاف البيع عن الإجارة، والثمن عن الأجرة، هو انعدام الصلة بينهما، بل معنى اختلافهما هو أن لا تبنى الإجارة على البيع ولا البيع على الإجارة، فلا يقدَّر الثمن بناء على تقدير الأجرة ولا تقدَّر الأجرة بناء على تقدير الثمن، لأن بناء أحدهما على الآخر يؤدي إلى تحكم أثمان السلع التي ينتجها الأجير بالأجرة التي يتقاضاها، مع أن أثمان السلع إنّما تتحكم بالمستأجِر لا بالأجير، فإذا جُعلت تتحكم بالأجير أدت إلى تحكم المستأجِر بالأجير، يُنزِل أجرته ويرفعها كلما أراد بحجة نزول الأسعار أو ارتفاعها، وهذا لا يجوز، لأن أجرة الأجير بدل منفعة عمله، فهي تساوي قيمة منفعته ما دامت الأجرة مقدَّرة بينهما، فلا تُربط أجرة الأجير بأثمان السلعة التي ينتجها. ولا يقال إن إجبار المستأجِر على إعطاء الأجرة المقدرة في حال هبوط أسعار السلعة التي ينتجها تؤدي إلى خسارته وهذه تؤدي إلى إخراج العامل، لأن ذلك إنّما يحصل إذا حصل للسلعة في السوق كلها، وهذا يرجع لتقدير الخبراء لمنفعة العامل لا للمستأجِر، لأنهم ينظرون إلى مجموع منفعة الأجير بشكل عام، لا إلى حالة واحدة، ولهذا لا يُربط تقدير الأجرة بثمن السلعة وإنما يُربط بتقدير الخبراء.

rajaab
19-05-2005, 04:50 PM
وفوق ذلك فإن بناء الإجارة على البيع، والبيع على الإجارة، يؤدي إلى تحكم أثمان الحاجيات بأجرة الأجير، مع أن أثمان الحاجيات إنّما تتحكم بكفاية الأجير لا بأجرته، فإذا جُعلت أثمان الحاجيات تتحكم بأجرة الأجير أدت إلى جعل كفاية الأجير على المستأجِر يضمنها له، مع أن كفاية كل إنسان إنّما هي جزء من رعاية شؤونه، وهي على الدولة لا على المستأجِر، ولا يجوز ربط كفاية الأجير بإنتاجه مطلقاً، إذ قد يكون الأجير ضعيف البنية لا يقدر إلاّ على إنتاج القليل الذي هو دون حاجته، فإذا رُبطت أجرته بما يُنتَج أو بالحاجيات التي يحتاجها حُرِم من العيش الهنيء، وهذا لا يجوز، فحق العيش يجب أن يوفَّر لكل إنسان من رعايا الدولة سواء أنتج كثيراً أو قليلاً، وسواء أكان قادراً على الإنتاج أم غير قادر، فأجره يقدَّر بقيمة منفعته، سواء وَفَت بحاجاته أم لم تفِ. وعلى ذلك يكون من الخطأ تقدير أجرة العامل بأثمان السلع التي ينتجها أو بأثمان الحاجيات التي يحتاجها، فيكون من الخطأ بناء الإجارة على البيع، والبيع على الإجارة. فلا يجوز بناء أحدهما على الآخر. ولذلك لا يجوز بناء الثمن على الأجرة، ولا بناء الأجرة على الثمن. فتقدير الأجرة شيء وتقدير الثمن شيء آخر. وكلٌ له عوامل معينة واعتبارات خاصة تتحكم في التقدير. فالأجرة تقدَّر بمقدار المنفعة التي يعطيها الجهد، فالتقدير إنّما هو بالمنفعة أصالة لا بالجهد، وإن كانت المنفعة ناتجة عن الجهد الذي بُذل من الشخص، وهذه المنفعة يقدرها الخبراء بحسب الانتفاع بهذه المنفعة، وتقديرها ليس أبدياً، وإنما هو مربوط بالمدة التي اتُفق عليها، أو بالعمل الذي اتُفق على القيام به، فإذا انتهت المدة أو أُنجز العمل بدأ تقدير جديد للأجرة إما من المتعاقديْن وإما من الخبراء في بيان أجر المثل. والمدة قد تكون مياومة وقد تكون مشاهرة وقد تكون مسانهة. أمّا الثمن فهو نسبة المبادلة بين كمية النقود والكمية المقابلة لها من السلع، فالثمن هو ما يعطى من النقود مقابل وحدة من سلعة معينة في زمن معين. وأمّا تقديره فإنّما يكون بما تقرره السوق طبيعياً للسلعة باعتبار حاجة الناس إليها. نعم قد يُقدَّر الثمن بقدر حاجة المشتري للسلعة فيأخذها مهما كان ثمنها، وقد يكون بقدر حاجة البائع فيبيعها مهما كان ثمنها، ولكن ذلك لا يجوز، وهو أمر خطر على المجتمع ولا يُسمح به، وهو ما يسمى بالغبن. ولذلك فالاعتبار في هذه الحال إنّما هو للبائعين والمشترين في السوق وليس للبائع والمشتري المتعاقديْن. وبعبارة أخرى هو المقدار المقدر في السوق للسلعة. فقبول المشتري لثمن السوق كان جبرياً وكذلك قبول البائع لثمن السوق كان جبرياً، والذي حدد هذا الثمن وأجبر البائع والمشتري أن يخضع له هو الحاجة إلى منفعة السلعة في المجتمع الذي بيعت به بغض النظر عن نفقات إنتاجها. وعلى ذلك يختلف تقدير الثمن عن تقدير الأجرة، ولا علاقة بينهما. ولذلك لا يُبنى تقدير الأجرة على تقدير الثمن. والثمن إنّما تحدده الحاجة إلى السلعة وتكون الندرة عاملاً مؤثراً في تقديره، ولا يمكن أن يقاس الثمن بنفقات الإنتاج، فقد لا يتساوى الثمن مع نفقات الإنتاج، إذ قد يكون أقل وقد يكون أكثر حسب الظروف في المدى القصير. وأمّا في المدى الطويل فإنه يحصل طبيعياً تعادل بين ثمن السوق ونفقات الإنتاج، ولكن ذلك لا يجعل الأجر مربوطاً بثمن السلعة. فإن المشترين في المدى القصير والمدى الطويل لا ينظرون في شراء السلعة إلى تكاليفها، وإنما يقرر ثمنها في كلتا الحالتين الحاجة إلى السلعة مع مراعاة عامل الندرة.

وقد اختلف الرأسماليون والشيوعيون في تقدير الأجرة للأجير اختلافاً جعلهما متباينين. فالرأسماليون يعطون العامل الأجر الطبيعي، والأجر الطبيعي عندهم هو ما يحتاج إليه العامل من أسباب المعيشة عند أدنى حدها، ويزيدون هذا الأجر إذا زادت تكاليف المعيشة عند أدنى حدها، وينقصونه إذا نقصت. وعلى ذلك فأجر العامل يقدَّر بحسب تكاليف المعيشة بغض النظر عن المنفعة التي أداها جهده للفرد والمجتمع. وأمّا ما يأخذه العمال في أوروبا وأمريكا من البلدان الرأسمالية فإنه تعديل للنظام الرأسمالي في إعطاء العامل حقوقاً تزيد عمّا له وعما تعطيه حرية الملكية، ومع ذلك فإنه بالرغم من هذا التعديل لا يزال ما يأخذه العامل هو مقدار أدنى حد من العيش الذي يستطيع أن يعيش به في مستوى لا يتضجر، وليس هو مقدار ما ينتِج من الصناعة. على أن رفع مستوى المعيشة في المجتمع في أوروبا وأمريكا يجعل أدنى حد يأخذه ممكِّناً له من أن يكون ظاهراً بالمظهر الطيب، ولكنه لا يأخذ مقدار ما ينتجه. فتقدير أجر العامل في أوروبا وأمريكا وإن كان لا يجعل العامل فقيراً بنسبتنا نحن، ويجعله مشبِعاً حاجاته الأساسية وبعض حاجاته الكمالية، ولكنه إذا قيس في مستوى معيشة الجماعة التي يعيش بينها هو يكون في مستوى منخفض نسبياً، وإن كان مرتفعاً بالنسبة لنا. وعلى أي حال فإنه بالرغم من رفع مستوى معيشة العمال في أوروبا وأمريكا فإن تقدير الأجر هناك وفي كل البلدان الرأسمالية لا يزال هو بمقدار أدنى حد من العيش بالنسبة لمجتمعه.

وعلى أي حال فإنه ما دام التقدير هو بما يحتاج إليه العمال من وسائل المعيشة عند أدنى حدها، فإنه سيترتب على ذلك أن يظل العمال محدودي الملكية بحدود ما يحتاجونه لسد حاجاتهم عند أدنى حدها بالنسبة للجماعة التي يعيشون بينها. سواء أكانت معيشتهم لسد حاجاتهم الأساسية فقط كما هي حال العمال في البلدان المتأخرة فكرياً كالبلاد الإسلامية، أو لسد حاجاتهم الأساسية والكمالية كما هي حال العمال في البلدان المتقدمة فكرياً كأوروبا وأمريكا، فإن العامل فيها جميعها محدود الملكية بحدود أدنى حد لمعيشته بالنسبة للجماعة التي يعيش بينها مهما اختلف مستوى المعيشة ارتفاعاً وانخفاضاً. وما دام التقدير هو بما يحتاج إليه العامل من أسباب المعيشة عند أدنى حدها.

أمّا الشيوعيون فإنهم يرون أن العمل الذي قام به العامل له الفضل الأول في إنتاج السلعة وإتمام صنعها، وأن العمل أو القدرة على العمل تلعب دوراً أساسياً في إنتاج السلعة. وعلى ذلك فالشيوعية ترى أن عمل العامل هو الأساس في الإنتاج، فيكون أجر العامل هو ما ينتجه، وأن جميع نفقات الإنتاج تُرَد إلى عنصر واحد هو العمل. وهذا طبعاً خطأ مخالف للواقع. فالواقع المحسوس هو أن المال الذي خلقه الله في الكون هو أساس قيمة السلعة، والنفقات التي بُذلَت في زيادة المنفعة لهذا المال أو إيجاد منفعة فيه مع العمل هي التي جعلته على الشكل الذي صار إليه، يؤدي منفعة معينة، فجعْل العمل هو الأساس خطأ مخالف للواقع، وجعْل السلعة المنتَجة أجرة للعامل إهدارٌ للمادة الخام وللنفقات التي بُذلَت، وقد يكون بَذَلها عامل آخر أخذ أجرها، فالعامل الحالي لم ينتج السلعة ولا يُرَد إنتاجه إلى عمله مطلقاً حتى يعطى السلعة أجراً له. على أنه لو فرضنا أن المقصود جنس العامل، فإنه تبقى المادة الخام وهي قد خلقها الله، فلا يصح أن تُهدر ولا يُحسب حسابها. على أن اعتبار العامل جنساً في تقدير الأجرة خطأ، لأن العمال أفراد معيّنون والأجر إنّما هو لهؤلاء الأفراد، فاعتبار جنس العامل لا يؤدي إلى تقدير أجر، وإنما يؤدي إلى إلغاء الأجر وإلغاء الملكية، وهذا يتناقض مع فطرة الإنسان، وهو فكر غلط وليس له واقع محسوس، فالواقع المحسوس يدل على أن الإنسان يندفع لإشباع حاجاته بنفسه، فيجعله اندفاعه هذا يسعى ليحوزها من الكون أو من إنسان آخر أو بإضافة جهد منه إلى ما في الكون ليصبح المال صالحاً لإشباع حاجاته. ولذلك كانت نظرية تقدير الأجر عند الشيوعيين بأنه السلعة التي أنتجها خاطئة، وكذلك كان تحديد الأجر بما أنتجه ناقصاً المادة الخام خاطئاً أيضاً، لأن الأدوات التي استعملها والنفقات التي بذلها قد ساهمت في تكوين السلعة وهي ليست جزءاً من عمل العامل. وإذا اعتُبرت جزءاً من عمل العامل على اعتبار أن العمل جنس، أدى ذلك إلى إلغاء الأجرة، وهذا خطأ لما تقدم. على أن أجرة العامل لا ترتبط بالسلعة، لا قيمةً ولا ثمناً، وإنما ترتبط بالمنفعة التي أداها هذا الجهد للفرد وللجماعة، سواء أكانت هذه المنفعة موجودة في المادة الخام كالفُطر والتفاحة أو موجودة في عمل العامل كالقاطرة البخارية، فإن تقدير الجهد إنّما هو في هذه المنفعة، وليس في السلعة التي أنتجها. ولذلك كان تحديد الأجر للعامل بحد معين، مهما كان قياسه، خطأ مخالف للواقع المحسوس، ويكفي أن يكون الأجر معلوماً لا محدداً بحد معين. وعليه فإن نظرية تقدير الأجرة عند الرأسماليين والشيوعيين والاشتراكيين خاطئة مخالفة للواقع وتسبب إفساد العلاقات التي يجب أن تقوم بين الناس لإشباع حاجاتهم.

ويرجع هذا الخلاف في تقدير أجرة العامل إلى اختلافهم في معنى القيمة للسلعة أي في تحديد قيمة السلعة. وقد عرّف بعض الرأسماليين القيمة بأنها هي ما تتكلفه السلعة من وقت ومجهود ومواد أولية، كالقاطرة البخارية قيمتها أكثر من قيمة الدراجة. وهذه القيمة بحسب نُدرَتها عندهم. وقال آخرون إن قيمة الشيء تتوقف على منفعته أي على قوته في إشباع الحاجات. وقال آخرون بأن قيمة أي سلعة تتوقف على كمية العمل المبذول في إنتاجها ويضاف إليه مقدار العمل الذي بُذل في إنتاج المعدات والأدوات التي تستخدم في عملية الإنتاج. إلاّ أن النظرية الحديثة وهي التي تسمى النظرية الحدّيّة تنظر إلى القيمة من ناحية المنتِج والمستهلك معاً، أي من ناحية العرض والطلب، فهي تتوقف على كل من العرض والطلب. فالمنفعة الحدّيّة هي التي تحكم الطلب أي هي نهاية قوة الشيء في إشباع الحاجة بحيث تقل بعدها حدّة الإشباع أو تصبح ضرراً. وتكاليف الإنتاج الحدّيّة هي التي تتحكم في العرض، أي هي نهاية كمية العمل المبذول في إنتاج السلعة بحيث يصبح بذل كمية أخرى للإنتاج خسارة، وأن القيمة تتحول عند النقطة التي يتحقق عندها التوازن بين هاتين الظاهرتين.

أمّا القيمة عند الشيوعيين فإن كارل ماركس ذكر أن المصدر الوحيد للقيمة هو العمل المبذول في إنتاجها، وأن الممول الرأسمالي يشتري قوة العامل بأجر لا يزيد عما هو ضروري لإبقائه حياً قادراً على العمل، ثم يستغل هذه القوة في إنتاج سلع تفوق في قيمتها كثيراً ما يدفعه للعامل. وقد أطلق ماركس على الفرق بين ما ينتجه العامل وما يدفعه له فعلاً اسم "القيمة الفائضة" وقرر أنها تمثل ما يغتصبه الملاك وأصحاب الأعمال من حقوق العمال باسم الريع والربح وفائدة رأس المال التي لم يعترف طبعاً بمشروعيتها.

والحقيقة التي هي فكر له واقع في الحس، هي أن قيمة أي سلعة هي مقدار ما فيها من منفعة مع ملاحظة عامل الندرة. ومع أن هذه المنفعة يكون العمل وسيلة للحصول عليها، وقد يكون وسيلة لإنتاجها ولكنه لا يلاحَظ مطلقاً عند تبادلها ولا عند الانتفاع بها. ولذلك كانت النظرة الحقيقية لأي سلعة هي النظرة إلى المنفعة مع ملاحظة عامل الندرة، سواء ملكها الإنسان ابتداءً كالصيد مثلاً أو مبادلةً كالبيع. ولا فرق في ذلك بين المجتمع في موسكو والمجتمع في باريس والمجتمع في المدينة المنوّرة، فإن الإنسان في كل مكان حين يسعى للحصول على السلعة يقدّر ما فيها من منفعة مع ملاحظة الندرة. هذه هي قيمتها من حيث هي عند الإنسان، وهي القيمة الحقيقية للسلعة. أمّا القيمة الفعلية للسلعة فإنها تقدَّر بمقدار بدلها بشيء آخر من سلعة أو نقد، وتبقى قيمتها هذه على هذا الوجه ثابتة مهما تغير الزمان والمكان والظروف. أمّا ثمن السلعة فهو ما يعطى من النقود مقابل وحدة من سلعة معينة في زمن معين ومكان معين وظروف معينة. ويتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والظروف وبعبارة أخرى هو نصبة المبادلة بين كمية النقود والكمية المقابلة لها من السلع.

rajaab
19-05-2005, 04:55 PM
فلو تزوج رجل امرأة وجعل من مهرها خزانة معينة موصوفة وذكر أن قيمتها خمسون ديناراً وسلمها الخزانة بالفعل، تعينت قيمة الخزانة بتسلمها لها عيناً. فلو أنه أخذها منها بعد ذلك وادّعت عليه بها فإن عليه تسليم عين الخزانة لا ثمنها فإن ثبت هلاك الخزانة أو ادعى هلاكها دفع لها خمسين ديناراً لأنها قيمة الخزانة سواء أكان مثل الخزانة عند الدعوى يساوي أكثر من خمسين ديناراً أو أقل، لأنها القيمة المقدرة فعلاً ولا يعتبر ثمن مثل الخزانة، بخلاف ما لو ذكر في العقد أن ثمنها خمسون ديناراً وسلمها الخزانة بالفعل ثم أخذها منها وادعت عليه بها فإن له تسليم الخزانة، وله دفع ثمنها خمسين ديناراً، وله أن يشتري لها خزانة بخمسين ديناراً سواء أكانت الخزانة عند الدعوى تساوي أكثر من خمسين أو أقل، فإن الواجب عليه دفع خزانة ثمنها خمسين ديناراً في كل وقت.

وذلك لأن القيمة لا تتغير والثمن يتغير. فالقيمة الفعلية للسلعة هي مقدار بدلها حين التقدير، وثمن السلعة هو ما يُدفع مقابلها مبادَلةً في السوق. وهذا التفريق بين القيمة والثمن إنّما هو في البيع وسائر أنواع المبادلة، أمّا إجارة الأجير فهي المقدار الذي تقدَّر فيه منفعة جهده عند العقد، وتقدَّر مرة أخرى عند انتهاء مدة الإجارة. ومن هنا يظهر أنه لا توجد علاقة بين أجرة الأجير وقيمة السلعة، ولا بين أجرة الأجير وتكاليف الإنتاج، ولا بين أجرة الأجير ومستوى المعيشة، وإنما هي شيء آخر منفصل، إذ هي مقدار ما تستحقه المنفعة التي يحصل منها عليه مستأجره، ويكون تقدير هذه المنفعة ليس راجعاً للمستأجِر بل راجعاً للحاجة لهذه المنفعة. فوحدة تقدير أجرة الأجير هي هذه المنفعة الموصوفة بهذا الوصف. وهذه الأجرة تختلف باختلاف الأعمال، وتتفاوت بتفاوت الإتقان في العمل الواحد، فأجرة المهندس تختلف عن أجرة النجار، وأجرة النجار الماهر تختلف عن أجرة النجار العادي، وإنما يرتفع أجر الناس في العمل الواحد بحسب ما يؤدّون من إتقان لمنفعة الجهـد، ولا يعتبر هذا ترقية لهم وإنما هو أجرهم الذي استحقوه بتحسينهم لمنفعتـه.



السبب الثاني من أسباب التملك



الإرث



ومن أسباب التملك للمال الإرث، وهو ثابت بنص القرآن القطعي، وله أحكام معينة توقيفية ولم تُعلَّل، وهو وإن كان قد نص على الجزئيات ولكن هذه الجزئيات خطوط عريضة، فالله تعالى حين يقول: )يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيَيْن فإن كُنّ نساءً فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك(، نفهم من قوله هذا عدة أحكام، نفهم منها أن الذكر من الأولاد يأخذ ضعف الأنثى، ونفهم منها أن ابن الابن يعامل معاملة الابن في حالة عدم وجود الأبناء، لأن أولاد الابن الذكر يندرجون تحت كلمة الأولاد، بخلاف ابن البنت فلا يعامَل معاملة ابن الابن في حالة عدم وجود الأبناء، لأن أولاد البنت لا يندرجون تحت كلمة أولاد في اللغة. ونفهم أيضاً أن الأولاد إن كانوا نساء فوق اثنتين فإنهن يشتركن في ثلثي التركة. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للاثنتين حكم ما فوقهما، وأجمع الصحابة على ذلك فيكون للاثنتين حكم ما فوقهما. فهذه أحكام فُهمت من المعنى العام الذي ذكرته الآية. وبهذه الأحكام يستحق الوارث نصيبه من التركة. وعلى ذلك كان من أسباب التملك الإرث بحسب أحكامه المفصَّلة في الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة.

والإرث وسيلة من وسائل تفتيت الثروة، وليس تفتيت الثروة علة له بل هي بيان لواقعه، وذلك أن الثروة وقد أبيحت ملكيتها، قد تتجمع في يد أفراد حال حياتهم، ولكي لا يستمر هذا التجمع بعد مماتهم كان لا بد من وسيلة لتفتيتها بين الناس. وقد شوهد في الواقع أن وسيلة تفتيت الثروة هذه طبيعياً هي الميراث. ومن الاستقراء تبين أن الأحوال التي تعتري تفتيت الثروة في الإرث ثلاث أحوال هي:

أ- الحالة الأولى أن يكون الورثة يستغرقون جميع المال حسب أحكام الإرث، وحينئذ يوزَّع عليهم المال كله.

ب- الحالة الثانية أن لا يكون هنالك ورثة يستغرقون جميع المال حسب أحكام الإرث، كما إذا توفي الميت عن زوجة فقط أو عن زوج فقط فإن الزوجة تأخذ الربع فقط ويكون باقي الميراث لبيت المال، وإن كان الزوج فإنه يأخذ النصف فقط ويكون باقي الميراث لبيت المال.

ج- أن لا يكون هنالك وارث مطلقاً، وفي هذه الحال يكون المال كله لبيت المال أي للدولة.

وبذلك تتفتت الثروة وينتقل المال إلى الورثة ويُستأنَف تبادل المال في دورة اقتصادية بين الناس ولا يُحفظ في شخص معين تتجمع لديه الثروات.

والإرث سبب مشروع للملكية، فمن ورث شيئاً مَلَكَه ملكاً مشروعاً. فيكون الإرث سبباً من أسباب التملك التي أذِنَ الشرع الإسلامي بها.



السبب الثالث من أسباب التملك




الحاجة للمال لأجل الحياة



من أسباب التملك الحاجة للمال لأجل الحياة. وذلك أن العيش حق لكل إنسان فيجب أن ينال هذا العيش حقاً لا مِنحةً ولا عطفاً. والسبب الذي يضمن للفرد من رعايا الدولة الإسلامية الحصول على قُوتِه هو العمل. فإذا تعذر عليه العمل كان على الدولة أن تهيئه له لأنها الراعي لهذه الرعية، والمسؤولة عن توفير حاجاتها، قال عليه الصلاة والسلام: {الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته}، فإذا تعذر إيجاد عمل له أو عجز عن القيام بالعمل لمرض أو كِبَر سن أو أي سبب من أسباب العجز كان عيشه واجباً على من أوجب عليه الشرع الإنفاق عليه، فإن لم يوجَد من تجب عليه نفقته، أو وُجد وكان غير قادر على الإنفاق، كانت نفقته على بيت المال، أي على الدولة. وفوق ذلك كان له في بيت المال حق آخر وهو الزكاة، قال تعالى: )وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم(. وهذا الحق فرضٌ على الأغنياء أن يدفعوه، قال تعالى في آية: )إنّما الصدقات للفقراء والمساكين( من سورة التوبة )فريضة من الله( أي حقاً مفروضاً. وإن قصّرت الدولة في ذلك وقصّرت جماعة المسلمين في جماعتها وفي كفالة المحتاجين، وليس متوقعاً في جماعة المسلمين أن تقصّر، كان لهذا الفرد أن يأخذ ما يقيم به أَوَدَه من أي مكان يجده سواء أكان ملك الأفراد أو ملك الدولة. وفي هذه الحال لا يباح للجائع أن يأكل لحم الميتة ما دام هنالك أكلٌ عند أحد من الناس، لأنه لا يُعدّ مضطراً لأكل الميتة مع وجود ما يأكله في يد أي إنسان. أمّا إذا لم يستطع الحصول على الأكل فإن عليه أن يأكل لحم الميتة لإنقاذ حياته. ولمّا كان العيش سبباً من أسباب الحصول على المال لم يعتبِر الشارع أخذ الطعام المهيأ للأكل سرقة تُقطع اليد عليها، ولا اعتبر أخذ الطعام في عام المجاعة سرقة كذلك، فقد رُوي عن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا قطعٌ في الطعام المهيأ للأكل}، ورُوي عن مكحول رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا قطعٌ في مجاعة مُضطَر}. وكما ضمن الشرع حق الفرد في ملكية المال لأجل الحياة بالتشريع ضَمِنَ إعطاءه هذا الحق بالتوجيه، قال صلى الله عليه وسلم: {أيّما أهل عَرَصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى}، وقال: {ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم}.



السبب الرابع من أسباب التملك



إعطاء الدولة من أموالها للرعية



ومن أسباب التملك إعطاء الدولة من أموال بيت المال للرعية، لسد حاجتهم أو للانتفاع بملكيتهم. أمّا سد حاجتهم فكإعطائهم أموالاً لزراعة أراضيهم أو لسد ديونهم. فقد أعطى عمر بن الخطاب من بيت المال للفلاحين في العراق أموالاً أعانهم بها على زراعة أرضهم وسدّ بها حاجتهم دون أن يستردها منهم. وقد جعل الشرع للمدينين حقاً في مال الزكاة يُعطَوْن منه لسد ديونهم إذا عجزوا عنها، قال تعالى: )والغارمين(، أي المدينين.

وأمّا حاجة الجماعة للانتفاع بملكية الفرد، فتكون في تمليك الدولة لأفراد الأمّة من أملاكها وأموالها المعطلة المنفعة، بأن تُقطِع الدولة بعض الأرض التي لا مالك لها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقطع أبا بكر وعمر أرضاً، وكما أقطع الخلفاء الراشدون من بعده المسلمين أرضاً. فهذا الذي تُقطِعه الدولة للفرد يصبح ملكاً له بهذا الإقطاع لأن الجماعة في حاجة إلى هذه الملكية للانتفاع بها ولتسخير الفرد لهذا الانتفاع واستخدام نشاطه الذهني أو الجسمي للجماعة بسبب هذه الملكية. واستعمال لفظ الإقطاع هنا استعمال لغوي وفقهي ولا علاقة له بالنظام الإقطاعي الخاص الذي لم يعرفه الإسلام.

ويلحق بما تعطيه الدولة للأفراد ما توزعه على المحاربين من الغنائم، وما يأذن به الإمام بالاستيلاء عليه من الأسلاب.



السبب الخامس من أسباب التملك




الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد



ومن أسباب التملك أخذ الأفراد بعضهم من بعض مالاً دون مقابل مال أو جهد. وهذا يشمل خمسة أشياء:

1- صلة الأفراد بعضهم بعضاً، سواء أكانت الصلة في حياتهم كالهبة والهدية أو بعد وفاتهم كالوصية، فقد رُوي أن وفد هوازن لما جاؤوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يردّ عليهم ما غنمه منهم قال رسول الله: {ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم} أي فهو هبة مني إليكم، وقال عليه الصلاة والسلام: {تهادوا تحابّوا}، وقال صلى الله عليه وسلم: {ليس لنا مَثَلُ السوء الذي يعود في هِبَته كالكلب يعود في قيئه}. ولا فرق في الهبة والهدية بين الكافر والمسلم، فإعطاء الكافر مباح وقبول ما أعطى هو كقبول ما أعطى المسلم، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قَدِمَت أمّي عليّ وهي مشركة فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {صِلي أمك}، ورُوي عن أبي حميد الساعدي قال: {غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك وأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه برداً}. وكما أن الهبة والهدية هي التبرع بالمال حال الحياة فكذلك الوصية هي التبرع بالمال بعد الموت، قال تعالى: )كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية(، ورُوي عن سعد بن مالك قال: مرضتُ مرضاً فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: {أوْصَيتَ؟} فقلت: نعم، أوصيت بمالي كله للفقراء وفي سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أوصِ بالعشرة}. فقلت: يا رسول الله إن مالي كثير وورثتي أغنياء. فلم يزل رسول الله يناقصني وأناقصه حتى قال: {أوصِ بالثلث والثلث كثير}. ويملك الفرد بسبب الهدية أو الهبة أو الوصية العين الموهوبة أو المهداة أو الموصى بها.

2- استحقاق المال عِوَضاً عن ضرر من الأضرار التي لحقته، وذلك كدية القتيل وديات الجِراح، قال تعالى: )ومَن قَتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودِيَة مسلمة إلى أهله(، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {في النفس المؤمنة مائة من الإبل}، وأمّا ديات الجِراح فقد رُوي عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له في كتاب {وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية}.

وفي دية المقتول يستحق ورثته ديته على القاتل في القتل العمد، قال عليه الصلاة والسلام: {لا يجنِ جانٍ إلاّ على نفسه}، وأمّا في غير العمد كشبه العمد والخطأ فيستحق ورثة المقتول الدية على العاقلة، فقد روى أبو هريرة قال: {اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها}، والعاقلة من يحمل العقل، والعقل هنا هو الدية، والعاقلة هي كل العَصَبة ويدخل فيها آباء القاتل وأبناؤه واخوته وعمومته وأبناؤهم. وإذا لم تكن للقاتل عاقلة أُخذت الدية من بيت المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري الذي قُتل بخيبر من بيت المال. ورُوي أن رجلاً قُتل في زحام في زمان عمر فلم يُعرف قاتله فقال عليّ لعمر: يا أمير المؤمنين لا يُطلُّ دم امرئ مسلم، فأدَّى ديته من بيت المال.

وأمّا ديات الجِراح وهي الشجاج في رأس أو وجه أو قطع عضو أو قطع لحم أو تفويت منفعة كتفويت السمع والبصر والعقل، فإذا حصل لإنسان جرح من هذه الجراح استحق الدية على هذا الجرح بحسب الأحكام المفصلة لكل عضو من الأعضاء ولكل حالة من الحالات. ويملك الفرد بسبب الدية المال الذي يخصه من دية المقتول أو دية العضو الذي تلف أو المنفعة التي فُوّتت.

3- استحقاق المهر وتوابعه بعقد النكاح، فإن المرأة تملك هذا المال على الوجه المفصل في أحكام الزواج، وليس هذا المال بدل منفعة، فإن المنفعة متبادلة بين الزوجين، وإنما هو مستحَق بنص الشرع، قال تعالى: )وآتوا النساء صَدُقاتهن نِحْلة( أي عن طيب نفس بالفريضة التي فرض الله تعالى، والنِحْلة العطيّة أيُّ عطيّة، لأن كل واحد من الزوجين يستمتع بصاحبه، و{روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف رِدْعَ زعفران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَهيَم؟ فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة. فقال: ما أصدقتَ؟ قال: وزن نواة من ذهب، فقال: بارك الله لك، أوْلِم ولو بشاة}.

4- اللُّقَطة: إذا وجد شخص لُقَطة، يُنظر فإن كان يمكن حفظها وتعريفها كالذهب والفضة والجواهر والثياب وكان ذلك في غير الحَرَم جاز التقاطه للتملك، لِما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: {ما كان منها في طريق ميثاء (أي مسلوكة) فعرّفها حولاً فإن جاء صاحبها وإلاّ فهي لك}. أمّا إن كانت اللقطة في الحَرَم فلا تعتبر لقطة لأن لقطة الحَرَم حرام كما جاء في الحديث، ولا يجوز أن يأخذها إلاّ للحفظ على صاحبها.

أمّا إن كانت مما لا يمكن حفظها بأن كانت مالاً يبقى كالأكل والبطيخ وما شاكله فهو مخيَّر بين أن يأكله ويغرَم ثمنه لصاحبه إن وُجد، وبين أن يبيعه ويحفظ ثمنه مدة الحول. وهذا كله إذا كانت اللقطة مما يُطلب عادة بأن كان لها ثمن لا يتركه صاحبه إن ضاع. أمّا إن كانت من التوافه كالثمرة واللقمة وما شاكل ذلك فإنه لا يعرَّف عليه وإنما يملكه في الحال.

rajaab
19-05-2005, 04:57 PM
5- تعويض الخليفة ومن يُعتبر عملهم حكماً، فإنه لا يكون مقابل عملهم وإنما هو مقابل حبسهم عن القيام بأعمالهم. وهؤلاء يملكون المال بمجرد أخذه لأن الله أحله لهم. فقد أخذ أبو بكر مالاً تعويضاً عن حبسه عن التجارة حين طُلب منه أن يتفرغ لشؤون المسلمين، وأقره الصحابة على ذلك.

فهذه الأموال الخمسة -الصلة، والتعويض على الضرر، والمهر، واللقطة، وتعويض الحكام- مال أخذه الفرد بغير مقابل من مال أو جهد، وهذا الأخذ على هذا الوجه من أسباب التملك المشروعة يملك الشخص به المال المأخوذ.




حق التصرف



لقد عُرفت الملكية بأنها حكم شرعي مقدَّر بالعين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العِوَض عنه. وعلى هذا تكون الملكية هي الحكم الشرعي المقدَّر بالعين أو المنفعة، أي هي إذن الشارع، فيكون التصرف هو ما ترتب على هذا الحكم الشرعي أي على الإذن من تمكين المالك من الانتفاع بالشيء وأخذ العِوَض عنه. فالتصرف بالملكية مقيَّد بإذن الشارع لأن الملكية هي إذن الشارع بالانتفاع، والتصرف هو الانتفاع بالعين. ولمّا كان المال لله، والله قد استخلف العبد فيه بإذن منه، كانت حيازة الفرد للمال أشبه بوظيفة يقوم بها للانتفاع بالمال وتنميته، منها بالامتلاك. لأن الفرد حين يملك المال إنّما يملكه للانتفاع به وهو مقيد فيه بحدود الشرع وليس مطلق التصرف فيه. كما أنه ليس مطلق التصرف في نفس العين ولو ملكها ملكية عينية. بدليل أنه لو تصرف بالانتفاع بهذا المال تصرفاً غير شرعي بالسفه والتبذير كان على الدولة أن تَحْجُر عليه وتمنعه من هذا التصرف وأن تسلبه هذه الصلاحية التي منحته إياها. وعلى ذلك يكون التصرف بالعين والانتفاع بها هو المعنى المراد من ملكيتها أو هو أثر هذه الملكية. وحق التصرف في العين المملوكة يشمل حق التصرف في تنمية الملك وحق التصرف بالإنفاق صلةً ونفقةً.



تنمية الملك



تنمية المال مربوطة بالأساليب والوسائل التي تستخدم لإنتاجه. أمّا تنمية ملكية هذا المال فإنها تتعلق بالكيفية التي يحصل فيها الفرد على ازدياد هذه الملكية. ولذلك كان لا دخل للنظام الاقتصادي في تنمية المال، وإنما يتدخل في تنمية الملك. ولم يتعرض الإسلام لتنمية المال وتَرَكه للإنسان يُنمّيه بالأساليب والوسائل التي يرى أنها تؤدي إلى تنميته، وتعرّض لتنمية ملكية هذا المال وبيّن أحكامها. ومن هنا كانت تنمية الملك مقيدة بالحدود التي وضعها الشارع لا يجوز تعديها. والشارع قد بيّن خطوطاً عريضة للكيفيات التي تنمَّى بها الملكية وترك التفصيلات للمجتهدين يستنبطون أحكامها من هذه الخطوط العريضة بحسب فهم الوقائع، ثم نص على كيفيات معينة حرمها ومنعها، فبيّن المعاملات والعقود التي ينمّي فيها الملك، ومنع الفرد من تنمية الملك بطرق معينة.

والناظر في الأموال الموجودة في الحياة الدنيا يجدها بعد الاستقراء محصورة في ثلاثة أشياء هي: الأرض، وما ينتج عن تبادل الأشياء، وما ينتج عن تحويل أشكال الأشياء من وضع إلى أوضاع أخرى. ومن هنا كانت الأشياء التي يشتغل فيها الإنسان للحصول على المال أو تنميته هي الزراعة، والتجارة، والصناعة، فكان لا بد أن تكون الكيفيات التي تزيد فيها ملكية هذا الفرد لهذا المال هي موضع البحث في النظام الاقتصادي. فالزراعة والتجارة والصناعة هي الأساليب والوسائل التي تستخدم لإنتاج المال والأحكام المتعلقة بالزراعة والتجارة والصناعة هي التي تبيّن الكيفية التي ينمي بها الفرد ملكيته للمال.

وقد بيّن الشرع أحكام الزراعة في بيان أحكام الأرض وما يتعلق بها، وبيّن أحكام التجارة في بيان أحكام البيع والشركة وما يتعلق بها، وبيّن أحكام الصناعة في بيان أحكام الأجير والاستصناع. أما إنتاج الصناعة أي ما تنتجه، فهو داخل في التجارة، ولذلك كانت تنمية الملكية مقيدة بالأحكام التي جاء الشرع بها، وهي أحكام الأراضي وما يتعلق بها، وأحكام البيع والشركة وما يتعلق بها، وأحكام الأجير والاستصناع.



أحكام الأراضي



للأرض رقبة ومنفعة. فرقبتها هي أصلها، ومنفعتها هي استعمالها في الزراعة وغيرها. وقد أباح الإسلام ملكية رقبة الأرض كما أباح ملكية منفعتها، ووضع أحكاماً لكل منها. أمّا ملكية رقبة الأرض فيُنظر فيها، فإن كانت البلاد التي منها هذه الأرض قد فتحت فتحاً سواء أكان ذلك صلحاً أم حرباً كانت رقبة الأرض ملكاً للدولة واعتبرت أرضاً خراجية، ما عدا جزيرة العرب، وإن كانت البلاد قد أسلم أهلها عليها مثل إندونيسيا أو كانت من جزيرة العرب كانت رقبة الأرض ملكاً لأهلها واعتبرت أرضاً عشرية. والسبب في ذلك أن الأرض بمنزلة المال تعتبر غنيمة من الغنائم التي تكسب في الحرب، فهي حلال، وهي ملك لبيت المال، فقد حَدّث حفص بن غياث عم أبي ذئب عن الزهري قال: {قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن أسلم من أهل البحرين أنه قد أحرز دمه وماله إلاّ أرضه، فإنها فيء للمسلمين لأنهم لم يسلموا وهم ممتنعون}. والفرق بين الأرض وبين غيرها من الغنائم من الأموال أن الأموال تُقسم ويُتصرف بها وتُعطى للناس، وأمّا الأرض فتبقى رقبتها تحت تصرف بيت المال حكماً، ولكنها تظل تحت يد أهلها ينتفعون بها. وكون الأرض باقية لبيت المال لا تقسم رقبتها –وإنما يمكَّن الناس من الانتفاع بها- ظاهر في كونها غنائم عامة لجميع المسلمين سواء من وُجدوا حين الفتح أو من وُجد بعدهم.

أمّا جزيرة العرب فإن أرضها كلها عشرية لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة وتركها لأهلها ولم يوظف عليها الخراج، ولأن الخراج على الأرض بمنزلة الجزية على الرؤوس فلا يثبت في أرض العرب، كما لا تثبت الجزية في رقابهم، وذلك لأن وضع الخراج على البلاد من شرطه أن يترك أهلها وما يعتقدون وما يعبدون كما في سواد العراق، ومشركو العرب لا يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف، قال تعالى: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم( وقال: )ستُدعَوْن إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون(، وما دام لم تؤخذ جزية منهم فكذلك لا يؤخذ خراج على أرضهم.

وعلى هذا تكون رقبة الأرض في جميع البلاد التي افتتحها الإسلام ملكاً للدولة، وتعتبر أرضاً خراجية سواء أكانت لا تزال تحت يد الأمة الإسلامية كمصر والعراق والهند وتركيا أم أصبحت تحت يد الكفار كإسبانيا وأوكرانيا والقرم وألبانيا ويوغوسلافيا ونحوها، وكل أرض أسلم عليها أهلها كأندونيسيا وكل أرض في جزيرة العرب هي ملك لأهلها وتعتبر أرض عشرية.

أما منفعة الأرض فهي من الأملاك الفردية سواء أكانت أرضاً خراجية أم أرضاً عشرية، وسواء أقطَعَتهم إياها الدولة أو تبادلوها بينهم أو أحيوها أو احتجروها. وهذه المنفعة تعطي المتصرف بالأرض من الحقوق ما يعطى لمالك العين وله أن يبيعها ويهبها وتورَّث عنه، وذلك لأن للدولة أن تُقطِع (أي تعطي) الأراضي للأفراد سواء أكانت الأرض عشرية أم خراجية. إلاّ أن الإقطاع في الأرض الخراجية هو تمليك منفعة الأرض مع بقاء رقبتها لبيت المال، وأما في الأرض العشرية فهو تمليك لرقبة الأرض ومنفعتها.

والفرق بين العشر والخراج هو أن العشر على ناتج الأرض وهو أن تأخذ الدولة من الزراعة للأرض عشر الناتج الفعلي إن كانت تسقى بماء المطر سقياً طبيعياً، وتأخذ نصف العشر عن الناتج الفعلي إن كانت الأرض تسقى بالساقية أو غيرها سقياً اصطناعياً، قال عليه الصلاة والسلام: {فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقي بالساقية نصف العشر}، وهذا العشر يعتبر زكاة ويوضع في بيت المال ولا يصرف إلاّ لأحد الأصناف الثمانية المذكورين في آية )إنما الصدقات للفقراء والمساكين... ( الآية. قال عليه الصلاة والسلام: {الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب} وقال: {والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير}.

وأمّا الخراج على الأرض فهو أن تأخذ الدولة من صاحب الأرض قدراً معيناً تقدر وتحدده بحسب إنتاج الأرض التقديري عادة، لا الإنتاج الفعلي، ويقدر على الأرض بقدر احتمالها حتى لا يظلم صاحب الأرض ولا بيت المال. ويحصَّل الخراج كل سنة من صاحب الأرض سواء زُرعت الأرض أم لم تزرع وسواء أخْصَبت أم أجْدَبت. {بعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عثمان بن حنيف على السواد وأمره أن يمسحه فوضع على كل جريب عامر أو غامر مما يعمل مثله درهماً وقفيزاً}، وحدّث الحجاج بن أرطاة عن ابن عون {أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسح السواد ما دون جبل حلوان فوضع على كل جريب عامر أو غامر يناله الماء بدلو أو بغيره زرع أو عطل درهماً وقفيزاً واحداً}، ويوضع الخراج في بيت المال في غير باب الزكاة، ويصرف على جميع الوجوه التي تراها الدولة كما يصرف سائر المال.



إحياء المَوات



مَوات الأرض: هي الأرض التي لم يظهر عليها أنه جرى عليها ملك أحد فلم يظهر فيها تأثير شيء من إحاطة أو زرع أو عمارة أو نحو ذلك، وإحياؤها هو إعمارها؛ أي جعلها صالحة للزراعة في الحال، فكل أرض مَوات إذا أحياها إنسان أصبحت ملكاً له، فالشرع يملِّكها من يحييها لما روى البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَن عمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها}، وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أحاط حائطاً على أرض فهي له}، ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحيا أرضاً ميتة فهي له}، وقال عليه السلام: {أيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروه فهم أحق به}، ويكون المسلم والذمي سواء لإطلاق الحديث.

والإحياء غير الإقطاع، والفرق بينهما هو أن الإحياء يتعلق بمَوات الأرض التي لم يظهر عليها أنه جرى عليها ملك أحد فلم يظهر فيها تأثير شيء من إحاطة أو زرع أو عمارة أو نحو ذلك، وإحياء هذه الأرض هو عمارتها بأي شيء يدل على العمارة، وأمّا الإقطاع فهو إعطاء الأرض العامرة الصالحة للزراعة في الحال -أي التي يظهر عليها أنه سبق أن جرى عليها ملك أحد-، أمّا تحجير الأرض فهو كالإحياء سواء بسواء، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: {من أحاط حائطاً على أرض فهي له}، وقوله: {من أحاط حائطاً على شيء فهو له}، وقوله: {من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به}، ولأن التحجير يملك به المحجِر التصرف بنص الحديث، وللمحجر منع من يروم إحياء ما حجره، فإن قهره غيره فأحيا الأرض التي حجرها لم يملك ذلك ورُدت إلى المحجِر. ولأن التحجير مثل الإحياء في التصرف بالأرض ووضع اليد عليها، فإن باع المحجِر الأرض التي حجرها مَلَك بيعها لأنه حق مقابَل بمال، فتجوز المعاوضة عليه، ولو مات المحجِر، فإن ملكها ينتقل إلى ورثته كسائر الأملاك يتصرفون بها، وتُقسم عليهم حسب الفريضة الشرعية كما تُقسم سائر الأموال، وليس المراد من التحجير وضع أحجار عليها، بل المراد وضع ما يدل على أنه وضع يده عليها –أي ملكها-، فيكون التحجير بوضع أحجار على حدودها، ويكون التحجير بغير الحجر بأن غرز حولها أغصاناً يابسة، أو نقى الأرض وأحرق ما فيها من شوك، أو خضد ما فيها من الحشيش أو الشوك وجعلها حولها ليمنع الناس من الدخول، أو حفر أنهاراً ولم يسقها أو ما شاكل ذلك، يكون كله تحجيراً.

والظاهر من الحديث أن التحجير كالإحياء إنّما يكون في الأرض الميتة ولا يكون في غيرها، فقول الرسول: {عاديّ الأرض لله وللرسول ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين} أي ليس لمحتجر في الأرض الميتة، أمّا الأرض غير الميتة فلا تملك بالتحجير ولا بالإحياء، بل تملك بإقطاع الإمام، لأن الإحياء والتحجير قد ورد بالأرض الميتة، فقال: {من أحيا أرضاً ميتة}، وميتة صفة يكون لها مفهوم معمول به فتكون قيداً، ومعنى ذلك أن غير الميتة من الأراضي لا تملك بالتحجير أو الإحياء.

وهذا التفريق بين الأرض الميتة وغير الميتة يدل على أن الرسول أباح للناس أن يملكوا الأرض الميتة بالإحياء والتحجير، فأصبحت من المباحات، ولذلك لا تحتاج إلى إذن الإمام بالإحياء أو التحجير لأن المباحات لا تحتاج إلى إذن الإمام. أمّا الأراضي غير الميتة فلا تملك إلاّ إذا أقطعها الإمام، لأنها ليست من المباحات، وإنما هي مما يضع الإمام يده عليه، وهو ما يسمى بأراضي الدولة، ويدل على ذلك أن بلالاً المزني استقطع رسول الله أرضاً فلم يملكها حتى أقطعه إياها، فلو كانت تُملك بالإحياء أو التحجير لأحاطها بعلامة تدل على تملكه إياها، ولكان مَلَكها دون أن يطلب إقطاعه إياها.

rajaab
19-05-2005, 04:58 PM
التصرف في الأرض



يُجبر كل من ملك أرضاً على استغلالها، ويُعطى المحتاج من بيت المال ما يمكّنه من هذا الاستغلال، ولكن إذا أهمل ذلك ثلاث سنين تؤخذ منه وتعطى لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عاديّ الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين}، وأخرج يحيى بن آدم من طريق عمرو بين شعيب قال: {أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من مزينة أو جهينة أرضاً فعطلوها فجاء قوم فأحيوها، فقال عمر: لو كانت قطيعة مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقال عمر: من عطل أرضنا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له}، والمراد أنه قد مضى عليها أكثر من ثلاث سنين؛ أي لو كانت من أبي بكر لما مضى عليها ثلاث سنين، أو مني لما مضى عليها ثلاث سنين كذلك، ولكن من رسول الله، فقد مضت مدة تزيد على ثلاث سنين، فلا يمكن إرجاعها، وأخرج أبو عبيدة في الأموال عن بلال بن الحارث المزني: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع، قال: فلما كان زمان عمر قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره على الناس، إنّما أقطعك لتعمل فخذ منها ما قدرت على عمارته ورُدّ الباقي}، وعلى هذا فلمالك الأرض أن يزرع أرضه بآلته وبذره وحيوانه وعماله وأن يستخدم لزراعتها عمالاً يستأجرهم للعمل بها، وإذا لم يقدر على ذلك تعينه الدولة، وإن لم يزرعها المالك أعطاها لغيره ليزرعها منحة دون مقابل، فإن لم يفعل وأمسكها يُمهل مدة ثلاث سنوات، فإن أهملها مدة ثلاث سنوات أخذتها الدولة منه وأقطعتها لغيره، فقد حدّث يونس عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر قال: {جاء بلال بن الحارث المزني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه أرضاً فأقطعها له طويلة عريضة، فلما ولي عمر قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً طويلة عريضة فقطعها لك، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يَمنع شيئاً يُسأله، وأنت لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل، فقال: فانظر ما قويت عليها منه فأمسكه، وما لم تطق وما لم تقوَ عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين}، فهذا صريح في أن الأرض إذا لم يُطِق صاحبها زرعها وأهملها ثلاث سنوات أخذتها الدولة منه وأعطتها لغيره كما فعل عمر بن الخطاب مع بلال المزني في معادن القبلية.

والحاصل أن الأرض تملك بالتحجير وتملك بإقطاع الخليفة وتملك بالإحياء وتملك بالميراث وتملك بالشراء، والنصوص التي وردت في أخذ الأرض ممن عطلها ثلاث سنين ذَكرت المحتجر وذَكرت من أقطعها له الخليفة ولم تذكر غيرهما من مالكي الأرض، وهم الوارث والمحيي والمشتري، فهل تعطيل كل أرض يملكها مالك مدة ثلاث سنين يجعل الخليفة يأخذها منه ويعطيها لغيره؟ أم أن ذلك خاص بالمحتجر ومن أقطعها له الخليفة؟ والجواب على ذلك أن الناظر في المحجر يجد أن التحجير للأرض مثل شرائها أو إرثها أو أي سبب من أسباب تملكها في التصرف بالأرض ووضع اليد عليها، فإن باع المحجر الأرض التي حجرها مَلَك بيعها لأنه حق مقابَل بمال، فتجوز المعاوضة عليه، ولو مات المحجر انتقل ملك الأرض إلى ورثته كسائر الأملاك يتصرفون بها وتقسم عليهم حسب الفريضة الشرعية، وكذلك شأن من يُقطعه الخليفة أرضاً، فليس إذن في المحتجر والمقطَع أرضاً أية صفة خاصة عن باقي المالكين تجعل أخذ الأرض إذا عطلت ثلاث سنين خاصاً بهما دون باقي المالكين بأسباب أخرى من أسباب التملك للأرض، أو تجعل المحتجر والمقطَع كلاً منهما قيداً لأخذ الأرض إذا عطلت ثلاث سنين، أمّا كونه نص عليهما دون غيرهما فلا يُفهم معنى القيدية لأنه ليس وصفاً مفهماً لكون الأخذ لمن عطل، إنّما هو لأنه محتجر أو لأنه أقطع، بل هو من قبيل النص على فرد من أفراد المطلق، وهو أخذ الأرض من مالكها إذا عطلها، فيكون النص عاماً، ويكون ذكر المحتجر والمقطَع ذكراً لفرد من الأفراد لا قيداً يمنع غيرهما، على أنه إذا ورد النص في حادثة يُنظر فيه، فإن وردت فيه العلّيّة كان نصاً عاماً فيما عُلّل فيه، والنص هنا تُفهم منه العلّيّة، وهو أن أخذ الأرض بعد ثلاث سنين لتعطيلها عن الزراعة، فيكون تعطيل الأرض ثلاث سنين هو علة أخذها، وعلى ذلك تكون علة أخذ الأرض من المحتجر هي كونه عطلها ثلاث سنين وليس كونه محتجراً، ولا كونه محتجراً عطلها، لأن التحجير للأرض لا يفيد علية أخذها لا منفرداً ولا مقروناً مع التعطيل، بل تعطيلها وحده هو الذي يفيد علية أخذها، فيكون تعطيل الأرض علة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فحيثما حصل تعطيل الأرض من مالكها ثلاث سنين أُخذت منه، سواء أكان ملكها بالتحجير أم بالإقطاع أم بالإرث أم غير ذلك، وإذا لم يعطلها المحتجر ثلاث سنين لا تؤخذ منه، على أن احتجار الأرض في قوله عليه السلام: {وليس لمحتجر} هو كناية عن تملكها، إذ جرت عادة مالك الأرض أن يحجر الأرض –أي يحيط حدودها بحجارة لتُعرف أنها ملكه وتُميّز عن ملك غيره، ولا يشترط أن يضع حجارة حتى يقال محتجر، بل لو وضع زرعاً أو شجراً على حدود الأرض أو حفر حدودها أو قام بأي عمل يدل على أنه وضع يده عليها فإن ذلك كله يقال له احتجار، ويقال لمن يفعله بالأرض محتجر، ولهذا يقول الرسول في حديث آخر: {من أحاط حائطاً على أرض}، والذي يدل على أن احتجار الأرض هو كناية عن تملكها ما يرشد إليه معنى كلمة (احتجر) لغة، فإن اللغة تقول: احتجر الشيء: وضعه في حجره –أي حضنه-، فاحتجر الأرض يعني حضنها بمعنى مَلَكها. وعلى هذا يكون معنى الحديث: ليس لمن حضن أرضاً –أي مَلَكها- حق بعد ثلاث سنين، سواء وضع على حدودها حجارة أو أحاط عليها حائطاً أو فعل أي شيء يدل على ملكيتها.

هذا بالنسبة للنص. أمّا بالنسبة لما سار عليه عمر وسكت عنه باقي الصحابة فإن عمر قد حكم بالأرض التي أقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مزينة وعمرها غيرهم لمن عمرها، ومنع مزين من أخذها وقال: {من عطل أرضاً ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له}، فهذا الكلام من عمر عام، إذ قال: {من عطل أرضاً}، وقال لبلال بن حارث المزني: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره على الناس، إنّما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورُدّ الباقي}، وأخذ منه بالفعل ما عجز عن عمارته. وتخصيص هذا بالإقطاع وحده دون مخصص صريح لا يجوز، بل يبقى عاماً، وأمّا كون الحادثة حصلت مع من أقطعها فهي تعبير عن واقعة وليست قيداً في هذه الحادثة.

وعلى هذا فإن كل مالك للأرض إذا عطلها ثلاث سنين تؤخذ منه وتعطى لغيره مهما كان سبب ملكه للأرض، إذ العبرة بتعطيل الأرض لا بسبب ملكيتها، ولا يقال إن هذا أخذٌ لأموال الناس بغير حق، لأن الشرع جعل لملكية الأرض معنى غير معنى ملكية الأموال المنقولة، وغير معنى ملكية العقار، فجعل ملكيتها لزراعتها، فإذا عطلت المدة التي نص الشرع عليها ذهب معنى ملكيتها عن مالكها، وقد جعل الشرع تمليك الأرض للزراعة بالإعمار وتملكها بالإقطاع والميراث والشراء وغير ذلك، وجعل تجريدها من صاحبها بالإهمال، كل ذلك من أجل دوام زراعة الأرض واستغلالها.



منع إجارة الأرض



لا يجوز لمالك الأرض أن يؤجر أرضه للزراعة مطلقاً سواء أكان مالكاً لرقبتها ومنفعتها معاً أم مالكاً لمنفعتها فقط، أي سواء أكانت الأرض عشرية أم خَراجية، وسواء أكان الأجر نقوداً أم غيرها، كما أنه لا يجوز أن يؤجر الأرض للزراعة بشيء مما تنبته من الطعام أو غيره، ولا بشيء مما يخرج منها مطلقاً، لأنه كله إجارة، وإجارة الأرض للزراعة غير جائزة مطلقاً. فقد جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإنْ أبى فليُمسك أرضه}، وجاء في صحيح مسلم {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجراً وحظ}، وجاء في سنن النسائي {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كِراء الأرض، قلنا: يا رسول الله إذَن نكريها بشيء من الحب. قال: لا. قال: نكريها بالتبن. فقال: لا. قال: كنا نكريها على الربيع. قال: لا. ازرعها أو امنحها أخاك}، والربيع النهر الصغير أي الوادي، أي كنا نكريها على زراعة القِسم الذي على الربيع أي على جانب الماء. وصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه نهى عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ، وعن أن تُكرى بثلث أو بربع}، وقال صلى الله عليه وسلم: {من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى}، ورُوي أن عبد الله بن عمر لقي رافع بن خديج فسأله فقال رافع: سمعت عَمَّيَّ، وكانا قد شهدا بدراً، يحدثان {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض} وذكر الحديث وفيه أن ابن عمر ترك كراء الأرض.

فهذه الأحاديث صريحة في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن تأجير الأرض. والنهي وإن كان يدل على مجرد طلب الترك غير أن القرينة هنا تدل على أن الطلب للجزم، فقد قالوا للرسول: نكريها بشيء من الحب، قال: لا. ثم قالوا له: نكريها بالتبن، فقال: لا. ثم قالوا: كنا نكريها على الربيع، فقال: لا. ثم أكد ذلك بقوله: {ازرعها أو امنحها أخاك}. وهذا واضح فيه الإصرار على النهي وهو للتأكيد. علاوة على أن التوكيد في العربية إما لفظياً بتكرار اللفظ وإما معنوياً، وهنا قد تكرر لفظ النهي فدل على التأكيد. وأمّا تأجير الرسول لأرض خيبر على النصف فليس من هذا الباب، لأن أرض خيبر كانت شجراً وليست أرضاً ملساء، بدليل ما رُوي عن عبد الله بن أبي بكر {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصاً بين المسلمين ويهود فيخرص عليهم}، وبعد أن أصيب عبد الله بن رواحة بمؤتة كان جبار بن صخر بن أمية بن خنساء أخو بني سلمة هو الذي يخرص عليهم بعد عبد الله بن رواحة، والخارص هو الذي يقدّر التمر وهو على أصوله قبل أن يجدّ. فهذا صريح بأن أرض خيبر شجر وليست أرضاً ملساء. وأمّا ما فيها من زرع فهو أقل من مساحة الشجر فيكون تابعاً له. وعليه فليست أرض خيبر من باب تأجير الأرض، بل هي من باب المساقاة، والمساقاة جائزة. وفوق ذلك فإنه بعد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع الصحابة عن تأجير الأرض ومنهم عبد الله بن عمر، فدل على أنهم فهموا تحريم إجارة الأرض. غير أن تحريم إجارة الأرض إنّما هو إذا كانت إجارتها للزراعة، أمّا إن كانت إجارتها لغير الزراعة فيجوز، إذ يجوز أن يستأجر المرء الأرض لتكون مراحاً أو مقيلاً أو مخزناً لبضاعته أو للانتفاع بها بشيء معين غير الزراعة، لأن النهي عن تأجير الأرض مُنصَبّ على تأجيرها للزراعة كما يؤخذ من الأحاديث الصحيحة. فهذه الأحكام للأراضي وما يتعلق بها تُبين الكيفية التي قيّد بها الشارع المسلم حين يعمل لتنمية ملكيته عن طريق الزراعة.




البيــــــع



إن الله سبحانه وتعالى جعل المال سبباً لإقامة مصالح العباد في الدنيا، وشَرَع طريق التجارة لاكتساب تلك المصالح، لأن ما يحتاج إليه كل أحد لا يوجد ميسوراً في كل موضع، ولأن أخذَه عن طريق القوة والتغالب فساد، فلا بد أن يكون هنالك نظام يمكّن كل واحد من أخذ ما يحتاج إليه عن غير طريق القوة والتغالب، فكانت التجارة، وكانت أحكام البيع، قال الله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم(، والتجارة نوعان: حلالٌ يسمى في الشرع بيعاً، وحرامٌ يسمى ربا، كل واحد منهما تجارة، فإن الله أخبر عن الكَفَرة إنكارهم الفرق بين البيع والربا عقلاً، فقال عزّ وجلّ: )ذلك بأنهم قالوا إنّما البيع مثل الربا( ثم فرّق بينهما في الحِلّ والحُرمة بقوله تعالى: )وأحل الله البيع وحرّم الربا(، فعرفنا أن كل واحد منهما تجارة وأن الحلال الجائز منهما شرعاً هو البيع. وانعقاد هذا البيع يكون بلفظين، أحدهما يدل على الإيجاب والآخر يدل على القبول، وهما: بعتُ واشتريتُ، وما في معناهما قولاً وعملاً. ويجوز أن يتولى صاحب السلعة البيع وأن ينيب عنه وكيلاً أو رسولاً ليقوم بالبيع عنه، ويجوز أن يستأجر أجيراً ليقوم بالبيع عنه على أن يكون أجره معلوماً، فإن استأجره على جزء من الربح كان شريكاً مضارباً وانطبق عليه حكم المضارِب لا حكم الأجير، وكذلك يجوز أن يشتري المال بنفسه أو بواسطة وكيله أو رسوله أو أن يستأجر من يشتري له بنفسه.

والحاصل أن التجارة جائزة، وهي نوع من أنواع تنمية الملك وواضحة في أحكام البيع والشركة. وقد وردت التجارة في القرآن والحديث، قال تعالى: )إلاّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألاّ تكتبوها(، وروى رفاعة {أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال: يا معشر التجار. فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه. فقال: إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجاراً إلاّ من بَرّ وصَدَق}، وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء}.

والتجارة نوعان: التجارة الداخلية والتجارة الخارجية. أمّا التجارة الداخلية فهي البيع والشراء الجاري بين الناس في السلع الموجودة لديهم، سواء أكانت من منتوجاتهم، زراعية كانت أم صناعية، أم من منتوجات غيرهم، ولكنها أصبحت في بلادهم يتبادلونها. أمّا التجارة الخارجية فهي شراء السلع من خارج البلاد وبيع سلع البلاد إلى خارجها، سواء أكانت هذه السلع زراعية أم صناعية. والتجارة الداخلية لا شيء فيها ولا قيود عليها إلاّ ما ورد من الأحكام المتعلقة بالبيع. أمّا السلع ونوع السلع ونقلها داخل البلاد من بلد إلى بلد فهو متروك لكل إنسان أن يتاجر ضمن أحكام الشرع وليس للدولة على التجارة الداخلية إلاّ حق الإشراف فقط.



الاستصناع



هو أن يستصنع الرجل عند آخر آنية أو سيارة أو أي شيء يدخل في الصناعة. والاستصناع جائز وثابت بالسنّة، فقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً، واستصنع المنبر. وقد كان الناس يستصنعون في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عنهم، فسكوته تقرير لهم على الاستصناع، وتقرير الرسول وعمله كقوله، دليل شرعي. والمعقود عليه هو المستصنَع فيه أي الخاتم والمنبر والخزانة والسيارة وغير ذلك. وهو على هذا الوجه من قبيل البيع وليس من قبيل الإجارة. أمّا لو أحضر الشخص للصانع المادة الخام وطلب منه أن يصنعها له شيئاً معيناً فإنه يكون حينئذ من قبيل الإجارة.

والصناعة من حيث هي أساس هام من أسس الحياة الاقتصادية لأية أمّة وأي شعب في أي مجتمع، وقد كانت الصناعة مقتصرة على المصنع اليدوي وحده، فلمّا اهتدى الإنسان إلى استخدام البخار في تسيير الآلات، أخذ المصنع الآلي يحل تدريجياً محل المصنع اليدوي، ولماّ جاءت الاختراعات الحديثة حصل انقلاب خطير في الصناعة فزاد الإنتاج زيادة لم تكن تخطر ببال، وغدا المصنع الآلي أساساً من أسس الحياة الاقتصادية.

والأحكام المتعلقة بالمصانع الآلية لا تخلو عن أن تكون من أحكام الشركة أو أحكام الإجارة أو أحكام البيع والتجارة الخارجية. فمن حيث إنشاء المصنع قد يكون بمال فرد، وهذا نادر. والغالب أن يكون بمال عدة أفراد يشتركون في إنشائه، وحينئذ تطبَّق عليه أحكام الشركات الإسلامية. وأمّا من حيث العمل فيه من إدارة أو عمل أو صنع أو غير ذلك فتطبَّق عليه أحكام إجارة الأجير. وأمّا من حيث تصريف إنتاجه فتطبَّق عليه أحكام البيع والتجارة الخارجية ويُمنع فيه التدليس والغبن والاحتكار، كما يُمنع التسعير، إلى غير ذلك من أحكام البيع. وأمّا التوصية على ما ينتجه من إنتاج صغير أو كبير قبل صنعه فإنه يطبَّق فيه أحكام الاستصناع سواء أكانت المادة الخام من الصانع أو من المستصنِع. ويحكم الشرع في إلزام المستصنِع بما صنع له أو عدم إلزامه.

rajaab
19-05-2005, 05:00 PM
الشركة في الإسلام



الشركة في اللغة خلط النصيبيْن فصاعداً بحيث لا يتميز الواحد عن الآخر. والشركة شرعاً هي عقد بين اثنين فأكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي بقصد الربح. وعقد الشركة يقتضي وجود الإيجاب والقبول فيه معاً كسائر العقود. والإيجاب أن يقول أحدهما للآخر: شاركتك في كذا، ويقول الآخر: قبلت. إلاّ أنه ليس اللفظ المذكور بلازم بل المعنى، أي لا بد أن يتحقق في الإيجاب والقبول معنىً يفيد أن أحدهما خاطَب الآخر، مشافهة أو كتابة، بالشركة على شيء والآخر يقبل ذلك. فالاتفاق على مجرد الاشتراك لا يعتبر عقداً، والاتفاق على دفع المال للاشتراك لا يعتبر عقداً، بل لا بد أن يتضمن العقد معنى المشاركة على شيء، وشرط صحة عقد الشركة أن يكون المعقود عليه تصرفاً، وأن يكون هذا التصرف المعقود عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة ليكون ما يستفاد بالتصرف مشتركاً بينهما.

والشركة جائزة لأنه صلى الله عليه وسلم بُعث والناس يتعاملون بها فقررهم الرسول عليها فكان إقراره عليه السلام لتعامل الناس بها دليلاً شرعياً على جوازها. وروي أن البَراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما {أنّ ما كان بنقد فأجيزوه وما كان نسيئة فردوه}، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه، فإن خان خرجتُ من بينهما}، ورواه الدارقطني بلفظ {يد الله على الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه رفعاه عنهما}.

وتجوز الشركة بين المسلمين مع بعضهم وبين الذميين مع بعضهم وبين المسلمين والذميين، فيصح أن يشارك المسلم النصراني والمجوسي وغيرهم من الذميين. فقد عامَل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر –وهم يهود- بنصف ما يخرج من الأرض على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم. وقد ابتاع الرسول صلى الله عليه وسلم طعاماً من يهودي بالمدينة ورهنه درعه، فمات عليه السلام وهي رهنٌ عنده. وأرسل إلى يهودي يطلب منه ثوبين إلى الميسرة. ولهذا فإن شراكة اليهود والنصارى وغيرهم من الذميين جائزة لأن معاملتهم جائزة. إلاّ أن الذميين لا يجوز لهم بيع الخمر والخنزير وهم في شركة مع المسلم، أمّا ما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركتهم المسلم فثمنه حلال في الشركة. ولا تصح الشركة إلاّ من جائز التصرف لأنها عقد على التصرف في المال فلم يصح من غير جائز التصرف في المال، ولذلك لا تجوز شركة المحجور عليه ولا شركة كل من لا يجوز تصرفه.

والشركة إما شركة أملاك أو شركة عقود. فشركة الأملاك هي شركة العين، كالشركة في عين يرثها رجلان أو يشتريانها أو يهبها لهما أحدٌ أو ما شاكل ذلك. وتعتبر شركة العقود هي موضع البحث في تنمية الملك. ويتبين من استقراء شركات العقود في الإسلام وتتبعها وتتبع الأحكام الشرعية المتعلقة بها والأدلة الشرعية الواردة في شأنها أن شركات العقود تندرج تحت خمسة أنواع هي: شركة العنان، وشركة الأبدان، وشركة المضاربة، وشركة الوجوه، وشركة المفاوضة. وهذه هي مجمل أحكامها:



شركة العنان



وهي أن يشترك بدنان بماليهما أي أن يشترك شخصان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما والربح بينهما. وسمّيت شركة عنان لأنهما يتساويان بالتصرف كالفارسين إذا سوَّيا بين فارسيهما وتساويا في السير فإن عنانيْهما يكونان سواء. وهذه الشركة جائزة بالسنّة وإجماع الصحابة، والناس يشتركون بها منذ أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأيام الصحابة.

وهذا النوع من الشركة يُجعل فيه رأس المال نقوداً، لأن النقود هي قيم الأموال وأثمان المبيعات. أمّا العروض فلا تجوز الشركة عليها إلاّ إذا قُوِّمَت وقت العقد وجُعلت قيمتها وقت العقد رأس المال. ويُشترط أن يكون رأس المال معلوماً يمكن التصرف به في الحال. فلا تجوز الشركة على رأس مال مجهول، ولا تجوز بمال غائب، أو بديْن، لأنه لا بد من الرجوع برأس المال عند المفاصلة، ولأن الديْن لا يمكن التصرف به في الحال، وهو مقصود الشركة. ولا يشترط تساوي المالية في القدر ولا أن يكون المالان من نوع واحد، إلاّ أنه يجب أن يقوّما بقيمة واحدة حتى يصبح المالان مالاً واحداً، فيصح أن يشتركا بنقود مصرية وسورية ولكن يجب أن يقوَّما بقيمة واحدة تقويماً يُذهب انفصالهما ويجعلهما شيئاً واحداً، لأنه يشترط أن يكن رأس مال الشركة مالاً واحداً شائعاً للجميع لا يَعرف أحد الشريكين ماله من مال الآخر. ويشترط أن تكون أيدي الشريكين على المال. وشركة العنان مبنية على الوكالة والأمانة لأن كل واحد منهما يكون بدفعه المال إلى صاحبه قد أمّنه، وبإذنه له في التصرف قد وكّله. ومتى تمت الشركة صارت شيئاً واحداً وصار واجباً على الشركاء أن يباشروا العمل بأنفسهم لأن الشركة وقَعَت على أبدانهم، فلا يجوز لأحدهم أن يوكل عنه من يقوم ببدنه مقامه في الشركة وفي التصرف، بل الشركة كلها تؤجِّر من تشاء وتستخدم بدن من تشاء أجيراً عندها لا عند أحد الشركاء.

ويجوز لكل واحد من الشريكين أو الشركاء أن يبيع ويشتري على الوجه الذي يراه مصلحة للشركة، وله أن يقبض الثمن والمبيع ويخاصم في الديْن ويطالب به، وأن يحيل ويحال عليه، ويرد بالعيب، وله أن يستأجر من رأس مال الشركة ويؤجر لأن المنافع أجريت مجرى الأعيان فصار كالشراء والبيع، فله أن يبيع السلعة، كالسيارة مثلاً، وله أن يؤجرها باعتبارها سلعة للبيع، فصارت منفعتها في الشركة كالعين نفسها فأُجرِيَت مجراها. ولا يشترط تساوي الشريكين في المال بل يشترط تساويهما في التصرف. أمّا المال فيصح أن يتفاضلا في المال ويصح أن يتساويا، والربح يكون على ما شرطا، فيصح أن يشترطا التساوي في الربح ويصح أن يشترطا التفاضل فيه لقوله صلى الله عليه وسلم: {الربح على ما شرط العاقدان}. أمّا الخسارة في شركة العنان فإنها تكون على قدر المال فقط، فإن كان مالهما متساوياً في القدر فالخسارة بينهما مناصفة، وإن كان أثلاثاً فالخسران أثلاثاً، وإذا شرطا غير ذلك لا قيمة لشرطهما وينفذ حكم الخسارة دون شرطهما، وهو أن توزع الخسارة على نسبة المال. لأن البدن لا يخسر مالاً وإنما يخسر ما بذله من جهد فقط، فتبقى الخسارة على المال وتوزَّع عليه بنسبة حصص الشركاء لقوله صلى الله عليه وسلم: {الربح على ما شرط العاقدان والوضيعة على قدر المال}.





شركة الأبدان



وهي أن يشترك اثنان أو أكثر بأبدانهما فقط دون مالهما، أي فيما يكتسبانه بأيديهما أي بجهدهما من عمل معين، سواء أكان فكرياً أو جسدياً، وذلك كالصُنّاع يشتركون على أن يعملوا في صناعاتهم، فما يربحونه فهو بينهم. وكالمهندسين والأطباء والصيادين والحمالين والنجارين وسائقي السيارات وأمثالهم. ولا يُشترط اتفاق الصنائع بين الشركاء ولا أن يكونوا جميعاً صُنّاعاً. فلو اشترك صناع مختلفو الصنائع جاز لأنهم اشتركوا في مكسب مباح فَصَحّ، كما لو اتفقت الصنائع بينهم. ولو اشتركوا في عمل معين على أن يدير أحدهم الشركة والآخر يقبض المال والثالث يعمل بيده صحّت الشركة. وعلى ذلك يجوز أن يشترك عمال في مصنع سواء أكانوا كلهم يعرفون الصناعة أو بعضهم يعرف والبعض الآخر لا يعرف فيشتركون صناعاً وعمالاً وكتّاباً وحراساً، يكونون جميعاً شركاء في المصنع. إلاّ أنه يشترط أن يكون العمل الذي اشتركوا بالقيام به بقصد الربح عملاً مباحاً، أمّا إذا كان العمل محرماً فلا تجوز الشركة فيه.

والربح في شركة الأبدان يكون بحسب ما اتفقوا عليه من مساواة أو تفاضل، لأن العمل يستحق به الربح ويجوز تفاضل الشريكين في العمل فجاز تفاضلهما في الربح الحاصل به، ولكل واحد منهما المطالبة بالأجرة كلها ممن استأجرهما، وبثمن البضاعة التي صنعوها ممن يشتريها. وللمستأجَر لهم أو المشتري منهم ما صنعوا من بضاعة دفع الأجرة جميعها أو دفع ثمن البضاعة جميعه إلى أي واحد منهما، وإلى أيهما دفعها برئ. وإنْ عمل أحد الشركاء دون شركائه فالكسب بينهم لأن العمل مضمون عليهم معاً. وبتضامنهم له وجبت الأجرة، فيكون لهم، كما كان الضمان عليهم. وليس لأحدهم أن يوكِّل عنه غيره شريكاً ببدنه، كما أنه ليس لأحدهم أن يستأجر أجيراً عنه شريكاً ببدنه لأن العقد وقع على ذاته فيجب أن يكون هو المباشر للعمل لأن الشريك بدنه هو، وهو المتعين في الشركة، ولكن يجوز أن يستأجر أحدهم أجراء، والاستئجار حينئذ يكون من الشركة وللشركة، ولو باشره واحد من الشركاء، ولا يكون نيابة عنه ولا وكالة ولا أجيراً عنه، ويكون تصرف كل شريك تصرفاً عن الشركة، ويَلزم كل واحد منهم ما يتقبله شريكه من أعمال.

وهذه الشركة جائزة لِما روى أبو داود والأثرم بإسنادهما عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود: {اشتركتُ أنا وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص فيما نُصيب يوم بدر، فجاء سعد بأسيرين ولم اجيء أنا وعمار بشيء} وقد أقرهما الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك. وقال أحمد بن حنبل: أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا الحديث صحيح، وهو صريح في اشتراك جماعة من الصحابة في أبدانهم في عمل يقومون به وهو قتال الأعداء ويقسمون ما ينالون من غنائم إن ربحوا المعركة. أمّا ما يقال من أن حكم الغنائم يخالف هذه الشركة، فإنه غير وارد على هذا الحديث، لأن حكم الغنائم نزل بعد معركة بدر هذه، فحين حصلت هذه الشركة بأبدانهم لم يكن حكم الغنائم موجوداً، وحكم الغنائم الذي نزل فيما بعد لا ينسخ الشركة التي حصلت وإنما يبين نصيب الغانمين ويبقى حكم شركة الأبدان ثابتاً بهذا الحديث ما دام الحديث قد ثبتت صحته.



شركة المضاربة



وتسمى قراضاً وهي أن يشترك بدن ومال. ومعناها أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتّجر له فيه، على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه. إلاّ أن الخسارة في المضاربة لا تخضع لاتفاق الشريكين، بل لما ورد في الشرع. والخسارة في المضاربة تكون شرعاً على المال خاصة ليس على المضارِب منها شيء، حتى لو اتفق رب المال والمضارِب على أن الربح بينهما والخسارة عليهما، كان الربح بينهما والخسارة على المال لقوله صلى الله عليه وسلم: {الربح على ما شرط العاقدان والوضيعة على قدر المال}، والبدن لا يخسر مالاً وإنما يخسر ما بذله من جهد فقط فتبقى الخسارة على المال.

ولا تصح المضاربة حتى يسلَّم المال إلى العامل ويُخلى بينه وبينه، لأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى المضارِب. ويجب في المضاربة تقدير نصيب العامل، وأن يكون المال الذي تجري المضاربة عليه قدراً معلوماً. ولا يصح أن يعمل رب المال مع المضارِب ولو شرط عليه لم يصح، لأنه لا يملك التصرف بالمال الذي صار للشركة، ولا يملك رب المال التصرف بالشركة مطلقاً، بل المضارِب هو الذي يتصرف، وهو الذي يعمل، وهو صاحب اليد على المال. وذلك لأن عقد الشركة حصل على بدن المضارب ومال رب المال ولم يقع العقد على بدن رب المال، فصار كالأجنبي عن الشركة لا يملك أن يتصرف فيها بشيء. إلاّ أن المضارِب مقيّد بما أذِن له رب المال من تصرف، ولا يجوز له أن يخالفه لأنه متصرف بالإذن، فإذا أذن له أن يتاجر بالصوف فقط أو منعه من أن يشحن البضاعة في البحر فإن له ذلك، لكن ليس معنى هذا أن يتصرف رب المال بالشركة، بل معناه أن المضارِب مقيّد في حدود ما أذن له رب المال، ولكن مع ذلك فالتصرف في الشركة محصور بالعامل فقط وليس لرب المال أية صلاحية في التصرف.

ومن المضاربة أن يشترك مالان وبدن أحدهما. فلو كان بين رجلين ثلاثة آلاف لأحدهما ألف وللآخر ألفان، فأذِنَ صاحب الألفين لصاحب الألف أن يتصرف فيها على أن يكون الربح بينهما نصفين صحّت الشركة ويكون العامل هو صاحب الألف مضارباً عند صاحب الألفين وشريكاً له. وكذلك من المضاربة أن يشترك مالان وبدن غيرهما، فإنها كلها تدخل في باب المضاربة.

والمضاربة جائزة شرعاً لما رُوي أن العباس بن عبد المطلب كان يدفع مال المضاربة ويشترط على المضارِب شروطاً معينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فاستحسنه. وانعقد إجماع الصحابة على جواز المضاربة، فقد رُوي عن حميد بن عبد الله عن أبيه عن جده {أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في العراق}، وعن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده {أن عثمان قارضه}، وعن ابن مسعود وحكيم بن حزام {أنهما قارضا}، وقد كان ذلك على مرأى من الصحابة ولم يُروَ مخالف له ولم ينكِر أحد فكان ذلك إجماعاً منهم على المضاربة.



شركة الوجوه



وهي أن يشترك بدنان بمال غيرهما. أي أن يدفع واحد ماله إلى اثنين أو أكثر مضاربة فيكون المضاربان شريكيْن في الربح بمال غيرهما. فقد يتفقان على قسمة الربح أثلاثاً لكل واحد منهما الثلث وللمال الثلث، وقد يتفقان على قسمته أرباعاً للمال الربع ولأحدهما الربع وللآخر النصف، وقد يتفقان على غير ذلك من الشروط. وبهذه الشروط الممكنة الحصول يمكن أن يحصل تفاضل بين العامليْن في الربح فصار اشتراكهما مع تفاضل حصصهما مبنياً على وجاهة أحدهما أو وجاهتهما، إمّا من ناحية المهارة في العمل وإما من ناحية حسن التصرف في الإدارة مع أن التصرف الشرعي الذي يملكانه في المال واحد. ومن أجل ذلك صارت هذه الشركة قسماً من نوع آخر غير شركة المضاربة مع أنها في حقيقتها ترجع إلى المضاربة.

ومن شركة الوجوه أن يشترك اثنان فأكثر فيما يشتريانه بثقة التجار بهما وجاههما المبني على هذه الثقة من غير أن يكون لهما رأس مال. ويشترطان على أن يكون ملكهما فيما يشتريانه نصفين أو ثلاثاً أو أرباعاً أو نحو ذلك، ويبيعان ذلك، فما يكسبانه من ربح فهو بينهما مناصفةً أو أثلاثاً أو أرباعاً أو نحو ذلك حسب ما يتفقان عليه، لا حسب ما يملكان في البضاعة. أمّا الخسارة فتكون على قدر ملكيْهما في المشتريات لأنه بمقام مالهما، لا على حسب ما يشترطان من خسارة ولا على حسب الربح سواء أكان الربح بينهما بقدر مشترياتهما أو مختلفاً عنهما، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: {الربح على ما شرط العاقدان والوضيعة على قدر المال}.

وشركة الوجوه بقسميها جائزة، لأنهما إذا اشتركا بمال غيرهما كانت من قبيل شركة المضاربة الثابتة بالسنّة والإجماع. وإن اشتركا فيما يأخذانه من مال غيرهما، أي فيما يشتريانه بجاههما وثقة التجار بهما فهي من قبيل شركة الأبدان الثابتة بالسنّة، فتكون شركة الوجوه ثابتة بالسنّة والإجماع.

إلاّ أنه ينبغي أن يُعلم أن المراد بالثقة هنا الثقة المالية وهي الثقة بالسداد وليس الجاه والوجاهة. لأن الثقة إذا أُطلِقَت في موضوع التجارة والشركة ونحو ذلك فإنّما يُقصد منها الثقة بالسداد، وهي الثقة المالية. وعلى ذلك قد يكون الشخص وجيهاً ولكنه غير موثوق بالسداد، فلا توجد فيه ثقة مالية ولا يعتبر أن لديه ثقة تعتبر في موضوع التجارة والشراكة، فقد يكون وزيراً أو غنياً أو تاجراً كبيراً ولكن لا توجد به ثقة بالسداد فلا تكون به ثقة مالية ولا يؤمَّن على شيء، فإنه لا يستطيع أن يشتري من السوق أية بضاعة دون أن يدفع ثمنها. وقد يكون شخص فقيراً ولكن التجار يثقون بسداده ما عليه من المال، فإنه يستطيع أن يشتري بضاعة دون أن يدفع ثمنها. وعلى هذا فشركة الوجوه تتركز فيها الثقة بالسداد لا الوجاهة. وعلى ذلك فإن ما يحصل في بعض الشركات من إدخال وزير عضواً في شركة ويُجعل له نصيباً معيناً من الربح دون أن يدفع أي مال أو يشترك بأي جهد، وإنما أُشرِك لمنزلته في المجتمع حتى يسهّل للشركة معاملاتها، فإن ذلك ليس من قبيل شركة الوجوه ولا ينطبق عليه تعريف الشركة في الإسلام، فلا يجوز هذا النوع من الاشتراك ولا يكون هذا الشخص شريكاً ولا يحل له أن يأخذ شيئاً من هذه الشركة.

وما يحصل في بعض البلدان كالسعودية والكويت من أن غير السعودي أو غير الكويتي لا يُسمح له برخصة للتجارة أو للعمل، فيُدخِل معه سعودياً في السعودية أو كويتياً في الكويت ويجعل له حصة من الربح دون أن يدفع هذا السعودي أو هذا الكويتي أي مال، ودون أن تُعقد الشركة على بدنه وإنما اعتُبِر شريكاً من أجل أن الرخصة أُخِذَت باسمه وجُعلت له حصـة من الربح مقابل ذلك، فهذا أيضاً ليس من شركة الوجوه ولا هو من الشركة الجائزة شرعاً، ولا يعتبَر هذا السعودي أو الكويتي شريكاً، ولا يحل له أن يأخذ شيئاً من هذه الشركة لأنه لا تنطبق عليه الشروط التي أوجب الشرع أن تتوفر في الشريك حتى يكون شريكاً شرعاً، وهي الاشتراك بالمال أو البدن أو الثقة التجارية بالسداد ليباشِر هـو العمل بما يأخذه من بضاعة بهذه الثقة.



شركة المفاوضة



وهي أن يشترك الشريكان في جميع أنواع الشركة المار ذكرها مثل أن يجمعا بين شركة العنان والأبدان والمضاربة والوجوه، وذلك كأن يدفع شخص مالاً لمهندسيْن شراكة مع مالهما مضاربة ليبنيا دُوراً لبيعها والتجارة فيها، واتفقا على أن يشتغلا بأكثر مما بين يديهم من مال وصارا يأخذان بضاعة من غير دفع ثمنها حالاً بناء على ثقة التجار بهما، فاشتراك المهندسيْن معاً ببدنهما شركة أبدان باعتبار صناعتهما، ودفعهما مالاً منهما يشتغلان به معاً شركة عنان، وأخذهما مالاً من غيرهما مضاربة شركة مضاربة، واشتراكهما في البضاعة التي يشتريانها بناء على ثقة التجار بهما شركة وجوه. فهذه الشركة جمعت جميع أنواع الشركات في الإسلام فيصحّ ذلك، لأن كل نوع منها يصح على انفراده فيصح مع غيره، والربح على ما اصطلحا عليه، فيجوز أن يُجعل الربح على قدر المالين ويجوز أن يتساويا مع تفاضلهما في المال، وأن يتفاضلا مع تساويهما في المال.

هذا النوع من شركة المفاوضة جائز لورود النص بها. أمّا ما يذكره بعض الفقهاء من أنواع شركة المفاوضة الأخرى، وهي أن يشترك الرجلان فيتساويان في ماليهما وتصرفهما وديْنهما يفوض كل واحد منهما إلى صاحبه على الإطلاق فلا يجوز مطلقاً، لأنه لم يرد نص شرعي دليلاً عليها، ولأن الحديث الذي يستشهدون به وهو {إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة} أو حديث {فاوضوا فإنه أعظم للبركة}، لم يصح شيء من هذين الحديثين ولا في معناهما على فرض صحة دلالتهما، ولأن هذه الشركة شركة على مال مجهول وعمل مجهول وهذا وحده كاف لعدم صحة هذه الشركة، ولأن من مالهما الإرث الذي يصير إليهما بعد وفاة المورِّث وقد يكون أحدهما ذمياً فكيف يُجعل له نصيب في الإرث؟ ولأن الشركة تتضمن معنى الوكالة، والوكالة بمجهول الجنس لا تجوز. فكان كله دالاً على عدم صحة هذا النوع من شركة المفاوضة.



فسخ الشركة



والشركة من العقود الجائزة شرعاً وتبطل بموت أحد الشريكين أو جنونه أو الحجر عليه لسفه، أو بالفسخ من أحدهما، لأنها عقد جائز فبطلت بذلك كالوكالة، فإن مات أحد الشريكين وله وارث رشيد فله أن يقيم على الشركة ويَأذن له الشريك في التصرف، وله المطالبة بالقسمة. وإذا طلب أحد الشريكين الفسخ وجب على الشريك الآخر إجابة طلبه. وإذا كانوا شركاء وطلب أحدهم فسخ الشراكة ورضي الباقون ببقائها فُسخت الشركة التي كانت قائمة وجُددت بين الباقين. إلاّ أنه يفرَّق في الفسخ بين شركة المضاربة وغيرها، ففي شركة المضاربة إذا طلب العامل البيع وطلب المضارِب القسمة، أُجيب طلب العامل لأن حقه في الربح ولا يظهر الربح إلاّ في البيع. أمّا في باقي أنواع الشركة إذا طلب أحدهما القسمة والآخر البيع أُجيب طلب القسمة دون طلب البيع.

rajaab
19-05-2005, 05:02 PM
الشركات الرأسمالية



الشركة في النظام الرأسمالي عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهما في مشروع مالي بتقديم حصة من مال أو عمل لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو خسارة. وهي قسمان: شركات الأشخاص وشركات الأموال.

أمّا شركات الأشخاص فهي التي يدخل فيها العنصر الشخصي، ويكون له أثر في الشركة وفي تقدير الحصص، وذلك كشركات التضامن وشركات التوصية البسيطة، بخلاف شركات الأموال فإنه لا يكون فيها للعنصر الشخصي أي وجود ولا أي اعتبار أو أي أثر، بل هي قائمة على انتفاء وجود العنصر الشخصي وانفراد العنصر المالي فقط في تكوين الشركة وفي سيرها، وذلك كشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم.



شركة التضامن



هي عقد بين شخصين أو أكثر يتفقان فيه على الاتجار معاً بعنوان مخصوص، ويلتزم جميع أعضائها بديون الشركة على جميع أموالهم بالتضامن من غير قيد وحدّ، لذلك لا يمكن أن يتنازل أي شريك عن حقوقه في الشركة لغيره إلاّ بإذن باقي الشركاء، وتنحلّ الشركة بموت أحد الشركاء أو الحجر عليه أو إفلاسه، ما لم يوجد اتفاق يخالف ذلك. وأعضاء هذه الشركة متضامنون في تعهداتها قِبَل الغير في تنفيذ جميع تعهدات الشركة، ومسؤوليتهم في ذلك غير محدودة، فكل شريك مطالَب بأداء جميع ديون الشركة لا من أموال الشركة فحسب بل من أمواله أيضاً، فعليه أن يوفي بأمواله هو ما نقص من ديون الشركة بعد نفاد مالها. ولا تسمح هذه الشركة باتساع المشروع، ويتم تكوينها من أشخاص قلائل يثق كل منهم بالآخر ويعرفه معرفة جيدة، وأهم اعتبار فيها شخصية الشركاء لا من حيث كونه بدناً فقط بل من حيث مركزه وتأثيره في المجتمع.

وهذه الشركة فاسدة لأن الشروط التي تنص عليها تخالف شروط الشركات في الإسلام، لأن الحكم الشرعي أنه لا يُشترَط في الشريك إلاّ كونه جائز التصرف فقط، وأن للشركة أن توسِّع أعمالها، فإذا اتفق الشركاء على توسيع الشركة إما بزيادة رأسمالهم أو بإضافة شركاء، فهم مطلَقو التصرف يفعلون ما يشاؤون، ولأن الشريك غير مسؤول في الشركة شخصياً إلاّ بنسبة ما له من حصة فيها، ولأن له الحق أن يترك الشركة في أي وقت يريد دون حاجة لموافقة الشركاء؛ والشركة لا تنحل بموت أحد الشركاء أو الحجر عليه بل تنفسخ شراكته هو وحده وتبقى شراكة باقي الشركاء إذا كانت الشركة مؤلفة من أكثر من اثنين. هذه هي الشروط الشرعية، فاشتراط شركة التضامن بخلاف هذه الشروط، بل نقيضها، يجعلها شركة فاسدة ولا يجوز الاشتراك بها شرعاً.



شركات المساهمة



شركات المساهمة هي شركة مكوَّنة من شركاء يجهلهم الجمهور. والمؤسِّس في شركة المساهمة هو كل من وَقَّع العقد الابتدائي لأن العقد الابتدائي هو الذي يوجِد بين موقِّعيه التزامات بالعمل على تحقيق الهدف المشترك وهو الشركة. ويكون الاكتتاب في الشركة بالتزام الشخص بشراء سهم أو أكثر في مشروع الشركة مقابل قيمتها الاسمية. وهو ضرب من ضروب التصرف بإرادة منفردة، أي يكفي الشخص أن يشتري الأسهم ليصبح شريكاً، رَضِيَ به باقي الشركاء أم لا. ويحصل الاكتتاب بوسيلتين: الأولى يختص فيها المؤسسون بأسهم الشركة ويوزعونها فيما بينهم دون عرضها على الجمهور، وذلك بتحرير القانون النظامي للشركة المتضمن الشروط التي ستسير عليها الشركة ثم توقيعه من قِبلهم، فكل من يوقّع القانون يعتبر مؤسساً وشريكاً، ومتى تم توقيع الجميع فقد تأسست الشركة. والوسيلة الثانية التي يحصل فيها الاكتتاب وهي المنتشرة في العالم، هي أن يقوم بضعة أشخاص في تأسيس الشركة ويضعون نظامها ثم تُطرح الأسهم مباشرة على الجمهور للاكتتاب العام فيها وحين ينتهي أجل الاكتتاب في الشركة تدعى الجمعية التأسيسية للشركة للنظر في التصديق على نظام الشركة وتعيين مجلس الإدارة لها. ويجوز لكل مساهم مهما كان عدد أسهمه حق الحضور في الجمعية التأسيسية ولو كان مالكاً لسهم واحد. وتبدأ الشركة أعمالها عند انتهاء الزمن المحدد لإقفال الاكتتاب.

وكلتا الوسيلتين شكل واحد هو دفع الأموال. ولا تُعتبر الشركة قد انعقدت إلاّ بانتهاء توقيع المؤسسين في الوسيلة الأولى، وانتهاء أجل الاكتتاب في الوسيلة الثانية. فعقد الشركة عقد بين أموال فحسب ولا وجود للعنصر الشخصي فيها مطلقاً، فالأموال هي التي اشتركت لا أصحابها. وهذه الأموال اشتركت مع بعضها دون وجود أي شخص، ولذلك لا صلاحية لأي شريك مهما بلغت أسهمه بأن يتولى أعمال الشركة بوصفه شريكاً، ولا حق له بأن يعمل بها أو يسيّر أي شيء من أعمالها باعتباره شريكاً، وإنما الذي يتولى أعمال الشركة ويعمل بها ويسيّرها ويشرف على كل أعمالها شخص يطلق عليه اسم المدير المنتدب، ينيط به ذلك مجلس الإدارة. ومجلس الإدارة هذا يُنتخب من الجمعية العمومية التي يكون فيها لكل شخص من الأصوات بمقدار ما يملك من الأموال، لا بمقدار شخصيته، لأن الشريك هو المال، فهو الذي يحدد عدد الأصوات، فلكل سهم صوت وليس لكل شخص صوت، فلا يوجد في شركة المساهمة أي اعتبار لشخص المساهم، وإنما الاعتبار هو لرؤوس الأموال فقط. وشركة المساهمة دائمية، ولا تتقيد بحياة الأشخاص، فقد يموت الشريك فلا تنحلّ الشركة، وقد يُحجر عليه ويبقى في الشركة. وأمّا رأس مال الشركة فإنه يُقسَم إلى عدد من الحصص متساوية القيمة يطلق عليها اسم الأسهم. والمساهم شريك لا تُستقصى صفاته الشخصية، ومسؤوليته محدودة بقدر حصته في رأس المال، فلا يلزم الشركاء من الخسارة إلاّ بمقدار أسهمهم فيها، وحصته قابلة للتداول، فله أن يبيعها، أو يشرك معه فيها غيره، دون إجازة بقية الشركاء. والأسهم التي يملكها كل شخص أوراق مالية تمثل رؤوس أموال، فقد تكون اسمية وقد تكون لحاملها، وهي تنتقل من ملكية شخص إلى آخر. والمتموِّل الذي يكتتب في الأسهم لا يُلزم إلاّ بدفع قيمتها الاسمية، فالسهم جزء من كيان الشركة غير قابل للتجزئة وليس هو جزءاً من رأس مالها. وأوراق الأسهم هي بمثابة ورقة تسجيل في هذه الحصة وقيمتها ليست واحدة وإنما تتغير حسب أرباح الشركة أو خسارتها، وهذا الربح أو الخسارة ليس واحداً في كل السنين فقد يختلف أو يتفاوت. فالأسهم إذن لا تمثل رأس المال المدفوع عند تأسيس الشركة وإنما تمثل رأس مال الشركة حين البيع، أي في وقت معين، فهي كورقة النقد يهبط سعرها إذا كانت سوق الأسهم منخفضة ويرتفع حين تكون سوق الأسهم مرتفعة، وتنخفض قيمة الأسهم حين خسارة الشركة وترتفع حين ربحها. فالسهم بعد بدء الشركة بالعمل انسلخ عن كونه رأس مال وصار ورقة مالية لها قيمة معينة ترتفع وتنزل حسب السوق بحسب أرباح الشركة وخسارتها أو بحسب إقبال الناس عليها وإدبارهم عنها، فهو سلعة تخضع للعرض والطلب. والأسهم تنتقل من يد لأخرى كانتقال الأوراق المالية بين الناس دون أدنى إجراءات كتابية في دفاتر الشركة إذا كانت الأسهم لحاملها، وبإجراءات كتابية في الشركة إذا كانت تحمل إسم المساهم.

وتعتبر الشركة رابحة إذا زادت قيمة موجودات الشركة على قيمة مطلوباتها عند الجرد السنوي، فما زاد فهو الربح، وتوزع الأرباح سنوياً في تمام السنّة المالية للشركة، فإذا ارتفعت قيمة موجودات الشركة بسبب ظروف فجائية دون أن تكون هناك أرباح فلا مانع من إجراء توزيع هذه الزيادة. أمّا إذا حدث العكس فانخفضت قيمة موجودات الشركة ولكن الشركة ربحت، إلاّ أن أرباحها إذا ضُمت إلى انخفاض قيمة الموجودات ولم يزد على قيمة مطلوباتها، فلا محل لتوزيع الأرباح. وحين توزيع الربح تخصص حصة من الأرباح للاحتياطي ويُصرف الباقي بعد ذلك على المساهمين. وتعتبر الشركة شخصاً معنوياً لها أن تقاضي ويُتقاضى باسمها أمام المحاكم كما أن لها محل إقامة خاص وجنسية خاصة. ولا يسد مسدها أي مساهم فيها ولا أي عضو إدارة بوصفه شريكاً أو بوصفه الشخصي، وإنما يملك ذلك من يفوض له أن ينطق باسم الشركة فيكون المتصرف هو الشركة أي الشخصية المعنوية لا الشخص المباشر للتصرف.

هذه هي شركة المساهمة وهي من الشركات الباطلة شرعاً، ومن المعاملات التي لا يجوز للمسلم أن يقوم بها. أمّا وجه بطلانها وحرمة الاشتراك بها فيتبين مما يلي:

1- أن تعريف الشركة في الإسلام هو: أنها عقد بين اثنين أو أكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي بقصد الربح. فهي عقد بين اثنين أو أكثر فلا تصح فيها الموافقة من جانب واحد بل لا بد أن تحصل الموافقة من جانبين أو أكثر. والعقد فيها يجب أن يكون منصباً على القيام بعمل مالي بقصد الربح. فلا يصح أن يكون منصباً على دفع المال فقط، ولا يكفي أن يكون الهدف مجرد الاشتراك فحسب. فالقيام بالعمل المالي هو أساس عقد الشركة، والقيام بالعمل المالي إما من المتعاقديْن، وإما من أحدهما ومال الآخر، ولا يتأتى أن يكون عقد بينهما على قيام غيرهما بعمل مالي، لأنه لا يكون عقداً، ولا يلزم به أحد. فالعقد إنّما يلتزم به العاقد، ويجري على تصرفاته هو لا على غيره، فيحتم أن يكون القيام بالعمل المالي محصوراً بين العاقديْن، إما منهما أو من أحدهما ومال الآخر. وكون القيام بالعمل المالي من أحد العاقديْن أمراً حتمياً حتى يتم قيام الشركة ووجودها، يحتم أنه لا بد أن يكون في الشركة بدن يجري العقد عليه. فيُشترط في الشركة في الإسلام وجود البدن فيها، فهو عنصر أساسي في انعقاد الشركة، فإذا وُجد البدن انعقدت الشركة وإذا لم يوجد البدن في الشركة لم تنعقد شركة ولم توجد من أساسها.

وقد عَرّف الرأسماليون شركة المساهمة بأنها عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهما في مشروع مالي بتقديم حصة من مال لاقتسام ما قد ينشأ من هذا المشروع من ربح أو خسارة، ومن هذا التعريف ومن واقع تأسيس الشركة بوسيلتيها السابقتين يتبين أنها ليست عقداً بين شخصين أو أكثر حسب أحكام الشرع الإسلامي. لأن العقد شرعاً هو إيجاب وقبول بين طرفين شخصين أو أكثر، أي أنه لا بد أن يكون هنالك طرفان في العقد: أحدهما يتولى الإيجاب بأن يبدأ بعرض العقد كأن يقول: زوجتك أو بعتك أو أجرتك أو شاركتك أو وهبتك أو ما شاكل ذلك، والآخر يتولى القبول كأن يقول: قبلتُ أو رضيت أو ما شاكل ذلك، فإن خلا العقد من وجود طرفين أو من الإيجاب والقبول لم ينعقد ولا يسمى عقداً شرعاً. وأمّا في شركة المساهمة فإن المؤسسين يتفقون على شروط الاشتراك ولا يباشرون الاشتراك بالفعل حين يتفقون على شروط الشركة، بل يتفاوضون ويتفقون على الشروط فقط، ثم يضعون صكاً هو نظام الشركة، ثم بعد ذلك يجري التوقيع على هذا الصك من كل من يريد الاشتراك. فيُعتبر توقيعه فقط قبولاً به. وحينئذ يعتبر مؤسساً ويُعتبر شريكاً، أي يتم اشتراكه حين يتم التوقيع أو حين ينتهي أجل الاكتتاب. وهذا واضح فيه أنه لم يوجد فيه طرفان أجرَيا العقد معاً، ولا يوجد فيه إيجاب وقبول، وإنما هو طرف واحد يوافق على الشروط فيصبح بموافقته شريكاً. فشركة المساهمة ليست اتفاقاً بين اثنين وإنما هي موافقة من شخص واحد على شروط. ولذلك قال عنها علماء الاقتصاد الرأسمالي وعلماء القانون الغربي بأن الالتزام فيها ضرب من ضروب التصرف بالإرادة المنفردة. والإرادة المنفردة هي كل شخص يَلتزم أمراً من جانبه للجمهور أو لشخص آخر بغض النظر عن موافقة الجمهور أو الشخص الآخر أو عدم موافقته، كالوعد بجائزة. وشركة المساهمة عندهم وفي حقيقتها يلتزم المساهم أو المؤسس أو أي موقِّع على الصك بالشروط التي يتضمنها بغض النظر عما إذا وافق غيره أم لا، وقد اعتبروها من أنواع التصرف بالإرادة المنفردة. وعلى هذا يكون عقد شركة المساهمة بالإرادة المنفردة عقداً باطلاً شرعاً لأن العقد شرعاً هو ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقديْن بقبول الآخر على وجه يَظهر أثره في المعقود عليه. وعقد شركة المساهمة لم يحصل فيه ذلك، فهو لم يجرِ فيه اتفاق بين شخصين أو أكثر وإنما التزم بموجبه شخص واحد بالمساهمة في مشروع مالي. ومهما تعدد الملتزمون والشركاء فيعتبر الملتزم شخصاً واحداً.

قد يقال إن الشركاء اتفقوا بينهم على شروط الشركة فيعتبر اتفاقهم إيجاباً وقبولاً وكتابة الصك أمر شكلي لتسجيل العقد الذي اتفقوا عليه فلماذا لا يسمى هذا عقداً؟

والجواب على ذلك هو أن الشركاء اتفقوا بينهم على شروط الشركة ولكنهم حسب اتفاقهم لا يَعتبرون أنفسهم اشتركوا فعلاً، ولا يلتزمون بهذا الاتفاق على الشروط، بل يجوز لكل منهم أن يترك وأن لا يشترك بعد الاتفاق على الشروط، وبعد كتابة الصك. فهو غير ملزَم بالاتفاق على الشروط حسب اصطلاحهم واتفاقهم إلاّ بعد توقيعه للصك، فإذا وقّع الصك أصبح ملتزماً. وأمّا قبل ذلك فهو غير ملزَم وغير مرتبط بشيء. وعلى ذلك فاتفاقهم على الشروط قبل توقيع الصك لا يعتبر عقداً عندهم، وهو أيضاً ليس عقداً شرعاً لأن الاتفاق على شروط الاشتراك وعلى الاشتراك لا يعتبر عقد شركة، لأنهم حسب اتفاقهم غير ملزَمين به قبل التوقيع. والعقد ما التزم به العاقدان، ولهذا لا يعتبر اتفاقهم على شروط الشركة وعلى الاشتراك إيجاباً وقبولاً، فلا يعتبر حسب أحكام الشرع عقداً فضلاً عن كونه عندهم لا يعتبر عقداً.

وقد يقال إن قبول الشريك بتوقيعه على العقد يعتبر إيجاباً منه لغيره، وتوقيعُ مَن بعده يعتبر قبولاً فلِمَ لا يعتبر عرض الصك بتوقيعه على العقد إيجاباً وتوقيعه قبولاً؟

والجواب على ذلك أن كل شريك يوقع يكون قد قَبِل فقط، فهو قبول، والعرض لم يصدر عن أحد معين، أي أن الإيجاب لم يصدر عن أحد معين، فلا يوجد عارض، لا المؤسسون ولا الموقِّع الأول، وإنما يوجد قبول من كل شريك. فالموقِّع يقبل الشروط ويلتزم بها من نفسه دون عرضها عرض تصرف من أحد، أي دون أن يقول له أحد: شاركتك. أمّا إعطاؤه الصك للتوقيع فلا يعتبر عرض تصرف. وعلى هذا فواقع شركة المساهمة أن كل شريك فيها يقبل فقط، والقبول مع القبول لا يعتبر شرعاً عقداً، بل لا بد من الإيجاب بلفظ يدل على الإيجاب لا على القبول. ثم يأتي القبول بلفظ يدل على القبول. وعليه لا يعتبر أي شخص وقّع صك الشركة موجِباً بل الكل يعتبر قابلاً. فيكون قد صدر في الشركة قبول دون إيجاب، فلَمْ تنعقد.

والرأسماليون يُطلقون على صك الشركة، أي نظامها، عقداً، ويقولون وقّع العقد. وأما شرعاً فلا يعتبر هذا الصك عقداً، وإنما العقد هو إيجاب وقبول بين طرفين، ومن هنا لا تعتبر شركة المساهمة عقداً شرعاً.

على أن هذا العقد لم يحصل الاتفاق فيه على القيام بعقد مالي بقصد الربح، وإنما وافق فيه المؤسس أو المكتتب على أن يدفع مالاً في مشروع مالي، فهو خالٍ من عنصر الاتفاق على القيام بعمل، وإنما فيه الالتزام المفرد من الشخص بتقديم المال فقط دون أي اعتبار للعمل في الالتزام. وبما أن القيام بالعمل المالي هو الهدف من الشركة، وليس مجرد الاشتراك، فخلو العقد من الاتفاق على القيام بالعمل مُبطِل للعقد. وبذلك لم توجَد شركة بمجرد الموافقة على دفع المال لعدم وجود الاتفاق على القيام بالعمل المالي. ومن هنا كانت الشركة باطلة أيضاً.

وقد يقال إن صك الشركة قد تضمّن نوع العمل الذي تقوم به، كمعمل سكّر أو تجارة أو ما شاكل ذلك فيكون قد حصل فيه الاتفاق على القيام بعمل مالي.

والجواب على ذلك هو أن نوع العمل الذي ذُكِر إنّما هو العمل الذي ستقوم به الشركة ولكن لم يحصل الاتفاق على القيام به من طرف الشركاء. وإنما حصل الاتفاق على الاشتراك وعلى شروط الشركة فقط، وتُرك القيام بالعمل للشخصية المعنوية التي ستكون للشركة بعد تأسيسها. وعليه لم يحصل الاتفاق بين الشركاء على أن يقوموا هم بعمل مالي.

وعلاوة على ذلك فإن الشركة في الإسلام يُشترط فيها وجود البدن أي وجود الشخص المتصرف، لأن المراد بالبدن في الشركة والبيع والإجارة وسائر العقود هو الشخص المتصرف وليس الجسم والجهد، فوجود البدن عنصر أساسي في انعقاد الشركة، فإذا وُجد البدن انعقدت الشركة، وإذا لم يوجد البدن في الشركة لم تنعقد شركة ولم توجَد من أساسها. وشركة المساهمة لا يوجد فيها بدن مطلقاً، بل تتعمد إبعاد العنصر الشخصي من الشركة، ولا تجعل له أي اعتبار، لأن عقد شركة المساهمة عقد بين أموال فحسب، ولا وجود للعنصر الشخصي فيها، فالأموال هي التي اشتركت مع بعضها لا أصحابها. وهذه الأموال اشتركت مع بعضها دون وجود بدن شريك معها. فعدم وجود البدن يجعل الشركة لم تنعقد، فهي باطلة شرعاً، لأن البدن هو الذي يتصرف بالمال وإليه وحده يستند التصرف بالمال، فإذا لم يوجد البدن لم يوجد التصرف.

rajaab
19-05-2005, 05:07 PM
وأمّا كون الأشخاص أصحاب المال هم الذين يباشرون الموافقة على المساهمة بالمال، وكونهم هم الذين يختارون مجلس الإدارة الذي يباشر العمل في الشركة، فلا يدل على أن هناك بدناً في الشركة، لأن موافقتهم كانت على جعل المال شريكاً لا على أن يكونوا هم شركاء. فالمال هو الشريك وليس صاحبه. وأمّا كونهم هم الذين يختارون مجلس الإدارة فليس معناه أنهم وكّلوا عنهم، بل إن أموالهم هي التي جرى التوكيل عنها من قِبلهم ولم يجر التوكيل عنهم بدليل أن المساهم له أصوات بقدر ما يملك, فالذي يملك سهماً واحداً له صوت واحد أي وكالة واحدة، والذي له ألف سهم له ألف صوت أي ألف وكالة، فتكون الوكالة عن المال لا عن الشخص، وهذا يدل على أن عنصر البدن مفقود منها وهي مؤلفة من عنصر المال فحسب.

وبهذا يكون تعريف شركة المساهمة دالاً على أنه لم تتوفر فيها الشروط التي لا بد منها حتى تنعقد الشركة في الإسلام، إذ لم يحصل فيها اتفاق بين اثنين أو أكثر، وإنما هي التزام بإرادة منفردة من جانب واحد. ولم يُتّفَق فيها على القيام بعمل، وإنما التزَم فيها شخص بتقديم مال. وليس فيها بدن يباشر هو التصرفات بوصفه الشخصي في الشركة، وإنما فيها مال فقط دون وجود أي بدن. وبهذا يكون عقد شركة المساهمة من هذه الجهة باطلاً شرعاً، فتكون شركة المساهمة باطلة لأنها لم تنعقد شركة، ولا ينطبق عليها تعريف الشركة في الإسلام.

2- الشركة عقد على التصرف بمال، وتنمية المال بها هي تنمية للملك، وتنمية الملك هي تصرف من التصرفات الشرعية، والتصرفات الشرعية كلها إنّما هي تصرفات قولية، وهي إنّما تصدر عن شخص لا عن مال، فلا بد أن تكون تنمية الملك من مالك التصرف أي من شخص لا من مال. وشركة المساهمة تجعل المال ينمو من نفسه دون بدن شريك، ودون شخص متصرف يملك حق التصرف، وتجعل التصرف للأموال، لأن شركة المساهمة إنّما هي أموال تجمعت وصارت لها قوة التصرف. ولذلك تُعتبر الشركة شخصاً معنوياً يكون لها وحدها حق التصرفات الشرعية من بيع وشراء وصناعة وشكوى وغير ذلك. ولا يملك الشركاء أي تصرف وإنما التصرف خاص بشخصية الشركة، مع أن الشركة في الإسلام إنّما يصدر فيها التصرف عن الشركاء فقط، ويتصرف أحدهما بإذن من الآخر ولا يكون لأموال الشركاء في مجموعها أي واقع يصدر عنه تصرف، بل التصرف محصور بشخص الشريك. وعلى ذلك تكون التصرفات التي تحصل من الشركة بوصفها شخصية معنوية باطلة شرعاً، لأن التصرفات يجب أن تصدر عن شخص معين، أي عن إنسان مشخَّص، وأن يكون هذا الشخص ممن يملكون التصرف، ولم يتحقق ذلك في شركة المساهمة.

ولا يقال هنا إن الذي يباشر العمل في الشركة هم العمال وهم أجراء لأصحاب الأموال، وهم المساهمون، والذي يباشر الإدارة والتصرفات هم المدير ومجلس الإدارة، وهم وكلاء عن المساهمين.

لا يقال ذلك، لأن الشريك متعين ذاتاً في الشركة، وعقد الشركة وقَع عليه بذاته، فلا يجوز له أن يوكِّل أحداً عنه ليقوم بأعمال الشركة، ولا أن يستأجر أحداً عنه ليقوم بأعمال الشركة، بل يتعين أن يقوم بنفسه في أعمال الشركة، فلا يجوز للشركاء أن يؤجروا عنهم أجراء للقيام عنهم ولا أن يوكّلوا مجلس إدارة عنهم. على أن مجلس الإدارة ليس وكيلاً عن أشخاص المساهمين، وإنما هو وكيل عن أموالهم، لأن الذي يجعله في الإدارة الأصوات التي ينالها في الانتخاب، وهي بحسب الأموال المساهمة في الشركة لا بحسب أشخاص الشركاء. وفضلاً عن ذلك فإن المدير ومجلس الإدارة لا يملكون التصرف في الشركة لثلاثة أسباب:

أولاً: لأنهم يتصرفون بوكالتهم عن المساهمين، أي عن الشركاء بانتخابهم لهم، ولا يجوز للشريك أن يوكِّل عنه، لأن الشركة وقعت على ذاته. فكما لا يجوز أن يوكّل من يتزوج عنه- بل يجوز أن يوكّل عنه من يعقد له عقد الزواج- كذلك لا يجوز لا يوكّل من يتشارك عنه، بل يجوز أن يوكّل من يعقد له عقد الشركة لا من يكون شريكاً عنه.

ثانياً: إن المساهمين أي الشركاء قد وكّلوا عن أموالهم لا عن أنفسهم، بدليل أن أصوات الانتخاب هي التي تعتبر في التوكيل وهي تعتبر حسب الأموال لا حسب الأشخاص. فيكون التوكيل عن أموالهم لا عن أشخاصهم.

ثالثاً: إن المساهمين هم شركاء أموال فقط وليسوا شركاء بدن، وشريك المال لا يملك التصرف في الشركة مطلقاً فلا يصح أن يوكل عنه من تصرف في الشركة نيابة عنه.

وعليه يكون تصرف مدير الشركة ومجلس الإدارة تصرفاً باطلاً شرعاً.

3- إن كون الشركة المساهمة دائمية يخالف الشرع، فالشركة من العقود الجائزة شرعاً تَبطُل بموت أحد الشريكين وجنونه والحجر عليه وبالفسخ من أحد الشركاء، وإذا مات أحد الشركاء وله وارث يُنظر، فإن كان غير رشيد فليس له أن يستمر في الشركة، وإن كان رشيداً، له أن يقيم على الشركة ويَأذَن له الشريك في التصرف وله المطالبة بالقسمة. وإذا حُجِر على الشريك انفسخت الشركة لأنه لا بد أن يكون الشريك جائز التصرف. فكوْن شركة المساهمة دائمية وتستمر بالرغم من موت أحد الشركاء أو الحجر عليه يجعلها شركة فاسدة، لأنها اشتملت على شرط فاسد يتعلق بكيان الشركة وماهية العقد. وخلاصة الأمر أن شركة المساهمة لم تنعقد شركة أصلاً، لأن الذين وُجدوا هم شركاء المال فقط، ولم يوجد شريك البدن مع أن شريك البدن شرط أساسي، لأنه به تنعقد الشركة شركة، وبغيره لا تنعقد شركة، ولا تحصل بتاتاً. وفي شركات المساهمة يتم عندهم الاشتراك بوجود شركاء المال ليس غير. وتشتغل الشركة وتباشر أعمالها قبل أن يوجَد شريك البدن، ودون أن يكون له أي اعتبار. ومن هنا كانت شركة باطلة لأنها لم تنعقد شركة شرعاً. ثم إن الذين يباشِرون التصرفات في الشركة هم مجلس الإدارة، وهم وكلاء عن المساهمين، أي عن شركاء المال، والشريك لا يجوز له شرعاً أن يوكّل عنه وكيلاً يتصرف في الشركة نيابة عنه، سواء أكان شريك مال أم شريك بدن، لأن عقد الشركة وقع عليه بذاته فيجب أن يقوم هو بالتصرف. فلا يصح أن يوكّل عنه، أو يؤجر عنه من يقوم بالتصرف والعمل بالشركة. على أن شريك المال فقط لا يملك شرعاً التصرف في الشركة، ولا العمل فيها كشريك مطلقاً، بل التصرف في الشركة والعمل فيها محصور بشريك البدن ليس غير. وأيضاً فإن شركة المساهمة تصبح شخصية معنوية ويكون لهذه الشخصية حق التصرف، والتصرفات شرعاً لا تصح إلاّ من إنسان مشخّص له أهلية التصرف بأن يكون بالغاً عاقلاً أو مميزاً عاقلاً، وكل تصرف لم يصدر على هذا الوجه فهو باطل شرعاً. فإسناد التصرف إلى شخصية معنوية لا يجوز بل لا بد من إسناده إلى من يحوز أهلية التصرف من بني الإنسان. لذلك كانت شركات المساهمة باطلة، وكانت جميع تصرفاتها باطلة، وجميع الأموال التي كُسبت بواسطتها أموال باطلة كُسبت بتصرفات باطلة، فلا يحل ملكها.

rajaab
19-05-2005, 05:13 PM
أسهم شركة المساهمة



أسهم الشركة هي أوراق مالية تمثل ثمن الشركة في وقت تقديرها، ولا تمثل رأس مال الشركة عند إنشائها. فالسهم جزء لا يتجزأ من كيان الشركة وليس هو جزءاً من رأس مالها، فهو بمثابة سند لقيمة موجودات الشركة. وقيمة الأسهم ليست واحدة وإنما تتغير بحسب أرباح الشركة أو خسارتها، وهي ليست واحدة في كل السنين بل تتفاوت قيمتها وتتغير. وعلى ذلك فالسهم لا يمثل رأس المال المدفوع عند تأسيس الشركة، وإنما هي –أي الأسهم- تمثل رأس مال الشركة حين البيع أي في وقت معين، فهي كورقة النقد يهبط سعرها إذا كانت سوق الأسهم منخفضة، ويرتفع حين تكون مرتفعة. فالسهم بعد بدء الشركة في العمل انسلخ عن كونه رأس مال وصار ورقة مالية لها قيمة معيّنة.

والحكم الشرعي في الأوراق المالية هو أنه يُنظر فيها، فإن كانت سندات تتضمن مبالغ من المال الحلال كالنقد الورقي الذي له مقابل من الذهب أو الفضة يساويه أو ما شاكل ذلك فإن شراءها وبيعها يكون حلالاً لأن المال الذي تتضمنه حلال، وإن كانت سندات تتضمن مبالغ من المال الحرام كسندات الدين التي يستثمر فيها المال بالربا وكأسهم البنوك أو ما شاكل ذلك فإن شراءها وبيعها يكون حراماً لأن المال الذي تتضمنه مال حرام. وأسهم شركات المساهمة هي سندات تتضمن مبالغ المخلوط من رأس مال حلال ومن ربح حرام، في عقد باطل ومعاملة باطلة، دون أي تمييز بين المال الأصلي والربح، وهي في نفس الوقت سند بقيمة حصة من موجودات الشركة الباطلة، وقد اكتُسبت هذه الموجودات بمعاملة باطلة نهى الشرع عنها فكانت مالاً حراماً، فتكون أسهم شركة المساهمة متضمنة مبالغ من المال الحرام. وبذلك صارت هذه الأوراق المالية التي هي الأسهم مالاً حراماً لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا التعامل بها.

بقيت مسألة ما وقع فيه المسلمون من شراء أسهم شركات المساهمة واشتراكهم في تأسيسها، ومن وجود أسهم لهم يملكونها بحكم مساهمتهم في هذه الشركات. هل كان عملهم هذا حراماً عليهم مع أنهم كانوا يجهلون الحكم الشرعي حين مساهمتهم أو أفتاهم مشايخ لم يدركوا واقع شركات المساهمة ما هي؟ وهل هذه الأسهم التي تحت تصرفهم ملك لهم وأموال حلال عليهم ولو كُسبت بمعاملة باطلة شرعاً؟ أم حرام عليهم ولا يملكونها ؟ وهل يجوز لهم بيع هذه الأسهم للناس أم لا يجوز؟

والجواب على ذلك هو أن الجهل بالحكم الشرعي ليس عذراً. لأنه فرض عين على كل مسلم أن يتعلم ما يلزمه في حياته من الأحكام الشرعية حتى يتأتى له القيام بالعمل حسب الحكم الشرعي، إلا أنه إذا كان الحكم مما يُجهَل مثله على مثل الفاعل فلا يؤاخَذ في الفعل ويكون عمله صحيحاً، ولو كان حكم الشرع فيه أنه باطل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع معاوية بن الحكم يشمِّت عاطساً وهو في الصلاة، فبعد أن فرغوا من الصلاة علّمه الرسول أن الكلام يُبطل الصلاة، وتشميت العاطس يُبطل الصلاة، ولم يأمره بإعادة الصلاة، لأن هذا الحكم، وهو كون الكلام يُبطل الصلاة كان مما يُجهَل عادة لمثل ذلك الشخص فعَذَرَه الرسول فيه واعتبر صلاته صحيحة. وشركات المساهمة كونها حراماً شرعاً من الأحكام التي يُجهَل مثلها على كثير من المسلمين، ولذلك يُعذَر فيها الجهل، فيكون عمل الذين اشتركوا صحيحاً ولو كانت الشركات باطلة، كصلاة معاوية بن الحكم فإنها صلاة صحيحة مع أنه عمل فيها ما يُبطل الصلاة ولكنه كان يجهل أن الكلام يُبطِل الصلاة. وإفتاء المشايخ أيضاً يجري عليه حكم الجهل بالنسبة للمستفتي، أمّا المفتي فليس معذوراً لأنه لم يبذل الوُسع في فهم واقع شركات المساهمة قبل أن يعطي الحكم فيها. وأمّا ملكية هؤلاء المساهمين للأسهم فهي ملكية صحيحة، وهي أموال حلال لهم ما دام حكم الشرع في عملهم أنه عمل صحيح وليس بباطل، لجهلهم ببطلانه جهلاً يُعذَرون فيه. وأمّا بيع هذه الأسهم لمسلمين فلا يجوز لأنها أوراق مالية باطلة شرعاً، وحلِّيّة ملكيتها جاءت طارئة من كون الجهل يُعذَر فيها، أمّا إذا عُرف الحكم الشرعي فيها أو أصبح مما لا يُجهَل مثله عند الشخص فإنه حينئذ يكون مالاً حراماً لا يباع ولا يشترى، ولا أن يَجعل غيره يلي بيعه له.

وكيفية التخلص من هذه الأسهم التي مُلكت بسبب جهل الحكم الشرعي فيها تكون بحَلّ الشركة، أو تحويلها إلى شركة إسلامية، أو لينظروا شخصاً غير مسلم ممن يستحل أسهم شركات المساهمة فيولوه بيعها عنهم، ويأخذوا ثمنها. فعن سويد بن غفلة {أن بلالاً قال لعمر بن الخطاب إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج. فقال: لا تأخذوها منهم ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم الثمن}، ولم ينكِر أحد على عمر ذلك مع أنه مما يُنكَر لو كان يخالف الشرع، فكان إجماعاً. فالخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة، ولا تكون مالاً للمسلمين، فلما أرادوا إعطائها للمسلمين بدل جزية أمرهم عمر أن لا يقبلوها وأن يولوهم بيعها ويأخذوا ثمنها. ولماّ كانت الأسهم مالاً من أموال الرأسماليين الغربيين، ولا تكون مالاً للمسلمين، وقد آلت للمسلمين، فلا يصح أن يأخذوها، ولِيَلوهم بيعها. فكما أن حق المسلمين في الجزية والخراج قد استقر في الخمر والخنازير، وأباح لهم عمر أن يجعلوا الذميين يلون بيعها لهم، فكذلك حق المسلمين في هذه الأسهم يجوز لهم أن يجعلوا الذميين يلون بيعها لهم.




الجمعيات التعاونية



التعاونية هي نوع من أنواع الشركات الرأسمالية، فهي شركة وإن سمّيت جمعية تعاونية، فهي مساهمة بين مجموعة أشخاص اتفقوا فيما بينهم على القيام مشتركين بمقتضى فعاليتهم الخاصة.

وتنشأ التعاونية في الشكل التجاري المألوف هادفة إلى مساعدة أعضائها أو ضمان مصالحهم الاقتصادية المحددة، وتكتسب التعاونية الشخصية المعنوية للشركة. وبذلك تختلف عن الجمعيات الأخرى بأن تلك الجمعيات مجردة أصلاً عن الأغراض الاقتصادية. فالتعاونية تعمل على تنمية ربح أعضائها وليس مصالح الغير مما يستدعي خلق رباط متين بين نشاطها الاقتصادي واقتصاديات كل من الأعضاء.

وتؤلف الجمعية التعاونية بين عدد من الأعضاء قد يكون سبعة وقد يكون أقل وقد يكون أكثر، ولكنها لا تؤلف من شخصين اثنين فقط. وهي على نوعين: أحدهما شركة ذات حصص تأسيسية يمكن فيها لأي فرد اتخاذ صفة الشريك بحيازة هذه الحصص. وثانيها شركة بدون حصص تأسيسية يكون الانتساب إليها بدفع بدل اشتراك سنوي تحدده الجمعية العامة لها في كل دورة سنوية.

ويجب أن تتوفر في التعاونية خمسة شروط:

أحدها- حريّة الاشتراك في التعاونية: فيبقى باب الانتساب مفتوحاً أمام أي شخص بنفس الشروط السارية على الأعضاء السابقين، وأن تكون أنظمة التعاونية والقيود والتحفظات التي فيها منطبقة عليه سواء أكانت هذه القيود ذات طابع محلي كأهل القرية مثلاً أو ذات طابع مهني كالحلاقين مثلاً.

ثانيها- تَساوي التعاونيين في الحقوق: وأهم هذه الحقوق التصويت، فيُمنح كل شريك صوتاً واحداً.

ثالثها- تحديد فائدة معينة للحصص: تَدفع بعض الشركات التعاونية للمساهمين الدائمين فائدة محدودة، إذا ما سمحت أرباحها بذلك.

رابعها- إعادة فائض أرباح الاستثمار: تعاد الأرباح الصافية إلى الأعضاء بنسبة العمليات التي أجْروها مع التعاونية من مشتريات أو استعمال خدمات التعاونية وأجهزتها.

خامسها- وجوب تشكيل ثروة تعاونية بترحيل الاحتياطي.

والذي يتولى التصرف بالشركة بإدارتها ومباشرة أعمالها هو مجلس الإدارة المنتخَب من الجمعية العمومية التي تتألف من المساهمين، على أن يكون لكل مساهم صوت بغض النظر عن أسهمه. فمَن له مائة سهم ومن له سهم واحد، لكل منهم صوت واحد في انتخاب الإدارة.

والجمعيات التعاونية عدة أنواع: منها تعاونية الحِرَف، ومنها التعاونية الاستهلاكية، ومنها التعاونية الزراعية، ومنها التعاونية الإنتاجية، وهي في جملتها إما أن تكون تعاونية استهلاكية فيُقسَم فيها الربح بحسب المشتريات، أو تعاونية إنتاجية فيُقسَم فيها الربح بحسب الإنتاج.

هذه هي الجمعيات التعاونية، وهي جمعيات باطلة تناقض أحكام الإسلام، وذلك لما يلي:

1- إن الجمعية التعاونية شركة، فيجب أن تستكمل شروط الشركة التي نص عليها الشرع حتى تصح، والشركة في الإسلام هي عقد بين اثنين أو أكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي بقصد الربح. وعلى ذلك فلا بد أن يكون في الشركة بدن حتى يتأتى القيام بعمل من قِبل الشركاء، أي لا بد أن يكون في الشركة بدن تكون له حصة حتى تسمى شركة شرعاً، فإن لم يكن في الشركة من يملك ويتصرف فيقوم بالعمل الذي وُجدت الشركة لأجله لم تحصل شركة. وإذا طبقنا هذا على الجمعية التعاونية وجدنا أنه لم تحصل بها شركة شرعاً لأنها شركة قائمة على الأموال وحدها وليس فيها بدن شريك، بل الأموال وحدها هي التي وقعت الشـراكة عليها، فلم يحصل فيها الاتفاق على القيام بعمل وإنما حصل الاتفاق على وضع أموال معينة من أجل أن يوجِدوا إدارة تبحث عمن يقوم بالعمل. فالأشخاص الذين ساهموا في الشركة اشتركت أموالهم فقط، فخَلَت بذلك الشركة من بدن. وعلى ذلك فإن الجمعية لم توجَد بوجودها شركة شرعية لخلوّها من شراكة البدن، فهي لا تعتبر موجودة من الأساس لأن الشركة عقد على التصرف بمـال، ولا يتأتى التصرف إلاّ من بدن، فإذا خلت منه لم تكن شركة شرعاً.

2- ان قسمة الربح بنسبة المشتريات أو بحسب الإنتاج لا بنسبة رأس المال أو العمل، لا تجوز، لأن الشركة إذا وقعت على المال كان الربح تابعاً له، وإذا وقعت على العمل كان تابعاً له. فالربح إما أن يكون تابعاً للمال أو العمل أو لهما معاً. أمّا اشتراط قسمة الربح على حسب المبيعات أو حسب الإنتاج فلا يجوز لمخالفة العقد شرعاً، وكل شرط ينافي مقتضى العقد أو ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه فهو شرط فاسد. وتقسيم الربح حسب المشتريات وحسب الإنتاج ينافي مقتضى العقد لأن العقد يقع شرعاً على المال أو العمل، فالربح يكون بنسبة المال أو العمل، فإذا شُرِط الربح بنسبة المشتريات والإنتاج، كان الشرط فاسداً.



التأميـن



التأمين على الحياة أو على البضاعة أو على الممتلكات أو على أي نوع من أنواعه المتعددة هو عقد من العقود. فهو عقد بين شركة التأمين وبين الشخص المؤمِّن، يطلب فيه المؤمِّن من شركة التأمين أن تعطيه تعهداً بأن تعوّض عليه إما عين ما خسره أو ثمنه، بالنسبة للبضاعة أو الممتلكات، وإما مبلغاً من المال بالنسبة للحياة ومثلها، وذلك حين حصول حادث ما يعيّنانه خلال مدة معينة، مقابل مبلغ معين، فتقبل الشركة ذلك. وبناء على هذا الإيجاب والقبول تتعهد شركة التأمين بأن تعوّض على المؤمِّن ضمن شروط معينة يتفق عليها الفريقان، إما عين ما خسره أو ثمنه حين حصول الحادث، أو مبلغاً من المال يُتفق عليه، مثل إذا ما تلفت بضاعته أو تضررت سيارته أو احترق بيته أو سُرقت ممتلكاته أو مات أو ما شاكل ذلك خلال مدة معينة، مقابل أن يدفع لها المؤمِّن مبلغاً معيناً من المال خلال مدة معينة.

ومن هذا يتبين أن التأمين هو اتفاق بين شركة التأمين والمؤمِّن على نوع التأمين وشروطه، فهو عقد. غير أنه بناء على هذا الذي تم بينهما –وهو الاتفاق- تعطي الشركة تعهداً بالتعويض أو دفع مبلغ معين ضمن الشروط التي جرى الاتفاق عليها. فإذا حصل للمؤمِّن حادث ينطبق على بنود العقد صارت الشركة ملزَمة بأن تعوّض العين المتلَفة أو ثمنها حسب سعر السوق حين حصول الحادث. والشركة هي المخيَّرة بين دفع الثمن أو تعويض العين إلى المؤمِّن أو للغير. وصار هذا التعويض حقاً من حقوق المؤمِّن في ذمة الشركة بمجرد حصول ما ذُكر في العقد إذا اقتنعت الشركة بالاستحقاق أو حكمت المحكمة بذلك.

وقد اصطُلح على هذا اسم التأمين. وقد يكون التأمين لمصلحة المؤمِّن وقد يكون لمصلحة غيره كأولاده وزوجته وسائر ورثته أو أي شخص أو جماعة يعيّنهم المؤمِّن. وإطلاق اسم التأمين على الحياة أو على البضاعة أو على الصوت أو غير ذلك إنّما هو لتحبيب هذه المعاملة للناس، وإلاّ فالحقيقة أنه لا يؤمِّن على الحياة وإنما يؤمِّن على الحصول على مبلغ معين لأولاده أو لزوجته أو لسائر ورثته أو لأي شخص أو جماعة يعيّنهم المؤمِّن إذا حصل له الموت. وهو لا يؤمِّن على البضاعة ولا على السيارة ولا على الممتلكات أو غير ذلك وإنما يؤمِّن على تعويض العين أو ثمنها من المال إذا حصل لبضاعته أو لسيارته أو لممتلكاته أو لأي شيء يملكه ضرر أو تلف. فهو في الحقيقة ضمانة للحصول على مبلغ من المال له أو لغيره، أو على تعويض إذا حصل له شيء مما يفقده نفسه أو يتلف ماله، وليس ضماناً لحياته أو ممتلكاته. هذا هو واقع التأمين. وبالتدقيق فيه يتبين أنه باطل من وجهين:

أحدهما: أنه عقد لأنه اتفاق بين طرفين ويشتمل على الإيجاب والقبول، الإيجاب من المؤمِّن والقبول من الشركة. فحتى يصح هذا العقد شرعاً يجب أن يتضمن شروط العقد الشرعية، فإن تضمّنها صحّ وإلاّ فلا. والعقد شرعاً يجب أن يقع على عين أو منفعة، فإن لم يقع على عين أو لم يقع على منفعة كان باطلاً لأنه لم يقع على شيء يجعله عقداً شرعاً، لأن العقد شرعاً يقع إما على عين بعِوَض كالبيع والسَلَم والشركة وما شاكل ذلك، وإما على عين بغير عِوَض كالهبة، وإما على منفعة بعِوَض كالإجارة، وإما على منفعة بغير عِوَض كالعارية. فلا بد أن يقع العقد شرعاً على شيء. وعقد التأمين ليس عقداً وَقَع على عين ولا على منفعة وإنما هو عقد وقع على تعهد أي على ضمانة. والتعهد أو الضمانة لا يعتبر عيناً لأنه لا يُستهلك ولا تؤخذ منفعته ولا يعتبر منفعة، لأنه لا ينتفع بذات التعهد لا بالأجرة ولا بالإعارة. وأمّا حصول المال بناء على هذا التعهد فلا يعتبر منفعة له وإنما هو أثر من آثار معاملة من المعاملات. ومن هنا لا يعتبر أن عقد التأمين وقع على عين ولا على منفعة، فهو عقد باطل لأنه عقد لم يستوف الشروط الواجب توفرها في العقد شرعاً حتى يتم اعتباره عقداً.

ثانيهما: أن الشركة أعطت تعهداً للمؤمِّن ضمن شروط مخصوصة، فهو من قبيل الضمان، فلا بد أن تطبق عليه الشروط التي يتطلبها الشرع في الضمان حتى يكون ضماناً شرعياً، فإن تضمّنها صحّ وإلاّ فلا. وبالرجوع إلى الضمان شرعاً يتبين ما يلي:

ان الضمان هو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فلا بد فيه من ضم ذمة إلى ذمة، ولا بد فيه من ضامن ومضمون عنه ومضمون له. وهو –أي الضمان- التزام حق في الذمة من غير معاوضة. ويشترط في صحة الضمان أن يكون في حق من الحقوق المالية الواجبة أو التي تؤول إلى الوجوب. فإذا لم يكن في حق واجب أو يؤول إلى الوجوب لا يصح الضمان، وذلك لأن الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الحق، فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء فلا ضمّ فيه. وهذا ظاهر في الحق الواجب. أمّا في الحق الذي يؤول إلى الوجوب مثل قول رجل لامرأة: تزوجي فلاناً وأنا ضامن لك مهرك، فإن الضامن فيه قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه، وأن ما يثبت في ذمة مضمونه يثبت في ذمته. أمّا إذا لم يكن هنا حق واجب على أحد، أو حق يؤول إلى الوجوب، فلا يتحقق فيه معنى الضمان، إذ لا يوجد فيه ضم ذمة إلى ذمة، فلا يصح الضمان. وعلى هذا إذا لم يكن الحق واجباً للمضمون له على المضمون عنه أو لا يؤول إلى الوجوب على المضمون عنه لا يصح الضمان، إذ يشترط أن يكون من يضمن عنه ضامناً للعين إذا تلفت أو هلكت، أو ضامناً للديْن سواء أكان ضامناً بالفعل إذا كان الحق واجباً وثابتاً في الذمة، أو ضامناً بالقوة إذا كان الحق يؤول إلى الوجوب والثبوت في الذمة. فإن لم يكن من يضمن عنه ضامناً لا بالفعل ولا بالقوة، لا يصح الضمان لأنه متى لم يجب على المضمون عنه لم يجب على الضامن. فمثلاً رجل يتقبل من الناس الثياب، فقال رجل لآخر: ادفع إليه ثيابك وأنا ضامن. فتلِفَت الثياب، هل يضمن الضامن عمن يتقبل الثياب ثمنها؟

والجواب على ذلك أنه إن تَلِفَت الثياب بغير فعله ولا تفريط منه لم يلزم الضامن شيء لأنه من الأصل لم يلزم المضمون عنه شيء، فإذا لم يلزم الأصيل فالضامن أولى أن لا يلزمه. وعليه لا بد أن يكون الحق واجباً للمضمون له على آخرين أو يؤول إلى الوجوب حتى يصح الضمان. فثبوت الحق في الذمة حالاً أو مآلاً شرط في صحة الضمان. إلاّ أنه لا يشترط أن يكون المضمون عنه معلوماً، ولا يشترط أن يكون المضمون له معلوماً، فيصح الضمان لو كان مجهولاً. فلو قال شخص لآخر: اعط ثيابك لغسال، فقال أخاف أن يتلفها، فقال له: اعط ثيابك لغسال وأنا ضامنها لك إن تلفت، ولم يعين غسالاً صح، فلو أعطاها لغسال ثم تلفت يضمن، ولو كان المضمون عنه مجهولاً. وكذلك لو قال إن فلاناً غسال ماهر وكل من يضع عنده ثياباً فأنا ضامن الغسال من كل تلف، صحّ، ولو كان المضمون له مجهولاً.

ودليل الضمان واضح فيه أنه ضم ذمة إلى ذمة، وأنه ضمان لحق ثابت في الذمة، وواضح فيه أن فيه ضامناً ومضموناً عنه ومضموناً له، وواضح فيه أنه بدون معاوضة، وفيه المضمون عنه مجهول والمضمون له مجهول. فإن دليله –أي الضمان- ما رواه أبو سعيد الخُدْريّ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وُضعَت قال: {هل على صاحبكم من ديْن؟ قالوا: نعم، درهمان. فقال: صلوا على صاحبكم. فقال عليّ: هما عليّ يا رسول الله وأنا لهما ضامن. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على عليّ فقال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وفك رهانك كما فككت رهان أخيك. فقيل: يا رسول الله، هذا لعليّ أم للناس عامة؟ فقال: للناس عامة}، وعن جابر قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات عليه ديْن. فأُتِيَ بميت فسأل: عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران. قال: صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول الله. فصلى عليه. فلما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديْناً فعليّ، ومن ترك مالاً فلورثته}. فهذان الحديثان واضح فيهما أن علياً وقتادة قد ضم كل منهما ذمته إلى ذمة الميت في التزام حق مالي قد وجب للدائن. وواضح فيهما أن في الضمان ضامناً ومضموناً عنه ومضموناً له، وأنه –أي الضمان الذي ضمنه كل منهما- التزام حق في الذمة من غير معاوضة. وواضح فيه أن المضمون عنه وهو الميت والمضمون له وهو صاحب الديْن كان مجهولاً عند الضمان. فالحديثان قد تضمنا شروط صحة الضمان، وشروط انعقاده.

rajaab
19-05-2005, 05:16 PM
هذا هو الضمان شرعاً. وبتطبيق تعهد التأمين عليه –وهو ضمان قطعاً- نجد أن التأمين خالٍ من جميع الشروط التي نص عليها الشرع لصحة الضمان وانعقاده. فإن التأمين ليس فيه ضم ذمة إلى ذمة مطلقاً. فشركة التأمين لم تضم ذمتها إلى ذمة أحد في التزام مال للمؤمن، فلم يوجد ضمان، فكان التأمين باطلاً. والتأمين لا يوجد فيه حق مالي للمؤمن عند أحد قد التزمته شركة التأمين، إذ ليس للمؤمِّن أي حق مالي عند أحد وجاءت الشركة وضمنته، فهو خالٍ من وجود الحق المالي، فتكون الشركة لم تلتزم أي حق مالي حتى يصح أن يقال إنه ضمان شرعاً. وأيضاً فإن ما التزمته الشركة من التعويض أو الثمن أو دفع المال لم يجب للمضمون له عند عقد التأمين تجاه آخرين لا حالاً ولا مآلاً حتى يصح ضمانه. فتكون شركة التأمين قد ضمنت ما لا يجب في الحال ولا يجب في المآل، فيكون الضمان غير صحيح، وبالتالي يكون التأمين باطلاً. علاوة على أن التأمين لا يوجد فيه مضمون عنه لأن شركة التأمين لم تضمن عند أحد استحق عليه حق حتى يسمى ضماناً، فيكون عقد التأمين قد خلا من عنصر أساسي من عناصر الضمان اللازمة شرعاً وهو وجود مضمون عنه، لأنه لا بد في الضمان من وجود ضامن ومضمون عنه ومضمون له. وبما أن عقد التأمين لم يوجَد فيه مضمون عنه، فهو باطل شرعاً. وأيضاً فإن شركة التأمين حين تعهدت بتعويض العين أو دفع ثمنها إذا تضررت أو دفع مال عند حصول الحادث، قد التزمت هذا الدفع مقابل مبلغ من المال فهو التزام بمعاوضة، وهو لا يصح لأن شرط صحة الضمان أن يكون بدون معاوضة. فكان التأمين بوجود المعاوضة فيه ضماناً باطلاً.

وبهذا يظهر مقدار خلو تعهد التأمين من شروط الضمان التي نص عليها الشرع, وعدم استيفائه لشروط انعقاد الضمان وشروط صحته. وبذلك يكون سند التعهد الذي أعطته الشركة وضَمِنَت التعويض والثمن، أو ضمنت المال، باطلاً من أساسه، فيكون التأمين كله باطلاً شرعاً.

وعلى هذا فإن التأمين كله حرام شرعاً سواء أكان التأمين على الحياة أو على البضاعة، أو على الممتلكات، أو على غير ذلك. ووجه حرمته أن عقده عقد باطل شرعاً. وأن التعهد الذي تعطيه شركة التأمين بموجب العقد تعهد باطلاً شرعاً. فكان أخذ المال بحسب هذا العقد وهذا التعهد حرام، وهو أكل مال بالباطل، ويدخل في مال السحت.

rajaab
19-05-2005, 05:18 PM
الطرق الممنوع تنمية الملك بها



جعل الشرع الإسلامي تنمية الملك مقيدة في حدود لا يجوز تعدّيها. فمنع الفرد من تنمية المال بطرق معينة منها:



القمــــــــار



مَنع الشرع القمار منعاً باتاً، واعتبر المال الذي يؤخذ بسببه غير مملوك، قال الله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنّما يريد الشيطان أن يوقِع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون(، أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد، منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنها أنه جعلهما رجساً، كما قال تعالى: )فاجتنبوا الرجس من الأوثان(، ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلاّ الشر البحت، ومنها أنه أَمَرَ بالاجتناب، ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح. وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة ومحقة. ومنها أنه ذكر ما يَنتُج منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والقمار، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة، وقوله: )فهل أنتم منتهون( من ابلغ ما يُنهى به، كأنه قيل: قد تُلِيَ عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف والموانع منتهون؟ ومن القمار أوراق اليانصيب مهما كان نوعها ومهما كان السبب الذي وُضعَت له. ومن القمار الرهان في سباق الخيل. ومال القمار حرام لا يجوز تملكه.



الربـــــــــا



منع الشرع الربا منعاً باتاً مهما كانت نسبته سواء أكانت كثيرة أم قليلة. ومال الربا حرام قطعاً، ولا حق لأحد في ملكيته، ويُرَد لأهله إن كانوا معروفين، قال الله تعالى: )الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المَسّ ذلك بأنهم قالوا إنّما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(، وقال: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون(.

والوصف الواقع للربا هو أن هذه الفائدة التي يأخذها المرابي استغلال لجهد الناس وهي جزاء من غير بذل جهد. ولأن المال الذي يؤخذ عليه ربا هو مضمون الفائدة غير معرض للخسارة، وهذا يخالف قاعدة "الغُرْم بالغُنْم"، ولذلك كان استغلال المال بالشركة والمضاربة والمساقاة بشروطها جائزاً لأنه تنتفع به الجماعة ولا يَستغل جهد آخرين، بل يكون وسيلة تمكّنهم من الانتفاع بجهد أنفسهم وهو معرض للخسارة كما هو معرَّض للربح، وهذا بخلاف الربا. على أن تحريم الربا إنّما كان بالنص ولم يعلَّل هذا النص بعلّة، وقد جاءت السنّة مبيّنة الأموال الربوية.

غير أنه قد يتبادر للذهن أن صاحب المال محتفظ بماله وقد لا يسخو بإقراض المحتاج لقضاء حاجته، وهذه الحاجة تُلِح على صاحبها، فلا بد من وسيلة لسد هذه الحاجة. على أن الحاجة اليوم تعددت وتنوعت وصار الربا قَوام التجارة والزراعة والصناعة، ولذلك وُجدت المصارف (البنوك) للتعامل بالربا، ولا وسيلة غيرها، كما لا وسيلة بغير المرابين لسد الحاجات.

والجواب على ذلك أننا نتحدث عن المجتمع الذي يطبَّق فيه الإسلام جميعه ومنه الناحية الاقتصادية، لا عن المجتمع بوضعه الحاضر، لأن هذا المجتمع بوضعه الحاضر يعيش على النظام الرأسمالي، ولذلك برز فيه كون المصرف (البنك) من ضروريات الحياة. فصاحب المال الذي يرى نفسه حراً في ملكه، والذي يرى أن له حرية الاستغلال بالغش والاحتكار والقمار والربا وغير ذلك دون رقابة من دولة أو تقيُّد بقانون، لا شك أن مثل هذا يرى أن الربا والمصرف ضرورة من ضروريات الحياة.

ولذلك وجب أن يغيَّر النظام الاقتصادي الحالي برمّته وأن يوضع مكانه –وضعاً انقلابياً شاملاً- النظام الإسلامي للاقتصاد. فإذا أزيل هذا النظام وطُبق النظام الإسلامي برز للناس أن المجتمع الذي يطبِّق الإسلام لا تظهر فيه الضرورة إلى الربا، لأن المحتاج إلى الاستقراض إما أن يحتاجه لأجل العيش أو يحتاجه لأجل الزراعة. أمّا الحاجة الأولى فقد سدّها الإسلام بضمان العيش لكل فرد من أفراد الرعية. وأمّا الحاجة الثانية فقد سدّها الإسلام بقرض المحتاج دون ربا، قال عليه الصلاة والسلام: {ما من مسلم يُقرِض مسلماً قرضاً مرتين إلاّ كان كصدقة مرّة}. وإقراض المحتاج مندوب، ولا يُكره الاستقراض بل يُندَب أيضاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستقرِض. وما دام الاستقراض موجوداً وهو مندوب للمقرِض والمستقرِض فقد برز للناس أن الربا ضرر من أشد الأضرار على الحياة الاقتصادية، بل برز للعيان أن الضرورة تقضي باستبعاد الربا وإيجاد الحوائل الكثيفة بينه وبين المجتمع بالتشريع والتوجيه وفق نظام الإسلام.

وإذا عَدِم الربا لم تبق حاجة للمصارف (البنوك) الموجودة الآن. ويبقى بيت المال وحده يقوم بإقراض المال بلا فائدة، بعد التحقق من إمكانية الانتفاع بالمال. وقد أعطى عمر بن الخطاب من بيت المال للفلاحين في العراق أموالاً لاستغلال أرضهم. والحكم الشرعي أن يعطى الفلاحون من بيت المال ما يتمكنون به من استغلال أراضيهم إلى أن تخرج الغِلال. وعن الإمام أبي يوسف "ويعطى للعاجز كفايته من بيت المال قرضاً ليعمل فيها" أي الأرض. وكما يُقرِض بيت المال الفلاحين للزراعة يُقرِض من هم مثلهم ممن يقومون بالأعمال الفردية التي يحتاجون إليها لكفاية أنفسهم. وإنما أعطى عمر الفلاحين لأنهم في حاجة لكفاية أنفسهم في العيش فأُعطوا لهذه الكفاية، ولذلك لا يعطى الفلاحون الأغنياء من بيت المال شيئاً لزيادة إنتاجهم. ويقاس على الفلاحين من هم مثلهم فيما هم في حاجة إليه لكفاية أنفسهم في العيش، فقد أعطى الرسول رجلاً حبلاً وفأساً ليحتطب من أجل أن يأكل.

على أن ترك الربا لا يتوقف على وجود المجتمع الإسلامي أو وجود الدولة الإسلامية أو وجود من يُقرِض المال، بل الربا حرام ويجب تركه سواء وُجدت دولة إسلامية أم لم توجَد، ووُجد مجتمع إسلامي أم لم يوجد، ووُجد من يُقرِض المال أم لم يوجد.



الغُبن الفاحش



الغبن في اللغة الخداع، يقال: غبنه غبناً في البيع والشراء خَدَعَه وغَلَبَه، وغَبَن فلاناً نَقَصَه في الثمن وغيّره، فهو غابِن وذاك مغبون. والغُبن هو بيع الشيء بأكثر مما يساوي أو بأقل مما يساوي. والغبن الفاحش حرام شرعاً لأنه ثبت في الحديث الصحيح طلب ترك الغبن طلباً جازماً، فقد رُوي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يُخدَع في البيوع، فقال: {إذا بايعت فقل لا خِلابة}، وعن أنس {أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وكان في عقدته -يعني في عقله- ضعف فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقله ضعف. فدعاه ونهاه، فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع. فقال: إن كنت غير تارك البيع فقُل: ها وها ولا خِلابة}، وروى ابن ماجه في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بيع المحفّلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم}، والخِلابة –بكسر الخاء- الخديعة. فهذه الأحاديث قد طُلب فيها ترك الخلابة وأُكِّد هذا الطلب بقول الرسول: {لا تحل} أي تحرم، فدل على أن طلب ترك الخديعة كان طلباً جازماً، ومن هنا كان الغبن حراما، إلاّ أن الغبن الحرام هو الغبن الفاحش لأن علة تحريم الغبن هو كونه خديعة في الثمن، ولا يسمى خديعة إذا كان يسيراً، لأنه يكون مهارة في المساومة، وإنما يكون الغبن خديعة إذا كان فاحشاً. فإذا ثبت الغبن فإن للمغبون الخَيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أمضاه، أي إذا ظهرت خديعة في البيع جاز للمخدوع أن يرد الثمن، ويأخذ السلعة إذا كان بائعاً، وأن يرد المبيع ويأخذ الثمن إذا كان مشترياً، وليس أخذ الأَرَش، أي ليس له أن يأخذ الفرق بين ثمن السلعة الحقيقي وبين الثمن الذي بيعت به، لأن الرسول جعل له الخَيار بين أن يفسخ البيع أو يرفضه فقط ولم يجعل له غير ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: {إذا أنت بايعت فقُل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال إن رضيت فأمسِك وإن سخطتَ فارددها على صاحبها}، وهذا يدل على أن المغبون يثبت له الخَيار، إلاّ أن هذا الخَيار يثبت بشرطين، أحدهما عدم العلم وقت العقد، والثاني الزيادة أو النقصان الفاحش الذي لا يتغابن الناس بمثلهما وقت العقد. والغبن الفاحش هو ما اصطَلح التجار على كونه غبناً فاحشاً. ولا يقدّر ذلك بثلث ولا ربع بل يُترك لاصطلاح التجار في البلد وقت إجراء العقد، لأن ذلك يختلف باختلاف السلع والأسواق.



التدليس في البيع



الأصل في عقد البيع اللزوم، فمتى تم العقد بالإيجاب والقبول بين البائع والمشتري وانتهى مجلس البيع فقد لزم عقد البيع ووجب نفاذه على المتبايعيْن. إلاّ أنه لَمّا كان عقد المعاملة يجب أن يتم على وجه يرفع المنازعات بين الناس، فقد حرَّم الشرع على الناس التدليس في البيع، وجعله إثماً سواء حصل التدليس من البائع أو المشتري في السلعة أو العملة، فكله حرام. لأن التدليس قد يحصل من البائع وقد يحصل من المشتري. ومعنى تدليس البائع السلعة هو أن يكتم العيب عن المشتري مع علمه به، أو يغطي العيب عنه بما يوهم المشتري عدمه، أو يغطي السلعة بما يُظهرها كلها حسنة. ومعنى تدليس المشتري الثمن هو أن يزيف العملة أو يكتم ما فيها من زيف مع علمه به. وقد يختلف الثمن باختلاف المبيع لأجل التدليس، وقد يرغب المشتري بالسلعة بسبب التدليس. فهذا التدليس بجميع أنواعه حرام، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تَصُرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسكها وإن شاء ردّها وصاعاً من تمر}، ولِما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ابتاع محفَلة فهو بالخيار ثلاثة أيام، إن ردّها ردّ معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً}، والمراد ردّ ثمن لبنها الذي حلبه. ولِما روى ابن ماجه في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بيع المحفلات خِلابة ولا تحل الخلابة لمسلم}. فهذه الأحاديث صريحة في النهي عن تصرية الإبل والغنم، وفي النهي عن بيع المحفلات، وهي التي لم تُحلَب حتى يظهر ضرعها كبيراً أو يُتوهم أنها حلوب، وصريح في اعتبار بيع المحفلات خديعة وأن ذلك حرام. ومثل ذلك كل عمل يغطي العيب أو يكتم العيب، فإن ذلك كله تدليس يحرم فعله، سواء أكان ذلك في السلعة أو العملة لأنه غبن. ولا يجوز للمسلم أن يغش في السلعة أو العملة بل يجب عليه أن يبين ما في السلعة من عيب، وعليه أن يوضح ما في العملة من زيف، وأن لا يغش السلعة من أجل أن تروَّج أو تباع بثمن أغلى، ولا يغش العملة من أجل أن تُقبل ثمناً للسلعة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك نهياً جازماً، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً إلاّ بيّنه له}، وقال: {من باع عيباً لم يبيِّنه لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه}، وقال: {البَيِّعان بالخَيار ما لم يتفرقا، فإن تفرّقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما}، وقال: {ليس منا من غشّ}. ومن حاز شيئاً بالتدليس والغش لا يملكه لأنه ليس من وسائل التملك، بل من الوسائل المنهي عنها، وهو مال حرام ومال السحت، قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت، وكل لحم نبت من السحت كانت النار أولى به}. وإذا حصل التدليس سواء أكان بالسلعة أو بالعملة صار للمدلَّس عليه الخَيار، إما أن يفسخ العقد أو يمضي، وليس له غير ذلك. فإذا أراد المشتري إمساك السلعة المعيبة أو المدلَّسة وأخْذ الأرش أي الفرق بين ثمنها من غير عيب وثمنها بالعيب فليس له ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل له أرشاً وإنما خيّره في شيئين {إن شاء أمسكها وإن شاء ردّها}.

ولا يُشترط أن يكون البائع عالماً بالتدليس أو العيب حتى يثبُت الخَيار بل يثبُت الخَيار للمدلَّس عليه بمجرد حصول التدليس، سواء أكان البائع عالماً أو غير عالم، لأن الأحاديث عامة ولأن واقع البيع يكون قد حصل على ما نهي عنه، وهذا بخلاف الغُبن فإنه يُشترط فيه العلم بالغبن لأنه إن لم يكن عالماً لم يكن الواقع أنه غابن حتى يكون هناك حق للمغبون، كأن ينزل سعر السوق ويكون البائع غير عالم بذلك فيبيع ثم يتبين أنه باع بأكثر مما يساوي، فإنه لا يعتبر غبناً ولا يخيَّر فيه المشتري، لأن البائع وهو غير عالم بنزول السعر لا يَصدُق عليه أنه غابن.



الاحتكـار



ويُمنع الاحتكار مطلقاً وهو حرام شرعاً لورود النهي الجازم عنه في صريح الحديث، فقد رُوي في صحيح مسلم عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحتكر إلاّ خاطئ}، ولِما رُوي عن الأثرم عن أبي أمامة قال: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحتكر الطعام}، ورُوي أيضاً بإسناده عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من احتكر فهو خاطئ}، فالنهي في الحديث يفيد طلب الترك، وذم المحتكر بوصفه أنه خاطئ، والخاطئ المذنب العاصي، قرينة تدل على أن هذا الطلب للترك يفيد الجزم، ومن هنا دلت الأحاديث على حرمة الاحتكار. والمحتكر هو من يجمع السلع انتظاراً لغلائها حتى يبيعها بأسعار غالية بحيث يضيق على أهل البلد شراؤها. أمّا كون المحتكر هو من يجمع السلع انتظاراً للغلاء فلأن معنى كلمة حكر في اللغة استبد، ومنه الاستبداد بحبس البضاعة كي تباع بالكثير، واحتكر الشيء في اللغة جمعه واحتبسه انتظاراً لغلائه فيبيعه بالكثير. وأما كون شرط انطباق الاحتكار كونه يبلغ حداً يضيق على أهل البلد شراء السلعة المحتكَرة، فلأن واقع الاحتكار لا يحصل إلاّ في هذه الحال، فلو لم يضق على الناس شراء السلعة لا يحصل جمع البضاعة ولا الاستبداد بها كي تباع بالكثير. وعلى هذا فليس شرط الاحتكار أن يشتري السلعة بل مجرد جمعها انتظاراً للغلاء حتى بيعها بالكثير يعتبر احتكاراً سواء جمعها بالشراء أو جمعها من غلة أراضيه الواسعة لانفراده بهذا النوع من الغلة أو لندرة زراعتها أو جمعها من مصانعه لانفراده بهذه الصناعة أو لندرة هذه الصناعة كما هي حال الاحتكارات الرأسمالية، فإنهم يحتكرون صناعة شيء بقتل جميع المصانع إلاّ صناعتهم ثم يتحكمون في السوق، فإن ذلك كله احتكار لأنه يصدق عليها منطوق كلمة احتكر ويحتكر لغة، فالحكرة والاحتكار هو حصر السلعة أو السلع عن البيع انتظاراً لغلائها فيبيعها بالكثير.
.

rajaab
19-05-2005, 05:21 PM
والاحتكار حرام في جميع الأشياء من غير فرق بين قوت الآدمي أو قوت الدواب وغيره، ومن غير فرق بين الطعام وغيره، ومن غير فرق بين ما هو من ضروريات الناس أو من كمالياتهم، وذلك لأن معنى احتكر في اللغة جمع الشيء مطلقاً ولم تأت بمعنى جمع الطعام أو القوت أو ضروريات الناس بل جمع الشيء، فلا يصح أن تخصص بغير معناها اللغوي. ولأن ظاهر الأحاديث التي وردت في الاحتكار يدل على تحريم الاحتكار في كل شيء وذلك لأن الأحاديث جاءت مطلقة من غير قيد، وعامة من غير تخصيص فتبقى على إطلاقها وعمومها. وأما ما ورد في بعض الروايات لأحاديث الاحتكار من تسليط الاحتكار على الطعام كحديث {نهى رسول الله أن يحتكر الطعام} وغير ذلك من الروايات، فإن ذكر الطعام في الحديث لا يجعل الاحتكار خاصاً بالطعام، ولا يقال في ذلك أن النهي عن الاحتكار ورد في بعض الروايات مطلقاً وبعض الروايات التي ذكرتها لا تصح لتقييد الروايات المطلقة بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها المطلق. وذلك لأن نفي الحكم عن غير الطعام إنما هو لمفهوم اللقب وهو غير معمول به، وما كان كذلك لا يصلح للتقييد ولا للتخصيص؛ أي أن ذكر الطعام في بعض روايات أحاديث الاحتكار تنصيص على نوع من أنواع الاحتكار كمثال عليها وليست هي قيداً للاحتكار ولا وصفاً له مفهوم يُعمل به، بل هو اسم جامد لمسمى معين، أي هو لقب وليس نعتاً فلا يُعمل بمفهومه. والذي يصلح قيداً أو مخصصاً هو ما له مفهوم يُعمل به، وهنا ليس كذلك، فدل على أن الروايات التي نهت عن الاحتكار، حتى الروايات التي ذكرت الطعام، هي أحاديث مطلقة وعامة، فيشمل النهي عن احتكار كل شيء مطلقاً، وواقع المحتكر أنه يتحكم في السوق ويفرض على الناس ما يشاء من أسعار باحتكاره السلعة عنده، فيضطر الناس لشرائها منه بالثمن الغالي لعدم وجودها عند غيره، فالمحتكر في حقيقته يريد أن يغلي السعر على المسلمين، وهذا حرام لما رُوي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليُغليه عليهم كان حقاً على الله أن يقعده بعُظم من النار يوم القيامة}.




التسعيـــر



جعل الله لكل شخص أن يبيع سلعته بالسعر الذي يرضاه، قال عليه السلام: {إنّما البيع عن تراضٍ}، ولكن لمّا كانت الدولة مظنة التسعير على الناس فقد حرم الله عليها أن تضع أسعاراً معينة للسلع تجبر الناس على البيع والشراء بحسبها، ولذلك جاء النهي عن التسعير.

والتسعير هو أن يأمر السلطان أو نوابه أو كل من ولي من أمور المسلمين أمراً، أهل السوق أن لا يبيعوا السلع إلاّ بسعر كذا، فيُمنعوا من الزيادة عليه حتى لا يُغَلّوا الأسعار، أو النقصان عنه حتى لا يضارِبوا غيرهم، أي يُمنعون من الزيادة أو النقص عن السعر المقرر لمصلحة الناس، بأن تتدخل الدولة في الأسعار وتضع للسلع أو لبعضها أسعاراً معينة وتمنع كل واحد من أن يبيع بأكثر من السعر الذي عيّنته أو بأقل منه، لِما ترى في ذلك من مصلحة المجموع. وقد حرّم الإسلام التسعير مطلقاً لِما رُوي عن أنس قال: {غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو سعَّرتَ. فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر وإني لأرجو أن ألقى الله عزّ وجلّ ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال}، ولِما رُوي عن أبي هريرة قال: {جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعِّر؛ فقال: بل أدعوا الله. ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله سعِّر؛ فقال: بل الله يخفض ويرفع}، وهذه الأحاديث تدل على تحريم التسعير وأنه مظلمة من المظالم التي تُرفع الشكوى على الحاكم لإزالتها، وإذا فعلها الحاكم أثِم عند الله لأنه فعل حراماً. وكان لكل شخص من رعيته أن يرفع الشكوى إلى محكمة المظالم على هذا الحاكم الذي سعَّر، سواء أكان والياً أم خليفة، يشكو لها هذه المظلمة لتحكم عليه وتقوم بإزالة هذه المظلمة.

وتحريم التسعير عام لجميع السلع، لا فرق في ذلك بين ما كان قوتاً وما لم يكن كذلك، لأن الأحاديث تنهى عن التسعير مطلقاً، فهي عامة ولا يوجد ما يخصصه بالقوت أو بغيره، فكانت حرمة التسعير عامة تشمل تسعير كل شيء.

وواقع التسعير أنه ضرر من أشد الأضرار على الأمّة في جميع الظروف، سواء أكان ذلك في حالة الحرب أم في حالة السلم، لأنه يفتح سوقاً خفية يبيع الناس فيها بيعاً مستوراً عن الدولة بعيداً عن مراقبتها، وهي ما يسمونها السوق السوداء، فترتفع الأسعار ويحوز السلعة الأغنياء دون الفقراء، ولأن تحديد الثمن يؤثر على الاستهلاك، فيؤثر على الإنتاج وربما سبّب أزمة اقتصادية. وفوق ذلك فإن الناس مسلَّطون على أموالهم لأن معنى ملكيتهم لها أن يكون لهم سلطان عليها، والتسعير حجر عليهم، وهو لا يجوز إلاّ بنص شرعي، ولم يَرِد نص بذلك، فلا يجوز الحجر على الناس بوضع ثمن معين لسلعهم، ومنعهم من الزيادة عليه أو النقص عنه. أمّا ما يحصل من غلاء الأسعار في أيام الحروب، أو الأزمات السياسية، فإنه ناتج إما من عدم توفرها في السوق بسبب احتكارها، أو بسبب ندرتها. فإن كان عدم وجودها ناتجاً عن الاحتكار فقد حرّمه الله، وإن كان ناتجاً عن ندرتها فإن الخليفة مأمور برعاية مصالح الناس، فعليه أن يسعى لتوفيرها في السوق في جلبها من أمكنتها. وبهذا يكون قد مُنِع الغلاء. وعمر بن الخطاب في عام المجاعة الذي سمي عام الرمادة إنّما حصلت المجاعة في الحجاز فقط لندرة الطعام في تلك السنّة، وقد غلا من جراء ندرته فلم يضع أسعاراً معينة للطعام بل أرسل وجلب الطعام من مصر وبلاد الشام إلى الحجاز، فرَخُص دون حاجة إلى التسعير

rajaab
19-05-2005, 05:22 PM
حق التصرف بالإنفاق صلةً ونفقة



ومن حق التصرف الإنفاق. وإنفاق المال هو بذله بلا عِوَض. أمّا بذله بعِوَض فلا يسمى إنفاقاً، قال تعالى: )وأنفقوا في سبيل الله( وقال: )ومما رزقناهم يُنفِقون( وقال: )لِيُنْفِق ذو سَعَةٍ مِن سَعَتِه(. وقد جرى الإسلام على طريقته فحدد طرق الإنفاق ووضع لها ضوابط ولم يترك صاحب المال مطلق التصرف ينفق المال كما يشاء بل حدد كيفية التصرف بماله في حياته وبعد مماته. وتصرُّف الفرد بماله بنقل ملكيته لغيره بلا عِوَض إما أن يكون بإعطائه للناس وإما بإنفاقه على نفسه وعلى من تجب عليه نفقته. ونفاذ هذا الإنفاق إما أن يكون حال حياته كالهبة والهدية والصدقة والنفقة، وإما أن يكون بعد وفاته كالوصية. وقد تدخّل الإسلام في هذ التصرف فمنع الفرد من أن يهب أو يهدي للعدو في حالة الحرب ما يتقوى به على المسلمين، ومنعه من أن يتصدق عليه في هذه الحالة، ومنع الفرد من أن يَهَب أو يُهدي أو يتصدق إلاّ فيما أبقى له ولعياله غنى، فإن أعطى ما لا يبقي لنفسه وعياله بعده غنى فُسِخ كله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول}، وعن جابر بن عبد الله {أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال: يا رسول الله هذه صدقة ما تركتُ لي مالاً غيرها. فحذفه بها النبي صلى الله عليه وسلم فلو أصابه لأوجعه ثم قال: ينطلق أحدكم فينخلع من ماله ثم يصير عيالاً على الناس}. والغنى الذي يبقيه الإنسان له ولعياله هو إبقاء ما يكفيه من الحاجات الضرورية وهي المأكل والملبس والمسكن والحاجات الكمالية التي تعتبر من لوازم مثله حسب معيشته العادية؛ أي ما يكفيه بالمعروف بين الناس، ويقدّر ذلك بحسب حاجته المعتادة مع المحافظة على مستوى معيشته التي يعيش عليها هو وعياله ويعيش عليها أمثاله من الناس. وأما قوله تعالى: )ويؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( فليس معناه ولو كان بهم فقر كما يُتَوَهَّم، بل معناه ولو كان بهم حاجة أكثر مما يسد حاجاتهم الأساسية، بدليل أن الذين فيهم فقر أعطاهم الرسول ولم يمنع إلاّ الذين ليس بهم فقر إلى المال. وخصاصة هنا معناها خلّة وأصلها خصاص البيت وهي فروجه، فالآية كلها )ولا يجدون في أنفسهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة(، أي أن الأنصار لم تتبع نفوسهم ما أعطي المهاجرون، ولم تطمح إلى شيء يحتاج إليه ولو كانت لديهم حاجة إلى المال لإنفاقه في شؤونهم لا لسد فقرهم وعوزهم. والمراد من النهي عن الصدقة في قوله عليه السلام: {خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى}، وقوله: {ينطلق أحدكم فينخلع من ماله ثم يصير عيالاً على الناس}، هو أن الفقير الذي لم يشبع حاجاته الأساسية لا يجوز له أن يتصدق بما هو ضروري له لسد حاجاته الأساسية، لأن الصدقة إنّما تكون عن ظهر غنىً؛ أي عن ظهر استغناء عن الناس في إشباع الحاجات الأساسية. أمّا الذي لديه مال يزيد عن حاجته الأساسية وبعد أن أشبع حاجاته الأساسية هذه، يرى أنه به حاجة إلى قضاء مصالح تزيد على حاجاته الأساسية -أي إلى حاجات كمالية- فيُندَب لهذا أن يفضل الفقراء على نفسه؛ أي يؤثر الفقراء على نفسه ولو كان في حاجة إلى ماله ليشبع حاجاته الكمالية.

وكذلك منع الإسلام الفرد من أن يهب أو يهدي أو يوصي وهو في مرض الموت، وإذا وَهب أو أهدى أو أوصى وهو في مرض الموت لا تنفذ إلاّ في ثلث ما وهب أو أوصى أو أهدى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله تصدّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم}، وروى عمران بن حصين أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة أعبد له في مرضه لا مال له غيرهم فاستدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزّأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرَقّ أربعة}. وإذا لم ينفذ تصرف الإنسان بالعِتق مع حث الشارع عليه فغيره من التصرفات لا ينفذ من باب أولى.

هذا كله في تصرف الفرد بإعطائه للناس. أمّا تصرفه بإنفاقه على نفسه وعلى من تجب عليه نفقته فقد تدخَّل الإسلام في هذه النفقة ورسم لها سبيلاً سوياً، فمَنع الفرد من أمور منها:

أ- مَنع الفرد من الإسراف في الإنفاق، واعتبره سفهاً يوجِب منع السفيه والمبذر من التصرف بأمواله بالحجر عليه، وإقامة غيره وصياً عليه ليتولى عنه التصرف بأمواله لمصلحته، قال تعالى: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم(، فنهى عزّ وجلّ عن إيتاء السفهاء المال، ولم يجعل لهم إلاّ أن يرزقوهم فيها من الأكل والكسوة. وقال تعالى: )فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يُملِل هو فليُملِل وليُّه بالعدل(، فأوجب الولاية على السفيه. وعن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم {نهى عن إضاعة المال}.

والإسراف والتبذير كلمتان لهما معنى لغوي، ومعنى شرعي، وقد غلب على الناس المعنى اللغوي وبعدوا عن المعنى الشرعي فصاروا يفسرونها بغير ما أراد الشرع منهما. أمّا معناهما اللغوي فإن السرف والإسراف معناه تجاوز الحد والاعتدال، ضد القصد. والتبذير يقال: بذَّر المال تبذيراً فرَّقه إسرافاً وبدَّده. هذا هو معناهما اللغوي، أمّا معناهما الشرعي فإن الإسراف والتبذير هو إنفاق المال فيما نهى الله عنه. فكل نفقة أباحها الله تعالى وأمر بها كثرت أم قلت فليست إسرافاً ولا تبذيراً. وكل نفقة نهى الله عنها قلّت أم كثُرت فهي الإسراف والتبذير. وقد رُوي عن الزهري أنه كان يقول في قوله تعالى: )ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط(، قال: لا تمنعه من حق ولا تنفقه في باطل. وقد وردت كلمة الإسراف في القرآن الكريم في عدة آيات )والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً(، فالإسراف هنا إنّما هو الإنفاق في المعاصي، أمّا القُرَب فلا إسراف فيها. ومعنى الآية: لا تنفقوا أموالكم في المعاصي ولا تبخلوا بها حتى عن المباحات، بل أنفقوها فيما هو أكثر من المباحات؛ أي على الطاعات. فالإنفاق على غير المباحات مذموم، والبخل عن المباحات مذموم، والممدوح هو الإنفاق على المباحات والطاعات. وقال تعالى: )ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين(، وهذا ذم من الله للإسراف وهو الإنفاق في المعاصي، وقد وردت كلمة المسرفين بمعنى المُعرِضين عن ذكر الله، قال تعالى: )فلما كشفنا عنه ضُرَّه مرَّ كأن لم يَدْعُنا إلى ضُرّ مَسَّه كذلك زُيِّن للمسرفين ما كانوا يعملون(، أي زيّن الشيطان بوسوسته ما كان يعمله المسرفون من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات، فسمّى المعرضين عن ذكر الله المسرفين. ووردت كلمة المسرفين بمعنى الذين غلب شرّهم على خيرهم، قال تعالى: )لا جَرَم أنّما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردّنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار(، عن قتادة: أن المراد بالمسرفين هنا هم المشركون. وعن مجاهد: المسرفين السفاكين الدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرّهم خيرهم هم المسرفون. وقد وردت كلمة مسرفين بمعنى المفسدين، قال تعالى: )فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون(. فهذه الآيات كلها ليس المراد من الاسراف فيها المعنى اللغوي مطلقاً بل المراد معانٍ شرعية. وهي حين تُذكَر بجانب الإنفاق يراد منها إنفاق المال في المعاصي، فتفسيرها بالمعنى اللغوي لا يجوز، لأن الله أراد بها معنىً شرعياً معيناً. وأمّا التبذير فمعناه الشرعي أيضاً هو إنفاق المال في المحرمات، قال تعالى: )ولا تبذِّر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين(، أي أمثالهم في الشر، وهي غاية المذمّة، لأنه لا يوجد شر من الشيطان. والتبذير هنا تفريق المال فيما لا ينبغي، عن عبد الله: أن التبذير هو إنفاق المال في غير حقه. وعن مجاهد: لو أنفق مُدّاً في باطل كان تبذيراً. ورُوي عن ابن عباس أنه قال في المبذر: هو الذي ينفق في غير حق. وعن ابن مسعود في قوله تعالى: )ولا تبذِّر تبذيراً( قال: الإنفاق في غير حقه. فهذا كله يدل على أن المراد بالإسراف والتبذير هو الإنفاق على ما حرم الله. فكل ما حرّمه الشرع يعتبر إنفاقاً بغير حق يجب الحجر على فاعله. ومن يُحجَر عليه لا ينفذ له صدقة ولا بيع ولا هبة ولا نكاح. وكل ما أخذه قرضاً لم يلزمه أداؤه، ولا قضي عليه به. أمّا ما فعله قبل أن يُحجَر عليه ففِعْلُه نافذ غير محدود إلى أن يَحجُر عليه القاضي. وأمّا قوله تعالى: )ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعُدَ ملوماً محسوراً(، فإن النهي منصبّ على كل البسط لا على البسط، فبسطُ اليد لم ينه عنه الله وهو الإنفاق الكثير في الحلال، وأمّا المنهيّ عنه فهو كل البسط، وهو الإنفاق في الحرام. فعدم النهي عن البسط -ومعروف أنه إنفاق المال بكثرة لأنه بسطٌ لليد، دليل على أنه الإنفاق في الحلال- وانصباب النهي عن كل البسط دليل على أن النهي منصبّ على ما زاد على البسط الذي أباحه فيكون منصباً على الإنفاق في الحرام.

هذه من ناحية الدليل، أمّا من ناحية واقع الإنفاق، فإنه يختلف تقدير أن المنفِق قد أكثر الإنفاق أو لم يُكثِر بالنسبة لمستوى المعيشة في بلده. فهناك بلاد لا يُشبع الفرد فيها حاجاته الأساسية إشباعاً كلياً فيُعتبر إنفاقه على إشباع الحاجات الكمالية إنفاقاً كثيراً، كما هي الحال في كثير من البلدان الإسلامية. وهناك بلاد يُشبع الفرد حاجاته الأساسية إشباعاً كلياً، ويُشبِع أيضاً حاجاته الكمالية التي أصبحت مع تقدم المدنية حاجات ضرورية بالنسبة له كالبرّاد والغسالة والسيارة ونحو ذلك، فلا يعتبر إنفاقه على هذه الحاجات الكمالية إنفاقاً كثيراً. فإذا اعتُبر الإسراف والتبذير كما يدل عليهما معناهما اللغوي فإن ذلك يعني أن الحكم الشرعي هو أن كل إنفاق على ما يزيد على إشباع الحاجات الأساسية حرام، فيكون شراء البرّاد والغسالة والسيارة حرام لأنها تزيد على الحاجات الأساسية، أو يَعتبر الحكم الشرعي أن الإنفاق على هذه الحاجات حرام في بلدان أو على أناس، وحلال في بلدان أخرى أو على أناس آخرين، وبذلك يكون الحكم الشرعي اختلف في الشيء الواحد دون علة، وهذا لا يجوز. لأن الحكم الشرعي في المسألة الواحدة هو هو لا يتغير. وفوق ذلك فإن إباحة الله الأشياء في استعمالها واستهلاكها كان مطلقاً ولم يقيَّد بالإنفاق الكثير أو القليل، فكيف يعتبر الإنفاق الكثير حراما؟ ولو أن الله حرّم الإنفاق الكثير على الأشياء الحلال وأحل هذه الأشياء لكان معناه أحل الشيء وحرّمه في آن واحد، فيكون الله يُحِل استعمال الطائرة الخصوصية، ويحرّمها إذا كان شراؤها للشخص يعتبر إنفاقاً كثيراً، وهو تناقض لا يجوز. وعليه فإن تفسير الإسراف والتبذير بمعناهما اللغوي لا يجوز بل يجب أن يفسرا بمعناهما الشرعي الوارد في نصوص الآيات والوارد في أقوال بعض الصحابة وبعض العلماء الموثوق بأقوالهم.

ب- مَنَع الإسلام الفرد من الترف واعتبره إثماً، وأوعد المُترَفين بالعذاب، قال تعالى: )وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سَموم وحميم وظلّ من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مُترَفين( أي كانوا بَطِرين يفعلون ما يشاؤون. وقال تعالى: )حتى إذا أخذنا مُترَفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون( ومترفيهم هنا جبابرتهم البطرين، وقال تعالى: )وما أرسلنا من رسول في قرية إلاّ قال مُترَفوها إنا بما أُرسِلتُم به كافرون( أي إلاّ قال المتكبرون على المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد. وقال تعالى: )واتَّبَع الذين ظلموا ما أُترِفوا فيه( والمراد هنا من قوله )ما أُترِفوا فيه( هو الانصراف إلى شهواتهم، أي اتبَعوا شهواتهم. وقال تعالى: )وإذا أردنا أن نُهلِك قرية أمَرْنا مُترَفيها ففسقوا فيها( ومترفيها هنا جبابرتها المتنعمين. وقال تعالى: )وأترفناهم في الحياة الدنيا( أي جعلناهم يصرون على البغي من بطرهم، أي جعلناهم بطرين.

والترف في اللغة البطر والغطرسة من التنعم، يقال: ترفَّه وأترفه المال أي أبطره، أفسده. أترف الرجل أصر على البغي. استترف: بغى، تغطرس. وعلى ذلك يتبين أن الترف الذي ذمّه القرآن وحرّمه الله وجعله إثماً هو الترف الذي ورد معناه في اللغة وهو البطر من التنعم، والغطرسة من التنعم، وليس هو التنعم فقط. ولذلك كان من الخطأ أن يفسَّر الترف بأنه هو التمتع بالمال والتنعم بما رزق الله، لأن هذا التنعم والتمتع بما رزق الله لم يذمّه الشرع، قال تعالى: )قُل مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(، وقال عليه السلام: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده}، أي يحب من عبده أن يتنعم بنعمة الله، ويتمتع بالطيبات التي رزقه إياها رب العالمين. ولكن الله يكره البَطَر من التنعم، والغطرسة من التنعم، والبغي من التنعم، أي يكره التنعم إذا نتج عنه بطر وبغي وغطرسة وتجبر. ولماّ كان التنعم بالمال قد يُنتج عند بعض الناس تكبُّراً وتجبراً وبَطَراً، أي قد يُحدث عنده ترفاً، مَنَع الإسلام هذا الترف وحرّمه، أي منع الفساد إذا نجم عن كثرة الأموال والأولاد، فجعل الشخص بطراً متغطرساً متجبراً، وحرّم ذلك أشد التحريم. فحين يقال إن الترف حرام لا يعني أن التنعم حرام، وإنما يعني أن البطر الذي ينجم عن التنعم بالمال حرام كما هو معنى الترف لغة، وكما هو معنى الترف كما يُفهم من آيات القرآن.

ج- مَنَع الفرد من التقتير على نفسه، ومن حرمانها المتاع المشروع، وأحلّ التمتع بالطيبات من الرزق، وأخْذ الزينة اللائقة، قال الله تعالى: )ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسُطها كل البسط فتقعُد ملوماً محسوراً(، وقال الله تعالى: )والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواماً(، وقال: )قُل مَن حَرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(، وقال عليه الصلاة والسلام: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده}، وقال: {إذا آتاك الله مالاً فليَرَ أثر نعمته وكرامته عليك}. فإذا كان للفرد مال وبخل به على نفسه فإنه يكون آثماً عند الله تعالى. أمّا إذا بخل به على من تجب عليه نفقتهم فإنه فوق إثمه على ذلك عند الله تعالى لا بد من إجباره من قِبل الدولة على الإنفاق على أهله ممن تجب عليه نفقتهم، وأن يُضمن أن يكون هذا الإنفاق عن سَعة حتى يتوفر لهم المستوى الطيب من العيش، قال الله تعالى: )لِيُنفِق ذو سَعَةٍ مِن سَعَتِه(، وقال: )أسكِنوهن من حيث سكنتم من وُجْدِكُم ولا تُضارّوهن لتُضَيِّقوا عليهن(. وإذا بخل من تجب عليه نفقتهم كان لمن لهم النفقة أن يأخذوا من المال قدر كفايتهم بالمعروف. {جاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف}، فجَعَل لها الحق أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إن لم يُعطِها، لأنها فرضٌ عليه. وعلى القاضي أن يفرض لها هذه النفقة. وكما يجب على من تجب عليه النفقة أداؤها، كذلك يجب على من يأخذ النفقة إنفاقها فيما فُرضَت له. فإذا فُرضَت نفقة إلى الأولاد وأمر بدفعها إلى من يحضنهم من أم أو جدّة أو غيرهما فإنه يجب عليها إنفاقها. فلو لم تنفقها يجبرها القاضي على إنفاقها.

rajaab
19-05-2005, 05:26 PM
الفقـــــــــر



الفقر في اللغة الاحتياج. يقال: فقر وافتقر ضد استغنى، وافتقر إليه احتاج، فهو فقير، جمعه فقراء. أفقره ضد أغناه. والفقر مصدر ضد الغِنى. وذلك أن يصبح الإنسان محتاجاً وليس له ما يكفيه. والفقير في الشرع هو المحتاج الضعيف الحال الذي لا يَسأل. عن مجاهد قال: الفقير الذي لا يَسأل. وعن جابر بن زيد مثل ذلك قال: الفقير الذي لا يَسأل. وعن عكرمة: الفقير الضعيف. وقال تعالى: )ربِّ إني لِما أنزلتَ إليّ من خيرٍ فقير(، أي إني لأي شيء أنزلتَ إليّ قليل أو كثير من خيرٍ فقير، أي محتاج. وقال تعالى: )وأطعِموا البائس الفقير(، والبائس الذي أصابه بؤس أي شدّة، والفقير الذي أضعفه الإعسار. فمجموع الآيات والآثار تدل على أن الفقر هو الاحتياج. والذي يُحتاج إلى تفصيله هو معنى الاحتياج.

وفي النظام الاقتصادي الرأسمالي يجعلون الفقر شيئاً نسبياً، وليس هو مسمى لشيء معين ثابت لا يتغير، فيقولون إن الفقر هو عدم القدرة على إشباع الحاجات من سلع وخدمات. وبما أن الحاجات تنمو وتتجدد كلما تقدمت المدنية لذلك كان إشباع الحاجات يختلف باختلاف الأشخاص والأمم. فالأمم المنحطة تكون حاجات أفرادها محدودة فيمكن إشباعها بالسلع والخدمات الضرورية، ولكن الأمم الراقية المتمدنة المتقدمة مادياً تكون حاجاتها كثيرة ولذلك يحتاج إشباعها إلى سلع وخدمات أكثر فيكون اعتبار الفقر فيها غير اعتباره في البلدان المتأخرة. فمثلاً يعتبر عدم إشباع الحاجة من الكماليات في أوروبا وأمريكا فقراً، ولكن عدم إشباع الحاجات الكمالية في مصر أو العراق مثلاً مع إشباع الحاجات الأساسية لا يعتبر فقراً. وهذا الاعتبار في النظام الاقتصادي الرأسمالي خطأ لأنه يجعل معنى الأشياء اعتبارياً وليس حقيقياً. وهذا خطأ لأن الشيء له واقع حقيقي فيُعرف بواقعه، وليس هو شيئاً اعتبارياً ولا واقع له، ولأن التشريع الموضوع للإنسان لا يجعل النظام مختلفاً باختلاف الأفراد، ما دام قد جاء للإنسان بوصفه إنساناً لا بوصفه فرداً. فلو كانت الدولة تحكم أفراداً في اسبانيا وأفراداً في اليمن لا يصح أن تختلف نظرتها للفقر في بلد عن بلد آخر لأن كلاً منهم إنسان قد وُضع العلاج لمشاكله.

وقد اعتبر الإسلام الفقر اعتباراً واحداً للإنسان في أي بلد وفي أي جيل. فالفقر في نظر الإسلام هو عدم إشباع الحاجات الأساسية إشباعاً كاملاً. وقد حدد الشرع هذه الحاجات الأساسية بثلاثة أشياء هي المأكل والملبس والمسكن. قال تعالى: )وعلى المولودِ له زرقُهُنّ وكسوَتُهُنّ بالمعروف(، وقال: )أسكنوهنّ من حيث سكنتُم مِن وُجدِكُم(، وقال عليه الصلاة والسلام: {ألا وحَقُّهُنّ عليكم أن تُحسِنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن}، مما يدل على أن الحاجات الأساسية التي يعتبر عدم إشباعها فقراً هي الطعام والكسوة والمسكن. أمّا ما عدا ذلك فيعتبر من الحاجات الكمالية. فلا يكون من لم يُشبِع الحاجات الكمالية مع إشباعه الحاجات الأساسية فقيراً. والفقر بالمعنى الإسلامي وهو فقدان ما يُشبِع الحاجات الأساسية، من الأمور التي تكون سبباً لانحطاط الأمّة وهلاكها. وقد جعله الإسلام من وعد الشيطان، قال الله تعالى: )الشيطان يعدكم الفقر(. واعتبر الإسلام الفقر ضعفاً وأمر بالعطف على الفقراء، قال تعالى: )إنْ تُبدوا الصدقات فنِعِمّا هِي وإن تُخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم(، وقال: )وأطعِموا البائس الفقير(. وقد جعل الإسلام إشباع هذه الحاجات الأساسية وتوفيرها لمن لم يجدها فرضاً. فإذا وفرها الفرد لنفسه كان بها، وإذا لم يوفرها لنفسه لعدم وجود مال كاف بين يديه أو لعدم إمكانه تحصيل المال الكافي، جعل الشرع إعانته على غيره حتى يتوفر له ما يُشبع هذه الحاجات الأساسية. وقد فصّل الشرع كيفية إعانة الفرد في هذه الأشياء، فأوجبها على الأقارب الذين يكونون رحماً محرماً له، قال تعالى: )وعلى المولود له رزقُهُن وكِسوَتُهن بالمعروف لا تُكلَّف نفس إلاّ وُسعَها ولا تُضارَّ والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك( أي على الوارث مثل المولود له من حيث الرزق والكسوة، وليس المراد بالوارث أن يكون وارثاً بالفعل بل أن يكون ممن يستحق الميراث، فإن لم يكن له أقارب ممن أوجب الله عليهم نفقة قريبهم انتقلت نفقته على بيت المال في باب الزكاة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ترك كَلاً فإلينا ومن ترك مالاً فلورثته}، والكَلّ الضعيف الذي لا ولد له ولا والد: اليتيم. وقال تعالى: )إنّما الصدقات للفقراء والمساكين( الآية. فإن لم يَفِ قسم الزكاة من بيت المال في حاجات الفقراء والمساكين كان واجباً على الدولة أن تنفق عليهم من أبواب أخرى من بيت المال. فإن لم يوجد في بيت المال مال يجب على الدولة أن تفرض ضريبة على أموال الأغنياء وتحصّلها لتنفق على الفقراء والمساكين منها، لأن النفقة فرض على الأقارب، فإن لم يجدوا فعلى واردات الزكاة، فإن لم يوجد منها واردات ففرضٌ على بيت المال، فإن لم يوجد فيه مال كانت فرضاً على كافة المسلمين. قال عليه الصلاة والسلام: {أيُّما أهل عَرَصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى}، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم}، وقال تعالى: )وفي أموالهم حق للسائل والمحروم(. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ألزم الأنصار بإعالة المهاجرين الفقراء، مما يدل على أنه فرض على كافة المسلمين حتى يَكفوهم. وما كان فرضاً على كافة المسلمين كان على الخليفة بما عليه من واجب رعاية شؤون الأمّة أن يحصّل المال من المسلمين ليقوم بما هو فرض عليهم. فينتقل حينئذ الفرض من على المسلمين إلى أن يصبح فرضاً على بيت المال فيقوم بأدائه بإطعام الفقير والمسكين.

هذا من ناحية من تجب له النفقة من الفقراء والمساكين يُجبَر هو بتحصيلها، فإن لم يستطع فيُجبَر قريبه بالإنفاق عليه إذا كان رحماً محرماً أي في درجة من القرابة التي ذكرها القرآن لوجوب النفقة. فإن لم يستطع القريب أو لم توجد القرابة، فعلى باب الزكاة من بيت المال، ثم على بيت المال، ثم على كافة المسلمين حتى تحصل الكفاية للفقراء والمساكين.

أمّا بالنسبة لمن تجب عليه النفقة للفقير والمسكين من الأقارب فإنها لا تجب إلاّ على من كان في غِناء، أي من استغنى عن غيره. ويعتبر الشخص في غناء إذا كان ممن تُطلب منه الصدقة، أمّا من نُهي عن الصدقة فلا. عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى} والغِنى هنا ما يستغني به الإنسان مما هو قدر كفايته لإشباع حاجاته. ويقول الفقهاء: والغِنى هو ما يقوم بقوت المرء وأهله على الشبع من قوت مثله وبكسوتهم كذلك وسكناهم، وبمثل حاله من مركب وزي. فهذا يقع عليه في اللغة اسم غِنى لاستغنائه عن الناس. ويقال في اللغة: أغنى غناءً الرجل: أجزأه وكفاه. وعلى هذا لا تجب النفقة للفقير والمسكين إلاّ على من كان مستغنياً عن غيره أي من كان في سَعة، قال تعالى: )وليُنفِق ذو سَعة من سَعَته. ومن قُدِر عليه رزقه فليُنفق مما آتاه الله(، وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه فإن فَضُلَ فعلى عياله فإن كان فَضْل فعلى قرابته}، وفي لفظ {ابدأ بنفسك ثم بمن تعول}. ونفقة الإنسان على نفسه هي سده لكفاية حاجاته التي تتطلب إشباعاً وليست كفاية حاجاته الأساسية فحسب. وذلك لأن الشرع أوجب عليه نفقة زوجته بالمعروف. وقد فُسّر بأنها حسب حالها وأمثالها. قال تعالى: )رزقُهُن وكِسوَتُهُن بالمعروف( فتكون نفقته على نفسه أيضاً بالمعروف، وليس الكفاية. وقال عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان: {خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف} فلم يقل: {ما يكفيك} فقط بل زاد كلمة {بالمعروف} مما يدل على أن المراد ما يكفيها حسب المتعارف عليه من كفايتها وكفاية ولدها بالنسبة لحالهما وأمثالهما. فلا يُقدر إذن غناؤه الذي لا بد من توفره حتى تجب عليه النفقة بما يكفي حاجاته الأساسية فحسب، بل بما يكفي حاجاته الأساسية وبما يكفي حاجاته الأخرى التي يُعرف بين الناس أنها من حاجاته، وذلك لا يُقدَّر بمقدار وإنما يُترك للشخص ومستوى المعيشة الذي يعيش عليه. وقد قَدّر بعض الفقهاء الحاجات التي يُعتبر ما زاد عليها غِنى خمسة أشياء هي: المأكل والملبس والمسكن والزواج وما يركبه لقضاء حاجاته البعيدة. غير أن ذلك لم يَرِد به نص صريح وإنما حسب ما كان يعتبر أنه بالمعروف. ولذلك يقدَّر الغِنى بما يَفضُل عن إشباع حاجاته بالمعروف فإن زاد وجبت النفقة عليه للفقير والمسكين، وإن لم تزِد لا تجب عليه. والحاصل أن الفقير الذي تجب له النفقة هو مَن عَدِم إشباع حاجاته الأساسية، أي من احتاج إلى الطعام والكسوة والسكنى، وأمّا الغني الذي تجب عليه النفقة ويجب عليه ما يجب على كافة المسلمين من التكاليف المالية هو من ملك ما يَفضُل عن إشباع حاجاته بالمعروف، لا حاجاته الأساسية فقط، ويقدَّر ذلك بحسب حاله وأمثاله من الناس.



الملكية العامة



الملكية العامة هي إذْن الشارع للجماعة بالاشتراك في الانتفاع بالعين. والأعيان التي تتحقق فيها الملكية العامة هي الأعيان التي نص الشارع على أنها للجماعة مشترِكة بينهم، ومَنَع من أن يحوزها الفرد وحده، وهذه تتحقق في ثلاثة أنواع هي:

1- ما هو من مرافق الجماعة بحيث إذا لم تتوفر لبلدة أو جماعة تفرقوا في طلبها.

2- المعادن التي لا تنقطع.

3- الأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها.

أمّا ما هو من مرافق الجماعة فهو كل شيء يعتبر من مرافق الناس عموماً. وقد بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث من حيث صفتها لا من حيث عددها. فعن أبي خراش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار}، ورواه أنس من حديث ابن عباس وزاد فيه {وثمنه حرام}. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يُمنع الماء والنار والكلأ}. وفي هذا دليل على أن الناس شركة في الماء والكلأ والنار، وأن الفرد يُمنع من ملكيتها. إلاّ أن الملاحَظ أن الحديث ذكرها ثلاثاً وهي أسماء جامدة ولم تَرِد عِلّة للحديث. فالحديث لم يتضمن علة، وهذا يوهم أن هذه الأشياء الثلاثة هي التي تكون ملكية عامة لا وصفها من حيث الاحتياج إليها. ولكن المدقق يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح الماء في الطائف وخيبر للأفراد أن يمتلكوه، وامتلكوه بالفعل لسقي زروعهم وبساتينهم، فلو كانت الشركة للماء من حيث هو لا من حيث صفة الاحتياج إليه لَما سمح للأفراد أن يمتلكوه. فمن قول الرسول: {المسلمون شركاء في ثلاث: الماء...} الخ، ومن إباحته عليه السلام للأفراد أن يمتلكوا تُستنبَط علة الشراكة في الماء والكلأ والنار، وهي كونه من مرافق الجماعة التي لا تستغني عنها الجماعة. فيكون الحديث ذَكَر الثلاث ولكنها معلَّلة لكونها من مرافق الجماعة. وعلى ذلك فإن هذه العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. فكل شيء يتحقق فيه كونه من مرافق الجماعة يعتبر ملكاً عاماً سواء أكان الماء والكلأ والنار أم لا، أي ما ذُكر في الحديث وما لم يُذكر. وإذا فقد كونه من مرافق الجماعة ولو كان قد ذُكر في الحديث كالماء فإنه لا يكون ملكاً عاماً بل يكون من الأعيان التي تُملك ملكاً فردياً. وضابط ما هو من مرافق الجماعة هو أنه كل شيء إذا لم يتوفر للجماعة أياً كانت الجماعة كمجموعة بيوت شعر أو قرية أو مدينة أو دولة تفرقت في طلبه، يعتبر من مرافق الجماعة كمنابع المياه وأحراش الاحتطاب ومراعي الماشية وما شابه ذلك.

أمّا المعادن فهي قسمان، قسم محدود المقدار بكمية لا تعتبر كبيرة بالنسبة للفرد، وقسم غير محدود المقدار. أمّا القسم المحدود المقدار فإنه من الملكية الفردية ويملك ملكاً فردياً ويعامَل معاملة الركاز وفيه الخُمس. فعن عمرو بن شعيب {أن المُزني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللُّقَطة توجد في الطريق العامر أو قال: الميثاء (أي طريق مسلوكة يأتيها الناس)، فقال: {عرِّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلاّ فهي لك. قال: يا رسول الله فما يوجَد في الخراب العادي قال: فيه وفي الركاز الخُمس}.

وأمّا القِسم غير المحدود المقدار الذي لا يمكن أن ينفد فإنه ملكية عامة ولا يجوز أن يُملك فردياً، لِما رُوي عن أبيض بن حمال {أنه استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح بمأرب، فلما ولّى قيل: يا رسول الله أتدري ما أقطعته له؟ إنّما أقطعت له الماء العَدّ. قال فرَجَعَه منه}. وفي رواية عن عمرو بن قيس المأربي قال: {استقطعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم معدن الملح بمأرب فأقطعنيه. فقيل: يا رسول الله إنه بمنزلة الماء العَدّ –يعني أنه لا ينقطع- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا، إذن}. والماء العد: الذي لا ينقطع. شبّه الملح بالماء العد لعدم انقطاعه. فهذا الحديث يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع ملح الجبل الأبيض بن حمال مما يدل على أنه يجوز إقطاع معدن الملح. فلمّا علم أنه من المعدن الدائم الذي لا ينقطع رجع عن إقطاعه وأرجعه ومنع ملكية الفرد له، لأنه ملكية الجماعة. وليس المراد هنا الملح، وإنما المراد المعدن بدليل لمّا علمه أنه لا ينقطع منعه، مع أنه يعلم أنه ملح وأقطعه من أول الأمر، فالمنع لكونه معدناً لا ينقطع. قال أبو عبيد: "وما إقطاعه صلى الله عليه وسلم أبيض بن حمال المأربي الملح الذي بمأرب ثم ارتجاعه منه، فإنّما أقطعه وهو عنده أرض مَوات يحييها أبيض ويعمرها فلما تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ماء عد –وهو الذي له مادة لا تنقطع مثل ماء العيون والآبار- ارتجعه منه لأنه سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلأ والنار والماء أن الناس جميعاً فيه شركاء فكَرِه أن يجعله لرجل يحوزه دون الناس". ولماّ كان الملح من المعادن فإن إرجاع الرسول عن إقطاعه لأبيض يعتبر علة لعدم ملكية الفرد، وهو كونه معدناً لا ينقطع وليس كونه ملحاً لا ينقطع. ومن هذا الحديث يتبين أن علة المنع في عدم إقطاع معدن الملح كونه عداً، أي لا ينقطع. ويتبين من رواية عمرو بن قيس أن الملح هنا معدن حيث قال: "معدن الملح"، ويتبين من استقراء كلام الفقهاء أنهم جعلوا الملح من المعادن فيكون الحديث متعلقاً بالمعادن لا بالملح خاصة.

وأمّا ما رُوي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث معادن القبلية، وما روي عن أبي عكرمة أنه قال: {أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أرض كذا من مكان كذا وما فيها من جبل ومعدن} فإنه لا يعارض حديث أبيض بل يُحمل على أن هذه المعادن التي أقطعها الرسول لبلال كانت محدودة فجاز إقطاعها، كما أقطع الرسول أبيض معدن الملح أولاً، ولا يصح أن يُحمل على إقطاع المعادن مطلقاً، لأنه حينئذ يتعارض مع إرجاع الرسول المعدن الذي أقطعه حين تبين له أنه عد لا ينقطع، فيتعين حمل المعادن التي أقطعها الرسول على كونها محدودة تنقطع وتنفد.

rajaab
19-05-2005, 05:29 PM
وهذا الحكم، وهو كون المعدن الذي لا ينقطع ملكاً عاماً، يشمل المعادن كلها سواء المعادن الظاهرة التي يوصَل إليها من غيرمؤونة ينتابها الناس ينتفعون بها كالملح والكحل والياقوت وما شابهها، أو كان من المعادن الباطنة التي لا يوصَل إليها إلاّ بالعمل والمؤونة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وما شاكلها. وسواء أكانت جامدة كالبلور أو سائلة كالنفط، فإنها كلها معادن تدخل تحت الحديث.

أمّا الأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها، فهي الأعيان التي تشتمل على المنافع العامة. وهي وإن كانت تدخل في القسم الأول لأنها من مرافق الجماعة، ولكنها تختلف عن القسم الأول من حيث أن طبيعتها أنه لا يتأتى فيها أن يملكها الفرد، بخلاف القسم الأول فإنه يتأتى أن يملكه الفرد، فعين الماء يمكن أن يملكها الفرد ولكنه يُمنع من ملكيتها إذا كانت الجماعة لا تستغني عنها، بخلاف الطريق فإنه لا يمكن أن يملكها الفرد. ولهذا فإن هذا القسم وإن كان دليله انطباق العلة الشرعية عليه وهي كونه من مرافق الجماعة فإن حقيقة واقعه تدل على أنه ملكية عامة. وهذا يشمل الطرق والأنهار والبحار والبحيرات والأقنية العامة والخلجان والمضايق ونحوها، كما يشمل المساجد ومدارس الدولة ومستشفياتها والملاعب والملاجئ ونحوها.




ملكية الدولة



هناك أموال لا تدخل في الملكية العامة بل هي داخلة في الملكية الفردية لأنها أعيان تقبل الملك الفردي كالأرض والأشياء المنقولة، ولكنه قد تعلَّق فيها حق لعامة المسلمين فصارت بذلك ليست من الملكية الفردية، وهي لا تدخل في الملكية العامة، فتكون حينئذ ملكاً للدولة، لأن ما كان الحق فيه لعامة المسلمين فالتدبير فيه للخليفة يخص بعضهم بشيء من ذلك حسب ما يرى. ومعنى تدبيره هذا هو أن يكون له سلطان عليه يتصرف فيه، وهذه هي الملكية، لأن معنى الملكية أن يكون للفرد سلطان على ما يملك. وعلى ذلك فكل مال مصرفه موقوف على رأي الخليفة واجتهاده يعتبر ملكاً للدولة. وقد جعل الشارع أموالاً معينة ملكاً للدولة، للخليفة أن يصرفها حسب رأيه واجتهاده مثل الفيء والخَراج والجزية وما شابهها لأن الشرع لم يعين الجهة التي تُصرف فيها. أمّا إذا عيّن الشرع الجهة التي تُصرف فيها ولم يتركها لرأيه واجتهاده لا تكون ملكاً للدولة وإنما تكون ملكاً للجهة التي عيّنها الشرع، ولذلك لا تعتبر الزكاة ملكاً للدولة بل هي ملك للأصناف الثمانية الذين عيّنهم الشرع، وبيت المال إنّما هو محل إحرازها من أجل صرفها على جهاتها.

وإنه وإن كانت الدولة هي التي تقوم بتدبير الملكية العامة وتقوم بتدبير ملكية الدولة إلاّ أن هنالك فرقاً بينهما، وهو أن ما كان داخلاً في الملكية العامة فلا يجوز للدولة أن تعطي أصله لأحد وإن كان لها أن تبيح للناس أن يأخذوا منه بناء على تدبير يمكّنهم جميعاً من الانتفاع به، بخلاف ملكية الدولة فإن للدولة أن تعطيها كلها لأفراد معينين ولا تعطي الآخرين، ولها أن تمنعه عن الأفراد إذا رأت في ذلك رعاية لشؤونهم من ناحية أخرى غير إعطائهم. فالماء والملح والمراعي وساحات البلدة لا يجوز أن تعطيها لأفراد مطلقاً وإن كان يجوز للجميع الانتفاع بها بحيث يكون النفع لهم جميعاً دون تخصيص أحد دون الآخر. والخَراج يجوز أن تنفقه على الزرّاع فقط دون غيرهم لمعالجة شؤون الزراعة، ويجوز أن تنفقه على شراء السلاح فقط ولا تعطي أحداً منه شيئاً فهي تتصرف به كما ترى مصلحة للرعية.



التأميم ليس من الملكية العامة ولا من ملكية الدولة



التأميم هو من ترقيعات النظام الرأسمالي، وهو تحويل الملكية الفردية إلى ملكية الدولة إذا رأت أن هناك مصلحة عامة تقتضي ملكية هذا المال المملوك فردياً، وليست الدولة مجبَرة على التأميم بل هي مخيرة إن شاءت أمّمت وإن شاءت تركت المال دون تأميم. وهذا بخلاف الملكية العامة وملكية الدولة فإنها حسب أحكام الإسلام ثابتة في طبيعة المال وصِفَته بغض النظر عن رأي الدولة. فيُنظر إلى واقع المال فإن كان في المال حق لعامة المسلمين كان ملكاً للدولة يجب أن تملكه، وإن لم يكن فيه حق لعامة المسلمين كان ملكاً للأفراد فلا يصح أن تملكه. وإن كان المال من مرافق الجماعة أو من المعادن أو من طبيعته أن لا يُملك فردياً كان ملكاً عاماً طبيعياً، ولا تستطيع الدولة إبقاءه ملكاً فردياً. وإن لم يكن هذا المال من نوع الملكية العامة يبقى ملكاً فردياً ولا تستطيع الدولة أن تؤممه ولا أن تملكه جبراً عن صاحبه مطلقاً، إلاّ إذا رضي صاحبه أن يبيعه لها كما يبيعه لأي فرد، فتشتريه كما يشتريه سائر الأفراد. ولهذا لا تستطيع الدولة أن تمتلك ملك الأفراد جبراً بحجة المصلحة العامة كلما بدا لها ذلك ولو دفعت ثمنها، لأن أملاك الأفراد محترمة ومصونة لا يجوز أن يتعدى أحد عليها حتى ولا الدولة. ويعتبر التعدي عليها مظلمة يُشكى إلى محكمة المظالم على الحاكم إذا فعلها لترفع مظلمته، إذ ليس للخليفة أن يُخرج شيئاً من يد أحد إلاّ بحق ثابت معروف. وكذلك لا تستطيع الدولة أن تبقي مالاً مما هو داخل في الملكية العامة أو ملكية الدولة في يد فرد بحجة المصلحة، لأن المصلحة في هذه الأموال قد قدّرها الشرع في بيانه ما هي الملكية العامة وما هي ملكية الدولة وما هي الملكية الفردية.

وبذلك يظهر أن التأميم ليس من الملكية العامة ولا من ملكية الدولة ولا هو من الأحكام الشرعية بل هو من ترقيعات النظام الرأسمالي.



الحِمى في المنافع العامة



لجميع الناس حق الانتفاع بالمنافع العامة على الوجه الذي وُجدت من أجله، ولا يجوز استعمالها إلاّ بما وُجدت من أجله. فلا يجوز الانتفاع بالطريق للوقوف للاستراحة أو الوقوف لإجراء معاملات البيع والشراء أو لغير ذلك مما لم توجَد الطريق لأجله. لأن الطريق وُجدت للاستطراق، إلاّ أن يكون استعمالها يسيراً بحيث لا يؤثر على الاستطراق. ويقدَّر ذلك بالقدر الذي لا يحصل فيه الإضرار والتضييق على المارة. وكذلك لا يجوز استعمال الأنهار إلاّ بما وُجدت من أجله، فإن وُجد النهر للسقي كالنهر الصغير، لا يستعمل للملاحة، وإن وُجد للاثنين كالنيل ودجلة والفرات يُستعمَل لهما.

وكذلك ليس لأحد أن يختص بحِمى شيء مما هو من المنافع العامة كالمراعي والمساجد والبحار. قال عليه الصلاة والسلام: {لا حِمى إلاّ لله ولرسوله}. وأصل الحِمى عند العرب أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان عالٍ، فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه. والحمى هو المكان المحمي وهو خلاف المباح. فجاء الإسلام فمنع الناس أن يحموا أي شيء من الأشياء العامة لهم وحدهم دون غيرهم. ومعنى الحديث ليس لأحد أن يحمي ما هو لعموم المسلمين إلاّ لله ولرسوله، فإن لهم أن يحموا أي شيء يرونه. وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فحمى بعض الأمكنة. فعن ابن عمر {أن النبي صلى الله عليه وسلم حَمى النقيع للخيل، خيل المسلمين} أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حَمى مكاناً يقال له النقيع وهو موضع ينتقع فيه الماء فيكثر فيه الخصب وكان على بُعد عشرين فرسخاً من المدينة، فقد منع الناس من الإحياء في ذلك المَوات ليتوفر فيه الكلأ وترعاه مواشٍ مخصوصة ويُمنع غيرها. والمراد هنا أنه حماها للخيل الغازية في سبيل الله. وقد كان خلفاء النبي من بعده يحمون بعض الأمكنة، فإن عمر وعثمان حميا بعض الأموال العامة واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكِر عليهما منكِر فكان إجماعاً. وروي عن عامر بن عبيد الله بن الزبير عن أبيه قال: {أتى أعرابي عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام، علامَ تحميها؟ فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه –وكان إذا كَرَبه أمر فتل شاربه ونفخ- فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك فقال عمر: المال مال الله والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت شبراً من الأرض في شبر}.

والحِمى المنهي عنه في الحديث يشتمل أمرين: الأول الأرض الميتة التي لكل واحد من الناس أن يحييها ويأخذ منها، والثاني أن تُحمى الأشياء التي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فيها شركاء، وهي مثل الماء والكلأ والنار، كأن يختص بقناة الماء فيسقي زرعه ثم يمنعها عن غيره حتى لا يسقي زرعه. عن هشام عن الحسن، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامة}. وبذلك يتبين أنه يجوز للدولة أن تحمي من الأرض الموات ومما هو داخل في الملكية العامة، لأية مصلحة تراها من مصالح المسلمين على شرط أن يكون ذلك على وجه لا يُلحق الضرر
بأحد

rajaab
19-05-2005, 05:30 PM
المصانـع



المصنع من حيث هو، من الأملاك الفردية. فهو من الأعيان التي تقبل الملك الفردي. وقد ثبت أن الأفراد كانوا يملكون مصانع في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم كصناعة الأحذية وصناعة الثياب وصناعة السيوف وغيرها. وقد أقرهم الرسول عليها واستصنع عندهم المنبر، مما يدل على جواز ملكية الأفراد للمصانع. غير أن المواد التي تصنعها المصانع تحوِّل المصنع إلى أن يأخذ حكم هذه المواد، بدليل أن مصنع الخمر يحرم على المسلم اقتناؤه بنص الحديث الذي ذكر أن الله لعن عاصر الخمر ومعتصرها. فالنهي عن عصر الخمر ليس نهياً عن العصر وإنما هو نهي عن عصر الخمر، فالعصر ليس حراماً، ولكن عصر الخمر هو الحرام، فجاءت حرمة مصنع الخمر من حرمة المواد التي يصنعها. وبذلك يتبين أن المصنع قد أخذ حكم المادة التي يصنعها. وعلى ذلك يُنظر في المصانع، فإن كانت المواد التي تُصنع فيها ليست من المواد الداخلة في الملكية العامة كانت هذه المصانع أملاكاً فردية، كمصانع الحلويات ومصانع النسيج ومصانع النجارة وما شاكل ذلك. وإن كانت المصانع لصنع المواد الداخلة في الملكية العامة كمصانع المعادن التي تَستخرج المعادن التي لا تنقطع، فإنها تكون ملكاً عاماً ولا تدخل في الملكية الفردية ويُمنع الأفراد من تملكها. وعلى هذا فإن مصانع استخراج البترول واستخراج الحديد والذهب وما شاكلها من المعادن على شرط أن يكون المنجم من العدّ الذي لا ينقطع، هي ملك عام. أمّا مصانع قطع الحديد وطَرْقه ومصانع السيارات وما شاكل ذلك مما تكون مواده داخلة في الملكية الفردية فإنه يجوز للأفراد أن يملكوها لأن المادة التي تصنعها ليست من المواد الداخلة في الملكية العامة. وعلى ذلك فكل مصنع تكون مادة صنعه مما هو داخل في الملكية العامة يعتبر ملكاً عاماً ولا يجوز للأفراد أن يمتلكوه. وكل مصنع تكون مادة صنعه مما هو داخل في الملكية الفردية فإنه يجوز للأفراد أن يمتلكوه لأنه من نوع الملكية الفردية.



بيت المـال



بيت المال هو الجهة التي تختص بكل دخل أو خرج لما يستحقه المسلمون من مال. وعلى ذلك فكل مال استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال حتى ولو تعين مالكه جهة. فإذا قُبض صار بالقبض مضافاً إلى حقوق بيت المال سواء أدخل إلى حرزه أم لم يدخل، لأن بيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان. وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال. فإذا صُرف في جهته صار مضافاً إلى الخرج من بيت المال سواء خرج من حرزه أم لم يخرج، لأن ما صار إلى ولاة المسلمين وعمالهم أو خرج من أيديهم فحُكْم بيت المال جارٍ عليه في دخله إليه وخرجه.



واردات بيت المال



واردات بيت المال الدائمة هي الفيء كله، والجزية، والخَراج، وخُمس الركاز، والزكاة، والأملاك الخاصة بالدولة. إلاّ أن الزكاة وخُمس الركاز توضع في حرز خاص بها من بيت المال، ولا تُصرف إلاّ للأصناف الثمانية الذين ذُكروا في القرآن، ولا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الأصناف الثمانية، سواء أكان من شؤون الدولة أو من شؤون الأمّة. إلاّ أن يجوز للإمام صرفها على رأيه واجتهاده لمن يشاء من الأصناف الثمانية. فله أن يعطيها لصنف منهم أو أكثر، وله أن يعطيها لهم جميعاً. أمّا باقي الأموال التي من حقوق بيت المال فهي الأموال الأخرى. وتوضع في بيت المال مع بعضها وينفق منها على شؤون الدولة والأمّة وعلى الأصناف الثمانية وعلى كل شيء تراه الدولة. فإن وَفَت هذه الأموال بحاجات الرعية كان بها، وإلاّ فإن الدولة تفرض ضرائب على المسلمين لتقوم بقضاء ما يُطلب منها من رعاية الشؤون. أمّا كيفية فرض هذه الضرائب فإنه يسير على حسب ما فرضه الشرع على المسلمين، فإنّ ما كان فرضاً على المسلمين القيام به من الأعمال واحتاج إلى نفقات حتى تقوم به الدولة، فإن للدولة أن تفرض على المسلمين ضرائب لتقوم بأعبائه، وما لم يكن واجباً على المسلمين كسداد دين الميت، فإنه لا يجوز للدولة أن تفرض ضرائب للقيام بها، فإن كان لديها في بيت المال مال قامت به وإلاّ فيسقط القيام به عن الدولة. وعلى هذا فللدولة أن تحصّل الضرائب في هذه الحال وعليها أن تسير على الوجه التالي:

1- لسد النفقات الواجبة على بيت المال للفقراء والمساكين وابن السبيل وللقيام بفرض الجهاد.

2- لسد النفقات الواجبة على بيت المال على سبيل البدل كنفقات الموظفين وأرزاق الجند وما شاكل ذلك.

3- لسد النفقات الواجبة على بيت المال على وجه المصلحة والإرفاق دون بدل كإنشاء الطرقات واستخراج المياه وبناء المساجد والمدارس والمستشفيات وغير ذلك من الأمور التي يعتبر إيجادها من الضروريات وينال الأمّة ضرر من عدم وجودها.

4- لسد النفقات الواجبة على بيت المال على وجه الضرورة كحادث طرأ على المسلمين من مجاعة أو طوفان أو زلزال أو هجوم عدو أو ما شاكل ذلك.

5- أن تفرض ضرائب لتسديد ديون اقترضتها للقيام بما هو واجب على كافة المسلمين من كل ما هو داخل في أية حالة من الحالات الأربع، أو ما تفرع عنها أو أية حالة أوجبها الشرع على المسلمين.

ومن الواردات التي توضع في بيت المال وتُنفق على مصالح الرعية ما يأخذه العاشر من الحربيين والمعاهدين والأموال الناتجة مما هو من الملكية العامة أو من ملكية الدولة، والأموال الموروثة عمن لا وارث له. وإذا فَضُلت حقوق بيت المال على مصرفها بأن زادت الأموال التي في بيت المال عن النفقات المطلوبة منه يُنظر، فإن كان الزائد آتياً من الفيء صُرف للناس في أعطيات، وإن كان الزائد من الجزية والخراج أبقاه لما ينوب المسلمين من حادث ولا ينزل عنهم، لأن الحكم الشرعي أن تُفرض الجزية عن يدٍ وأن يُفرض الخَراج على الأرض بقدر احتمالها. وإن كان الزائد من الزكاة والركاز حُفظ في بيت المال حتى يوجد من الأصناف الثمانية من تُصرف له فتُصرف له حينئذ. وإن كان الزائد مما هو مفروض على المسلمين حَطَّه عنهم وأعفاهم من دفعه.



نفقات بيت المال



وُضعت نفقات بيت المال على ست قواعد:

1- ما كان بيت المال له حرزاً، وهو أموال الزكاة، فإن استحقاقه لمن يُصرف لهم معتبَر بالوجود. فإن كان المال موجوداً فيه من ناحية الزكاة كان صرفه في جهاته –وهي الأصناف الثمانية المذكورة في القرآن- مستحقاً، ويجب أن يُصرف لهم، وعدم وجود المال مسقِط لاستحقاقه لمن يُصرف لهم، أي إن لم يكن المال موجوداً في بيت المال من ناحية الزكاة فلا يُصرف لأي واحد من الأشخاص الثمانية شيء من مخصصات الزكاة ولا يستدان على الزكاة لبينما تحصل جبايتها.

2- أن يكون بيت المال مستحقاً له على وجه الإعالة وعلى وجه القيام بفرض الجهاد. وذلك كالإنفاق على الفقراء والمساكين وابن السبيل، وكالإنفاق على الجهاد. فاستحقاق الصرف لهذه الأمور غير معتبر بالوجود، وهو من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم، أي سواء أكان المال موجوداً في بيت المال أم لم يكن. فإن كان المال موجوداً وجب صرفه في الحال، وإن لم يكن موجوداً فإن خيف مفسدة من تأخير الصرف اقترضت الدولة المال لصرفه في الحال لبينما تجمعه من المسلمين ثم تسده، وإن لم تَخَف مفسدة طبقت فيه قاعدة )فنَظِرة إلى ميسرة(، فيؤخَّر حتى يُجمع المال ثم يعطى مستحقيه.

3- أن يكون بيت المال له مستحقاً على وجه البدل، أي أن يكون المال مستحَقاً لأشخاص أدوا خدمة فأخذوا بدل هذه الخدمة مالاً، وذلك كأرزاق الجند ورواتب الموظفين والقضاة والمعلمين، وما شاكل ذلك. فاستحقاق الصرف لهذه الأمور غير معتبر بالوجود. وهو من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم، أي سواء أكان المال موجوداً في بيت المال أم لم يكن. فإن كان المال موجوداً وجب صرفه في الحال، وإن لم يكن موجوداً وجب على الدولة توفيره في أخذ ما يلزم له من المسلمين. فإن خيف مفسدة من تأخير الصرف اقترضت الدولة المال لصرفه في الحال لبينما تجمعه من المسلمين ثم تسده، وإن لم تَخَف مفسدة طبقت فيه قاعدة )فنَظِرة إلى ميسرة( فيؤخَّر حتى يجمع المال ثم يعطى لمستحقيه.

4- أن يكون بيت المال مستحقاً، وأن يكون مصرفه مستحقاً على وجه المصلحة والإرفاق دون البدل، أي أن يكون مصرفه على أشياء دون أن يكون مقابلها أموال تحصل، وذلك كالطرقات والمياه وبناء المساجد والمدارس والمستشفيات وما شاكل ذلك من الأمور التي يعتبر إيجادها ضرورة من الضرورات، وينال الأمّة ضرر من عدم وجودها. فاستحقاق الصرف لهذه الأمور يعتبَر بالوجود، فإن وُجد في بيت المال وجب صرفه لهذه الأشياء، وإن لم يوجد في بيت المال انتقل وجوبه على الأمّة فيُجمع منها قدر الكفاية لسد صرف النفقات اللازمة ثم يجري الصرف عليها من بيت المال، لأن ما كان مصرفه مستحقاً على وجه المصلحة دون البدل، وعدم صرفه يوجِد الضرر، يكون استحقاقه معتَبراَ بالوجود دون العدم. فإن كان موجوداً في بيت المال وجب فيه وسقط فرضه عن المسلمين، وإن كان معدوماً سقط وجوبه في بيت المال، ووجب فرضه على المسلمين حتى تحصل الكفاية بتوفيره في بيت المال، فيصير واجباً على بيت المال.

5- أن يكون بيت المال له مستحَقاً، وأن يكون مصرفه مستحقاً على وجه المصلحة والإرفاق دون البدل، إلاّ أنه لا ينال الأمّة ضرر من عدم وجوده. وذلك كفتح طريق ثانية مع وجود غيرها، أو فتح مستشفى ثان مع وجود غيره كافٍ يمكن الاكتفاء به، أو تعمير طريق يجد الناس غيرها طريقاً بعيدة، أو ما شاكل ذلك. فاستحقاق الصرف لهذه الأمور معتبَر بالوجود دون العدم. فإن وُجد في بيت المال مال وجب صرفه لهذه الأشياء، وإن لم يوجد في بيت المال مال سقط وجوبه عن بيت المال، ولا يجب على المسلمين دفع مال لأجله لأنه من الأساس لا يجب على المسلمين.

6- أن يكون مصرفه مستحقاً على وجه الضرورة كحادث طرأ على المسلمين في مجاعة أو طوفان أو زلزال أو هجوم عدو، فاستحقاقه غير معتبر بالوجود، وهو من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم. فإن كان موجوداً وجب صرفه في الحال، وإن كان معدوماً صار فرضه على المسلمين، فيجب أن يُجمع من المسلمين في الحال، ويوضع في بيت المال ليصرفه عليه. وإن خيف الضرر من تأخير الصرف إلى الانتهاء من الجمع وجب على الدولة أن تقترض المال اللازم، وتضعه في بيت المال، وتصرفه في الحال على وجه استحقاقه ثم تسُد هذا الدين مما تجمعه من المسلمين.



ميزانية الدولة



الدول الديمقراطية تضع ميزانية عامة للدولة كل سنة. وواقع الميزانية للدولة الديمقراطية هو أن الميزانية تصدر في قانون اسمه قانون الميزانية لسنة كذا، يصدّقه البرلمان ويسنّه قانوناً بعد مناقشته ومناقشة فصول الميزانية فصلاً فصلاً والمبالغ التي يتضمنها كل فصل، ويعتبر كل فصل كلاً لا يتجزأ يجري التصويت عليه ككل لا على كل جزء منه فيقبله أو يرفضه جملة، وإنْ كان عند المناقشة له أن يناقش كل جزء من أجزائه وكل مبلغ من المبالغ التي يشتمل عليها. وقانون الميزانية يكون مؤلفاً من بضع مواد، منها مادة توضع لتبين المبلغ الذي يُرصد لنفقات الدولة خلال السنّة المالية التي وُضعت لها الميزانية، وتوضع مادة لتبين المبلغ الذي تخمَّن إيرادات الدولة به خلال السنّة المالية التي وُضعت لها الميزانية، وتوضع مواد لرصد مصروفات لبعض المؤسسات كما توضع مواد لتخمين واردات بعض المؤسسات، وتوضع مواد لإعطاء وزير المالية بعض الصلاحيات، وتوضع في كل مادة إشارة إلى جدول يتضمن أبواب الميزانية لما تتضمنه المادة سواء أكانت للواردات أو المصروفات، ثم توضع في كل جدول مفرداته، أي الفصول التي يتضمنها الباب، ثم يوضع في كل فصل المبالغ الإجمالية لمفردات الفصل جميعها. وعلى هذا الأساس توضع الميزانية كل سنة مع بعض اختلافات فرعية في بعض السنين حسب الوقائع المختلفة، أو مع بعض اختلافات فرعية بين الدول حسب الوقائع المختلفة.

أمّا الدولة الإسلامية فلا توضع لها ميزانية سنوية حتى يحتاج الأمر سنوياً إلى سن قانون بها، ولا تُعرض على مجلس الشورى، ولا يؤخذ فيها رأي منه. وذلك لأن الميزانية في النظام الديمقراطي قانون في أبوابها وفصولها والمبالغ التي تتضمنها، وهو قانون لسنة واحدة. والقانون عندهم إنّما يسنّه البرلمان، ولذلك يحتاج الأمر إلى عرضها على مجلس البرلمان. وهذا كله لا تحتاج إليه الدولة الإسلامية، لأن واردات بيت المال تحصّل بحسب الأحكام الشرعية المنصوص عنها، وتُصرف بحسب أحكام شرعية منصوص عنها. وهي كلها أحكام شرعية دائمية، فلا مجال للرأي في أبواب الواردات ولا في أبواب النفقات مطلقاً، وإنما هي أبواب دائمية قررتها أحكام شرعية دائمية. هذا من ناحية أبواب الميزانية، أمّا من ناحية فصول الميزانية والمبالغ التي يتضمنها كل فصل، والأمور التي تخصص لها هذه المبالغ في كل فصل، فإن ذلك كله موكول لرأي الخليفة واجتهاده لأنه من رعاية الشؤون التي تركها الشرع للخليفة يقرر فيها ما يراه، وأمْرُه واجب التنفيذ.

وعلى هذا لا يوجد أي مجال في الإسلام لوضع ميزانية سنوية للدولة كما هي الحال في النظام الديمقراطي لا بالنسبة لأبوابها ولا لفصولها ولا لمفردات الفصول، أو المبالغ التي تحتاجها تلك المفردات أو الفصول. ومن هنا لا توضع ميزانية سنوية للدولة الإسلامية، وإن كانت لها ميزانية دائمية قد حدد الشرع أبوابها بالنسبة للواردات والنفقات، وجعل للخليفة أمر تقرير الفصول ومفرداتها والمبالغ اللازمة لها حينما تدعو المصلحة، دون نظر إلى مدة معينة.



الزكــاة



يُعتبر مال الزكاة أحد أنواع الأموال التي توضع في بيت المال، ولكنها تختلف عن باقي الأنواع من الأموال من ناحية جبايتها، ومن ناحية المقدار الذي يجبى، ومن ناحية إنفاقها. فهي من حيث الجباية لا تجبى إلاّ من أموال المسلمين ولا تجبى من غيرهم، وهي ليست ضريبة عامة، وإنما هي عبادة من العبادات وتعتبر ركناً من أركان الإسلام. وهي مع كونها مالاً فإن دفعها يحقق قيمة روحية كالصلاة والصيام والحج، وأداؤها فرض عين على المسلم، ولا تعتبر جبايتها مسايرة لاحتياجات الدولة وحسب مصلحة الجماعة كباقي الأموال التي تجبى من الأمّة، بل هي نوع خاص من المال يجب أن يدفع لبيت المال، سواء أكانت هناك حاجة أم لم تكن، ولا تسقط عن المسلم متى وجبت في ماله، وتجب على المسلم المالك للنصاب فاضلاً عن ديونه وحاجته ولا تجب على غير المسلم، وتجب على الصبي والمجنون لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ولي يتيماً فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة}؛ أي لا يتركه حتى لا يذهب ماله كله من دفع الزكاة عليه ولأنها تجب على المال المملوك للشخص فهي عبادة مالية لا عبادة جسدية.

وأمّا من حيث المقدار الذي يجبى فإنه مقدار معين لا يزيد ولا ينقص، وقُدِّر بربع العشر في الذهب والفضة وعروض التجارة. ويؤخذ من مقدار معين من المال هو النصاب فما فوقه. وقدرُ النصاب مائتا درهم فضة وعشرون مثقالاً من الذهب، والمثقال من الذهب يساوي ديناراً شرعياً ووزنه عشرون قيراطاً. فإذا نقص المقدار عن النصاب فلا يؤخذ منه شيء. وأمّا الركاز ففيه الخُمس. وأمّا الحبوب كالقمح ونحوه، والمواشي كالإبل والبقر والغنم، فقد بيّن الفقهاء مقدار نصابها وما يؤخذ منها مفصلاً.

وأمّا مصارف الزكاة ووجوه إنفاقها فهي محددة كذلك بحد معروف فلا تُصرف إلاّ للأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في القرآن الكريم في سورة التوبة )إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلَّفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل(. أمّا الفقراء فهم الذين يملكون أموالاً ولكن نفقاتهم أكثر مما يملكون. والمساكين هم الذين لا يملكون أموالاً وليست لهم واردات، قال تعالى: )أو مسكيناً ذا متربة(. والعاملون عليها هم الذين يعملون بجبايتها وتوزيعها. والمؤلفة قلوبهم هم الذين ترى الدولة أن في إعطائهم من الزكاة مصلحة في تثبيتهم على الإسلام. وفي الرقاب وهم الأرقاء يُعطَون من مال الزكاة ليُعتقوا، وهذا الصنف غير موجود الآن إلاّ نادراً. والغارمون هم المدينون العاجزون عن سداد ديونهم. وفي سبيل الله أي الجهاد. وما ذُكرَت )في سبيل الله( مع الإنفاق في القرآن إلاّ وكان معناها الجهاد. وابن السبيل هو المسافر المنقطع. وما عدا هؤلاء الثمانية لا يجوز أن تُصرف لهم الزكاة. وكذلك لا يجوز أن تُصرف في شؤون الدولة الاقتصادية. وإذا لم يوجَد أحد من الأصناف الثمانية لا تُصرف الزكاة في باب آخر، وتُحفظ في بيت المال لتُصرف عند الحاجة إلى صرفها في وجوهها الثمانية وتُدفع للإمام أو نائبه لقوله الله تعالى: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها(، ولأن أبا بكر طالبهم بالزكاة ووافقه الصحابة على هذا، ولم يسألهم هل تدفعون للفقراء أم لا، وحين مَنعوا دفع الزكاة إليه قاتلهم عليها. والإمام هو الذي يعطيها لمستحقيها. حتى ولو كان الولاة ظلمة تُدفع لهم. رُوي عن سهب بن أبي صالح قال: {أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال أريد أن أُخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى فما تأمرني؟ قال: ادفعها إليهم. فأتيت ابن عمر فقال مثل ذلك فأتيت أبا هريرة فقال مثل ذلك فأتيت أبا سعيد فقال مثل ذلك}. ولا تعطى الزكاة لكافر مطلقاً سواء أكان ذمياً أم غير ذمي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: {فأعلِمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُرَد على فقرائهم} فخصّهم بصرفها على فقرائهم لمّا خصّهم بوجوبها على أغنيائهم. كما يجوز إعطاء الكافر صدقة التطوع مطلقاً، قال تعالى: )ويُطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً( ولم يكن الأسير يومئذ إلاّ كافراً.

rajaab
19-05-2005, 05:35 PM
الجزيـة



الجزية حق أوصل الله سبحانه وتعالى المسلمين إليها من الكفار خضوعاً منهم لحكم الإسلام. وهي مال عام يُصرف على مصالح الرعية كلها وتُستحق بحلول الحول ولا تُستحق قبله، وهي ثابتة بنص القرآن الكريم، قال تعالى: )حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون( {كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام فمن أسلم قبِل منه ومن لا ضُربت عليه الجزية في أن لا تؤكل له ذبيحة ولا تُنكح له امرأة}. وتؤخذ من الكفار ما داموا باقين على الكفر فإذا أسلموا سقطت عنهم. وتوضع الجزية على الرؤوس لا على الأموال، فتؤخذ عن كل شخص من الكفار لا على ماله. والجزية مشتقة من الجزاء، فهي تؤخذ جزاء على كفرهم، ولذلك لا تسقط إلاّ إذا أسلموا. ولا تسقط عنهم إذا اشتركوا في القتال لأنها ليست جزاء حمايتهم. ولا تؤخذ إلاّ من القادر على دفعها لقوله تعالى: )عن يدٍ( أي عن مقدرة، فلا تؤخذ من العاجز، ولا تؤخذ إلاّ على الرجال، فلا تجب على امرأة ولا على صبي، ولا على مجنون، حتى لو جاءت امرأة لتعيش في دار الإسلام على أن تدفع الجزية مقابل إقامتها، تُقبل في دار الإسلام ويُسمح لها بالإقامة ولا تؤخذ منها جزية. ولا يقدَّر مقدار مخصوص للجزية بل هي متروكة لرأي الإمام واجتهاده على شرط ألاّ تكون أكثر مما يطيق الذي تستحق عليه الجزية. عن أبي بجيح قال: "قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جُعل ذلك من قبيل اليَسار"، وإذا استحقت الجزية على قادر وأعسَر قبل دفعها تبقى ديناً عليه ويعامَل معاملة المدين المعسِر فيُنظَر إلى ميسرة.



الخَـراج



الخراج هو حق أوصل الله المسلمين إليه من الكفار، وهو حق يوضع على رقبة الأرض التي غُنمت من الكفار حرباً أو صلحاً، والخراج في لغة العرب للكراء والغلة، ومنه قول النبي عليه السلام: {لا يجتمع خراج وعشر في أرض مسلم}، وكل أرض أُخذت من الكفار عنوة بعد إعلان الحرب عليهم تعتبر أرضاً خراجية، وإذا أسلموا بعد الفتح تبقى أرضهم خراجية، فقد روي عن الزهري قال: {قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أسلم من أهل البحرين أنه قد أحرز دمه وماله إلاّ أرضه، فإنها فيء للمسلمين، لأنهم لم يسلموا وهم ممتنعون}؛ أي وهم في مَنَعة من المسلمين، أمّا قدرُ الخراج الذي يُضرب على الأرض فيعتبر بما تحتمله الأرض، فإن عمر حين وضع الخراج راعى ما تحتمله الأرض من غير حيْف بمالِك ولا إجحاف بزراع، فقد ضرب في بعض نواحيه على كل جريب قفيزاً ودرهماً، وضرب على ناحية أخرى غيرها غير هذا القدر، وعمل في نواحي الشام غير هذا، فعُلم أنه راعى في كل أرض ما تحمله، فإذا تقرر الخراج بما احتملته الأرض فإنه يحصله على الوجه الذي وضعها عليه، فإنْ وضع الخراج على مساحة الأرض سنوياً حصَّل الخراج عند نهاية السنّة الهلالية لأنها السنّة المعتبرة شرعاً، وإن جُعل الخراج عل مساحة الزرع حُصّل الخراج كل سنة عند نهاية السنّة الشمسية لأنها السنّة التي تكون عليها الأمطار ويُزرع الزرع. وإنْ وَضَعها مقاسمة أي قدّر نسبة معينة مما تنتجه عادة حُصّل الخراج عند كمال الزرع وتصفيته. وللإمام أن يقدِّر الخراج مراعياً أصلح الأمور في هذه الأوجه الثلاثة، إما على مساحة الأرض أو مساحة الزرع أو تقدير مقدار الناتج. وإذا حَصَلت تحسينات في الأرض فنَتج عن هذه التحسينات زياردة في الإنتاج، أو طرأ على الأرض عوامل أنقصت الإنتاج يُنظر، فإن كانت هذه الزيادة من فعل الزرّاع كأن حفروا بئراً أو أوصلوا قناة ماء لا يزاد عليهم شيء، وإن كان النقص بفعلهم كهدمهم القناة أو إهمالهم البئر لا يُنقص عنهم شيء ويؤمرون بإصلاح ما خرّبوه. وإن كانت الزيادة أو النص من الدولة كأن حفرت لهم هي بئراً أو أهملت إصلاح الآبار والقنوات فإن لها أن تزيد الخراج في حالة زيادة الإنتاج، وعليها أن تنقصه في حالة نقصان الإنتاج. أمّا إن حصلت الزيادة والنقص بعوامل طبيعية كان اقتلعت الزوابع الأشجار أو جرف السيل الأقنية، فإنه يوضع على الأرض قدرَ ما تحتمل حتى لا يُظلم أهلها. والخراج يقدّر لمدة معلومة ولا يقدر دائمياً، ويتغير هذا التقدير عند انتهاء المدة بما تحتمله الأرض عند التقدير للمدة الجديدة.



الضرائـب



إن المواد التي حددها الشرع لبيت المال كافية لإدارة شؤون الرعية ورعاية مصالحهم، ولا يحتاج الأمر إلى فرض ضرائب مباشرة أو غير مباشرة، ولكن الشرع مع ذلك احتاط فجعل حاجات الأمّة قسمين اثنين: منها حاجات فرضها على بيت المال أي على الموارد الدائمة لبيت المال، ومنها حاجات فرضها على كافة المسلمين وجعل للدولة الحق أن تحصّل المال منهم لقضاء تلك الحاجات. وعلى ذلك فالضرائب هي مما فرضه الله على المسلمين لقضاء مصالحهم، وجعل الإمام والياً عليهم يحصّل هذا المال وينفقه هو على الوجه الذي يراه. ويصح أن يسمّى هذا الذي يُجمع ضريبة كما يصح أن يسمى مالاً مفروضاً وغير ذلك. وما عدا ما فرضه الله من الموارد التي نص الشرع عليها كالجزية والخراج، وما عدا ما فرضه الله على المسلمين للقيام بالإنفاق على الحاجة المفروضة عليهم كافة كالطرقات والمدارس لا تؤخذ ضرائب، فلا تؤخذ رسوم للمحاكم ولا للدوائر ولا لأي مصلحة. أمّا ضريبة الجمارك فليست من قبيل الضرائب المأخوذة وإنما هي معامَلة للدول بمثل ما تعاملنا به، وليست ضريبة لسد كفاية بيت المال، وقد سماها الشرع مكوساً ومنع أخذها من المسلمين والذميين. ولا يجوز أن يؤخذ غير ما فرضه الشرع ضريبة مطلقاً، إذ لا يجوز أن يؤخذ من مال المسلم شيء إلاّ بحق شرعي دلت عليه الأدلة الشرعية التفصيلية، ولم يَرِد أي دليل يدل على جواز أخذ ضريبة من أحد من المسلمين سوى ما تقدم. أمّا غير المسلمين فلا تؤخذ منهم ضريبة لأن قضاء الحاجات الذي فرضه الشرع إنّما فرضه على المسلمين فقط، فلا تؤخذ الضريبة إلاّ من المسلمين ولا تؤخذ من غير المسلمين ضريبة سوى الجزية فقط. والخراج يؤخذ من المسلم وغير المسلم على الأرض الخراجية. أمّا كيف تؤخذ الضريبة من المسلمين فإنها تؤخذ مما زاد على نفقتهم، وعما يُعتبر عن ظهر غِنى شرعاً.

وما يُعتبر عن ظهر غِنى هو ما يفضُل عن إشباعه حاجاته الأساسية وحاجاته الكمالية بالمعروف، لأن نفقة الفرد على نفسه هي سدّه لكفاية جميع حاجاته التي تتطلب إشباعاً بالمعروف حسب حياته التي يعيش عليها بين الناس، وهذا لا يقدَّر بمقدار معيّن عام لجميع الناس، وإنما يقدَّر لكل شخص بحسب مستوى معيشته، فإذا كان ممن يحتاج مثله إلى سيارة وخادم يقدَّر بما زاد عنهما، وإنْ كان يحتاج إلى زوجة يقدَّر بما يزيد على زواجه، وهكذا. فإن كان ما يملكه يزيد على هذه الحاجات تحصَّل منه ضريبة، وإن كان لا يزيد على ذلك لا تحصَّل لأنه لا يكون مستغنياً فلا تجب عليه ضريبة.

ولا يراعى في فرض الضرائب منع تزايد الثروة وعدم الغِنى لأن الإسلام لا يمنع الغِنى. ولا يراعى أي اعتبار اقتصادي لجمع الضرائب وإنما تؤخذ ضريبة المال على أساس كفاية المال الموجود في بيت المال لسد جميع الحاجات المطلوبة منه، فتؤخذ بمقدار حاجات الدولة للنفقات، ولا يراعى فيها إلاّ حاجات الرعية ومقدرة المسلمين على دفعها. ولا تقدّر بنسبة تصاعدية أو تنازلية مطلقاً، وإنما تقدّر بنسبة واحدة على المسلمين بغض النظر عن مبلغ المال الذي تؤخذ منه. ويراعى في تقدير النسبة العدل بين المسلمين، إذ لا تؤخذ إلاّ عن ظهر غِنى، وتؤخذ على جميع المال الزائد عن الحاجة لا على الدخل فقط، لا فرق بين رأس المال أو الربح أو الدخل، بل تؤخذ عن المال كله. ولا تعتبر آلات الإنتاج اللازمة للعمل في الصناعة والزراعة ولا الأرض ولا العقار من رأس المال.



توزيع الثروة بين الناس



لقد أباح الإسلام الملكية الفردية، ولكنه حدد كيفية التملك. وأَذِن للفرد بأن يتصرف بما يملك، ولكنه حدد كيفية التصرف. ولاحَظ تفاوت القوى العقلية والجسمية لدى أفراد بني الإنسان، فاحتاط لهذا التفاوت في إعانته العاجز وكفايته المحتاج وفرضِه في أموال الأغنياء حقاً للفقراء والمساكين، وقد جعل ما لا تستغني عنه الجماعة ملكاً عاماً لجميع المسلمين لا يجوز لأحد أن يمتلكه أو يحميه لنفسه أو لغيره. كما جعل الدولة مسؤولة عن توفير الثروة أموالاً وخدمات للرعية، وأباح لها أن تتملك ملكية خاصة بها.

وبهذا كله ضَمِن العيش لكل فرد من أفراد الرعية، وضَمِن للجماعة أن تبقى مجتمعة متماسكة، وضَمِن مصالح هؤلاء الأفراد ورعاية شؤون هذه الجماعة، وحَفِظ كيان الدولة في قدرة كافية للاضطلاع بمسؤولياتها الاقتصادية. غير أن ذلك كله يحصل إذا بقي المجتمع على وضع يتحقق فيه توفير الثروة لجميع أفراد الرعية فرداً فرداً، وكان أفراد الرعية في جملتهم قائمين بتنفيذ جميع أحكام الشرع. أمّا إذا قام المجتمع على تفاوت فاحش بين أفراده في توفير الحاجات كما هي الحال الآن في العالم الإسلامي، كان لا بد من إيجاد توازن بين أفراده في عملية توزيع جديدة توجِد التقارب في توفير الحاجات.

وكذلك أيضاً إذا حصل انحراف في أذهان الناس في تطبيق الأحكام الشرعية لفهم سقيم، أو لفساد طارئ، أو حصل تقصير من الدولة في تطبيق النظام، فإنهم حينئذ ينحرفون عن النظام وينحرف المجتمع عن وضعه المرسوم فيؤدي ذلك إلى الأثَرة والأنانية وسوء التصرف في الملكية الفردية فيحصل حينئذ سوء توزيع الثروة بين الناس فيصبح لا بد من حفظ التوازن بين أفراد المجتمع أو إيجاد هذا التوازن.

وفي كلتا الحالتين يحصل سوء التوزيع للثروة بين الناس من أحد أمرين: إما مِن تداول الثروة بين فئة الأغنياء وحدهم، وإما من منعها عن الناس ومنع أداة التداول بينهم بحجزها عن المجتمع. وقد عالج الإسلام هاتين الناحيتين فوضع أحكاماً شرعية تضمن تداول الثروة بين الناس جميعاً وتعيد توزيعها كلما حصل اختلاف في توازن المجتمع. كما وضع أحكاماً شرعية تمنع كنز الذهب والفضة بوصفهما أداة التبادل وتجبر على وضعهما في المجتمع بين الناس موضع التبادل. وبذلك يعالَج المجتمع الفاسد، ويعالَج المجتمع المنحرف أو المائل للانحراف، ويُعمل لتوفير الثروة لجميع أفراد الرعية فرداً فرداً حتى يُشبِع كل فرد منهم حاجاته الأساسية إشباعاً تاماً، ويُفتح أمامه السبيل ليعمل على إشباع حاجاته غير الأساسية قدر ما يستطيع.

rajaab
19-05-2005, 05:38 PM
التوازن الاقتصادي في المجتمع



أوجب الإسلام تداول المال بين جميع أفراد الرعية، ومنع حصر تداوله بين فئة من الناس، قال تعالى: )كيلا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم(. فإذا كان المجتمع على حال من التفاوت الفاحش بين أفراده في توفير الحاجات وأريد بناؤه من جديد، أو حصل فيه هذا التفاوت من إهمال أحكام الإسلام والتساهل في تطبيقها، كان على الدولة أن تعالِج إيجاد التوازن في المجتمع بإعطائها من أموالها التي تملكها لمن قَصُرت به حاجته حتى تكفيها، وحتى يحصل بهذه الكفاية التوازن في توفير الحاجات. وعليها أن تعطي المال منقولاً وغير منقول، لأنه ليس المقصود من إعطاء المال قضاء الحاجة مؤقتاً، بل المقصود توفير وسائل قضائها بتوفير ملكية الثروة التي تسد هذه الحاجات، وإذا كانت الدولة لا تملك مالاً أو لم تفِ أموالها بإيجاد هذا التوازن لا يصح أن تُملَك من أموال الناس، فلا تَفرض ضرائب من أجل هذا التوازن لأنه ليس من الأمور التي فُرضت على كافة المسلمين، بل عليها أن تسعى لتوفير المال من غير الضرائب كالغنائم والملكية العامة حتى تقوم بإيجاد التوازن. وهكذا كلما رأت الدولة اختلالاً بالتوازن الاقتصادي في المجتمع عالجت هذا الخلل بإعطاء من قَصُرت بهم الحاجة من أموال بيت المال، إن كان في بيت المال مال جاءه من الغنائم والأملاك العامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى التفاوت في ملكية الأموال بين المهاجرين والأنصار خصّ المهاجرين بأموال الفيء الذي غنمه من بني النضير من أجل إيجاد التوازن الاقتصادي، فقد رُوي أنه لما فَتح النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير صلحاً وأجلى اليهود عنها، سأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يَقسِم لهم فنزلت )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى( الآيات، فجعل الله أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء فقَسَمها النبي بين المهاجرين ولم يُعطِ الأنصار منها شيئاً سوى رجلين اثنين هما أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، فقد كانت حالهما كحال المهاجرين من حيث الفقر. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دُوركم وأموالكم وقسمتُ لكم من الغنيمة كما قسمت لهم وإن شئتم كانت لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم. فقالوا: لا، بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة. فأنزل الله )ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة(. والآية صريحة في أن الفيء جعله الله حقاً للفقراء المهاجرين، قال تعالى: )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب. للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يَبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون(. فقوله تعالى: )كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم( أي كيلا يُتداول بين الأغنياء فقط، والدُولة في اللغة اسم للشيء الذي يتداوله القوم وهي أيضاً اسم لما يُتداول من المال، أي كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون بُلغة لهم يعيشون بها، واقعاً في يد الأغنياء ودُولةً بينهم. وقوله تعالى: )للفقراء المهاجرين( بدل من قوله لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كأنه قيل أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء المهاجرين الذين صفتهم كذا وكذا.

وما فُعل بفيء بني النضير وهو من أموال بيت المال لجميع المسلمين قد خُص به الفقراء وحُرم منه الأغنياء لتوازن توفير الحاجات بينهم. ويُفعل ذلك في أموال بيت المال إذا كانت هذه الأموال لم تأت مما يُجمع من المسلمين كأموال الغنائم وأموال الأملاك العامة. أمّا إذا كان المال جُمع من المسلمين فلا يُصرف على التوازن. ويُفعل ذلك في كل وقت لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وعليه فإن على الخليفة أن يوجِد التوازن الاقتصادي بإعطائه الفقراء من الرعية وحدهم من أموال بيت المال التي لجميع المسلمين حتى يوجد التوازن الاقتصادي بهذا العطاء. إلاّ أن هذا لا يعتبر من نفقات بيت المال الثابتة بل هو معالجة لحالة معينة من أموال معينة.



منع كنز الذهب والفضة



إن ظاهرة سوء توزيع الثروة بين الأفراد في مختلف دول العالم من الحقائق الثابتة التي تنطق بها كافة مظاهر الحياة اليومية في صراحة وفصاحة لا تَدَعان كبير مجال للتدليل عليها، وأن ما يعانيه البشر من هذا التفاوت الفاحش في قضاء الحاجات لا يحتاج إلى إظهار حدّة هذا التفاوت وبشاعته. وقد حاولت الرأسمالية معالجة ذلك فلم تفلح. والاقتصاديون الرأسماليون حين يبحثون نظرية توزيع الدخل يُهملون كل الإهمال سوء توزيع الدخل الشخصي، ويكتفون بعرض الإحصاءات من غير معالجة ولا تعليق. والاشتراكيون لم يجدوا وسيلة لمعالجة سوء التوزيع سوى تحديد الملكية بالكم. والشيوعيون جعلوا المعالجة منع الملكية.

أمّا الإسلام فقد ضَمِن حسن التوزيع في تحديد كيفية الملكية وكيفية التصرف وفي إعطاء من قَصُرت به مواهبه ما يضمن له تقارباً مع غيره ممن يعيشون في المجتمع لإيجاد التقارب في توفير الحاجات بين الناس. وبذلك عالج سوء التوزيع. إلاّ أنه مع وجود التقارب في قضاء الحاجات بين الأفراد قد توجد ثروات كبيرة لدى بعض الأفراد. والإسلام لم يفرض التقارب بين الناس في الملكية، وإنما فرض استغناء كل فرد عن غيره في حاجاته المعروفة بالنسبة له، {خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى}. وهذه الثروات الكبيرة تهيئ لأصحابها فرص الادخار وتساعد على اكتساب الدخول الكبيرة فتظل الثروة الكبيرة حيث يوجد المال الكبير، لأن المال يجلب المال، وإن كان للجهد أثر في اكتساب الثروة وتهيئة الفرص لاستغلال الأموال، فلا يوجد منها أي خطر على الاقتصاد، بل على العكس تنمي الثروة الاقتصادية للجماعة كما تنمي ثروة الفرد. ولكن الخطر إنّما يأتي من النقود المكنوزة عند بعض الأفراد من ذوي الثروات الكبيرة. فيهبط بكنز النقود مستوى الدخل وتنتشر البطالة ويصل الناس إلى حالة من الفقر. ولذلك لا بد من معالجة كنز النقود. فالنقود هي أداة التبادل بين مال ومال، وبين مال وجهد، وبين جهد وجهد. فهي المقياس لهذا التبادل، فإذا اختفت من السوق ولم تصل إليها أيدي الناس عُدم هذا التبادل، فوقف دولاب الاقتصاد. وبقدر وجود هذه الأداة متوفرة بين أيدي الناس بقدر ما يدفع سير العمل إلى الأمام.

وذلك أنه ما من دخلٍ لشخص أو هيئة إلاّ ومصدره شخص آخر أو هيئة أخرى، فالأموال التي تجبيها الدولة من الضرائب هي دخل للدولة، ولكنها إنفاق من الناس، والنفقات التي تنفقها الدولة على الموظفين والمشاريع وأرزاق الجند وغيرها هي دخل لهؤلاء وإنفاق من الدولة، والنفقات التي ينفقها الموظف والجندي وغيرهما هي دخل لمن تشترى السلع منهم كصاحب المنزل واللحام والخضري والتاجر وغيرهم، وهكذا.. فتكون دخول الناس في المجتمع ونفقاتهم الإجمالية تسير في شكل دائرة مستمرة، فإذا كَنَز شخص النقد فإنه يكون قد سحب من السوق نقداً، وهذا بالطبع لا ينتج إلاّ من تقليل إنفاقه فيؤدي حتماً إلى تقليل ما يدخل للآخرين الذين يعطيهم أو يتبادل معهم ما كنزه من النقد. وهذا يؤدي إلى تقليل إنتاجهم لأن الشراء على السلع قد قلّ، وهذا يؤدي إلى البطالة وإلى هبوط الاقتصاد في جملته. ومن هنا كان كنز النقد مؤدياً حتماً إلى وجود البطالة وهبوط الاقتصاد من قلة ما يَدخل للناس.

إلاّ أن الذي يجب أن يُعلم أن هذا الضرر إنّما يأتي من كنز النقد لا من ادخاره، فالادخار لا يوجِد وقوف دولاب العمل وإنما الذي يوقفه هو الكنز. والفرق بين الكنز والادخار هو أن الكنز عبارة عن جمع النقد بعضه فوق بعض لغير حاجة، فهو حبس النقد عن السوق. وأمّا الادخار فهو خزن النقد لحاجة من الحاجات كأن يجمع النقد ليبني بيتاً أو ليتزوج أو ليشتري مصنعاً أو ليفتح تجارة أو غير ذلك. فهذا النوع من جمع النقد لا يؤثر على السوق ولا على دولاب العمل لأنه ليس حبساً للمال وإنما هو تجميع له لإنفاقه، فهو سيدور حين يوضع موضع الإنفاق. ولذلك لا يوجد خطر من الادخار، والخطر إنّما هو من كنز النقد أي من جمع بعضه فوق بعض لغير حاجة.

وقد أباح الإسلام ادخار الذهب والفضة لأنه جمعٌ للنقد لحاجة، فأباح للمكاتِب أن يشتغل ويجمع النقد بعضه فوق بعض ليؤدي ما وجب عليه لسيّده ليُعتَق، وأباح للرجل جمع النقد بعضه فوق بعض ليجمع مهر امرأة ليتزوجها، وأباح جمع النقد بعضه فوق بعض حتى يقوم بأداء فريضة الحج، ولم يجعل في هذا النقد المجموع من الذهب والفضة سوى الزكاة عليه إذا بلغ مقداره النصاب، وحالَ عليه الحَوْل.

والذهب والفضة حين نزلت الآية في منع كنزهما كانت ذاتهما أداة للتبادل ومقياساً للجهد في العمل، والمنفعة في المال، سواء أكانت مصكوكة كالدراهم والدنانير أو لم تكن مصكوكة كالسبائك. وعليه فالنهي منصبّ على الذهب والفضة بوصفهما أداة للتبادل.

أمّا كنز الذهب والفضة فقد حرّمه الإسلام بصريح القرآن، قال تعالى: )والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم(، فهذا الوعيد بالعذاب الأليم لمن يكنزون الذهب والفضة دليل ظاهر على أن الشارع طلب ترك الكنز طلباً جازماً فكان كنز الذهب والفضة حراماً.

والآية جاءت عامة لجميع الذهب والفضة سواء أكان نقداً أم سبائك أم حُلياً، غير أن الحديث استثنى الحلي من الكنز فأباحه، فقد روى أبو داود من رواية ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنزٌ هو؟ فقال: {ما بلغ أن تؤدى زكاته فزُكِّي فليس بكنز}، والأوضاح نوع من أنواع الحلي. فهذا الحديث مخصِّص لعموم الآية بأن الكنز الممنوع إنّما هو في غير الحلي، أمّا الحلي فلا يُمنع كنزها ما دامت تؤدى زكاتها. والحديث وإن كان لا يَنسخ القرآن ولكنه يخصصه. فالله تعالى حين قال: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( خصَّص ذلك في غير المحصَن، أمّا المحصَن فيُرجَم لأن الرسول رجم المحصَن وأمر أن يُرجَم، فخصَّص عمل الرسول عموم الآية. والله تعالى حين قال: )السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما( خصَّص القطع في غير المجاعة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا قطع في مجاعة مضطر}. فحديث الأوضاح خصَّص آية الكنز كما خصص آية الجلد حديث المحصَن وآية السرقة حديث المجاعة.

والدليل على أن الآية قد حرّمت كنز الذهب والفضة تحريماً قاطعاً هو:

أولاً: عموم هذه الآية. فنص الآية منطوقاً ومفهوماً دليل على منع كنز المال من الذهب والفضة منعاً باتاً، فالمصير إلى أن الكنز مباح بعد إخراج الزكاة تركٌ لحكم الآية الذي دلت عليه دلالة قطعية، وهذا لا يصار إليه إلاّ بدليل منفصل عنها يصرفها عن معناها أو ينسخها. ولم يَرِد أي نص صحيح يصرفها عن معناها ولا يُحتمل أن يكون هناك دليل يصرفها عن معناها، لأنها قطعية الدلالة، فلم يبقَ إلاّ الدليل الذي ينسخها، ولا يوجد دليل ينسخها. أمّا آية )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم( فإنها نزلت في السنّة الثانية للهجرة حين فُرضت الزكاة، وهذه الآية قد نزلت في السنّة التاسعة للهجرة ولا يَنسخ المتقدم المتأخر في النزول. وأمّا الأحاديث الواردة في أنه ما أُدّي زكاته فليس بكنز فإنه لم يصح منها سوى حديث واحد هو حديث أم سلمة وما عداه من جميع الأحاديث التي رويت في هذا الباب فإنها كلها مكذوبة مطعون بها رواية ودراية، أي سنداً ومتناً. وحديث أم سلمة هذا في الأوضاح خاص بالحلي، وهو مخصِّص لعموم الآية. على أن الحديث لو صح ولو كان متواتراً فإنه لا ينسخ الآية، لأن الأحاديث النبوية لا تنسخ القرآن الكريم ولو كانت متواترة لأن القرآن قطعي الثبوت لفظاً ومعنى ونحن متعبّدون بلفظه ومعناه، بخلاف الحديث المتواتر فهو قطعي الثبوت معنىً لا لفظاً ولسنا متعبّدين بلفظه فلا يُنسخ القرآن بالأحاديث ولو كانت متواترة. فكيف يُجعل حديث الآحاد كحديث أم سلمة ناسخاً لآية قطعية الثبوت قطعية الدلالة؟

ثانياً: أسند الطبري إلى أبي أمامة الباهلي قال: مات رجل من أهل الصفّة فوُجد في برده دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كَيّة}، ثم مات آخر فوُجد له ديناران فقال رسول الله {كيّتان}، وهذا لأنهما كانا يعيشنا من الصدقة وعندهما التبر. والدينار والديناران لا يبلغان نصاباً حتى تُخرج منهما الزكاة، فقول الرسول عنهما {كيّة وكيّتان} دليل اعتباره لهما أنهما كنز ولو لم تجب فيهما الزكاة، وهو يشير إلى ما جاء في آية الكنز )يوم يحمى عليها في نار جهنم فتُكوى بها جباههم وجنوبهم(.

ثالثاً: إن نص الآية هو صب الوعيد على أمرين اثنين: أحدهما كنز المال، والثاني الإنفاق في سبيل الله، أي الذين يكنزون الذهب والفضة والذين لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بالعذاب. ومن ذلك تبين أن من لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله يشمله الوعيد، ومن كنز وأنفق في سبيل الله يشمله الوعيد، قال القرطبي: "فإنّ من لم يكنز ومَنَع الإنفاق في سبيل الله فلا بد وأن يكون كذلك" والمراد بالآية من قوله: )في سبيل الله( أي في الجهاد، لأنها مقترنة بالإنفاق، وكلمة )في سبيل الله( إذا قُرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد، وقد وردت في القرآن في هذا المعنى وحده ولم ترد كلمة )في سبيل الله( في القرآن ومعها الإنفاق إلاّ كان معناها جزماً الجهاد، ولا تحتمل غيره مطلقاً.

رابعاً: روى البخاري عن زيد بن وهب قال: "مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في )الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله( فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقدِمَ المدينة، فقَدِمتها فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحّيت فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليّ حبشياً لسمعتُ وأطعتُ"، فخلاف أبي ذر ومعاوية إنّما كان في حق من نزلت الآية لا في معناها، ولو كان هناك حديث مروي في ذلك الوقت بأن ما أديت زكاته فليس بكنز لاحتج به معاوية ولأسكت أبا ذر به. والظاهر أن هذه الأحاديث وُضعت بعد حادثة أبي ذر هذه، وقد ثبت أنها كلها أحاديث غير صحيحة.

خامساً: الكنز في اللغة جمع المال بعضه على بعض وحفظه، ومال مكنوز أي مجموع، والكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها. والقرآن تُفسَّر كلماته بمعناها اللغوي وحده، إلاّ أن يرد من الشرع معنى شرعي لها فتُفسَّر حينئذ بالمعنى الشرعي، وكلمة الكنز لم يصح أنه ورد أي معنى شرعي وُضع لها، فيجب أن تفسر بمعناها اللغوي فقط، وهو أنه مجرد جمع المال بعضه إلى بعض لغير حاجة جمع من أجلها، يعتبر من الكنز المذموم الذي أوعد الله فاعله بالعذاب الأليم.

rajaab
19-05-2005, 05:39 PM
الربا والصرف



الربا هو أخذ مال بمال من جنس واحد متفاضلين، والصرف هو أخذ مال بمال من الذهب والفضة من جنس واحد متماثلين أو من جنسين مختلفين، متماثلين أو متفاضلين، والصرف لا يكون إلاّ في البيع. أمّا الربا فإنه لا يكون إلاّ في بيع أو قرض أو سَلَم. فأما البيع فهو مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً وهو جائز لقوله تعالى: )وأحل الله البيع( ولقوله صلى الله عليه وسلم: {البيِّعان بالخَيار ما لم يتفرقا}. وأمّا السَلَم فهو أن يسلم عرضاً حاضراً بعرض موصوف في الذمة إلى أجل، ويسمى سَلَماً وسلفاً وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع وبلفظ السَلَم، وهو جائز لقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بديْن إلى أجل مسمى فاكتبوه(، قال ابن عباس: {أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه} ثم قرأ هذه الآية. ولأنه روي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {أنهم قدموا المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم}. وأمّا القرض فهو نوع من السلف، وهو أن يعطي مالاً لآخر ليسترده منه، وهو جائز، فقد روى أبو رافع {أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً فقَدِمَت على النبي صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرخ، فرجع إليه أبو رافع فقال: يا رسول الله، لم أجد فيها إلاّ خياراً رباعياً، فقال: أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء}، وقال صلى الله عليه وسلم: {ما من مسلم يُقرض مسلماً قرضاً مرتين إلاّ كان كصدقة مرة}، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقرض.

والربا لا يقع في البيع والسَلَم إلاّ في ستة أشياء فقط، في التمر والقمح والشعير والملح والذهب والفضة. والقرض يقع في كل شيء، فلا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلاً، لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقداره. والفرق بين البيع والسلم وبين القرض أن البيع والسلم يكونان في نوع بنوع آخر، وفي نوع بنوعه، ولا يكون القرض إلاّ في نوع بنوعه ولا بد. وأمّا كون الربا في هذه الأنواع الستة فقط فلأن إجماع الصحابة انعقد عليها، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {الذهب بالذهب مِثلاً بمثل، والفضة بالفضة مِثلاً بمثل، والتمر بالتمر مِثلاُ بمثل، والبُرّ بالبُرّ مِثلاُ بمثل، والملح بالملح مِثلاُ بمثل، والشعير بالشعير مِثلاً بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البُرّ بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد}. فالإجماع والحديث نص على أشياء معينة فيها الربا فلا يثبت إلاّ فيها ، والأشياء التي يحصل فيها الربا تنطبق عليها قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم"، ولم يرد في غير هذه الأنواع الستة دليل على التحريم فلا يكون الربا في غيرها، ويدخل فيها كل ما هو من جنسها وما ينطبق عليه وصفها. وأمّا ما عداها فلا يدخل.

أمّا تعليل التحريم في هذه الأشياء فلم يرد في النص فلا يُعلّل لأن العلة علة شرعية لا عقلية فما لم تًفهم العلة من نص فلا تعتبر.

وأمّا قياس العلة فلا يأتي هنا لأنه يشترط في قياس العلة أن يكون الشيء الذي اعتبر علة وصفاً مفهِماً حتى يصح القياس عليه، فإذا لم يكن وصفاً مفهِماً بأن كان اسماً جامداً أو كان وصفاً غير مفهِم فلا يصلح أن يكون علة ولا يقاس عليه غيره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: {لا يقضي القاضي وهو غضبان} اعتبر الغضب علة لمنع القضاء لأن الغضب وصفٌ مفهم للمنع فكان علة، واستنبطت علّيّته مما فيه من معنى فُهم منه أن المنع كان لأجله، وهذا المعنى هو تحيّر العقل فيقاس على الغضب كل ما فيه مما جعل الغضب علة وهو تحيّر العقل، فهنا يصح أن يقاس غير الغضب على الغضب لأن لفظ "الغضب" وصف مفهِم لمنع القضاء بخلاف قوله تعالى: )حُرِّمت عليكم الميتة( فإن الميتة ليست وصفاً مفهِماً للتحريم فلا يقاس عليها فينحصر التحريم بالميتة، وكذلك إذا ورد النص على تحريم الربا في القمح فإنه لا يقاس عليه لأن القمح اسم جامد وليس وصفاً مفهِماً. فلا يقال حرم الربا في القمح لأنه مطعوم إذ هو ليس وصفاً مفهِماً، فلا يعتبر علة للتحريم ولا يقاس عليه غيره. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم : {الطعام بالطعام مثلاً بمثل}، وما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: {قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً مختلفاً فتبايعناه بزيادة فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذه إلاّ كيلاً بكيل}، وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تباع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام ولا الصبرة من الطعام بالكيل من الطعام المسمى} فإن ذلك كله لا يدل على أن علة التحريم الطعام، وإنما يدل على أن الربا يحصل في الطعام فيشمل جنس الطعام كله فهو عام ، فجاء حديث الرسول الذي عين أنواع الطعام فخصصه فيها. بدليل أن هناك أطعمة كثيرة لا يحرم فيها الربا وهي من الطعام، فالباذنجان والقرع والجزر والحلاوة والفلفل والتوم والعناب تعتبر من المطعومات ولا يدخلها الربا بالإجماع مع أنه يصدق عليها لفظ الطعام لأنها من المطعوم ولأن الرسول قال: {لا صلاة بحضرة الطعام}؛ أي: أيّ طعام مُعدّ للأكل. فلو كان الربا في كل مطعوم لدخلها الربا. وعلى ذلك فإن حديث الطعام عام قد خُصص الربا منه فيما ذكره الرسول من أنواع الطعام في قوله: {التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح} الحديث. وكما يخصَّص القرآن بالحديث فكذلك يخصَّص الحديث بالحديث. وعليه فالربا لا يقع في البيع والسلم إلاّ في هذه الأشياء الستة. وكذلك لا يقال: حُرّم الربا في الذهب والفضة لأنه موزون فتُحمل علّة تحريم الربا فيه كونه موزون جنس، ولا يقال: حُرّم الربا في الحنطة والشعير والتمر والملح لأنه مكيل فتُجعل علة تحريم الربا فيها كونها مكيل جنس، لأن الوزن والكيل جاء في الحديث وصفاً لها لا علة، قال عليه الصلاة والسلام: {الذهب بالذهب تبره وعينه وزناً بوزن، والفضة بالفضة تبره وعينه وزناً بوزن، والملح بالملح والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير كيلا بكيل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى}. فالحديث بيّن الحالة التي عليها التحريم وهما الوزن بالذهب والفضة تفاضلاً، والكيل في القمح والشعير والملح والتمر تفاضلاً، فهو بيان ما يجري فيه التبادل لا علة له. وعليه فلا يجري الربا في كل مكيل أو موزون وإنما يجري الربا في هذه الأشياء الستة فقط، وزناً في الذهب والفضة، وكيلاً فيما عداها.

وأمّا القرض فجائز في هذه الأصناف الستة وفي غيرها وفي كل ما يُتملك ويحل إخراجه عن الملك ولا يدخل الربا فيه إلاّ في وجه واحد فقط وهو اشتراط أكثر مما أقرض أو أقل مما أقرض أو أدنى مما أقرض، أي أردأ جنساً.




الصـــــرف



يتبين من تتبع جميع ما تجري عليه عقود البيع من المعاملات المالية الجارية في الأسواق العالمية أن عمليات الشراء والبيع تجري في ستة أنواع: أحدها شراء عملة بنفس العملة كاستبدال أوراق النقد الجديدة من الدينار العراقي بأوراق قديمة، والثاني هو استبدال عملة بعملة أخرى كاستبدال دولارات بجنيهات مصرية، والثالث شراء بضاعة بعملة معينة وشراء هذه العملة بعملة أخرى كشراء طائرات بدولارات واستبدال دولارات بدنانير عراقية في صفقة واحدة، والرابع بيع بضاعة بعملة بجنيهات إسترلينية واستبدال دولارات بالجنيهات الإسترلينية، والخامس بيع سندات معينة بعملة معينة، والسادس بيع أسهم في شركة معينة بعملة معينة. فهذه المعاملات الست تجري فيها عقود البيع في المعاملات المالية.

أمّا شراء السندات والأسهم وبيعها فلا يجوز شرعاً مطلقاً لأن السندات لها فائدة مقررة فيدخل فيها الربا، بل هي نفسها معاملة ربا. وأمّا الأسهم فإنها حصة في شركة باطلة شرعاً غير جائزة، فشراؤها وبيعها فاسد، ولذلك لا يجوز التعامل بالأسهم في الشركات المساهمة كلها، سواء أكانت في شركة عملها حلال كالشركات التجارية والصناعية أم كانت في شركات عملها حرمها كأسهم البنوك. وأمّا شراء البضاعة بعملة والاستبدال بتلك العملة عملة أخرى وبيعها بعملة والاستبدال بتلك العملة عملة أخرى فكل واحدة مها عمليتان: عملية بيع وشراء، وعملية صرف، فتجري عليهما أحكام البيع والصرف، ويجري فيهما حكم تفريق الصفقة، وأمّا بيع عملة بنفس العملة أو بيع عملة بعملة أخرى فهو عملية الصرف، وهي جائزة، لأن الصرف مبادلة مال بمال من الذهب والفضة، إما بجنسه مماثَلة وإما بغير جنسه مماثَلة ومفاضلة، ويجري الصرف في النقد كما يجري في الذهب والفضة، لأنه ينطبق عليه وصف الذهب والفضة باعتباره عملة وليس هو قياساً على الذهب والفضة، وإنما هو نوع من أنواعهما لاستناده إليهما في الاعتبار النقدي، فإذا اشترى ذهباً بفضة عيناً بعين بأن يقول: "بعتك هذا الدينار الذهب بهذه الدراهم الفضة" ويشير إليهما وهما حاضران، أو اشترى ذهباً بفضة بغير عينه بأن يوقِع العقد على موصوف غير مشار إليه، فيقول: "بعتك ديناراً مصرياً بعشرة دراهم حجازية"، فهذا كله جائز لأن النقود تتعين بالتعيين في العقود، فيثبت الملك في أعيانها، فإن بيع الذهب بالفضة جائز سواء في ذلك الدنانير بالدراهم أو بالحلي أو بالنقار، والنقار هو ما يقابل التبر في الذهب والفضة، وكذلك بيع الفضة بالذهب وبحلي الذهب وسبائكه وتبره، غير أن ذلك كله يكون يداً بيد ولا بدّ، وعيناً بعين ولا بدّ، متفاضلين ومتماثلين وزناً بوزن وجزافاً بجزاف ووزناً بجزاف في كل ذلك. هذا إذا كان الصرف بين نقدين متخالفين، أمّا إن كان الصرف في نقد من جنس واحد فلا يصح إلاّ متماثلاً ولا يصح متفاضلاً، فيباع الذهب بالذهب، سواء أكان دنانير أو حلياً أو سبائك أو تبراً وزناً بوزن عيناً بعين يداً بيد، لا يحل التفاضل بذلك أصلاً، وكذلك تباع الفضة بالفضة دراهم أو حلياً أو نقاراً وزناً بوزن عيناً بعين يداً بيد، ولا يجوز التفاضل في ذلك أصلاً، فالصرف في النقد الواحد جائز، ويشترط أن يكون مثلاً بمثل يداً بيد عيناً بعين، والصرف بين نقدين جائز ولا يشترط فيه التفاضل، وإنما يشترط أن يكون يداً بيد وعيناً بعين، ودليل جواز الصرف قوله عليه الصلاة والسلام: {بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد}، وعن عبادة بن الصامت قال: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب والورِق بالورِق والبُر بالبُر والشعير بالشعير والتمر بالتمر إلاّ مثلاً بمثل يداً بيد، وأمَرَنا أن نبيع الذهب بالورِق والورِق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر يداً بيد كيف شئنا}، وعن مالك بن أوس الحدثان أنه قال: "أقبلتُ أقول: من يصطرف الدراهم، فقال طلحة بن عبيد الله وهو عند عمر بن الخطاب: أرنا ذهبك، ثم جئنا إذا جاء خادمنا نعطك ورِقك، فقال عمر بن الخطاب: كلا والله لتعطينه ورِقه أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الورِق بالذهب ربا، إلاّ هاء وهاء، والبُر بالبُر ربا إلاّ هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلاّ هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلاّ هاء وهاء}، فلا يجوز بيع الذهب بالفضة إلاّ يداً بيد، فإذا افترق المتبايعان قبل أن يتقابضا فالصرف فاسد، قال عليه السلام: {الذهب بالورِق ربا إلاّ هاء وهاء}.

ويشترط أن يقبض المتصارفان في المجلس ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما، لأن الصرف بين الأثمان بعضها ببعض والقبض في المجلس شرط لصحته، قال صلى الله عليه وسلم: {الذهب بالورِق ربا إلاّ هاء وهاء}، وقال عليه السلام: {بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد}، ونهى النبي عن بيع الذهب بالورِق ديناً، ونهى عن أن يباع غائب منها بناجز، ولذلك كان لا بد من التقابض في المجلس، فإن تفرقا قبل التقابض بَطُل الصرف لفوات شرطه، وإن قُبض البعض ثم افترقا بَطُل فيما لم يُقبض وفيما يقابله من العِوَض، وصح فيما قُبض وفيما يقابله من العِوَض، لجواز تفريق الصفقة، فلو صارف رجل آخر ديناراً بعشرة دراهم وليس معه إلاّ خمسة دراهم لم يجُز أن يتفرقا قبل قبض العشرة كلها، فإن قُبض الخمسة وافترقا بَطُل الصرف في نصف الدينار وصح فيما يقابل الخمسة المقبوضة، لجواز تفريق الصفقة في البيع، فإذا استقرض من مصارفه أو غيره وأتم به صرفه فجائز، ما لم يكن عن شرط في الصفقة، فإن كان عن شرط في الصفقة لم يجُز.



معاملات الصرف



مهما تعددت وتنوعت معاملات الصرف فإنها لا تخرج عن بيع نقد بنقد من جنس واحد، وبيع نقد بنقد من جنسين مختلفين، وهي إما حاضر بحاضر أو ذمة بذمة، ولا تكون بين حاضر وذمة مطلقاً. وإذا تمت عملية الصرف وأراد أحدهما الرجوع بها لا يصح متى تم العقد والقبض، إلاّ أن يكون هنالك غبن فاحش أو عيب فإنه يجوز، فإذا وجد أحد المتبايعين في ما اشتراه عيباً بأن وجده مغشوشاً كأن يجد في الفضة نحاساً أو يجد الفضة سوداء، فله الخيار بين أن يَرُد أو يقبل إذا كان بصرف يومه؛ أي بنفس السعر الذي صرف به، يعني الرد جائز ما لم ينقص قيمة ما أخذه من النقد عن قيمته يوم اصطرفا، فإن قبله جاز البيع، وإن رده فسخ البيع، فإذا اشترى ذهباً من عيار 24 بذهب من عيار 24 ووجد أحدهما الذهب الذي أخذه بعيار 18 فإنه يعتبر غشاً، وله الخيار بين أن يرد أو يقبل بصرف يومه، ولو أراد من استبدل الذهب بالذهب قبول النقد بعيبه على أن يأخذ منه ما نقص من ثمنه بالنسبة لعيبه لا يجوز لحصول الزيادة في أحد العوضين وفوات المماثلة المشترطة في الجنس الواحد، وإذا كان على رجل دين مؤجل فقال لغريمه: "ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته" لم يجز، لأنه بيع معجل بمؤجل بغير مماثلة، فكأنه باعه دينه بمقدار أقل منه حاضراً، فصار التفاضل موجوداً فكان الربا، وكذلك إذا زاده الذي له الدين فقال له: "أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك" لا يجوز لوجود التفاضل فهو ربا، قال صلى الله عليه وسلم: {والذهب بالذهب والفضة بالفضة يداً بيد عيناً بعين مثلاً بمثل، فما زاد فهو ربا}.

وإذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر في ذمة الأول فضة فاصطرفا بما في ذمتهما بأن قضاه ما في ذمته من الذهب بما له عنده ديناً من الفضة جاز هذا الصرف، لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة، وإذا اشترى رجل بضاعة بذهب وقبض البائع ثمنها فضة جاز، لأنه يجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر، ويكون صرفاً بعين وذمة، وذلك لما رَوى أبو داود والأثرم في سننهما عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء}، وإذا اشترى رجل من رجل ديناراً صحيحاً بدينارين مغشوشين لا يجوز، ولكن لو اشترى ديناراً صحيحاً بدراهم فضة ثم اشترى بالدراهم دينارين مغشوشين جاز، سواء اشتراهما من نفس الذي باعه أو من غيره، لما روى أبو سعيد قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {من أين هذا}؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاعٍ ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: {أوه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتري به}، وروى أيضاً أبو سعيد وأبو هريرة {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال: أكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بِع التمر بالدراهم ثم اشترِ بالدراهم جنيباً}، ولم يأمره أن يبيعه لغير الذي يشتري منه، ولو كان البيع لمن اشترى منه محرَّماً لبيَّنه وعرَّفه إياه. ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط ولا مواطأة فجاز، كما لو باعه من غيره. وبيع الذهب بالفضة ثم شراء الفضة كذلك. أمّا إن تواطأ على ذلك لم يَجُز، وكان حيلة محرَّمة لأن الحيل كلها محرَّمة غير جائزة في شيء من الدين، وهي أن يُظهر عقداً مباحاً يريد به محرَّماً مخادَعةً وتوسلاً إلى فعل ما حرَّمه الله أو إسقاط ما أوجبه، أو دفعِ حق أو نحو ذلك، لأن الوسيلة إلى الحرام محرَّمة، ولأن الرسول قال: {لَيَستحِلَّنَّ قوم من أمتي الخمر يُسمّونها بغير اسمها}.

وعلى هذا فالصرف من المعاملات الجائزة في الإسلام وفق أحكام مخصوصة بيَّنها الشرع، وهو يجري في المعاملات الداخلية كما يجري في المعاملات الخارجية، فكما يُستبدل الذهب بالفضة والفضة بالذهب من نقد البلد، فكذلك يُستبدل النقد الأجنبي بنقد البلد سواء أكان في داخل البلاد أم خارجها، وسواء أكان معاملات مالية نقداً بنقد أم معاملات تجارية يجري فيها صرف النقد بالنقد. ولبيان الصرف في المعاملات الخارجية بين نقود مختلفة لا بد من بحث النقود.



النقــود



النقود هي مقياس المنفعة التي في السلعة والجهد، ولذلك تُعرَّف النقود بأنها الشيء الذي تقاس به كل السلع والجهود. فالثمن للشيء والأجر للشخص مثلاً كلٌ منهما هو تقدير المجتمع لقيمة ذلك الشيء وجهد ذلك الشخص. ولا تعتبر السندات ولا الأسهم ولا ما شاكلها، من النقود.

وهذا التقدير لقِيَم الأشياء والجهود يعبَّر عنه بوحدات في شتى البلدان، فتصبح هذه الوحدات هي المقياس الذي تقاس به منفعة الشيء ومنفعة الجهد. وتكون هذه الوحدات واسطة للمبادلة. وهذه الوحدات هي النقود.

والإسلام حين قرر أحكام البيع والإجارة لم يعيِّن لمبادلة السلع أو لمبادلة الجهود والمنافع شيئاً معيناً تجري المبادلة على أساسه فرضاً، وإنما أطلق للإنسان أن يُجري المبادلة بأي شيء ما دام التراضي موجوداً في هذه المبادلة. فيجوز أن يتزوج امرأة بتعليمها القرآن، ويجوز أن يشتري سلعة بالعمل عند صاحبها يوماً، ويجوز أن يشتغل عند شخص يوماً بمقدار معيّن من التمر. وهكذا أطلق المبادلة لبني الإنسان بما يريدون من الأشياء. إلاّ أن مبادلة السلعة بوحدة معينة من النقد قد أرشد الإسلام إلى هذه الوحدة النقدية، وعيّنها للمسلمين في جنس معين من النقد هو الذهب والفضة، فهو لم يترك للمجتمع أن يعبِّر عن تقديره لمقياس المنفعة للأشياء أو الجهود بوحدات نقدية ثابتة أو متغيرة يتصرف بها كما يشاء، وإنما عَيَّن هذه الوحدات النقدية التي يعبِّر بها المجتمع عن تقدير القيم للأشياء وللجهود تعييناً ثابتاً بوحدات نقدية معينة. ويُفهم هذا التعيين من عدة أمور:

أحدها: أن الإسلام حين نهى عن كنز المال خصّ الذهب والفضة بالنهي مع أن المال هو كل ما يُتموَّل. فالقمح مال، والتمر مال، والنقد مال. والكنز إنّما يظهر في النقد لا في السلع والجهود. والمراد من الآية النهي عن كنز النقد لأنه هو أداة التبادل العامة، ولأن كنزه هو الذي يظهر فيه أثر النهي. أمّا غير النقد فإن جَمْعَه لا يسمى كنزاً وإنما يسمى احتكاراً. ولهذا كانت الآية التي نهت عن كنز الذهب والفضة إنّما نهت عن كنز النقد. وقد عَيَّنت الآية النقد الذي نهى الله عن كنزه وهو الذهب والفضة، قال تعالى: )والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم(، فالنهي منصبّ على أداة التبادل النقدية. وعلى هذا فإن كنز الذهب والفضة عيناً حرام سواء أكان مضروباً أو غير مضروب. وكنز النقود الورقية النائبة حرام لأنها تمثل كمية من الذهب والفضة على شكل نقود أو سبائك مودَعة في مكان معين.

هذا إذا كان المبلغ الذي يمثله الورق يساويه، أمّا إذا كان لا يساويه فإن كنزه حرام بالمبلغ الذي يساويه فقط. وأمّا النقود الورقية الإلزامية فلا يعتبَر كنزها حراماً لأنها أوراق اصطُلح عليها اصطلاحاً فلا يعتبر كنزها كنزاً لذهب وفضة. فنص الآية على تحريم كنز أداة التبادل وتعيين جنسها يدل على أن هذا الجنس هو النقد الذي يتخذه المسلمون، لأنها هي أداة التبادل الشرعية. فتحريم الإسلام كنز الذهب والفضة –حين حرّم كنز النقد- دليل على أن الذهب والفضة هما النقد في الإسلام.

rajaab
19-05-2005, 05:41 PM
ثانيها: رَبَط الإسلام الذهب والفضة بأحكام ثابتة لا تتغير.فحين فرض الدية عيّن لها مقداراً معيناً من الذهب. وحين أوجب القطع في السرقة عيَّن المقدار الذي يُقطع بسرقته من الذهب. قال صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه إلى أهل اليمن: {وإنّ في النفس المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الورق ألف دينار}، وقال: {لا قطع إلاّ في ربع دينار فصاعداً}. فهذا التحديد لأحكام معينة بالدينار والدرهم والمثقال يجعل الدينار بوزنه من الذهب، والدرهم بوزنه من الفضة، وحدة نقدية تقاس بها قِيَم الأشياء والجهود. فتكون هذه الوحدة النقدية هي النقد، وهي أساس النقد. فكون الإسلام ربط الأحكام الشرعية بالذهب والفضة نصاً حين تكون هذه الأحكام متعلقة بالنقد، دليل على أن النقد إنّما هو الذهب والفضة فحسب.

ثالثها: لقد عيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة نقداً، وجعلهما وحدهما المقياس النقدي الذي يرجع إليه مقياس السلع والجهود، وعلى أساسهما كانت تجري جميع المعاملات، وجَعَل المقياس لهذا النقد الأوقية، والدرهم، والدانق، والقيراط، والمثقال، والدينار. وكانت هذه كلها معروفة مشهورة في زمن النبي عليه السلام يتعامل بها الناس، والثابت أنه عليه السلام أقرها. وكانت تقع بالذهب والفضة بوصفهما نقداً جميع البيوع والأنكحة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. وقد حدد الرسول ميزان الذهب والفضة بميزان معين هو ميزان أهل المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم في ميزان الذهب والفضة نقداً {الميزان ميزان أهل المدينة}. ومن مراجعة الموازين النقدية في الإسلام يتبين أن الأوقية الشرعية أربعون درهماً، والدرهم ست دوانق، والدينار أربعة وعشرون قيراطاً، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل. وقد أُقِرَّت موازين المدينة على هذا.

رابعها: أن الله سبحانه حين أوجب زكاة النقد أوجبها في الذهب والفضة، وعيَّن لها نصاباً من الذهب والفضة. فاعتبار زكاة النقد بالذهب والفضة يعيِّن أن النقد هو الذهب والفضة. ولو كان النقد غيرهما لَما وجبت فيه زكاة نقد لأنه لم يأت نص في زكاة النقد إلاّ على الذهب والفضة مما يدل على أنه لا اعتبار لغيرهما من النقود.

خامسها: أن أحكام الصرف التي جاءت في معاملات النقد فقط، إنّما جاءت بالذهب والفضة وحدهما. وجميع المعاملات المالية التي وردت في الإسلام إنّما جاءت نصاً على الذهب والفضة. والصرف هو بيع عملة بعملة، إما بيع عملة بنفس العملة، أو بيع عملة بعملة أخرى. وبعبارة أخرى الصرف مبادلة نقد بنقد، فتعيين الشرع للصرف –وهو معاملة نقدية بحتة ولا تتعلق إلاّ بالنقد- بالذهب والفضة، دليل صريح على أن النقد يجب أن يكون الذهب والفضة لا غير، قال عليه الصلاة والسلام: {بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد}، وقال عليه السلام: {الذهب بالورِق ربا إلاّ هاء وهاء}.

وعلى ذلك تعتبر النقود من الأشياء التي جاء الإسلام بحكمها، وليست هي من الأشياء التي تدخل في الرأي والمشورة، ولا بما تتطلبه الحياة الاقتصادية، أو الحياة المالية، بل هي من حيث كونها وحدة نقدية، ومن حيث جنسها ثابتة بحكم شرعي. والناظر في الأمور الخمسة السابقة يجد أن النقد في الإسلام تعلقت به أحكام شرعية، ورُبطت به أحكام شرعية. فتحريم كنزه، ووجوب الزكاة فيه، وجعْل أحكام الصرف له، وإقرار الرسول للتعامل به، وربط الدية والقطع في السرقة فيه، كل ذلك يجعله أمراً يتوقف الرأي فيه على نص الشرع، فكون الشرع نص على هذا النقد بهذه الأحكام المتعلقة به وحده والمرتبطة به، أنه الذهب والفضة، دليل واضح على أن النقد يجب أن يكون من الذهب والفضة، أو أساسه الذهب والفضة. فكان لا بد من التزام ما عيَّنته الأحكام الشرعية من نوع النقد. فيجب أن يكون النقد في الإسلام هو الذهب والفضة، ولا يجوز أن يكون غيرهما ولا بوجه من الوجوه.

إلاّ أنه ليس معنى تعيين الذهب والفضة وحدهما نقداً أنه لا يجوز التبادل بغيرهما، بل معناه لا يجوز للمسلمين أن يتخذوا نقداً لهم سوى الذهب والفضة، وموضوع النقد هنا ليس موضوع التبادل بل هو موضوع اتخاذ نقد. فإنه مع جواز التبادل بين الناس بكل شيء، إلاّ أن اتخاذ مقياس نقدي للتبادل ولغيره لا يجوز أن يكون إلاّ الذهب والفضة، أي لا يجوز أن يكون النقد في الإسلام إلاّ ذهباً وفضة.

غير أن الرسول جعل جنس الذهب والفضة نقداً، سواء أكان مضروباً أم غير مضروب، ولم يضرب نقداً معيناً على صفة معينة لا تختلف، بل كانت وحدات الذهب والفضة مجموعات من ضرب فارس والروم، صغاراً وكباراً، وقطع فضة غير مضروبة، ولا منقوشة، ويمنية ومغربية يتعامل بها جميعها. ولكن اعتبارها كان بالوزن لا بالعدد ولا بالنقش، أو عدم النقش. فقد تكون الذَهَبة بمقدار البيضة وبحجمها ويُتعامل بها. فالتحديد كان بتعيين الذهب والفضة وبتعيين الوزن لكل منهما. وكانت حقوق الله كالزكاة وحقوق العباد كالديْن وثمن المبيع تتعلق بالدراهم والدنانير، أي بالذهب والفضة المقدرة بالوزن. وظل الحال كذلك طوال أيام النبي صلى الله عليه وسلم وطوال أيام الخلفاء الراشدين الأربعة وصدر أيام بني أمية، حتى جاء عبد الملك بن مروان فرأى صرف جميع ما يتعامل به من الذهب والفضة منقوشاً وغير منقوش إلى ضرب الإسلام ونقشه، وتصييرها وزناً واحداً لا يختلف، وأعياناً يُستغنى فيها عن الموازين فجَمَع أكبرها وأصغرها وضربها على وزن المدينة. فضرب عبد الملك الدراهم من الفضة والدنانير من الذهب، وكان ذلك سنة خمس وسبعين هجرية. ومنذ ذلك التاريخ وُجدت دراهم إسلامية ودنانير إسلامية مضروبة. أي منذ ذلك التاريخ صار نقد الدولة الإسلامية متميزاً على صفة واحدة لا تختلف. وعلى هذا فنظام النقد في الإسلام من حيث أساسه هو الذهب والفضة بالوزن. أمّا حجمه وضربه وشكله ونوع نقشه فكل ذلك من الأسلوب. وعليه تكون كلمة الذهب والفضة، أينما وردت في ألفاظ الشرع وتقديراته تنطبق على أمرين: على النقد الذي يُتعامل به ولو كان نحاساً أو برنزاً أو ورقاً نقدياً إذا كان له مقابل، باعتبار ما يقابله من الذهب والفضة، وعلى معدني الذهب والفضة. فما كان من النقد ذهباً وفضة اعتُبر، وما كان أوراقاً نقدية أو نحاساً أو غير ذلك مما يمكن تحويله إلى قيمته من الذهب أو الفضة اعتُبر إذا كان يستند إلى الذهب والفضة. أمّا إذا كان لا يستند إلى الذهب والفضة كالنقود الورقة الإلزامية فلا يُعتبَر.



نظام الذهب



تسير الدولة على نظام الذهب إذا كانت هذه الدولة تستعمل عملة ذهبية في معاملاتها الداخلية والخارجية، أو إذا كانت تستعمل في الداخل عملة ورقية قابلة للتحويل إلى ذهب، إما للاستعمال في الداخل والدفع إلى الخارج، أو للدفع إلى الخارج فقط. على أن يكون هذا التحويل بسعر ثابت؛ أي أن تكون الوحدة الورقية قابلة للتحويل إلى كمية معينة من الذهب وبالعكس بسعر محدود. وطبيعي في مثل هذه الحالة أن تظل قيمة العملة في البلد مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقيمة الذهب. فإن ارتفعت قيمة الذهب بالنسبة للسلع الأخرى ارتفعت قيمة العملة بالنسبة للسلع الأخرى. وإن انخفضت قيمة الذهب بالنسبة للسلع انخفضت قيمة العملة.

والنقد في الأساس الذهبي يستجمع صفة خاصة وهي أن الوحدة النقدية مرتبطة بالذهب بتعادل معين؛ أي أنها تتألف قانوناً من وزن معين من الذهب. واستيراد الذهب وتصديره يجريان بحرية بحيث يجوز للناس حوْز النقد أو السبائك الذهبية أو التبر وتصديرها بحرية.

وبما أن الذهب يتجول بحرية بين البلاد المختلفة فلكل شخص الخيار بين شراء النقد الأجنبي وبين إرسال الذهب، وإنما يختار الوسيلة الأقل كلفة، فما دام سعر الذهب مضافاً إليه تكاليف إرساله أعلى من سعر النقود الأجنبية في السوق، فإرسال النقد الأجنبي (القطع) أفضل. أما إذا تجاوز سعر الصرف هذا الرقم فالأفضل أخذ الذهب من التداول وإرساله.




فوائد نظام الذهب



إن فوائد نظام الذهب إذا قيست بنظام الورق وغيره من الأنظمة تجعل من المحتم أن يكون نظام الذهب للنقد عالمياً، ولا تجيز هذه الفوائد أن يكون غيره من الأنظمة نظاماً للنقد. وقد سار العالم كله منذ عُرف النقد حتى الحرب العالمية الأولى على نظام الذهب ونظام الفضة ولم يُعرف غيرها نظاماً. ولكن لما افْتَنَّ المستعمرون بأساليب الاستعمار الاقتصادي والاستعمار المالي واتخذوا النقد وسيلة من وسائل الاستعمار حوّلوا النقد لأنظمة أخرى، واعتبروا الودائع المصرفية والنقود الورقية الإلزامية التي لا تستند إلى الذهب أو الفضة من كمية النقود، كما اعتبروا الذهب والفضة من كمية النقود. ومن هنا صار لا بد من بيان فوائد نظام الذهب، ومن أهم هذه الفوائد ما يلي:

1- إن الأساس الذهبي يفترض حرية تداول الذهب واستيراده وتصديره، الأمر الذي يفترض دور استقرار نقدي ومالي واقتصادي، وفي هذه الحال لا تعدو عمليات الصرف أن تكون ناشئة عن مدفوعات خارجية تسدد أثمان البضائع وأجور المستخدَمين.

2- إن نظام الذهب معناه ثبات سعر الصرف بين الدول، وينجم عن ثبات سعر الصرف تقدُّم في التجارة الدولية لأن التجار لا يخشون التوسع في التجارة الخارجية، لأن سعر الصرف ثابت، فلا خوف من توسع تجارتهم.

3- في النظام الذهبي لا يمكن للبنوك المركزية أو للحكومات التوسع في إصدار ورق النقد، إذ طالما أن ورق النقد قابل للتحويل إلى ذهب بسعر محدود فإن السلطات المختصة تخشى إن توسعت في الإصدار أن يزداد الطلب على الذهب وأن تعجز عن مواجهة هذا الطلب، لذا فهي تحتفظ بنسبة معقولة بين ما تصدره من ورق النقد وبين احتياطياتها من الذهب.

4- تتحدد كل عملة من العملات المستعملة في العالم بمقدار معين من الذهب، ويسهل حينئذ انتقال البضائع والأموال والأشخاص من بلد إلى بلد، وتذهب صعوبات القِطَع والعملات النادرة.

5- يُحفظ لكل دولة ثروتها الذهبية، فلا يحصل تهريب الذهب من بلد إلى آخر، ولا تحتاج الدول إلى أي مراقبة للمحافظة على ثروتها لأنها لا تنتقل منها إلاّ بسبب مشروع، إما أثمان سلع أو أجور مستخدَمين.

هذه بعض فوائد نظام الذهب، وهي كلها تحتم أن يسير العالم على نظام الذهب، ولذلك لا عجب أن رأينا العالم كله يسير عليه حتى الحرب العالمية الأولى، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى كان النظام النقدي السائد في العالم يقوم على قاعدة الذهب، وكانت النقود المتداولة -إذ ذاك- عبارة عن قطع ذهبية وأوراق نقدية تقبل التحويل إلى قيمتها من الذهب، وكان معه نظام الفضة أيضاً، وقد كان لتطبيق هذا النظام أطيب الأثر على العلاقات الاقتصادية، ولكن حين أُعلِنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 عمدت الدول المتحاربة إلى اتخاذ إجراءات جعلت نظام الذهب يضطرب، فمنها من أوقف قابلية تحويل عملاتها إلى ذهب، ومنها من فرض القيود الشديدة على تصدير الذهب، ومنها من صار يعرقل استيراده، فاختل النظام النقدي وتقلبت أسعار الصرف، ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم تعرضت الحياة النقدية في العالم إلى عدة عوامل حتى أصبح نظام الذهب ليس نظاماً عالمياً وإنما خاصاً ببعض الدول، ومن هنا بدأت العراقيل وبدأت الصعوبات في انتقال النقود والسلع والأشخاص.



مشاكل نظام الذهب



حين كان نظام الذهب عالمياً لم تكن أي مشكلة لنظام الذهب، وإنما طرأت المشاكل من يوم أن أخذت الدول الكبرى تحاول ضرب أعدائها عن طريق النقد، وحين جعلت مع نظام الذهب نظام النقد الورقي الإلزامي، وحين أوجدت الدول الاستعمارية الغربية صندوق النقد الدولي، ولذلك توجد أمام الدولة التي تستعمل نظام الذهب مشاكل لا بد من معرفتها لمعرفة حلها والتغلب عليها، وهذه المشاكل هي:

1- تركُّز الذهب في الدول التي زادت قوتها على الإنتاج ومقدرتها على المنافسة في التجارة الدولية أو نبوغها في الخبراء والعلماء والصناعيين، وهذا يجعل الذهب يصب فيها إما ثمناً للسلع وإما أجوراً للمستخدَمين من الخبراء والعلماء والصناعيين، فتصبح كمية الذهب الموجودة في العالم مكدسة أكثرها في هذه البلدان، فيختل حينئذ توزيع الذهب بين الدول، وينتج عن هذا أن تخشى الدول من تسرب الكمية التي لديها من الذهب، فتمنع خروجه منها، فتقف حركة تجارتها الخارجية.

2- إن بعض الدول يتسرب إليها الذهب نتيجة لاتجاه الميزان الحسابي في مصلحتها، ولكنها تمنع هذا الذهب الذي دخل إليها من التأثير على السوق الداخلية ومن رفع مستوى الأسعار فيها، وذلك إذ تضع في السوق كمية من السندات تكفي لسحب مبلغ من النقود معادل لمقدار ما ورد إليها من الذهب، فيبقى الذهب عندها ولا يخرج منها فلا يرجع للبلاد التي أصدرته فتتضرر من نظام الذهب.

3- إن انتشار نظام الذهب كان مقروناً بفكرة التخصيص بين الدول في نواحي الإنتاج المختلفة وعدم إقامة العراقيل في سبيل التجارة بينها، إلاّ أنه قد ظهرت في الدول اتجاهات قوية نحو حماية الصناعة والزراعة فيها، وفرضت حواجز جمركية، فصار يتعسر إدخال سلع لهذه الدولة ليخرج الذهب منها، ولذلك تتضرر الدولة التي تسير على نظام الذهب، لأن هذه الدولة إن لم تتمكن من إدخال بضائعها لغيرها بالسعر العادي فإنها إما أن تضطر إلى تخفيض مستوى أسعار بضاعتها تخفيضاً إضافياً لتتغلب على الحواجز الجمركية أو لا تدخل بضاعتها إليها، وفي هذا خسارة عليها.

هذه هي أهم المشاكل التي يتعرض لها نظام الذهب إذا استعملته الدولة الواحدة أو استعملته دول متعددة، وطريق التغلب على هذه المشاكل هو أن تكون السياسة التجارية تقوم على الاكتفاء الذاتي، وأن يكون أجر الأُجَراء مقدراً بمنفعة جهدهم لا بثمن السلع التي ينتجونها ولا بحسب مستوى المعيشة لهم، وأن لا تعتبر السندات المالية ولا الأسهم مالاً مملوكاً للأفراد في بلادها، وأن تقلل الدولة من الاعتماد على التصدير في إنتاج ثروتها، بل تعمل لجعل إنتاج الثروة يأتي داخلياً دون حاجة إلى سلع أو مستخدَمين تذهب إلى الخارج، وبهذا لا تؤثر عليها الحواجز الجمركية، ومتى سارت الدولة على هذه السياسة فإنها تسير على نظام الذهب وتكسب جميع فوائده وتتجنب مشاكله ولا يصيبها منه أي ضرر، بل على العكس يصبح من مصلحتها ومن المحتم عليها اتباع نظام الذهب والفضة ليس غير.

rajaab
19-05-2005, 05:42 PM
نظام الفضة



يقصد بنظام الفضة –أو الأساس الفضي- أن الفضة هي أساس الوحدة النقدية، وأن معدنها يتمتع بحرية الضرب وبقوة إبرائية غير محدودة، وقد كان هذا النظام معروفاً منذ القديم، فكان في الدولة الإسلامية سائراً مع نظام الذهب، كان عند بعض الدول نظام نقدها الأساسي وحده، وظل نظام الفضة معمولاً به في الهند الصينية حتى 1930 حيث استبدلت في تلك السنة القرش الذهبي بقرشها الفضي. ونظام الفضة كنظام الذهب في كل تفاصيله، ولذلك كان من السهل الجمع بين النظام الذهبي والنظام الفضي في الدولة الواحدة، وقد كانت الدولة الإسلامية منذ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم قائمة على سياسة الذهب وسياسة الفضة معاً، ولا بد أن ظل هذه السياسة النقدية قائمة على الأساس الذهبي والأساس الفضي معاً؛ أي يجب أن يكون النقد ذهباً وفضة، سواء أكان هو عينه متداولاً أو كان هنالك نقد ورقي متداول مقابله ذهب وفضة في مكان معين.



النقود المعدنية



يُرجِع الاقتصاديون أنواع النقود المعدنية المختلفة التي يمكن وجودها إلى نوعين رئيسيين هما نظام المعدن الفردي ونظام المعدنين، فالأول هو النظام الذي تكون النقود الرئيسية فيه قاصرة على مصكوكات معدن واحد، وأما الثاني وهو نظام المعدنين فهو الذي تكون المصكوكات الذهبية والفضية على السواء نقوداً رئيسية. ونظام المعدنين هذا يتضمن توفر ثلاث صفات:

الأولى: أن تكون للمصكوكات الذهبية قوة إبراء غير محدودة. والثانية: أن تتوفر حرية الضرب بالنسبة لسبائك المعدنين. والثالثة: أن تكون هناك نسبة قانونية بين قيمتي المصكوكات الذهبية والفضية.

ونظام المعدنين يمتاز بأنه يجعل كمية النقود التي يجري بها التداول عظيمة، إذ تستعمل مصكوكات المعدنين معاً نقوداً رئيسية، وبذلك تحتفظ الأثمان بمستوى مرتفع، وهذا من شأنه أن يشجع على زيادة الإنتاج، وهو كذلك يجعل قيمة النقود أكثر ثباتاً، وبذلك تكون الأثمان أقل عرضة للتغييرات الشديدة التي تؤدي إلى اضطراب الحالة الاقتصادية، وبذلك يظهر أن استعمال معدنين من النقود المعدنية خير من استعمال معدن واحد.



النقود الورقية



النقود الورقية ثلاثة أنواع، هي:

1- نقود ورقية نائبة، وهي أوراق تمثل كمية من الذهب والفضة على شكل نقود أو سبائك مودَعة في مكان معين لها من القيمة المعدنية ما لهذه الأوراق من القيمة الاسمية، وتصرف بها لدى الطلب، وفي هذه الحالة يقوم التداول على النقود المعدنية، وكل ما في الأمر أنه بدلاً من أن تتداول بنفسها تقوم هذه الأوراق مقامها باعتبارها نائبة عنها.

2- نقود ورقية وثيقة، وهي أوراق يتعهد الموقِّع عليها بدفع مبلغ معين من النقود المعدنية لحاملها، وتتوقف قيمتها في التداول على ما يتوفر من الثقة في الموقِّع عليها وعلى قدرته في الوفاء بتعهده، فإذا كان موثوقاً به لدى الجمهور سَهُل استعمالها في التداول كالمصكوكات. والنوع الرئيسي لهذه النقود هي الأوراق المصرفية التي يصدرها مصرف معروف وموثوق به لدى الجمهور. إلاّ أن الأوراق المصرفية هذه –أو بعبارة أخرى النقود الورقية الوثيقة- لا يحتفظ مُصدرها -سواء أكان البنك أو الحكومة- بمقدار من الذهب يساوي قيمتها تماماً كما هي الحال في النقود الورقية النائبة، بل يحتفظ المصدر الذي يصدر النقود الورقية الوثيقة في خزانته في الأوقات العادية باحتياطي معدني ضماناً لهذه الأوراق بنسبة معينة من قيمتها قد تكون ثلاثة الأرباع أو الثلثين أو الثلث أو نسبة مئوية معينة، فلذلك يعتبر المقدار من الأوراق المصرفية الذي يقابله ما يعادل قيمته تماماً من الاحتياطي المعدني نقوداً ورقية نائبة، في حين يعتبر المقدار الباقي الذي لا يقابله احتياطي معدني نقوداً ورقية وثيقة تستمد قوتها في التداول من ثقة الجمهور في الموقِّع عليها، فمثلاً يحتفظ مُصدر الأوراق مصرفاً كان أو حكومة في خزائنه باحتياطي معدني قدره عشرون مليوناً من الدنانير، ويصدر نقوداً ورقية قدرها أربعون مليوناً من الدنانير، فالعشرون مليوناً من الأوراق المصرفية –أي من النقود الورقية- التي لا يقابلها احتياطي معدني هي نقود ورقية وثيقة، والعشرون مليوناً من النقد الورقية التي يقابلها احتياطي معدني مساوٍ لقيمتها هي نقود ورقية نائبة.

وعلى هذا فالدولة التي تضع ذهباً أو فضة يساوي قيمة النقود الورقية التي أصدرتها تماماً تعتبر نقودها نقوداً ورقية نائبة وتعتبر نقوداً كاملة، أمّا الدولة التي تضع معدناً من ذهب أو فضة لا يساوي قيمة النقود الورقية كاملة وإنما يساوي جزءاً من قيمتها فإنه يُنظر، فإن عُرف مقدار الاحتياطي الذي لها من المعدن اعتُبر النقد بمقدار الاحتياطي فقط ولا يُعتبر في ما زاد على ذلك من قيمتها، وإن لم يُعرف مقدار الاحتياطي فلا تعتبر نقداً كاملاً.

3- نقود ورقية غير قابلة للصرف، وتسمى أيضاً نقوداً ورقية إلزامية، ويطلق عليها اسم الأوراق النقدية، وهي أوراق تصدرها الحكومات وتجعلها نقوداً رئيسية، ولكنها لا تصرف بذهب أو فضة ولا يضمنها احتياطي ذهب أو فضة أو أوراق مصرفية (بنكنوت)، ولكن يصدر بشأنها قانون يعفي المصرف الذي أصدرها من التزام صرفها بالذهب أو الفضة، وهذه الأوراق النقدية جميعها نقود أهلية، فلا يتعدى تداولها حدود البلد الذي يخضع للقانون الذي قضى بجعلها عملة رئيسية، وليس لهذه الأوراق النقدية سوى قيمة قانونية، ولكن ليس لها قيمة سلعية، إذ هي تستمد قيمتها من إرادة المشرع الذي فرض تداولها، فلو ألغى التعامل بها أصبحت عديمة الفائدة.

والشرع الإسلامي لا يعتبر الأوراق النقدية أي النقود الإلزامية نقداً شرعياً لأنها لا ينطبق عليها حكم كنز النقود، ولا حكم زكاة النقود، ولا تقوم بها الأحكام الشرعية المرتبطة بنقد الذهب والفضة. أمّا باقي النقود الورقية وهي النقود الورقية النائبة، والنقود الورقية الوثيقة التي لها قيمة من الذهب والفضة تساويها، فإنها تُعتبر شرعاً نقوداً، لأنها ذهب وفضة فهي إما لها قيمة من الذهب والفضة كانت هي المتداولة حقيقة والأوراق المتداولة شكلاً، وإما يمكن أن تحصَّل قيمتها من الذهب والفضة فتُطبق عليها أحكام النقد في الإسلام، والأحكام المرتبطة بها في الشرع.



إصدار النقود



الثمن هو تقدير المجتمع لقيم السلع، والأجر هو تقدير المجتمع لقيم الجهود. والنقود هي الشيء الذي يعبَّر به عن هذا التقدير. وهي الشيء الذي يمكّننا من قياس السلع المختلفة والجهود المختلفة وردّها إلى أساس واحد، فتسهُل عندئذ المقارنة بين أهمية السلع المختلفة، والمقارنة بين الجهود المختلفة بردّها إلى وحدة هي المقياس العام. ويجري دفع الثمن للسلعة، وإعطاء الأجرة للأجير على أساس هذه الوحدة.

وتقدَّر قيمة النقود بمقدار ما فيها من القوة الشرائية، أي بمقدار ما يستطيع الإنسان الحصول بواسطتها على سلع أو جهود. وعلى ذلك فلا بد أن تكون للشيء الذي يعبِّر عن تقدير المجتمع لقيم السلع والجهود قوة شرائية حتى يكون نقداً، أي قوة يستطيع كل إنسان بواسطتها الحصول على السلع والجهود.

والأصل أنه لا بد أن تكون لهذا الشيء قوة ذاتية، أو يستند إلى قوة ذاتية، أي أن يكون هو نفسه ذا قيمة معتبَرة عند الناس حتى يكون نقداً. إلاّ أن الواقع في إصدار النقود عند دول العالم أن منها من جَعلت نقودها قوة ذاتية أو تستند إلى قوة ذاتية, ومنها من جَعلت نقودها نقداً اصطلاحياً، أي تصطلح على شيء أنه نقد، وتَجعل فيه قوة شرائية. وتسير الدول في إصدار النقود إما على نظام الذهب والفضة، وإما على النظام الورقي الإلزامي. أمّا الدول التي تسير على نظام الذهب والفضة فإنها تَتبع أسلوبين في الإصدار: أحدهما الأسلوب المعدني، سواء أكان الأسلوب المعدني الفردي أو أسلوب المعدنين. والثاني الأسلوب الورقي. فالأسلوب المعدني هو أن تُخرج مصكوكات ذهبية أو فضية بأن تضرب قِطعاً من الذهب أو الفضة بقيم مختلفة مبنية على وحدة نقدية تُنسب إليها كل قيمة كل النقود والسلع المختلفة. وتُصك كل قطعة على أساس بنائها على هذه الوحدة، وتوضع هذه القطع نفسها للتداول نقوداً للدولة. والأسلوب الورقي في الدول التي تسير على نظام الذهب والفضة هو أن تستعمل الدولة نقداً ورقياً أي عملة ورقية قابلة للتحويل إلى الذهب والفضة، وتسلك في ذلك طريقين: إحداهما أن تجعل النقود الورقية تمثل كمية من الذهب والفضة على شكل سبائك أو نقود مودَعة في مكان معين، لها من القيمة المعدنية ما لهذه الأوراق من القيمة الاسمية وتُصرف بها لدى الطلب، وهذا ما يسمى بالنقود الورقية النائبة. أمّا الطريقة الثانية فهي أن يُجعل النقد الورقي أوراقاً يتعهد الموقِّع عليها بدفع مبلغ معين من النقود المعدنية لحاملها، ولا تمثل هذه النقود الورقية كمية من الذهب والفضة لها من القيمة المعدنية ما لهذه النقود المصدَرة من القيمة الاسمية، بل يحتفظ المصدِّر الذي يصدرها سواء أكان مصرفاً أو دولة في خزائنه باحتياطي معدني من الذهب والفضة أقل من قيمتها الاسمية، وذلك بأن يحتفظ بثلاثة أرباع القيمة أو الثلثين أو الثلث أو الربع أو نسبة مئوية من قيمتها الاسمية، كأن يُصدر المصرف أو الدولة نقداً ورقياً بمبلغ خمسماية مليون دينار ويحتفظ بخزائنه بمبلغ مائتي مليون دينار فقط من الذهب والفضة، ويسمى هذا النوع من النقد الورقي النقود الورقية الوثيقة. وقد اصطُلح على الاحتياطي المعدني اسم احتياطي الذهب أو غطاء الذهب.

وعلى أية حال فإن الدولة التي تُصدر النقد في جميع هذه الحالات تكون سائرة على نظام الذهب.

ومن هنا يتبين أن الأشياء التي تكون لها قوة ذاتية وهي الذهب والفضة تكون هي بذاتها نقوداً، وتكون أساساً تستند إليها النقود، وكل ما في الأمر أن كل بلد يصطلح على صفة معينة له لا تختلف من شكل معين ووزن معين ونقش معين حتى يكون نقدها الذي يتميز عن نقد سواها أو تصطلح هي على نقود ورقية نائبة تستند إلى الذهب والفضة يُتداول بها في الداخل والخارج أو يُتعامل بها مع الخارج، أو تصطلح على نقود ورقية وثيقة تغطى بنسبة معينة من قيمتها الاسمية بغطاء من الذهب، أي يوضع لها احتياطي بمقدار أقل من قيمتها من الذهب، وتكون هذه الأوراق على صفة معينة ورسم معين حتى تكون نقد البلد الذي أصدرها يتميز عن نقد سواها.

أمّا الدول التي تسير على نظام الورق الإلزامي فإنها تُصدر أوراقاً نقدية غير قابلة للتحويل إلى ذهب أو فضة أو أي معدن نفيس بسعر محدود. فالهيئة التي تُصدر هذه الأوراق النقدية غير ملزَمة بتحويل هذه الأوراق النقدية (أي هذا البنكنوت) إلى ذهب بسعر معين عندما يطلب الأفراد هذا التحويل. وإنما الذهب في مثل هذا البلد أو عند هذه الدولة يعتبر سلعة مثل أي سلعة أخرى يتغير ثمنه بين وقت وآخر حسب ظروف العرض والطلب. ولا يضمن هذه الأوراق النقدية احتياطي معدني، ولا تُصرف بنقود معدنية، ولا يتعدى تداولها حدود البلد الذي يخضع للقانون الذي جعلها عملة رئيسية، وليس لها إلاّ قيمة قانونية، وليس لها قوة ذاتية، ولا تستند إلى قوة ذاتية، وإنما هي وحدة اصطُلح عليها لتكون أداة للتبادل، ويستطيع الإنسان الحصول بها على السلع والجهود. فهذه ليست نقداً لذاتها، وإنما هي نقد لاصطلاح الناس عليها، فإنها تُصدرها سلطة أو سلطة نقدية، وتُلزم الناس على التعامل بها، والحصول على السلع والجهود بواسطتها. وعلى هذا فإن مثل هذا النقد وهو البنكنوت أو الأوراق النقدية ليس نقداً حقيقة وإنما هو من أساسه نقد اصطلاحاً.

هذا من حيث واقع إصدار النقد. أمّا من حيث الحكم الشرعي فيه فهو أن النقد في الإسلام لا يكون إلاّ ذهباً وفضة ليس غير، ولذلك يكون النقد نقداً شرعياً إذا كانت الدولة تسير على نظام الذهب وأصدرت النقد معدناً أي بالأسلوب المعدني، وورقاً أي بالأسلوب الورقي إذا كان من نوع النقود الورقية النائبة أي يمثل كمية من الذهب والفضة لها من القيمة المعدنية ما للنقود الورقية من القيمة الاسمية، وتصرَف بها لدى الطلب. فهذا كله يعتبر نقداً في الإسلام، ويعتبر نقداً شرعياً يحرم كنزه، وتجب فيه الزكاة، وتقدَّر به السرقة والدية وغير ذلك من الأحكام الشرعية بغض النظر عن الدولة التي أصدرته سواء أكانت دولة إسلامية أو دولة كافرة. أمّا النقود الورقية الوثيقة وهي التي لها غطاء من الذهب والفضة أي يحتفظ مُصدِرها بمقدار معيّن هو دون قيمتها الاسمية، فإنه يُنظر فيها، فإن كانت نسبة احتياطي الذهب والفضة الذي يحتفظ به لتغطيتها معروفة فإنه يُعتبر نقداً بمقدار نسبة الاحتياطي ثلثين أو ثلث أو ربع أو غير ذلك. وما زاد على نسبة الاحتياطي من قيمتها الاسمية لا يعتبر نقداً شرعاً. فإن كانت نسبة الاحتياطي النصف فإن الدينار الواحد يعتبر شرعاً نصف دينار نقداً شرعياً، ولا يعتبر ديناراً. فلا تُقدَّر قيمته الشرعية إلاّ بهذا المقدار، وهو ما يوجد مقابله ذهب وفضة. وعلى هذا الاعتبار تجري الأحكام الشرعية المتعلقة بالنقد عليه من حيث الكنز والزكاة والأحكام الأخرى المرتبطة به. أمّا إذا كانت النسبة غير معروفة فلا يعتبر نقداً مطلقاً لجهالة ما يقابله من الذهب والفضة. أمّا النقد الورقي الإلزامي، أي الأوراق النقدية، فلا يعتبر نقداً شرعاً مطلقاً.

وما دام النقد يصدر على الوجه المتقدم فإن كل بلد يستطيع أن يصطلح على شيء يعبِّر به عن تقدير المجتمع للسلع والجهود، إذا كانت في هذا الشيء القوة الشرائية التي يستطيع بها الإنسان الحصول على سلع وجهود من هذا البلد. وعلى هذا الأساس تستطيع كل دولة أن تصدر نقداً على صفة معينة لا تختلف، تعبِّر به عن تقدير المجتمع لقيم السلع والجهود، أي نقداً يستطيع كل إنسان أن يحصل من هذا البلد على السلع والجهود بالمقدار الذي وُضع لهذا النقد. وهي التي تفرض على الدول الأخرى الاعتراف بهذا النقد بمقدار ما يستطيعون به الحصول منها على السلع والجهود.

ولا تحتاج الدولة إلى الاستناد إلى صندوق النقد الدولي، ولا إلى البنك الدولي، ولا إلى بنك مركزي، ولا أي شيء من هذا مطلقاً، وإنما تكفي قوة الوحدة في الحصول على السلع والجهود لأن تجعلها نقداً إما لذاتها كالذهب والفضة وإما لاستنادها إلى الذهب والفضة كالنقود الورقية النائبة فإنها تمثل قيمتها الاسمية من الذهب والفضة، وإما لأن لها احتياطياً بمقدار معين من الذهب والفضة كالنقود الورقية الوثيقة، وإما لقدرتها على أن يستطيع الإنسان الحصول بها على سلع وجهود كالأوراق النقدية أي البنكنوت.

وقد كانت الدول تتعامل بالذهب والفضة، وتصطلح كل دولة على صفة معينة لا تختلف للذهب والفضة يتميز بها نقدا عن نقود غيرها. ثم صارت الدولة الواحدة تُصدر نقوداً ورقية مع النقود الذهبية والفضية المتخَذة لها صفة معينة لا تختلف. ثم اصطلحت الدولة الواحدة على إصدار أوراق نقدية مع بقاء النقود الذهبية والفضية. فكان في العالم نقود معدنية من الذهب والفضة، ونقود ورقية تحوَّل إلى ذهب وفضة أو تغطى بذهب وفضة، وأوراق نقدية لا تستند إلى شيء. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن تتكون النقود من نوعين رئيسيين هما: النقود المعدنية، والنقود الورقية بأنواعها الثلاثة. ويعتبِر بعض الاقتصاديين أن الودائع المصرفية من الأنواع الرئيسية التي تتكون منها النقود، ولكن الواقع هو أنها عبارة عن ديْن يقبَله البنك على نفسه ويتعهد بدفعه للأفراد كلما سحبوا عليه شيكات، فهي في الحقيقة حسابات يفتحها البنك للأفراد وليست نقداً.

rajaab
19-05-2005, 05:43 PM
سعر الصرف



الصرف هو استبدال عملة بعملة، أي استبدال العملة بعضها ببعض. وهو يكون إما استبدال عملة بعملة من جنس واحد، كاستبدال الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وإما استبدال عملة بعملة من جنسين مختلفين كاستبدال الذهب بالفضة والفضة بالذهب. أمّا استبدال عملة بعملة من جنس واحد فيشترط فيه التماثل ولا يجوز فيه التفاضل مطلقاً لأنه ربا وهو حرام، كاستبدال الذهب بالذهب واستبدال الورق النقدي الذي يمكن تحويله إلى قيمته من الذهب بالذهب، ولذلك لا يوجد في هذه الحالة سعر الصرف.

وأمّا استبدال عملة بعملة من جنسين مختلفين كاستبدال الذهب بالفضة واستبدال الجنيه الإنجليزي بالدولار والروبل بالفرنك، فإنه يجوز بشرط التقابض وتكون نسبة أحدهما للآخر هي سعر الصرف، فسعر الصرف هو نسبة الاستبدال بين عملتين مختلفتين.

والذي يحمل الناس على الصرف هو حاجة أحد المصطرفين إلى العملة التي بيد المصطرف الآخر. أمّا الصرف بين الناس في العملة المتداولة في الدولة الواحدة كصرف الذهب بالفضة والفضة بالذهب فإنه واضح ويكون بين الذهب والفضة، لأن الدولة تسير على النظام الذهبي والنظام الفضي ويكون بين العملتين سعر الصرف، وهو يقرر حسب سعر السوق، ولا ضرر من تغير سعر الصرف بين العملة الواحدة التي ستعملها الدولة من جنسين مختلفين لأنه كتغير سعر السلع.

أمّا الصرف بين عملتين مختلفتين لدولتين أو أكثر، فهذا هو الذي توجد منه المشاكل، لذلك كان لا بد من بحثه باعتباره واقعاً وبيان الحكم الشرعي فيه وفي سعر الصرف من حيث هو.

أمّا باعتباره واقعاً فإن الدول تتبع أنظمة مختلفة ويختلف وضع الدول التي تتبع نظام الذهب عن وضع الدول التي تتبع النظام الورقي الإلزامي، فحين تتبع عدة دول نظام الذهب فإن سعر الصرف بينها أو نسبة الاستبدال بين عملاتها لا بد أن تظل ثابتة تقريباً، فإن كانت تسير على الأسلوب المعدني فالأمر ظاهر، لأنك في الواقع لا تستبدل عملتين مختلفتين قد تتغير قيمة كل واحدة منهما بالنسبة للأخرى تبعاً لظروف العرض والطلب الخاصة بكل منهما، وإنما أنت تستبدل ذهباً بذهب، وكل ما في الأمر أن الذهب قد طُبع عليه في إحدى الدول شعار أو صورة مختلفة عن الشعار أو الصورة التي طُبعت عليه في الدولة الأخرى، وسعر الصرف بين الدولتين يكون عندئذ النسبة بين وزن الذهب الصافي في عملة الدولة الأولى ووزن الذهب الصافي في عملة الدولة الثانية، وسعر الصرف بين الدول التي تتبع نظام الذهب لا يمكن أن يتغير إلاّ داخل حدين معينين يتوقفان على نفقات نقل الذهب بينهما، ويطلق عليهما اصطلاح "حَدًّي الذهب"، وحيث أن هذه النفقات تكون في الغالب صغيرة فيمكننا بشيء من التجاوز أن نقول إن سعر الصرف بين البلاد التي تتبع نظام الذهب سعر ثابت تقريباً، وإن كانت البلاد تسير على أسلوب النقود الورقية النائبة فإنها تكون في موضوع سعر الصرف كما هي الحال في الأسلوب المعدني سواء بسواء، لأنه في هذه الحالة يقوم التداول في الواقع على النقود المعدنية، وكل ما في الأمر أنه بدلاً من أن تتداول بنفسها تقوم هذه النقود الورقية مقامها باعتبارها نائبة عنها، ولذلك تأخذ وضعها تماماً في سعر الصرف، بل تأخذ حكمها في كل شيء. وأما إن كانت البلاد تسير على أسلوب النقود الورقية الوثيقة –أي البنكنوت- فإنها وإن كانت سائرة على النظام الذهبي إلاّ أن الذهب يغطي جزءاً من قيمتها وليس هو قيمتها كلها، ولذلك تختلف قيمتها بحسب احتياطي الذهب الذي لها، ويتكون بينهما سعر الصرف، إلاّ أن سعر الصرف هذا يظل ثابتاً وتسهل معرفته لأنه يتوقف على نسبة احتياطي الذهب، وهي كميات معروفة واضحة.

وأمّا إذا اتبعت عدة دول النظام الورقي الإلزامي فإنه ينشأ عندئذ موضوع تحديد سعر الصرف بينها، فإنه عند امتناع تحويل العملة إلى ذهب بسعر محدود فإن المشكلة التي تواجه الدول حينئذ هي كيف يتحدد سعر الصرف بين هذه الدول التي تتبع النظام الورقي الإلزامي؟

وحل هذه المشكلة هو أن العملات الورقية المختلفة هي سلع مختلفة يتداول الناس فيها في السوق النقدي العالمي، ويشترونها لا لذاتها وإنما لقدرتها على شراء سلع أخرى في مواطنها الأصلية، لذلك فإن نسبة الاستبدال بين عملتين ورقيتين –أو سعر الصرف بينهما- تتحدد تبعاً للقوة الشرائية لكل منهما في موطنها الخاص، وعلى هذا فسعر الصرف هو نسبة الاستبدال بل عملتين، فلو كانت مصر وإيطاليا تتبعان النظام الورقي وكانت الليرة الإيطالية تشتري في إيطاليا عشر وحدات من السلع وكان الجنيه المصري يشتري في مصر مائة وحدة من السلع لكانت نسبة الاستبدال بينهما هي جنيه مصري واحد لكل عشر ليرات إيطالية، إلاّ أن سعر الصرف هذا يمكن أن يتغير، لأن العملات الورقية هي عبارة عن سلع مختلفة يتبادل الناس بها في السوق النقدي العالمي، ويشترونها لا لذاتها وإنما لقدرتها على شراء سلع وجهود من البلدان التي أصدرتها، فترتفع قيمتها بانخفاض أسعار السلع في مواطنها الأصلية، وتنخفض بارتفاع أسعار تلك السل.، فمنفعة العملة الأجنبية عندنا تتوقف على قوتها الشرائية، فإن زادت هذه القوة زادت منفعتها لدينا وازداد استعدادنا لدفع كمية أكبر من عملتنا للحصول على كمية تقابلها من العملة الأجنبية، وإن قلَّت هذه القوة قلَّت منفعة تلك العملة لدينا وقلَّ استعدادنا لدفع كمية كبيرة من عملتنا للحصول على كمية من العملة الأجنبية، لأن تلك العملة الأجنبية صارت لا تستطيع أن تشتري سلعاً في مواطنها الأصلية بالقدر الذي كانت تشتريه، في حين أن عملتنا لا تزال محافظة على قيمتها. فلو فرضنا أن مستوى الأسعار بين مصر وإنجلترا في سنة معينة كان مائة في البلدين، وكان سعر الصرف بينهما هو جنيه مصري لكل جنيه إنجليزي فإن سعر الصرف يكون متعادلاً، ويكون القصد من الصرف هو الحصول على سد الحاجة من البضائع الإنجليزية، ولذلك لا يحصل إقبال ولا إعراض على الجنيه الإنجليزي في بلادنا، ولكن لو ارتفع مستوى الأسعار عندنا إلى مائتين وبقي مستوى الأسعار في إنجلترا مائة فإن الجنيه الإنجليزي في بلادنا تتضاعف قيمته فيصبح سعر الصرف هو جنيه مصري لنصف جنيه إنجليزي، فيحصل الإقبال على الجنيه الإنجليزي لانخفاض الأسعار في إنجلترا، ويقل الإقبال على الجنيه المصري لارتفاع الأسعار في مصر، ويترتب على ذلك أن طلب الإنجليز للجنيهات المصرية سيقل، وبالتالي سيقل إقبالهم على السلع المصرية وسيفضلون عليها حتماً سلعهم الحالية، لأن أسعار السلع المصرية قد ارتفعت إلى الضعف بينما أسعار السلع المنتَجة عندهم قد ظلت كما هي، وهكذا يتغير سعر الصرف تبعاً لتغير أسعار السلع في البلد التي أصدرت العملة، ولو ارتفع مستوى الأسعار في بلد ما عنه في بلد آخر بسبب زيادة النقود مثلاً فإن سعر الصرف لا بد أن يتغير بينهما فتنخفض القيمة الخارجية لعملة الدولة التي ارتفعت الأسعار فيها.

إن أسعار الصرف بين عملة دولة ما والعملات الأجنبية تتمشى مع العلاقة بين أسعار الصرف للعملات الأجنبية فيما بينها، بمعنى أنه لو كان الدينار العراقي يعادل 100 ريال إيراني أو 200 ليرة إيطالية أو 400 فرنك فرنسي فإن أسعار الصرف بين العملات الأجنبية هذه تكون في إيران هي ريال واحد إيراني= ليرتين إيطالية أو أربعة فرنكات فرنسية، وفي إيطاليا ليرة إيطالية واحدة= فرنكين فرنسي أو نصف ريال إيراني، وهكذا. وهذا هو ما يحدث فعلاً لو كانت كل دولة تترك القيمة الخارجية لعملتها تتغير تبعاً لتغير مستوى الأسعار فيها، ولا تفرِض القيود الثقيلة على حركة التجارة الدولية، وعلى تحويل النقد الأجنبي إلى نقد محلي أو النقد المحلي إلى نقد أجنبي. ولكن قد تحاول دولة المحاولة على القيمة الخارجية لعملتها رغم ارتفاع الأسعار فيها، وذلك بواسطة تحديد طلب المستوردين فيها على السلع الأجنبية عن طريق التقليل من رخص الاستيراد مثلاً، وفي مثل هذه الحالة قد يختل التناسب بين أسعار الصرف المختلفة في البلاد المختلفة، فهذا الاختلاف في التناسب بين أسعار الصرف لا يمكن أن يحدث إلاّ إذا فرضت بعض الدول قيوداً على عمليات النقد الأجنبي فيها، وذلك لأنه إن لم توجد هذه القيود فإن التاجر قد يتمكن من استبدال العملة فيربح، ويتهافت الناس على ذلك، فتنتج إعادة التناسب مرة أخرى بين أسعار الصرف المختلفة. وهذه القيود على المعاملات الصرفية ظاهرة شائعة في كثير من البلاد في سِنِي الحرب وفي حالات الاختلال الاقتصادي الشديد الذي قد يُلِم بها، وإننا لنجد في مثل هذه الأوقات أن قيمة عملة الدولة التي تقيد معاملاتها النقدية بهذه القيود تختلف من بلد إلى آخر تبعاً للأنظمة النقدية المتبعة في كل بلد، ففي البلد الذي فيه نظام سعر الصرف الموحد يظل سعر الصرف الرسمي بين عملته وعملة الدولة المذكورة ثابتاً، إذ يشتريها البنك المركزي والبنوك المرخص لها بمزاولة عمليات النقد الأجنبي بسعر ثابت ويبيعها بسعر ثابت.

أمّا في البلاد التي تتبع نظام سعر الصرف الموحد والتي لا يتعهد فيها البنك المركزي بشراء أو بيع العملات الأجنبية بسعر معين فإن أسعار هذه العملات الأجنبية تتغير بين وقت وآخر تبعاً لظروف العرض والطلب. ويوصف نظام الصرف في البلاد التي تسمح بتغيرات أسعار العملات الأجنبية فيها تبعاً لظروف العرض والطلب بأنه نظام أسعار الصرف المتغيرة، ويلاحَظ أن أسعار الصرف فيه قد لا تنشأ فقط عن تغيرات مستويات الأسعار بينه وبين البلاد الأخرى، وإنما قد تنشأ أيضاً بسبب تحديد حركة التجارة الدولية أو اختلال الموازين الحسابية للدول المختلفة لأي سبب. وفي بعض البلاد يكون نظام أسعار الصرف المتغيرة مسموحاً به قانوناً كلبنان، فإنه بلد تسمح فيه الحكومة بتغير أسعار الصرف تبعاً للتغيرات اليومية الطارئة على ظروف العرض والطلب. وفي بعض البلدان الأخرى يكون نظام أسعار الصرف المتغيرة ممنوعاً، ولكنه مع ذلك قد توجد فيه معاملات بين الأفراد ترمي إلى بيع أو شراء عملات أو حسابات أجنبية بأسعار تختلف كل الاختلاف عن الأسعار الرسمية.

هذا هو الصرف وسعر الصرف لدى الدول القائمة في العالم، وبعبارة أخرى هذا هو واقع الصرف وواقع سعر الصرف في بلدان العالم.

أمّا الحكم الشرعي بالنسبة للصرف وسعر الصرف فإن الدولة الإسلامية تسير على نظام الذهب، سواء أجعلته نظاماً معدنياً أو جعلته نقوداً ورقية نائبة لها مقابل من الذهب والفضة مساوٍ لقيمتها الاسمية تماماً، وسواء جعلت للنقد المعدني صفة معينة لا تختلف أم لم تجعل، فإنها ملزَمة بالسير عليه لأنه حكم شرعي، وتترتب عليه عدة أحكام شرعية، والصرف في داخلها بين الجنس الواحد يجب فيه التماثل ولا يجوز فيه التفاضل، وكذلك الصرف في خارجها بين الجنس الواحد لا يختلف مطلقاً، فالحكم الشرعي واحد لا يتغير، وأمّا الصرف بين جنسين مختلفين فإنه يجوز فيه التفاضل والتماثل -كالصرف بين الذهب والفضة- على شرط التقابض يداً بيد بالذهب والفضة، ولا فرق في ذلك بين الصرف في الداخل وفي الخارج، لأن الحكم الشرعي واحد لا يتغير، فكما جاز التفاضل في الصرف بين الذهب والفضة في الداخل يداً بيد فكذلك يجوز التفاضل بينهما في الخارج يداً بيد. وكذلك الحال في الصرف بين عملة الدولة الإسلامية وعملات الدول الأخرى من النقود المعدنية والنقود الورقية النائبة أي التي لها مقابل من الذهب والفضة مساو تماماً لقيمتها الاسمية، فإنه يجوز فيها التفاضل عند اختلاف الجنس، ولكن على شرط أن يكون يداً بيد في الذهب والفضة، ولكن لا يجوز فيه التفاضل عند اتحاد الجنس، بل يجب التماثل لأن التفاضل ربا وهو حرام شرعاً.

أمّا النقود الورقية الوثيقة، وهي التي يغطى قسم من قيمتها؛ أي التي يكون لها احتياطي أقل من قيمتها الاسمية، فإنها تعتبر قيمتها النقدية بمقدار ما لها من احتياطي، وتُصرف بعملتنا الإسلامية على هذا الاعتبار، وتأخذ حينئذ بهذا الاعتبار وبهذا المقدار، حكم الصرف بين الذهب والفضة في النقد المعدني مع اعتبار قيمة الاحتياطي فقط عند حساب الصرف.

أمّا الأوراق النقدية، -أي البنكنوت-، وهي النقود الورقية الإلزامية التي ليس لها أي شيء من قيمتها الاسمية، فإنها لا تعتبر نقداً مطلقاً ولا تدخل تحت أحكام الصرف، ولذلك لا يُبحث فيها سعر الصرف من ناحية إسلامية، وإنما هي سلعة كباقي السلع تشترى وتباع كأي سلعة بأي ثمن حسب سعر السوق، ولا يُنظر فيها أي تفاضل أو تماثل بل يُنظر فيها سعرها في السوق ولا يوضع لها أي نظام. وما دامت اعتبرت سلعة لا نقداً واعتبرت من باب البيع والشراء للسلع لا من باب البيع والشراء للنقود؛ أي لم تعتبر من باب الصرف، فإنه تطبق عليها أحكام البيع والشراء التي تطبق على السلع، ولذلك لا يجوز أن تُسعر فلا يوضع لها سعر معين ولا يلزم الناس بسعر موحد لها، وعلى ذلك تكون سائرة على نظام أسعار الصرف المتغيرة المسموح به عند بعض الدول، ولكن لا من حيث كونها سعر الصرف بل من حيث كونها سلعة من السلع.

وعلى هذا فالصرف بين عملة الدولة الإسلامية وبين عملات الدول الأخرى جائز كالصرف بين عملتها سواء بسواء. وجائز أن يتفاضل الصرف بينهما لأنهما من جنسين مختلفين، على شرط أن يكون يداً بيد بالنسبة للذهب والفضة.

ونسبة الاستبدال بين الذهب والفضة، أو سعر الصرف بينهما ليس ثابتاً تماماً وإنما يتغير بحسب سعر السوق للذهب والفضة. ولا فرق في ذلك بين الصرف في الداخل وبينه في الخارج. وكذلك الحال بين عملة الدولة الإسلامية وعملات الدول الأخرى، فإنه جائز أن يتغير سعر الصرف بينهما. إلاّ أن سعر الصرف بين عملة الدولة الإسلامية وعملات الدول الأخرى لا يؤثر على الدولة الإسلامية لسببين اثنين:

أحدهما: أن البلاد الإسلامية متوفرة لديها جميع المواد الخام التي تلزم للأمّة وللدولة، فلا تحتاج إلى سلع غيرها احتياجاً أساسياً، أو احتياج ضرورة. ولهذا تستطيع أن تستغني بسلعها المحلية فلا يؤثر عليها التغير.

ثانيهما: أن البلاد الإسلامية تملك سلعاً كالبترول مثلاً تحتاجها جميع الدول في العالم، وتستطيع أن تمنع بيعها للناس إلاّ إذا دفعوا لها ثمنها ذهباً. والدولة التي تستغني عن غيرها بسلعها المحلية، والتي تملك سلعاً يحتاجها جميع الناس لا يمكن أن يؤثر عليها تغيير سعر الصرف مطلقاً، فهي التي تستطيع أن تتحكم في الأسواق العالمية النقدية، ولا يستطيع أحد أن يتحكم بعملتها.

rajaab
19-05-2005, 05:46 PM
التجارة الخارجية



بعد أن انتقل تعامل البيع والشراء من مبادلة المقايضة إلى المبادلة بتوسيط النقود، ازداد النشاط التجاري بين الأفراد، وازداد تقسيم العمل بين الأفراد في البلد الواحد، وازداد تقسيمه بين الشعوب والأمم في البلدان المختلفة. وهكذا انتهى العهد الذي كان يعيش فيه الفرد لنفسه، وانتهت الأجيال التي كانت تعيش فيها كل أمّة أو كل شعب بمعزل عن غيرها من الشعوب والأمم، وأصبحت التجارة الداخلية والخارجية من مقتضيات الحياة في العالم.

والفرق بين التجارة الداخلية والتجارة الخارجية أن التجارة الداخلية هي عمليات البيع والشراء بين أفراد الأمّة الواحدة، وهذه تنطبق عليها أحكام البيع التي ذكرها الفقهاء، ولا تحتاج إلى أية مباشرة من الدولة حتى ولا إشراف مباشر، وإنما تحتاج إلى إشراف عام في إلزام الناس بأحكام الإسلام في البيع والشراء ومعاقبة المخالفين لها كأي عملية من عمليات المعاملات كالإجارة والزواج وغير ذلك. أمّا التجارة الخارجية فهي عمليات البيع والشراء التي تجري بين الشعوب والأمم لا بين أفراد من دولة واحدة، سواء أكانت بين دولتين أو كانت بين فردين كل منهما من دولة غير الأخرى يشتري بضاعة لينقلها إلى بلاده، فهي كلها تدخل تحت سيطرة علاقة دولة بدولة، ولذلك تباشر الدولة منع إخراج بعض البضائع وإباحة بعضها، وتباشر موضوع التجار الحربيين والمعاهدين، فهي تباشر التجارة مطلقاً وتباشر موضوع التجار من غير رعاياها، أمّا رعاياها فيكفي الإشراف عليهم في التجارة الخارجية كالتجارة الداخلية، إذ هم من العلاقة الداخلية.

والتجارة الخارجية كانت تتنقل بين الدول بواسطة الأفراد من التجار، فيذهب الرجل إلى بلاد أخرى ليحضر تجارة فيقوم بشراء بضاعة ينقلها إلى بلاده، أو يأخذ هو بضاعة إلى بلاد أخرى لبيعها حتى يحضر ثمنها لبلاده أو يشتري بها بضاعة يحضرها لبلاده، وفي كلتا الحالتين –بل في جميع الحالات- تقوم الدولة بتنظيم هذه التجارة والإشراف عليها مباشرة، ومن أجل ذلك وضعت مراكز لها على حدود البلاد، وهذه المراكز هي التي يسميها الفقهاء مسالح، إذ ينبغي للخليفة أن تكون له مسالح على المواضع التي تنفذ إلى بلاد الكفار من الطرق، فيفتشون من مرّ بهم من التجار، فهذه المسالح على الحدود هي التي تشرف مباشرة على التجارة التي تدخل البلاد أو التي تخرج منها؛ أي من أجل الإشراف مباشرة على التجار، سواء أكانوا بائعين أو مشترين، فهي تقوم بتنظيم هذه التجارة وتنفذ هذا التنظيم بواسطة هذه المراكز التي على الحدود؛ أي تقوم على تنظيم تنقّل الأشخاص والأموال الداخلة إليها أو الخارجة منها عبر حدودها، وتشرف مباشرة على ذلك.

ولماّ كان الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، كانت الأحكام الشرعية المتعلقة بالتجارة الخارجية إنّما نزلت في حق أفراد الإنسان، وكان الحكم المتعلق بالمال إنّما يتعلق بالمال من ناحية كونه مملوكاً لفرد معين، ومن هنا كانت أحكام التجارة باعتبار التجار لا باعتبار نوع المال، ولهذا كانت الأحكام المتعلقة بالتجارة الخارجية إنّما هي الأحكام المتعلقة بالأفراد من حيث نظر الشرع لهم ولأموالهم؛ أي من حيث حكم الله في حقهم ومن حيث حكم الله في أموالهم المملوكة لهم.

وعلى هذا فإن أحكام التجارة الخارجية ليست متعلقة بالتجارة ولا بالمنشأ الذي أنتجها، وإنما هي متعلقة بالتاجر، لأن أحكام المال تابعة لمالك المال تأخذ حكمه، فما يصدق من حكمٍ على المالك يصدق على ماله المملوك له، وهذا بخلاف النظام الرأسمالي، فإن حكم التجارة الخارجية إنّما هو للمال لا لصاحبه، فينظر إليه من حيث منشأ المال لا من حيث التاجر.

وهذا هو الفرق بين نظرة الإسلام ونظرة النظام الرأسمالي، إذ النظام الرأسمالي ينظر للمال وللمنشأ الذي أنتجه، فيعطيه حكم المنشأ، أمّا الإسلام فينظر لمالك المال –أي للتاجر- بغض النظر عن منشأ المال الذي أنتجه. فالرأسمالية تعتبر المال والإسلام يعتبر الشخص. نعم، إن لنوع المال الذي يتاجر به أثراً في إباحة التجارة أو منعها، ولكن هذا متعلق بوصف المال من حيث كونه مضراً أو نافعاً، وليس هو من حيث منشؤه، فالحكم إنّما هو بالنسبة للشخص المالك للتجارة –أي بالنسبة للتاجر- لا للتجارة، والتجار الذين يدخلون أراضي الدولة الإسلامية أو يخرجون منها ثلاثة أصناف: فهم إما أشخاص من رعايا الدولة -سواء أكانوا مسلمين أو ذميين-، وإما أشخاص معاهدون، وإما أشخاص حربيون.

أمّا الذين هم من رعايا الدولة الإسلامية فإنه لا يجوز لهم أن يَحملوا إلى دار الحرب ما يستعين به أهل الحرب على الحرب من الأسلحة والخيل وكل ما يستعان به في الحرب؛ أي يحرم عليهم أن يُخرجوا من البلاد جميع المواد الاستراتيجية التي تستعمل في الحرب فعلاً، لأن فيه إمداد الأعداء وإعانتهم على حرب المسلمين، ويعتبر ذلك تعاوناً على الإثم لأنه تعاون مع الحربيين على المسلمين، قال الله تعالى: )ولا تعاونوا على الإثم(، فلا يمكَّن أحد من حمل هذه المواد وإخراجها من بلاد الإسلام، سواء أكان مسلماً أو ذميا. هذا إذا كان إخراجها إعانة لأهل الحرب على الحرب ضد المسلمين، أمّا إذا لم يكن إخراجها إعانة لهم ضد المسلمين فإنه حينئذ يجوز، وأمّا حمل ما عدا ذلك من أنواع التجارة كالثياب والمتاع ونحو ذلك إليهم فإنه يجوز، لأن الرسول أمر تمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه، ولانعدام معنى الإمداد والإعانة للحربي، ولأن تجار المسلمين كانوا يدخلون دار الحرب للتجارة في أيام الصحابة وعلى مرأى ومسمع منهم من غير ظهور الرد والإنكار عليهم، مع أنه مما لا يَسكت عن مثله الصحابة لو كان غير جائز، فسكوتهم عن ذلك مع علمهم به يعتبر إجماعاً سكوتياً، فيجوز للتجار المسلمين والذميين أن يُخرجوا الطعام والمتاع خارج البلاد للتجارة، إلاّ أن تكون مما تحتاج إليه الرعية لقلّته فيُمنع.

هذا بالنسبة لإخراج التجارة من البلاد. أمّا بالنسبة لإدخال التجارة إلى البلاد فإن قوله تعالى: )أحل الله البيع( عام يشمل التجارة الداخلية والتجارة الخارجية، ولم يرِد نص يمنع المسلم أو الذمي من إدخال المال للبلاد، بل يبقى نص الحِل على عمومه، وعليه يجوز للمسلم أن يدخل التجارة للبلاد مهما كان نوعها، ولا يمنع من إدخال كل مال يجوز للمسلم أن يملكه وكل بضاعة يجوز للفرد أن يملكها دون أي حاجز.

أمّا المعاهِدون فإنهم يعاملون في التجارة الخارجية بحسب نصوص المعاهدة المعقودة معهم، سواء أكان ذلك في البضاعة التي يخرجونها من بلادنا أو البضاعة التي يدخلونها لبلادنا، إلاّ أنهم لا يمكَّنون من أن يشتروا من بلادنا السلاح وكل ما يستعان به على الحرب، ولو اشتروا ذلك لا يمكَّنون من إخراجه من بلادنا لأن ذلك إعانة لهم، وهم وإن كانوا معاهدين فإنهم لم يخرجوا عن كونهم يمكن أن يكونوا محاربين، إلاّ أن يكون ذلك مما لا يعتبر إعانة لهم كأن كانت مصلحة المسلمين في تسليحهم بسلاح معين لا يؤثر ولا يصل إلى درجة الإعانة، لأن منع بيع السلاح وما شاكله بما يستعان به في الحرب هو لعلة عدم إمداد العدو وإعانته، فإذا عدمت العلة عدم الحكم.

أمّا الحربيون فهم كل من ليس بيننا وبينهم معاهدات وليسوا من رعايا الدولة الإسلامية، سواء أكانت حالة الحرب بيننا وبينهم قائمة أم لم تكن، فهم يعتبرون بالنسبة للمسلمين حربيين، إلاّ أنه إن كانت حالة الحرب بيننا وبينهم قائمة بالفعل فيعتبرون كاعتبار من نشتبك معهم في معركة، نأخذ أسراهم ونقتل من نظفر به إن لم يكن أعطي أماناً، ونستحل أموالهم. وإن لم تكن حالة الحرب قائمة بالفعل فإنه لا يحل منهم شيء، إلاّ من دخل بلادنا بغير أمان، سواء دخل هو أو ماله، فيعتبر هو اعتبار الحربي، ويعتبر ماله أنه مال حربي. وعلى هذا الأساس يعامل التجار الحربيون سواء أكان التاجر بائعاً أو مشترياً، فكلهم يعتبرون تجاراً والحكم الشرعي في ذلك يتلخص فيما يلي:

لا يجوز لحربي أن يدخل دار الإسلام إلاّ بأمان، أي بإذن خاص بالدخول. وإعطاؤه الأمان هو إذن له بالدخول، فإن دخل بغير أمان يُنظر، فإن دخل وكان معه متاع يبيعه في دار الإسلام، وقد جرى التعامل معهم أن يدخلوا إلينا تجاراً بغير أمان، لم يُعرض لهم وإنما يؤخذ على أموالهم ما يؤخذ على الأموال الخارجية، وهو أن نأخذ منهم ما يأخذون من تجارنا، أي المعاملة بالمثل. ويُسمح لمن دخل، بالبيع والشراء طبقاً للتعامل، مثل حالة الأشخاص القريبين من حدود البلاد، فإن التعامل معهم يجري أن يدخلوا دون إذن، أي دون أمان. أمّا إن لم يجرِ التعامل معهم على دخولهم تجاراً، أو جرى التعامل ولكن الشخص الذي دخل قد دخل بغير تجارة، عومل معاملة الحربي غير التاجر، فلا يُحفظ دمه ولا ماله في البلاد. ولو قال جئت مستأمناً لا يُقبل منه، وذلك لأن إعطاء الأمان للحربي شرط في استحقاقه حفظ دمه وماله في بلادنا، فإن لم يُعطَ الأمان لا يُحفظ. ويقوم مقام إعطاء الأمان التعامل التجاري في شأن التجار فحسب، إذا كانوا يحملون تجارة. وإعطاء الحربي الأمان لنفسه يعتبر إعطاء للأمان لماله. فإن نوى الحربي الإقامة في البلاد وأقام ثم أراد الرجوع إلى دار الحرب وأودَع ماله مسلماً أو ذمّيّاً أو أقرضهما إيّاه فإنه يُنظر، فإن عاد إلى دار الحرب لغرض من الأغراض، أو عاد تاجراً أو رسولاً أو متنزهاً أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الإسلام، فإنه يبقى أمانه على ماله ونفسه، لأن خروجه لدار الحرب مع بقاء نيته الإقامة في دار الإسلام أشبه الذمّيّ إذا دخل دار الحرب، فيَأخذ حكم الذمّيّ، ولا يُبطِل الأمان خروجه لدار الحرب ما دامت نيته العودة إلى دار الإسلام. أمّا إن عاد إلى دار الحرب مستوطناً بَطُل الأمان في نفسه مطلقاً. فلو أراد الدخول مرة ثانية يحتاج إلى أمان جديد. أمّا الأمان بالنسبة لماله فيُنظر فيه، فإن كان ماله هذا قد أبقاه في دار الإسلام بأن أودعه مسلماً أو ذمّيّاً، فإن الأمان يبقى لهذا المال، لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان، ثبت الأمان له ولماله الذي معه، فإذا بقي ماله في دار الإسلام ورجع هو وحده لدار الحرب بَطُل الأمان في نفسه وحدها بدخوله في دار الحرب، وبقي الأمان في ماله الباقي في دار الإسلام، لاختصاص المبطَل في نفسه فيُخَص البطلان به. فإن مات، انتقل هذا المال لوارثه، لأن الأمان حق لازم يتعلق بالمال، فإذا انتقل المال إلى الوارث انتقل حق الأمان فيُسلَّم لورثته. أمّا إذا أخرج ماله معه، نُقِض الأمان بنفسه وماله معاً.

والحاصل أن تجارة الحربي لا يصح أن تدخل بلادنا إلاّ بأمان لصاحبها، ويكون أمانه أماناً لها، وإذا أراد الحربي إدخال تجارته من غير أن يدخل هو فإنه يُعطى الأمان لتجارته أو لا يُعطى، لأن الأمان للمال قد ينفصل عن أمان النفس، فإذا دخل الشخص الحربي بلادنا وأُعطي أماناً لنفسه فإنه يكون أماناً له ولماله الذي معه تبعاً له ولا يكون أماناً لماله الذي لم يدخل معه دار الإسلام. فإذا خرج من دار الإسلام وأبقى ماله في دار الإسلام، فإنه يبقى الأمان لماله الذي في دار الإسلام للمال، وينتهي الأمان الذي أُعطي لنفسه. وعلى هذا فإنه يجوز للخليفة أن يعطي الأمان لتجارة الحربي أي لماله أن يدخل البلاد دون، فإن أعطي الأمان لماله أي لتجارته كان له أن يرسل هذه التجارة مع وكيله أو أجيره أو غير ذلك. وبهذا يتبين أن المال الحربي يحتاج دخوله إلى أمان كالحربي سواء بسواء. وعلى ذلك فالتجارة الخارجية يحتاج دخولها إلى بلاد الإسلام إلى أمان –أي إذن من الدولة-. فإن أعطي لها إذن كان على الدولة صيانتها كباقي أموال الرعية، وإن دخلت بغير أمان أي بغير إذن كانت ملكاً حلالاً للدولة لها أن تستولي عليها. غير أن هذا إذا كانت هذه التجارة ملكاً للتجار الحربيين، أمّا إذا اشتراها تاجر من رعية الدولة مسلماً كان أو ذمياً، ثم أراد أن يدخلها فلا يحتاج إدخالها من قبله إلى أي إذن، ولكن ذلك مشروط فيما إذا كانت ملكه وكانت ملكيته لها قد تمت بإتمام صفقة البيع بجميع نواحيها. أمّا إذا كانت ملكيته لها لم تتم بأن كانت صفقة البيع لم تتم بل بدئ بإجرائها -كما هي الحال في التجارة الآن- لا يعتبر التاجر ملزماً إلاّ بعد تسلمه أوراق شحن البضاعة، أو كان قبض التجارة لم يتم بالرغم من شرائها، فإن هذه التجارة في مثل هذه الحالة تعتبر تجارة لحربي ويحتاج دخولها إلى أمان، أي إذن. فإذا كان القبض يعتبر بمجرد خروجها من المصنع أو بمجرد شحنها كان قبضاً وتعتبر تجارة مسلم أو ذمي، وإن كان القبض يعتبر عند دخولها إلى البلاد لم يكن قبضاً وتعتبر تجارة حربي.

هذا بالنسبة لدخول تجارة الحربي أو دخول التاجر الحربي. أما بالنسبة لخروج تجارة الحربي من بلادنا -أي بالنسبة لشراء الحربي بضعة من بلادنا وإخراجها منها- فإنه يُنظر، فإن كانت هذه البضاعة من المواد الاستراتيجية كالسلاح وككل ما يستعان به في الحرب على العدو، فإنه يمنع من شرائه ويمنع من إخراجه، وإذا اشتراه منع من حمله وإخراجه. أمّا باقي المواد كالطعام والمتاع ونحوه فإنه يسمح للحربي الذي أعطي الأمان أن يشتريها وأن يحملها ويخرجها من بلادنا، ما لم تكن مما تحتاج إليه الرعية لقلّته، فإنه حين ذلك يمنع لحاجة الرعية إليه كما يمنع التجار المسلمون والذميون من إخراج هذه المواد التجارية لعلة حاجة الرعية إليها.

هذا بالنسبة لخروج التجار والتجارة من بلاد الإسلام، وبالنسبة لدخول التجار والتجارة. أمّا بالنسبة لما يوضع على هذه التجارة من ضرائب، فإن الحكم الشرعي فيها يختلف باختلاف التجار لا باختلاف التجارة، لأن نظرة الإسلام ليست للتجارة من حيث كونها مالاً فقط أو من حيث منشؤها، وإنما نظرة الإسلام للتجارة من حيث كونها مملوكة لشخص، ولذلك يختلف حكم ما يوضع عليها باختلاف التجار بغض النظر عن منشأ التجارة وعن نوعها. فإذا كان التاجر من رعايا الدولة الإسلامية مسلماً كان أو ذمياً، فإنه لا يوضع على تجارته شيء مطلقاً لِما رُوي عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يدخل الجنة صاحب مُكس}، وعن أبي الخير قال: {سمعت رُوَيفَع بين ثابت يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن صاحب المُكس في النار قال: يعني العاشر}. والعاشر هو الذي يأخذ العُشر على التجارة التي تأتي من الخارج. وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا لقيتُم عاشراً فاقتلوه} يعني الصدقة يأخذها من غير حقها. وعن مسلم بن المصبح {أنه سأل ابن عمر أَعَلِمتَ أن عمر أخذ من المسلمين العُشر؟ قال: لا. لم أعلم}. وعن إبراهيم بن مهاجر قال: سمعت زياد بن حدير يقول: {أنا أول عاشر عشّر في الإسلام. قلت: من كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. كنا نعشر نصارى بني تغلب}. وعن عبد الرحمن بن معقل قال: سألت زياد بن حدير: من كنتم تعشرون؟ قال: {ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. قلت فمن كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب كما كانوا يعشرونا إذا أتيناهم}. وعن يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن أبيه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة {أنْ ضع عن الناس الفدية وضعْ عن الناس المائدة وضعْ عن الناس المُكس. وليس المكس ولكنه البُخس الذي قال فيه الله تعالى: )ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين( فمن جاءك بصدقة فاقبلها ومن لم يأتك بها فالله حسيبه}. وعن كريز بن سليمان قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوف القاري قال: {أنِ اركب إلى البيت الذي برفح الذي يقال له بيت المُكس فاهدمه ثم احمله إلى البحر فانسفه نسفاً}، قال أبو عبيد: "وجوه هذه الأحاديث التي ذكرنا فيها العاشر وكراهة المكس والتغليظ فيه أنه قد كان له أصل في الجاهلية يفعله ملوك العرب والعجم جميعاً فكان سنّتهم أن يأخذوا من التجار عُشر أموالهم إذا مرّوا بها عليهم. يبين ذلك ما ذكرنا من كتب النبي صلى الله عليه وسلم لمن كَتَب من أهل الأمصار مثل ثقيف والبحرين ودومة الجندل وغيرهم ممن أسلم {أنهم لا يحشرون ولا يعشرون}، فعلمنا بهذا أنه قد كان من سنّة الجاهلية مع أحاديث فيه كثيرة فأبطل الله ذلك برسوله صلى الله عليه وسلم بالإسلام". أي أنه كان من سنّة الجاهلية أن يأخذوا العشور أي المكوس فأبطل الله ذلك بالإسلام.

فهذه الأحاديث المطلقة المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على أنه لا يؤخذ من المسلم ولا من الذمي شيء من المكس على تجارته، لا التجارة التي يُدخلها لبلاد الإسلام ولا التجارة التي يُخرجها إلى دار الحرب. وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب فلم يأخذ من التجار المسلمين ولا الذميين شيئاً من المكس وأقرّه الصحابة على ذلك فكان إجماعاً سكوتياً، وهو دليل شرعي. والمكس هو المال الذي يؤخذ على التجارة حين تمُر على حدود البلاد فتعبُرها لتخرج منها أو لتدخل إليها. والبيت الذي يوضع على الحدود هو بيت المكس، إذ المكس في السلعة دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهلية، وما يأخذه أعوان الدولة من أشياء معينة عند بيعها أو عند إدخالها المدن، جمعه مكوس، يقال: مكس، جبى مال المكس، فهو إذاً خاص بما يؤخذ على التجارة. والنهي عن أخذ المكس عام فيشمل الذمي والمسلم.

وأمّا ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ليس على المسلمين عشور وإنما العشور على اليهود والنصارى} فإن هذا الحديث رُوي من ثلاث طرق، منها طريقان رُوي فيهما عن مجهول، ورواية حرب بن عبيد الله الثقفي الذي رواها عن جده أبي أمه لم يقل فيها رواة الحديث شيئاً وسكتوا عنها، علاوة على ذلك فإنه لم يأخذ بها أحد من المجتهدين ولم يُر أحد يَستدل بها، لا ممن يقولون بعدم أخذ شيء على التجارة، ولا من الذين يقولون بأخذ ربع العُشر من المسلم زكاة ونصف العشر من الذمي سياسة. ولو صحّت عندهم لأخذوا بها واستدلوا بالحديث، فالحديث لم يقل أحد بتصحيحه فلا يؤخذ به.

وأمّا ما رُوي عن عمر بأنه كان يأخذ من المسلمين ربع العشر ومن الذميين نصف العشر ومن الحربيين العشر، فإن ذلك لا بد أن يُقرن في حكم كل من المسلم والذمي والحربي في بيعه وشرائه. أمّا المسلم والذمي فإن الأحاديث صريحة في تحريم الأخذ منهما حين نصت على تحريم المكس وهو أخذ مال على التجارة نصاً عاماً فيكون ما أخذه عمر من المسلم زكاة وما أخذه من الحربي من قبيل المعاملة بالمثل لأنهم كانوا يأخذون من تجارنا العشر، وما أخذه من الذمي هو بناء على أنه صالَحَهم على ذلك. فيكون قد أُخِذ عملاً بمعاهدة الصلح ولم يؤخذ مكساً، لأن الله أوجب على الكفار الجزية فقط، فإن كان ربع العشر يؤخذ منهم صلحاً مع الجزية فهو حق وعهد صحيح، وإلاّ فلا يحل أخذ شيء من أموالهم بعد صحة عقد الذمة بالجزية والصَغار ما لم يَنقُضوا العهد. قال أبو عبيد: "وكان الذي يشكُل علىّ وجهه أخْذَه (يعني عمر) من أهل الذمة (يعني ربع العشر) فجعلت أقول: ليسوا بمسلمين فتؤخذ منهم الصدقة ولا من أهل الحرب فيؤخذ منهم مثل ما أخذوا منا. فلم أدرِ ما هو حتى تدبّرتُ حديثاً له فوجدته إنّما صالحهم على ذلك صلحاً. سوى جزية الرؤوس وخراج الأرضين".

هذا بالنسبة للتاجر المسلم أو الذمي، أمّا بالنسبة للتاجر المعاهِد فإنه يؤخذ منه بحسب ما نصت عليه المعاهدة التي بيننا وبينهم، فإن نصت على إعفائه من أخذ شيء، يُعفى من ذلك، وإن نصت على مقدار معين، يؤخذ المقدار، فيطبَّق في حقه ما نصت عليه المعاهدة.

وأمّا التاجر الحربي فحكمه أن نأخذ منه كما تأخذ دولته من تجارنا. فإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذنا منه مثل ما يأخذون من تجار الدولة الإسلامية، سواء أكانوا مسلمين أو ذميين، لِما رُوي عن أبي مجاز لاحق بن حميد قال: {قالوا لعمر: كيف تأخذ من أهل الحرب إذا قَدِموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم إذا دخلتم عليهم؟ قالوا: العشر. قال: فكذلك خذوا منهم}. وعن زياد بن حدير قال: {ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. قال: من كنتم تعشرون؟ قال: كفار أهل الحرب، فنأخذ منهم كما يأخذون منا}. وقد فعل عمر ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة، ولم ينكِر عليه أحد بل سكتوا عن ذلك فكان إجماعاً. إلاّ أن الأخذ من تجار أهل الحرب مثل ما يأخذون منا إنّما هو جائز وليس بواجب، أي هو للدولة أن تأخذ وليس واجباً عليها أن تأخذ، بل يجوز لها أن تعفي تجارة الحربي من المكس ويجوز لها أن تأخذ عليها مكساً أقل مما يأخذون منا، ولكن ليس لها أن تأخذ منهم أكثر مما يأخذون منا، لأن أخذ المكس ليس لجباية المال وإنما هو سياسة المعاملة بالمثل. ويراعي الخليفة في ذلك مصلحة المسلمين. فعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: {كان عمر يأخذ من النبط من الزيت والحنطة نصف العشر لكي يُكثر الحَمْل إلى المدينة، ويأخذ من القطنية العشر}. والعشر هو ما كانوا يأخذون من تجارنا في ذلك الوقت. وعلى ذلك فإن المكس الذي يؤخذ على تجارة الحربيين يُتبَع فيها ما تقتضيه مصلحة الدولة من إعفاء أو أخذ مكس قليل أو كثير، على أن لا يزيد ذلك على مثل ما يأخذون من تجارنا.

rajaab
19-05-2005, 05:48 PM
واقع التجارة الخارجية



للتجارة الدولية فائدة كبرى، لِما ينجُم عنها من ربح حقيقي عظيم. ومما يزيد المرء يقيناً بأهمية التجارة الدولية هو التطاحن الشديد والتنافس الحاد بين الدول الكبرى في سبيل اكتساب الأسواق الجديدة والاحتفاظ بالأسواق القديمة التي كانت تُصرف فيها بضائعها وتستورِد منها المواد الخام دون عائق. وللتجارة الدولية خصائص وميزات ونتائج خاصة. والسبب الرئيسي لقيام التجارة الدولية هو الاختلاف في نسب تكاليف السلع المختلفة بين دولة وأخرى. ومِن صالح الدول أن تقوم التجارة الدولية بينها متى اختلفت فيها التكاليف النسبية.



الميزان التجاري



الميزان التجاري هو المقارنة بين قيمة الصادرات المنظورة والواردات المنظورة. فلو وضعنا قيمة الصادرات في جهة ثم وضعنا قيمة الواردات في جهة أخرى لحصلنا على الميزان التجاري، فإن فاقت قيمة الصادرات قيمة الواردات كان الميزان التجاري في صالحنا، لأن الدول تكون مدينة لنا بالفرق بين قيمة صادراتنا وقيمة وارداتنا. فيكون طلب الخارج على عملتنا لتسديد قيمة البضائع، يفوق طلبنا على العملات الأجنبية لنفس الغرض. إلاّ أن الميزان التجاري لا يعطي الصورة الصحيحة عن الاقتصاد الأهلي لأن الدخل الأهلي ليس مقصوراً على أرباح التجارة الخارجية، بل هناك أشياء أخرى تُدِرّ واردات وتعتبَر من الدخل الأهلي. ولكن الميزان التجاري يعطي الصورة الصحيحة عن تجارتنا الخارجية. ولا يصح أن يُحرص على أن يكون الميزان التجاري لصالحنا، إلاّ إذا لم تكن للدولة أغراض أخرى. أمّا إذا كان لها أغراض أخرى تتعلق بالمبدأ أو الدعوة له، أو تتعلق بالإعداد الصناعي، أو تتعلق بسد الحاجات، أو تتعلق بأمور سياسية بالنسبة لموقف الدولة التي نتعامل معها تجارياً وما نريده أن يكون عليه، أو بالنسبة للموقف الدولي وما يؤثر عليه، فإنه يَتبع الغرض المقصود ويُضحَّى بأن يكون الميزان التجاري في غير صالحنا. فالنظرة التجارية وإن كانت نظرة ربح ولكنها في نفس الوقت نظرة دولة لا نظرة فرد، فيراعى فيها هدف الدولة وكيانها قبل الربح التجاري.

العلاقة النقدية بين الدول



التجارة الخارجية توجِد علاقة نقدية بين الدول، لأنه لا بد من أن تدفع الدولة ثمن البضائع بعملة البلد التي تستورد منها أو بالعملة التي تقبلها. ولا بد من أن تقبض ثمن البضاعة التي تبيعها بعملتها أو بالعملة التي تريدها، وبذلك توجد العلاقة النقدية بين الدول.

وهناك تبادل السلع أو الصادرات والواردات المنظورة. وهناك تبادل الخدمات أو ما يسمى بالصادرات والواردات غير المنظورة، وهي تشمل خدمات النقل كنقل الركاب وشحن البضائع بين الدول وأجور البريد والتلغراف والتلفون الدولي والخدمات التجارية وما تستلزمه من دفع عمولة أو سمسرة للوكلاء والسماسرة، وكذلك جميع الخدمات المرتبطة بحركة السياحة. فعندما يذهب السائح إلى بلد أجنبي وينفق فيه بعض دخله فإنه يأخذ أموالاً من أمواله، ولكنه يأخذ من دولته ما يمكّنه من الإنفاق في البلاد الذي يذهب إليه، إما إذناً بإنفاق مبلغ معين من عملة ذلك البلد لتغطيه دولته من عملتها، أو إذناً بعملة مقبولة في تلك البلد مما توفَّر لدى الدولة من هذه العملة. وإننا لأجل أن ندفع قيمة الواردات نعرض عملتنا الأهلية طالبين العملة الأجنبية، أو نعرض بضاعتنا في البلاد الأجنبية من أجل الحصول على عملتها. فالحصول على عملات أجنبية أمر ضروري للدولة ليتأتى لها إيجاد علاقة تجارية أو علاقة اقتصادية مع الدول. إلاّ أنه لا يجوز أن نضحي في عملتنا فنعرّضها للاضطراب وزعزعة الثقة بها في سبيل إيجاد علاقة تجارية أو اقتصادية، بل يجب أن نجعل تحكّمنا نحن في العلاقات الاقتصادية الخارجية –تجارية كانت أو غير تجارية- أساساً من أسس هذه العلاقات. وبذلك يتيسر لنا المحافظة على عملتنا مع حصولنا على العملات الأجنبية التي نريدها. وللمساعدة على ذلك يجب أن تتجنب الدولة أخذ القروض، سواء أكانت قصيرة الأجل أو طويلة الأجل، لأنها من الأشياء التي تسبب اضطراباً في سوق عملتنا كما قد تسبب هبوطاً في قيمة نقدنا.



سياسة التجارة الخارجية



التجارة الخارجية هي علاقة الدولة بغيرها من الدول والشعوب والأمم من ناحية تجارية، أي هي رعاية شؤون الأمّة التجارية من ناحية خارجية. ولا بد أن تكون هذه السياسة مبنية على أسس معينة، تتقيد بحسب هذه الأسس. وتختلف نظرة الأمم للتجارة الخارجية تبعاً لاختلاف وجهة نظرها للحياة، فتعيّن بحسبها علاقاتها مع الأمم الخارجية. كما تختلف أيضاً باختلاف نظرتها لمصلحتها الخاصة اقتصادياً لتحقيق الربح الاقتصادي. ومن هنا نجد سياسة التجارة الخارجية لدى الاشتراكيين مبنية على نظرتهم الاشتراكية في تطوير العالم. فهم مع ملاحظتهم للربح الاقتصادي يصنّفون السلع بالنسبة للبلدان، فيحاولون أن يبيعوا سوريا أدوات زراعية وسماداً وأدوية وأدوات صناعية للصناعات التي تنتِج ما يُستهلك كصناعات الجبن والثياب وأدوات الحراثة وما شابهها، مما يساعد في نظرهم على تطويرها للرأسمالية. وحين يستوردون بضاعة لا يستوردون إلاّ ما يزيد الإنتاج، وما هم في حاجة إليه فحسب. بخلاف البلدان الرأسمالية –كانكلترا مثلاً- فإنها تسير وراء الربح المادي، جاعلة النفعية أساساً لسياسة التجارة الخارجية، فتبيع كل شيء لجميع الشعوب والأمم ما دام يحقق ربحاً اقتصادياً. أمّا ما تفعله أمريكا من تقييد التجارة مع روسيا والصين في أصناف معينة، ومنع التجارة معهما في أصناف أخرى، فإن ذلك ليس تابعاً لوجهة النظر، بل تابِع للسياسة الحربية، باعتبار أنهما تعاملهما كدولتين محاربتين حُكماً، وإن لم تكونا محارِبتين لها فعلاً. وما عدا ذلك فإن أساس سياسة التجارة عند أمريكا قائم على النفعية.

إلاّ أن الاقتصاديين الغربيين اختلفوا في النظرة إلى التجارة الخارجية وكانت لهم فيها مذاهب مختلفة، منها المذاهب التالية:

1- حرية المبادلة

ونظرية حرية المبادلة تقضي بأن تجري المبادلات التجارية بين الدول دون أي قيد، وبعدم فرض أي رسم جمركي أو أي حاجز يواجه الاستيراد. وهذا المذهب يعني زوال رقابة الدولة، فإنها لا تعود مكلَّفة لا بمراقبة التصدير ولا بمراقبة الاستيراد، باعتبار أن التوازن بين التصدير والاستيراد تؤمّنه القوانين الطبيعية، فهو توازن طبيعي وآلي.

وهذه النظرية تخالف الإسلام، لأن التجارة الخارجية علاقة من علاقات الدولة مع غيرها من الدول والشعوب والأمم، وهذه العلاقات كلها خاضعة لسيطرة الدولة، فهي التي تقوم بتنظيمها وتشرف مباشرة عليها، سواء أكانت علاقات بين أفراد أو علاقات اقتصادية أو تجارية. ولذلك لا يصح الأخذ بنظرية حرية المبادلة مطلقاً، لأن الدولة الإسلامية تباشِر منع إخراج بعض التجارات وإباحة بعضها، وتباشر موضوع التجار الحربيين والمعاهِدين، وإن كانت تكتفي بالإشراف على رعاياها في تجارتهم الخارجية كتجارتهم الداخلية.

2- الحماية التجارية

ونظرية الحماية التجارية تقضي بأن تتدخل الدولة لتحقيق توازن المبادلات مع الخارج. والقصد من الحماية التجارية هو التأثير على الميزان التجاري ومعالجة العجز. لأن التوازن العفوي بين التصدير والاستيراد لا يمكن أن يحقق أي توازن، ولا يسُد أي عجز، فلا بد من الحماية التجارية، ولذلك توضع رسوم جمركية وقيود للتصدير والاستيراد.

وهذه النظرية كما وردت قاصِرة لأنها تجعل تدخّل الدولة من أجل تحقيق توازن المبادلات مع الخارج أو سد العجز، وتقتصر على ذلك، وهذا غير صحيح، فإنّ تدخّل الدولة الإسلامية إنّما يكون لمعاملة الدول الأخرى بالمثل، ويكون لسد حاجات البلاد، ويكون لتوفير أرباح مالية، ويكون لإيجاد عملات صعبة، ويكون لأجل الدعوة الإسلامية. فحصْر التدخل لتحقيق توازن المبادلات وسد العجز فقط غير صحيح، بل تدخّل الدولة يكون من أجل أغراض سياسية واقتصادية وتجارية، ومن أجل حمل الدعوة الإسلامية.

3- الاقتصاد القومي

ونظرية الاقتصاد القومي مرتبطة بفكرة "الحماية التربوية" المشتقة من نظرية الصناعات الثقيلة. وأصحاب نظرية الاقتصاد القومي يرون أن النمو الاقتصادي للأمّة يجب أن يَهدف إلى إعطائها السلطان السياسي مع السلطان الاقتصادي. ويرون أن نمو أي بلد يمر بمراحل ثلاث: الرعوية الزراعية، ثم الزراعية الصناعية، ثم الزراعية الصناعية التجارية. وأن البلاد لا تكون ذات سلطان حقيقي إلاّ عندما تملك أسطولاً ومستعمَرات وسكاناً ذوي مواهب مختلفة. ولا بد من انسجام القوى المنتِجة والنمو الاقتصادي كشرط أساسي للسلطان السياسي. ويرون أنه وإن كانت الصِلات الاقتصادية الدولية تستفيد من حرية المزاحمة، ولكن يُشترط في ذلك أن يبلغ كل من البلدان المتنافسة درجة الكمال في نمو قواه، وتنشيطاً لهذا النمو يجب حماية الصناعة. أمّا الزراعة فلا تحصل لها أي حماية وإنما يجوز تصدير منتجاتها دون قيد أو شرط، ويُترك سعرها حراً بحسب شرائط السوق الحرة.

وعلى هذا فإن نظرية الاقتصاد القومي صناعية في جوهرها. وهي تقول إن الأمم التي تطمح أن تكون قوية يهمها أن تجتاز المرحلة الزراعية إلى الصناعة، فإنّ في البلد الزراعي يبقى جزء هام من القوى المنتِجة وهي الأيدي العاملة، وجزء هام من الموارد الطبيعية وهو المواد الأولية، يبقى ذلك عاطلاً وغير مستعمَل، فيجب إذاً في سبيل استثمار هذه القوى وهذه الموارد، أي الأيدي العاملة والموارد الأولية، ضم مجال صناعي إلى جانب الزراعة، والبلاد التي تَنذر نفسها للزراعة وحدها لا تملك الإمكانيات الاقتصادية، ولا مستوى المعيشة التي يملكها البلد الزراعي الصناعي في آن واحد. فالاقتصاد القومي يفرض ضرورة وجود الصناعة مع الزراعة حتى تقف البلاد على رجليها اقتصادياً. فهو يأخذ الحماية التجارية للصناعة، ويفرض القيود اللازمة على الصادرات والواردات الصناعية وحدها. ويأخذ حرية المبادلة للزراعة، ويجعلها حرة دون أي قيد.

وهذه النظرية لا يقول بها الإسلام، لأن ترك الحرية للمبادلات الزراعية مع الخارج يعني عدم مراقبة الدولة لتجارة المنتجات الزراعية مع الخارج، وهذا لا يجوز، لأن الدولة تتولى تنظيم كل ما يخرج ويدخل للبلاد من مواد زراعية أو صناعية وغيرها، فتَمنع خروج بعض المواد، وتبيح بعضها، وتتولى مباشرة موضوع التجار الحربيين والمعاهِدين، وإن كانت تكتفي بالإشراف على رعاياها. أمّا تدخّل الدولة في الشؤون الصناعية بحسب مصلحة البلاد لتنشيط الصناعة، فإنه من هذه الجهة يكون أمراً من أمور رعاية شؤون الأمّة، وهو ما يأمر به الإسلام، إلاّ أن ذلك مقيَّد بمصلحة الدعوة، مع تنشيط الصناعة، لا لتنشيط الصناعة وحدها. ويتبين من هذا أن الاقتصاد القومي وإن كان في جزء من الصناعة يدخُل فيما هو من رعاية شؤون الأمّة التي يقول بها الإسلام، ولكنه في هذا يخالف الإسلام لعدم ربطه بمصلحة الدعوة، والنظرية كلها إجمالاً تخالف الإسلام للحرية الزراعية المطلقة. ولهذا لا يأخذ المسلمون بهذه النظرية.

4- السياسة الاكتفائية

يُقصد بالسياسة الاكتفائية طموح بلد من البلاد إلى كفاية نفسه بنفسه، وتأليفه وحدة اقتصادية مغلَقة تستغني عما سواها، فلا تستورِد ولا تُصدّر. فغايتها تتجاوز سياسة الحماية، وتختلف عن الاقتصاد القومي، وتغاير نظرية حرية المبادلة.

والسياسة الاكتفائية التي طُبّقت بين الحربين الأخيرتين قد تجلّت بشكلين، أحدهما: الاكتفائية الانعزالية، والثانية: الاكتفائية التوسعية. وكانت ألمانيا النازية نموذج البلاد التي أخذت بالسياسة الاكتفائية، وكانت فيها عبارة عن تدبير ألجأتها إليه السياسة الألمانية الداخلية والخارجية التي لم تعد تتلاءم مع قواعد المبادلة العالمية.

والسياسة الاكتفائية وإن كانت عبارة عن تدابير تستهدف أهدافاً سياسية، فإن لها في نظرهم أساساً اقتصادياً للنظام، يتلخص في أن البلد الذي يملك مواد أولية وكيماوية وآلات وأيدي عاملة يجب أن يستطيع العيش. فالمهم بالأمر هو التنظيم، أمّا رؤوس المال فتأتي في المقام الثاني. فالحكومة التي تأخذ في السياسة الاكتفائية تكون قد وضعت لنفسها هدفاً سياسياً أخضعت له التنظيم الاقتصادي والمالي. وحتى تصل السياسة الاكتفائية إلى هدفها وهو جعْل الاقتصاد الأهلي قادراً على كفاية نفسه بنفسه، فلا بد أن تستعد للاستغناء عن كثير من الحاجات، لأن السياسة الاكتفائية تجعل البلد عاجزاً عن كفاية جميع الحاجات، والمهم هو أن توفر هذه السياسة من الاقتصاد الأهلي الحاجات الأساسية للفرد، وللأمّة، وللدولة، توفيراً يجعلها سائرة في طريق تصاعدي. ومن هنا يتحتم على الدولة التي تسير على السياسة الاكتفائية في التجارة الخارجية أن تعمل بطريقة ما إلى ضم البلاد التي تحتاج إليها لحوز المواد الأولية، أو الأسواق، أو الأيدي العاملة، أو الفنيين، وغير ذلك مما تحتاجه إليها. وذلك الضم يكون إما بالاندماج وإما بعقد معاهدات تجارية. أمّا إلغاء الحدود الاقتصادية فإنه يعني ضم البلاد، أي يعني إلغاء الحدود السياسية، إذ لا يمكن إلغاء الحدود الاقتصادية من غير إلغاء الحدود السياسية. وإذا لم تستطع ضم الأقطار التي تحتاجها لحوز المواد الناقصة لديها، فإنها يجب أن تصبر على عدم إشباع بعض حاجاتها، وتسعى لعدم الاحتياج إلى ما يُشبع الحاجات الأساسية، إذ فقدان ما يُشبع هذه الحاجات الأساسية لا يمكن الصبر عليه، أمّا فقدان ما يُشبع الحاجات غير الأساسية فيمكن الصبر عليه.

هذا هو ملخص السياسة الاكتفائية الانعزالية والتوسعية. فالانعزالية هي التي تكون فيها الحاجات الأساسية متوفرة. والتوسعية في مدى معين تكون بالضم أو المعاهدات من أجل توفير الحاجات اللازمة، سواء أكانت حاجات أساسية أو كمالية.

والناظر في السياسة الاكتفائية لا يجدها معالَجة تجارية، ولا معالَجة اقتصادية، وإنما هي تدبير وقائي مؤقت لما يَعترِض الدولة من حصار اقتصادي أو تجاري. فهي ليست معالَجة للعلاقات الخارجية وإنما هي دفاع عن البلاد حين تُغزى من الخارج بالحصار الاقتصادي والتجاري، فهي داخلة في بحث الأساليب وليست في بحث الأحكام. ولذلك لا يقال ما هو الحكم الشرعي في شأنها، ولا يقال إنها تناقض الإسلام أو تخالفه، بل هي أسلوب من الأساليب التي تُتَّبَع، فتؤخذ هذه السياسة كأسلوب إذا كانت واقعية عملية، أي إذا كان هناك واقع في الحصار، وكان ممكناً الاكتفاء باقتصاديات البلاد لإشباع الحاجات الأساسية. ولا تؤخذ هذه السياسة إذا كان ليس لها واقع، ولا يمكن الاستغناء عن الحاجات الأساسية للدولة أو الأمّة أو الأفراد. فهي تدخل في باب رعاية المصالح التي يتولاها الخليفة، والتي جَعل الشرع له أن يقرر ما يراه مناسباً من الأساليب، وما يرى فيه مصلحة المسلمين.

rajaab
19-05-2005, 05:49 PM
فهرست الكتاب





الموضـــــوع الصفحة



المقدمـة ...................................... 3

الاقتصاد ............................ 37

أساس النظام الاقتصادي ........................ ........ 38

نظرة الإسلام إلى الاقتصاد ................................ 39

سياسة الاقتصاد في الإسلام ............................... 41

القواعد الاقتصادية العامة ................................ 46

الملكية الفردية ........................................... 48

تعريف الملكية الفردية .................................... 49

معنى الملكية .............................................. 50

أسباب تملك المال ........................... 51

* السبب الأول من أسباب التملك:

- العمل ............................................ 53

- إحياء المَوات .......................................... 54

- استخراج ما في باطن الأرض .......................... 54

- الصيد ................................................. 55

- السمسرة والدلالة ................................. 56

- المضارَبة ............................................. 56

- المساقاة .............................................. 57

- إجارة الأجير ........................................ 58

تحديد العمل ........................................ 59

نوع العمل ............................................. 59

مدة العمل .............................................. 62

أجرة العمل............................................. 62

الجهد الذي يُبذل في العمل ............................ 63

حكم إجارة المنافع المحرَّمة وغير المسلِم ............. 64

الإجارة على العبادات والمنافع العامة ................ 67

من هو الأجير؟ ....................................... 70

الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة ................... 70

تقدير أجر الأجير ....................................... 72

* السبب الثاني من أسباب التملك:

الإرث ......................................... 80

* السبب الثالث من أسباب التملك:

الحاجة للمال لأجل الحياة .................. 82

* السبب الرابع من أسباب التملك:

إعطاء الدولة من أموالها للرعية ................... 83

* السبب الخامس من أسباب التملك:

الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد .. 84

حق التصرف ............................................ 86

تنمية الملك ............................................... 87

أحكام الأراضي .................................. 88

- إحياء المَوات .................................. 91

- التصرف في الأرض ................................ 92

- منع إجارة الأرض .................................. 96

البيـع .................................................. 98

الاستصناع ......................................... 99

الشركة في الإسلام .................................. 100

- شركة العنان .......................................... 102

- شركة الأبدان .......................................... 103

- شركة المضارَبة ................................ 105

- شركة الوجوه ......................................... 106

- شركة المفاوضة ................................ 108

فسخ الشركة ........................................ 109

الشركات الرأسمالية ................................. 110

- شركة التضامن .................................. 110

- شركة المساهمة ................................. 111

- أسهم شركة المساهمة ................................. 121

- الجمعيات التعاونية ............................... 123

- التأمين ....................................... 126

الطرق الممنوع تنمية الملك بها ........................ 131

- القمار ....................................... 131

- الربا ............................................... 132

- الغُبن الفاحش ........................................ 134

- التدليس في البيع ................................. 135

- الاحتكار ....................................... 137

- التسعير ....................................... 139

حق التصرف بالإنفاق صلةً ونفقة ................. 141

الفقر ................................................ 147

الملكية العامة ......................................... 151

ملكية الدولة ......................................... 155

التأميم ليس من الملكية العامة ولا من ملكية الدولة .......... 156

الحِمى في المنافع العامة .................................. 157

المصانع .......................................... 159

بيت المال .......................................... 160

- واردات بيت المال ................................ 160

- نفقات بيت المال .............................. 162

- ميزانية الدولة ......................................... 164

- الزكاة ........................................ 165

- الجزية ....................................... 167

- الخَراج ........................................ 168

- الضرائب ......................................... 169

توزيع الثروة بين الناس ................................ 171

التوازن الاقتصادي في المجتمع ....................... 172

منع كنز الذهب والفضة ................................ 174

الربا والصرف ....................................... 179

الصرف ............................................... 182

معاملات الصرف ............................... 185

النقـود ............................................... 187

- نظام الذهب ........................................ 191

- فوائد نظام الذهب ................................. 192

- مشاكل نظام الذهب ............................... 194

- نظام الفضة ....................................... 195

- النقود المعدنية ............................... 196

- النقود الورقية ....................................... 196

- إصدار النقود ......................................... 198

- سعر الصرف ....................................... 203

التجارة الخارجية ............................... 209

- واقع التجارة الخارجية ....................... 219

- الميزان التجاري ............................... 219

- العلاقة النقدية بين الدول ....................... 220

- سياسة التجارة الخارجية ....................... 221



تم بحمد الله تعالى