• 0
  • مالي خلق
  • أتهاوش
  • متضايق
  • مريض
  • مستانس
  • مستغرب
  • مشتط
  • أسولف
  • مغرم
  • معصب
  • منحرج
  • آكل
  • ابكي
  • ارقص
  • اصلي
  • استهبل
  • اضحك
  • اضحك  2
  • تعجبني
  • بضبطلك
  • رايق
  • زعلان
  • عبقري
  • نايم
  • طبيعي
  • كشخة
  • صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة
    النتائج 1 إلى 15 من 39

    الموضوع: النظام الإقتصادي

    1. #1
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

    2. #2
      التسجيل
      18-07-2003
      الدولة
      بـلاد الـiـiـiــام , دمشق ..
      المشاركات
      3,356
      المواضيع
      873
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      السلام عليكم

      بارك الله فيك ,,
      أفضل أن تنقل ما بداخل الرابط ,, و ذلك لأن الرابط محجوب في بلدنا أي مغلق


      و شكراً ,

    3. #3
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      تقي الدين النبَهاني



      النظام الاقتصادي

      فـي

      الإســـــــــــــــــــــلام








      الطبعة الثانية










      بسم الله الرحمن الرحيم


      ) وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة
      ولا تنسَ نصيبك من الدنيا
      وأحسن كما أحسن الله إليك
      ولا تَبغِ الفساد في الأرض
      إن اللــــــــه لا يحــــب المفسـدين (







      بسم الله الرحمن الرحيم



      مقدمــــــة


      إن الأفكار في أية أمة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها إن كانت أمة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفكر المستنير.

      أما الثروة المادية، والاكتشافات العلمية، والمخترعات الصناعية، وما شاكل ذلك فإن مكانها دون الأفكار بكثير، بل إنه يتوقف الوصول إليها على الأفكار، ويتوقف الاحتفاظ بها على الأفكار.

      فإذا دُمِّرت ثروة الأمة المادية فسرعان ما يمكن تجديدها، ما دامت الأمة محتفظة بثروتها الفكرية. أما إذا تداعت الثروة الفكرية، وظلت الأمة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة، وترتدّ الأمّة إلى حالة الفقر. كما أن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها. أما إذا فقدت طريقة التفكير المنتجة فسرعان ما ترتد إلى الوراء وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات. ومن هنا كان لا بد من الحرص على الأفكار أولاً. وعلى أساس هذه الأفكار، وحسب طريقة التفكير المنتِجة تُكسب الثروة المادية، ويُسعى للوصول إلى المكتشفات العلمية والاختراعات الصناعية وما شاكلها.

      والمراد بالأفكار هو وجود عملية التفكير عند الأمة في وقائع حياتها ، بأن يَستعمل أفرادها في جملتهم ما لديهم من معلومات عند الإحساس بالوقائع للحكم على هذه الوقائع، أي أن تكون لديهم أفكار يبدعون باستعمالها في الحياة. فينتج عندهم من تكرار استعمالها بنجاح، طريقة تفكير منتجة.

      والأمة الإسلامية اليوم تعتبر فاقدة الأفكار، فهي طبيعياً فاقدة لطريقة التفكير المنتجة. فالجيل الحاضر لم يتسلم من سلفه أية أفكار إسلامية، ولا أفكاراً غير إسلامية، وبالطبع لم يتسلم طريقة تفكير منتِجة. ولم يكسب هو أفكاراً، ولا طريقة تفكير منتجة. ولذلك كان طبيعيةً أن يُرى في حالة الفقر رغم توفر الثروات المادية في بلاده، وأن يُرى في حالة فقدان للاكتشافات العلمية والمخترعات الصناعية رغم دراسته نظرياً لهذه الاكتشافات والمخترعات وسماعه بها ومشاهدته لها. لأنه لا يمكن أن يندفع إليها اندفاعاً منتجاً إلا إذا كان يملك طريقة تفكير منتجة، أي إلا إذا كانت لديه أفكار يبدع في استعمالها في الحياة. ومن هنا كان من المحتم على المسلمين أن يوجِدوا لديهم أفكاراً وطريقة تفكير منتجة، ثم على أساسها يمكن أن يسيروا في اكتساب الثروة المادية، وأن يكتشفوا الحقائق العلمية، ويقوموا بالاختراعات الصناعية. وما لم يفعلوا ذلك لا يمكن أن يتقدموا خطوة، وسيظلون يدورون في حلقة مفرغة، يفرغون في دورانهم مخزون جهدهم العقلي والجسمي، ثم ينتهون إلى حيث ابتدءوا.

      وهذا الجيل من الأمة الإسلامية ليس معتنقاً أفكاراً مضادة للفكر الذي يراد إيجاده لديه حتى يدرِك هذا الفكر الذي يعطى له، ويجري الاصطدام بين الفكرين فيهتدي من هذا الاصطدام إلى الفكر الصواب، وإنما هو خالٍ من كل فكر من الأفكار ومن أي طريقة من طرق التفكير المنتجة، فهو قد ورث الأفكار الإسلامية باعتبارها فلسفة خيالية، تماماً كما يرث اليوم اليونان فلسفة أرسطو وأفلاطون. وورث الإسلام باعتباره طقوساً وشعائر للتدين، كما يرث النصارى دين النصرانية. وهو في نفس الوقت عشق الأفكار الرأسمالية من مجرد مشاهدته نجاحها لا من إدراكه لواقع هذه الأفكار، ومن خضوعه لتطبيق أحكامها عليه، لا من إدراك انبثاق هذه المعالجات عن وجهة النظر الرأسمالية للحياة. ولذلك بات خالياً من الأفكار الرأسمالية تفكيرياً، وإن كان يخوض غمار الحياة على منهجها، وأضحى خالياً من الأفكار الإسلامية عملياً، وإن كان يتدين بالإسلام ويدرس أفكاره.

      أما ميله للأفكار فقد جاوز محاولة التوفيق بين الإسلام وبين الأحكام والمعالجات الرأسمالية، ووصل إلى حد الشعور بعجز الإسلام عن إيجاد معالجات لمشاكل الحياة المتجددة، والشعور بضرورة أخذ الأحكام والمعالجات الرأسمالية كما هي دون حاجة إلى التوفيق، ولا يرى ضيراً في ترك أحكام الإسلام وأخْذ غيرها من الأحكام ليتمكن من السير قدماً في معترك الحياة مع العالم المتمدن ويلحق بقافلة الأمم الرأسمالية أو الشعوب التي تطبق الاشتراكية وتسير نحو الشيوعية باعتبارها في نظره الشعوب الراقية. وأمّا البقية الباقية من المتمسكين بالإسلام فلديهم نفس الميل للأفكار الرأسمالية ولكنهم لا يزالون يأملون بإمكانية التوفيق بينها وبين الإسلام. غير أن هؤلاء المحاولين للتوفيق بين الإسلام وغيره لا أثر لهم في معترك الحياة ولا وجود لهم في المجتمع –أي في العلاقات الدائرة فعلاً بين الناس.

      ومن هنا كان إعطاء الأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية لمعالجة مشاكل الحياة يصطدم بعقول خالية من الفكر ومن طريقة التفكير، ويصطدم بميول للأفكار الرأسمالية أو الاشتراكية لدى الجميع، كما يصطدم بواقع الحياة العملية وهو يتحكم فيها النظام الرأسمالي، فما لم يكن الفكر قوياً إلى درجة إحداث رجّة في النفوس والعقول فإنه لا يمكن أن يهز الناس، بل لا يمكن أن يصل إلى حالة تَلفت النظر، لأنّ على هذا الفكر أن يَحمل هذه العقول الخاملة الضحلة على التعمق في التفكير وأن يهز الميول المنحرفة والأذواق المريضة حتى يوجِد الميل الصادق للأفكار الإسلامية والأحكام الشرعية.

      ومن هنا كان لزاماً على حامل الدعوة للإسلام أن يتعرض للأسس التي تقوم عليها الأحكام والمعالجات الرأسمالية، فيبين زيفها ويقوضها، وأن يعمد إلى وقائع الحياة المتجددة المتعددة فيبين علاج الإسلام لها باعتباره أحكاماً شرعية تكتسب وجوب الأخذ بها من حيث كونها أحكاماً شرعية مستنبَطة من الكتاب والسنّة أو مما أرشد إليه الكتاب والسنّة من أدلة، لا من حيث صلاحيتها للعصر أو عدم صلاحيتها؛ أي يبين وجوب أخذها عقائدياً لا مصلحياً، فيعمد في إعطاء الحكم إلى بيان دليله الشرعي الذي استُنبط منه أو إلى تعليله بالعلة الشرعية التي ورد بها أو يمثلها النص الشرعي.

      وإن من أعظم ما فُتِن فيه المسلمون وأشد ما يعانونه من بلاء في واقع حياتهم الأفكار المتعلقة بالحكم والأفكار المتعلقة بالاقتصاد، فهي من أكثر الأفكار التي وَجدت قبول ترحيب لدى المسلمين، ومن أكثر الأفكار التي يحاول الغرب تطبيقها عملياً ويسهر على تطبيقها في دأب متواصل. وإذا كانت الأمّة الإسلامية تُحكم على صورة النظام الديمقراطي شكلياً عن تعمّد من الكافر المستعمر ليتمكن من حماية استعماره ونظامه، فإنها تُحكم بالنظام الاقتصادي الرأسمالي عملياً في جميع نواحي الحياة الاقتصادية، ولذلك كانت أفكار الإسلام عن الاقتصاد من أكثر الأفكار التي توجد التأثير على واقع الحياة الاقتصادية في العالم الإسلامي من حيث أنها ستقلبها رأساً على عقب، وستكون من أكثر الأفكار محاربة من قِبل الكافر المستعمر، ومن قِبل عملائه والمفتونين بالغرب من الظلاميين والمضبوعين والحكام.

      ولذلك كان لا بد من إعطاء صورة واضحة عن الاقتصاد في النظام الرأسمالي تنتظم الأفكار الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد السياسي عند الغرب حتى يَلمس عشاق النظام الاقتصادي الغربي فساد هذا النظام وتناقضه مع الإسلام، ثم يروا أفكار الإسلام الاقتصادية وهي تعالج مشاكل الحياة الاقتصادية المعالجة الصحيحة، وتجعلها طرازاً خاصاً من العيش يتناقض مع الحياة الرأسمالية في الأسس والتفاصيل.


    4. #4
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      وإذا استعرضنا النظام الاقتصادي في المبدأ الرأسمالي نجد أن الاقتصاد عندهم هو الذي يبحث في حاجات الإنسان ووسائل إشباعها ولا يبحث إلاّ في الناحية المادية من حياة الإنسان، وهو يقوم على ثلاثة أسس:

      أحدها: مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات بالنسبة للحاجات؛ أي عدم كفاية السلع والخدمات للحاجات المتجددة والمتعددة للإنسان، وهذه هي المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع لديهم.

      ثانيها: قيمة الشيء المنتَج، وهي أساس الأبحاث الاقتصادية وأكثرها دراسة.

      ثالثها: الثمن والدور الذي يقوم به في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع، وهو حجر الزاوية في النظام الاقتصادي الرأسمالي.

      أمّا مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات فهي موجودة لكون السلع والخدمات والوسائل التي تشبع حاجات الإنسان، ذلك أنهم يقولون إن للإنسان حاجات تتطلب الإشباع، فلا بد من وسائل لإشباعها. أمّا هذه الحاجات فلا تكون إلاّ مادية بحتة، لأنها إما حاجة محسوسة ملموسة للناس كحاجة الإنسان إلى الغذاء والكساء، وإما حاجة محسوسة للناس ولكنها غير ملموسة لهم كحاجة الإنسان إلى خدمات الطبيب والمعلم. أمّا الحاجات المعنوية –كالفخر- والحاجات الروحية –كالتقديس- فإنها غير معترَف بوجودها اقتصادياً من قِبلهم ولا محل لها عندهم، ولا تلاحَظ حين البحث الاقتصادي.

      وأمّا وسائل الإشباع فإنه يُطلق عليها عندهم اسم السلع والخدمات. فالسلع وسائل الإشباع للحاجات المحسوسة الملموسة، والخدمات وسائل الإشباع للحاجات المحسوسة غير الملموسة. أمّا ما هو الذي يُشبِع في السلع والخدمات فإنه في نظرهم المنفعة التي فيها، وهذه المنفعة هي خاصّة، إذا توفرت في الشيء جعلته صالحاً لإشباع حاجة، ومن حيث أن الحاجة معناها اقتصادياً الرغبة، فإن الشيء النافع يكون اقتصادياً، كلما يُرغَب فيه، سواء أكان ضرورياً أو غير ضروري، وسواء اعتبره بعض الناس نافعاً واعتبره البعض الآخر مضراً، فإنه يكون نافعاً اقتصادياً ما دام هناك من يرغب فيه. وهذا ما يجعلهم يعتبرون الأشياء نافعة من الوجهة الاقتصادية ولو أن الرأي العام يعتبرها غير نافعة أو مضرة، فالخمر والحشيش هي أشياء نافعة عند الاقتصاديين، إذ يرغب فيها بعض الناس، وعلى ذلك ينظر الاقتصادي إلى وسائل الإشباع –أي إلى السلع والخدمات- باعتبارها تشبع حاجة، بغض النظر عن أي اعتبار آخر؛ أي ينظر إلى الحاجات والمنافع كما هي لا كما يجب أن تكون، فينظر إلى المنفعة من حيث كونها تشبع حاجة ولا يتعدى هذه النظرة، فينظر إلى الخمر من حيث كونها لها قيمة اقتصادية لأنها تشبع حاجةً لأفراد، وينظر إلى صانع الخمر باعتباره يؤدي خدمة من حيث كون هذه الخدمة لها قيمة اقتصادية لأنها تشبع حاجةً الأفراد.

      هذه هي طبيعة الحاجات عندهم، وهذه هي طبيعة وسائل إشباعها. فالاقتصادي الرأسمالي لا يهتم بما يجب أن يكون عليه المجتمع، بل يهتم بالمادة الاقتصادية من حيث كونها تشبع حاجة. ولذلك كانت مهمة الاقتصادي هي توفير السلع والخدمات؛ أي توفير وسائل الإشباع من أجل إشباع حاجات الإنسان بغض النظر عن أي اعتبار آخر. وبناء على هذا يبحث الاقتصادي في توفير وسائل الإشباع لحاجات الناس. ولمّا كانت السلع والخدمات التي هي وسائل الإشباع محدودة في نظرهم فإنها لا تكفي لسد حاجات الإنسان، لأن هذه الحاجات غير محدودة حسب رأيهم، فهناك الحاجات الأساسية التي لا بد للإنسان من إشباعها بوصفه إنساناً، وهناك عدد من الحاجات التي تزداد كلما ارتقى الإنسان إلى مرتبة أعلى من مراتب المدنية، وهذه تنمو وتزداد فتحتاج إلى إشباعها جميعها إشباعاً كلياً، وهذا لا يتأتى مهما كثرت السلع والخدمات. ومن هنا نشأ أساس المشكلة الاقتصادية، وهو كثرة الحاجات وقلة وسائل إشباعها، يعني عدم كفاية السلع والخدمات لإشباع جميع حاجات الإنسان إشباعاً كلياً، فتواجه المجتمع حينئذ المشكلة الاقتصادية، وهي مشكلة الندرة النسبية للسلع والخدمات، والنتيجة الحتمية لهذه الندرة هي أن تظل بعض الحاجات إما مشبَعة إشباعاً جزئياً فقط، أو غير مشبَعة إطلاقاً، وما دام الأمر كذلك فلا بد من قواعد يتواضع عليها أفراد المجتمع لتقرر أي الحاجات ستحظى بالإشباع وأيها سيكون نصيبها الحرمان، وبعبارة أخرى لا بد من قواعد تقرر كيفية توزيع الموارد المحدودة على الحاجات غير المحدودة. فالمشكلة عندهم إذن هي الحاجات والموارد وليس الإنسان؛ أي هي توفير الموارد لإشباع الحاجات وليس إشباع حاجات كل فرد من الأفراد. ولمّا كان الأمر كذلك كان لا بد أن تكون القواعد التي توضع هي القواعد التي تضمن الوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج حتى يتأتى توفير الموارد؛ أي حتى توفَّر السلع والخدمات لمجموعة الناس لا لكل فرد منهم. ومن هنا كانت مشكلة توزيع السلع والخدمات مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمشكلة إنتاجها، وكان الهدف الأسمى للدراسات الاقتصادية هو العمل على زيادة ما يستهلكه مجموع الناس من السلع والخدمات. ولهذا كانت دراسة العوامل التي تؤثر على حجم الإنتاج الأهلي تحتل مكان الصدارة بين جميع الموضوعات الاقتصادية، لأن البحث في زيادة الإنتاج الأهلي من أهم الأبحاث لمعالجة المشكلة الاقتصادية، ألا وهي الندرة في السلع والخدمات بالنسبة للحاجات، إذ أنهم يعتقدون أنه لا يمكن معالجة الفقر والحرمان إلاّ عن طريق زيادة الإنتاج، فعلاج المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع إنّما يكون بزيادة الإنتاج.

      وأمّا قيمة الشيء المنتَج فهي تعني درجة أهميته إما بالنسبة لشخص معين، وإما بالنسبة لشيء آخر. ففي الحالة الأولى يطلَق عليها اسم قيمة المنفعة، وفي الحالة الثانية يطلَق عليها اسم قيمة الاستبدال. وقيمة منفعة الشيء تتلخص في أن (قيمة منفعة أي وحدة من شيء واحد تقدَّر بمنفعته النهائية، أي بمنفعة الوحدة التي تشبِع أضعف الحاجات)، وهذا ما سموه نظرية (المنفعة النهائية أو الحدّيّة)؛ أي أن المنفعة لا تقدَّر بحسب وجهة نظر المنتِج فتقدَّر بتكاليف إنتاجها، لأنها حينئذ تكون قد روعيت فيها وجهة نظر العرض فقط دون الطلب، ولا تقدَّر بحسب وجهة نظر المستهلك فتقدَّر بمقدار ما فيها من منفعة ومن شعور بالحاجة إلى هذه المنفعة مع ملاحظة عامل الندرة، لأنها حينئذ تكون روعيت فيها وجهة نظر الطلب فقط دون العرض، وإنما يجب أن تراعى فيها وجهة نظر العرض والطلب معاً، فتؤخد منفعتها عند آخر حد تُشبَع فيه الحاجة (عند آخر من إشباعها)؛ أي تؤخذ قيمة الرغيف عند آخر الجوع لا عند أوله، وفي وقت توفر الخبز عادياً في السوق لا في وقت ندرته. هذه هي قيمة المنفعة، أمّا قيمة الاستبدال فإنها خاصّة، إذا توفرت في الشيء جعلته صالحاً للاستبدال، ويعرَّفونها بأنها قوة الاستبدال للشيء بالنسبة لغيره، فقيمة استبدال القمح بالنسبة للذرة تقدر بكمية الذرة التي يجب التنازل عنها للحصول على وحدة من القمح، ويطلق على قيمة المنفعة اسم المنفعة فقط، ويطلق على قيمة الاستبدال اسم القيمة فقط. والاستبدال إنّما يتم بوجود بدل للسلعة أو الخدمة موازٍ لها أو قريب منها في القيمة. ومن هنا كان لا بد من بحث القيمة عند الاقتصاديين الرأسماليين لأنها أساس الاستبدال، ولأنها هي الصفة التي يمكن قياسها، ولأنها هي المقياس الذي تقاس به السلع والخدمات وتُميَّز به الأعمال المنتِجة من الأعمال غير المنتِجة. ذلك أن الإنتاج هو خلق المنفعة أو زيادتها، وهو يتم بأعمال. فللتمييز بين هذه الأعمال من حيث كونها منتجة أو غير منتجة ولمعرفة أيها أكثر إنتاجية من الآخر لا بد من مقياس دقيق للمنتجات والخدمات المختلفة، وهذا المقياس الدقيق هو القيم الاجتماعية للمنتجات والخدمات المختلفة، أو بعبارة أخرى هو ذلك التقدير الجماعي للعمل الذي يُبذل أو الخدمة التي تؤدى، وقد أصبح هذا التقدير أمراً ضرورياً لأن الإنتاج على ذمة الاستبدال قد حل بالجماعات الحديثة محل الإنتاج على ذمة الاستهلاك، فأصبح كل فرد يستبدل اليوم إنتاجه كله أو معظمه بأشياء أخرى كثيرة أنتجها غيره من الناس، وهذا الاستبدال إنّما يتم بوجود بدل للسلعة أو الخدمة، فلا بد من تقدير قيمة للسلعة حتى يتم استبدالها، ولذلك كانت معرفة القيمة -ما هي- أمراً ضرورياً للإنتاج وأمراً ضرورياً للاستهلاك، أي أمراً حتمياً لإشباع حاجات الإنسان بوسائل الإشباع.

      إلاّ أن قيمة الاستبدال هذه قد خُصصت في العصر الحديث بواحدة من قيمها وصارت هي الغالبة عليها. ففي الجماعات المتمدنة لا تُنسب قيم السلع إلى بعضها البعض، وإنما تُنسب إلى سلعة معينة تسمى النقود، وقد أُطلق على نسبة استبدال الشيء بالنقود اسم الثمن، فالثمن هو قيمة استبدال الشيء بالنسبة للنقود، وعلى ذلك يكون الفرق بين قيمة الاستبدال والثمن هو أن قيمة الاستبدال هي نسبة استبدال الشيء بغيره

    5. #5
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      مطلقاً سواء أكان نقوداً أو سلعاً أو خدمات، أما الثمن فهو قيمة استبدال الشيء بالنقود خاصة. ويترتب على هذا أن أثمان السلع يمكن أن ترتفع كلها في وقت واحد، وتهبط كلها في وقت واحد، في حين أنه يستحيل أن ترتفع أو تهبط قيمة استبدال كل السلع بعضها ببعض في وقت واحد. وكذلك يمكن أن تتغير أثمان السلع من غير أن يترتب على ذلك تغير في قيمة استبدالها. وعلى ذلك فثمن السلعة هو إحدى قيم هذه السلعة، وبعبارة أخرى هو قيمة السلعة بالنسبة للنقود فقط. ولمّا كان الثمن هو إحدى القيم كان طبيعياً أن يكون هو مقياس كون الشيء نافعاً أو غير نافع ومقياس درجة المنفعة في الشيء، فالسلعة أو الخدمة تعتبر منتجة ونافعة إذا كان المجتمع يقدر هذه السلعة المعينة أو الخدمة المعينة بثمن معين، أمّا درجة المنفعة لهذه السلعة أو الخدمة فتقاس بالثمن الذي تَقبَل جمهرة المستهلكين دفعه لحيازتها، سواء أكانت هذه السلعة من المنتجات الزراعية أو الصناعية، وسواء أكانت الخدمة خدمة تاجر أو شركة نقل أو طبيب أو مهندس.

      أمّا الدور الذي يقوم به الثمن في الإنتاج والاستهلاك والتوزيع فذلك أن جهاز الثمن هو الذي يقرر أي المنتجين سيدخل إلى حلبة الإنتاج وأيهم سيظل بعيداً عن زمرة المنتجين بنفس الكيفية التي يقرر بها أي المستهلكين سيتمتع بإشباع حاجاته وأيهم ستظل حاجاته غير مشبَعة. وتكاليف الإنتاج للسلعة هي العامل الرئيسي الذي يحكم عرضها في السوق، والمنفعة التي في السلعة هي العامل الرئيسي الذي يحكم طلب السوق لها، وكلاهما يقاس بالثمن، لذلك كان بحث العرض والطلب بحثين أساسيين في الاقتصاد عند الرأسماليين، والمراد بالعرض هو عرض السوق، والمراد بالطلب هو طلب السوق. وكما أن الطلب لا يمكن تعيينه من غير ذكر الثمن فكذلك العرض لا يمكن تقديره من غير الثمن. إلاّ أن الطلب يتغير بعكس تغير الثمن، فإذا زاد الثمن قل الطلب وإذا قل الثمن زاد الطلب، بخلاف العرض فإنه يتغير بتغير الثمن وفي اتجاهه؛ أي أن العرض يزداد بارتفاع الثمن ويقل بهبوطه، وفي كلتا الحالتين يكون للثمن الأثر الأكبر في العرض والطلب؛ أي يكون له الأثر الأكبر في الإنتاج والاستهلاك.

      وجهاز الثمن عندهم هو الطريقة المثلى لتوزيع السلع والخدمات على أفراد المجتمع، ذلك أن المنافع هي نتيجة المجهودات التي يبذلها الإنسان، فإذا لم يكن الجزاء مساوياً للعمل فلا شك أن مستوى الإنتاج ينحط. وعلى ذلك فالطريقة المثلى لتوزيع السلع والخدمات على أفراد المجتمع هي تلك التي تَضمن الوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج، وهذه الطريقة هي طريقة الثمن، وهي ما يطلقون عليها جهاز الثمن أو ميكانيكية الثمن، لأنهم يرون أن هذه الطريقة تُحدث التوازن الاقتصادي بشكل آلي لأنها قائمة على ترك الحريات للمستهلكين في أن يقرروا بأنفسهم توزيع الوارد التي يملكها المجتمع على فروع النشاط الاقتصادي المختلفة بإقبالهم على شراء بعض المواد وعدم إقبالهم على بعضها، فينفقون دخولهم التي يكسبونها على شراء ما يحتاجونه أو يرغبون فيه، فالمستهلك الذي لا يرغب الخمر يمتنع عن شرائه وينفق دخله على شيء آخر، فإذا كثر عدد المستهلكين الذين لا يرغبون الخمر أو أصبح جميع الناس لا يرغبونها يصبح إنتاج الخمر غير مربح لعدم توافر الطلب عليه، فيقف طبيعياً إنتاج الخمر، وهكذا جميع المواد، فالمستهلكون هم الذين قرروا كمية الإنتاج ونوع الإنتاج في تركهم وحريتهم، والثمن هو الذي جرى بواسطته توزيع السلع والخدمات في توفره من المستهلكين أو عدم توفره لديهم، وفي إعطائه للمنتجين أو عدم إعطائه لهم.

      وجهاز الثمن هو الحافز على الإنتاج وهو المنظم للتوزيع وهو أداة الاتصال بين المنتج والمستهلك؛ أي هو الذي يحقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك.

      أمّا كونه هو الحافز على الإنتاج فذلك أن الدافع الرئيسي لقيام الإنسان بأي مجهود منتج أو أية تضحية هو مكافأته المادية على بذل هذا المجهود أو تلك التضحية، ويَستبعد الاقتصاديون الرأسماليون قيام الإنسان ببذل أي مجهود بدافع معنوي أو روحي، والدافع الأخلاقي الذي يعترفون بوجوده يرجعونه إلى مكافأة مادية، ويرون أن المجهودات التي يبذلها الإنسان إنّما هي لإشباع حاجاته وسد رغباته المادية، وهذا الإشباع إمّا أن يكون عن طريق استهلاك السلع التي ينتجها مباشرة أو عن طريق الحصول على جزاء نقدي يخوله الحصول على السلع والخدمات التي أنتجها الآخرون، وبما أن الإنسان يعتمد في إشباع معظم حاجاته -إن لم تكن كلها- على مبادلة مجهوداته بمجهودات غيره، كان إشباع الحاجات منصباً على طريق الحصول على جزاء نقدي لمجهوداته يخول له الحصول على السلع والخدمات، وليس منصباً على الحصول على السلع التي ينتجها، ولذلك كان الجزاء النقدي –وهو الثمن- هو الدافع للإنسان على الإنتاج، ومن هنا كان الثمن هو الذي يحفز المنتجين على بذل مجهوداتهم، فالثمن هو الحافز على الإنتاج.

      أمّا كون الثمن هو الذي ينظم التوزيع فذلك أن الإنسان يرغب في إشباع جميع حاجاته إشباعاً كلياً، ولذلك يسعى للحصول على السلع والخدمات التي تشبِع هذه الحاجات، ولو تُرِك لكل فرد من بني الإنسان حرية إشباع حاجاته لَما توقف عن حيازة واستهلاك ما شاء من السلع، ولكن لمّا كان كل فرد من بني الإنسان يسعى إلى نفس هذا الغرض كان لا بد من أن يقف الفرد في إشباع الحاجات عند الحد الذي يستطيع فيه مبادلة مجهوداته بمجهودات غيره؛ أي عند حد الجزاء النقدي الذي يحصل عليه من بذل مجهوداته؛ أي عند حد الثمن. ومن هنا كان الثمن هو القيد الذي يوضع طبيعياً ويجعل الإنسان يتوقف عن الحيازة والاستهلاك عند الحد الذي يتناسب مع موارده، فوجود الثمن هو الذي جعل الإنسان يفكر ويوازن ويفاضل بين حاجاته المتنافسة التي تتطلب الإشباع، فيأخذ ما يراه ضرورياً، ويستغني عما يراه أقل ضرورة، فهو الذي يرغِم الفرد على الاكتفاء بإشباع بعض حاجاته إشباعاً جزئياً كي يتسنى له إشباع البعض الآخر الذي يراه لا يقل أهمية عن الحاجات التي اكتفى بإشباع بعضها جزئياً. فالثمن هو الذي نظم توزيع الحاجات التي يتطلبها الفرد، وكذلك هو الذي ينظم توزيع المنافع المحدودة على العدد الكبير من المستهلكين الذي يطلب هذه المنافع، فتفاوت موارد المستهلكين يجعل استهلاك كل فرد قاصراً على ما تسمح به موارده، وبذلك يصبح استهلاك بعض السلع قاصراً على من تسمح له موارده ويصبح استهلاك بعض السلع عاماً على جميع الناس الذين يملكون أدنى حد من الثمن، وبهذا يكون الثمن بارتفاعه لبعض السلع وانخفاضه لبعضها وتوفر الجزاء النقدي عند البعض وعدم توفره عند الآخرين، يكون الثمن بذلك منظِّماً لتوزيع المنافع على المستهلكين.

      وأمّا كون الثمن يحقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك –أي يكون أداة اتصال بين المنتِج والمستهلك- فذلك أن المنتِج الذي يحقق رغبات المستهلكين يكافأ على ذلك بالحصول على ربح، والمنتِج الذي لا تجد منتجاته قبولاً لدى المستهلكين لا بد أن ينتهي بالخسارة. والطريقة التي يستطيع المنتج أن يقف بها على رغبات المستهلكين إنّما هي الثمن، فعن طريق الثمن يعرف رغبات المستهلكين، فإذا زاد إقبال المستهلكين على شراء سلعة معينة ارتفع ثمنها في السوق، وبذلك يزداد إنتاج هذه السلعة تحقيقاً لرغبات المستهلكين، وإذا أعرض المستهلكون عن شراء سلعة معينة انخفض ثمنها في السوق، وبذلك يقل إنتاج هذه السلعة فتزيد الموارد المخصصة للإنتاج بزيادة الثمن، وتقل الموارد المخصصة للإنتاج بقلة الثمن. وبذلك يكون الثمن هو الذي حقق التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، وهو الذي كان أداة الاتصال بين المنتج والمستهلك، وهذا يجري بطريقة آلية. ومن هنا كان الثمن هو القاعدة التي يقوم عليها الاقتصاد في نظر الرأسماليين، وهو حجر الزاوية في الاقتصاد عندهم.

      هذه هي خلاصة النظام الاقتصادي في المبدأ الرأسمالي، وهو ما يسمونه (الاقتصاد السياسي)، ويتبين من دراسته والتعمق في بحثه فساد النظام الاقتصادي الرأسمالي من عدة وجوه:

      فالاقتصاد عندهم هو الذي يبحث في حاجات الإنسان ووسائل إشباعها، فيجعلون إنتاج السلع والخدمات التي هي وسائل إشباع الحاجات مع توزيع هذه السلع والخدمات على الحاجات بحثاً واحداً؛ أي يجعلون الحاجات ووسائل إشباعها متداخليْن بحيث يكونان شيئاً واحداً وبحثاً واحداً لا ينفصل أحدهما عن الآخر، بل ينطوي أحدهما في ثنايا الآخر، إذ ينطوي توزيع السلع والخدمات في بحث إنتاج هذه السلع والخدمات. وبناء على ذلك ينظرون إلى الاقتصاد نظرة واحدة تشمل المادة الاقتصادية وكيفية حيازها، دون فصل بينهما ودون تمييز أحدهما عن الآخر؛ أي ينظرون إلى علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي نظرة واحدة دون فرق بينهما، مع أن هنالك فرقاً بين النظام الاقتصادي وعلم الاقتصاد. فالنظام الاقتصادي هو الذي يبين توزيع الثروة وتملّكها والتصرف بها وما شاكل ذلك، وهو في بيانه هذا يسير وفق وجهة نظر معينة في الحياة. ولذلك كان النظام الاقتصادي في الإسلام غيره في الاشتراكية والشيوعية وغيره في الرأسمالية، لأن كل نظام منها يسير حسب وجهة نظر المبدأ في الحياة، بخلاف علم الاقتصاد، فإنه يَبحث في الإنتاج وتحسينه وإيجاد وسائله وتحسينها، وهذا عالمي عند جميع الأمم لا يختص به مبدأ دون آخر، كباقي العلوم، فمثلاً النظرة إلى الملكية تختلف في النظام الرأسمالي عنها في النظام الاشتراكي والشيوعي وعنها في الإسلام، بخلاف تحسين الإنتاج، فإنه بحث واقع، والنظرة إليه نظرة علمية، وهي واحدة عند جميع الناس من حيث النظرة مهما اختلف الفهم.

      فهذا الاندماج بين الحاجات والوسائل في البحث –أي بين إيجاد المادة الاقتصادية وكيفية توزيعها وجعلهما شيئاً واحداً وبحثاً واحداً- خطأ نتج عنه هذا الخلط والتداخل في أبحاث الاقتصاد عند الرأسماليين، ولذلك كان أساس تكوين الاقتصاد في المبدأ الرأسمالي أساساً خاطئاً.

      أمّا كون الحاجات التي تتطلب الإشباع لا تكون إلاّ مادية بحتة، فهو خطأ ويخالف واقع الحاجات، فهناك الحاجات المعنوية وهناك الحاجات الروحية، وكل منهما يتطلب الإشباع كالحاجات المادية، وكل منهما يحتاج إلى سلع وخدمات لإشباعها.

      وأمّا نظرة الاقتصاديين الرأسماليين إلى الحاجات والمنافع كما هي لا كما يجب أن يكون عليه المجتمع، فإن هذه النظرة تدل على أن رجل الاقتصاد الرأسمالي ينظر إلى الإنسان بأنه إنسان مادي بحت مجردٌ من الميول الروحية والأفكار الأخلاقية والغايات المعنوية، وهو لا يبالي ما يجب أن يكون عليه المجتمع من رِفعة معنوية بجعل الفضائل أساس علاقاته وما ينبغي أن يسوده من سمو روحي بجعل إدراك الصلة بالله هو المسيِّر للعلاقات من أجل نوال رضوان الله، هو لا يبالي بكل ذلك، بل همّه المادة البحتة التي تشبِع الجوعات المادية البحتة، فهو لا يغش في البيع حتى تربح تجارته، وإذا ربحها بالغش يصبح الغش مشروعاً، وهو لا يطعم الفقراء إجابة لأمر الله بالصدقة، وإنما يطعمهم حتى لا يسرقوه، فإن كان تجويعهم يزيد ثروته فإنه يقدِم على تجويعهم. وهكذا يكون همّ الاقتصادي النظرة إلى المنفعة باعتبارها تشبع حاجة مادية فحسب. فهذا الإنسان الذي ينظر هذه النظرة إلى الإنسان من خلال نظرته إلى المنفعة ويقيم الحياة الاقتصادية على أساس هذه النظرة يعتبر من أخطر الأشخاص على المجتمعات وعلى الناس. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأموال والجهود التي يسمونها السلع والخدمات إنّما يسعى إليها الفرد للانتفاع بها، وتبادل الناس لها يكوِّن بينهم علاقات يتكون بحسبها المجتمع، فلا بد أن يًنظر إلى ما يكون عليه المجتمع في علاقاته جملة وتفصيلاً حين النظرة إلى الأموال والحاجات. فالاهتمام بالمادة الاقتصادية من حيث كونها تشبع حاجة دون الاهتمام بما يجب أن يكون عليه المجتمع هو فصل للمادة الاقتصادية عن العلاقات، وهذا غير

    6. #6
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      طبيعي، لأن هذه المادة الاقتصادية يتبادلها الناس فتكوِّن علاقات بينهم، ، والعلاقات تكوِّن المجتمع، فلا بد من النظرة إلى ما سيكون عليه المجتمع حين النظر إلى المادة الاقتصادية، ولذلك لا يصح أن نعتبر الأشياء نافعة بمجرد وجود من يرغب فيها سواء أكانت في حقيقتها مضرة أم لا وسواء أكانت تؤثر على علاقات الناس أم لا وسواء أكانت محرمة في اعتقاد الناس في المجتمع أم كانت محللة، بل يجب اعتبار الأشياء نافعة إذا كانت حقيقة نافعة باعتبار ما يجب أن يكون عليه المجتمع، ولهذا لا يصح اعتبار الحشيش والأفيون وما شاكلها سلعاً نافعة واعتبارها مادة اقتصادية لمجرد وجود من يرغب فيها، بل يجب ملاحظة أثر هذه المواد الاقتصادية على العلاقات حين النظر إلى منفعة الأشياء؛ أي حين النظر إلى الشيء باعتباره مادة اقتصادية أو عدم اعتباره؛ أي يجب أن يُنظر إلى الأشياء باعتبار ما يجب أن يكون عليه المجتمع، ولا يجوز الاقتصار على النظرة إلى الشيء كما هو فحسب وغض النظر عما يجب أن يكون عليه المجتمع.

      وقد نتج من جراء اندماج بحث إشباع الحاجات في ثنايا بحث وسائل إشباعها ومن جراء نظرة الاقتصاديين إلى وسائل الإشباع باعتبارها فقط أنها تشبع حاجة، لا بأي اعتبار آخر، نتج من جراء ذلك أن صارت نظرة الاقتصاديين منصبة على إنتاج الثروة أكثر من انصبابها على توزيعها لإشباع الحاجات، بل صارت نظرة التوزيع ثانوية، وعلى هذا فإن النظام الاقتصادي الرأسمالي يهدف إلى غاية واحدة هي زيادة ثروة البلاد جملة، ويعمل للوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج ويجعل تحقيق أقصى ما يمكن من الرفاهية لأفراد المجتمع نتيجة لزيادة الدخل الأهلي ورفع مستوى الإنتاج في البلاد، وذلك بتمكينهم من أخذ الثروة حين يَترك لهم الحرية في العمل لإنتاجها ولحيازتها. فالاقتصاد لا يوجَد لإشباع حاجات الأفراد وتوفير الإشباع لكل فرد من أفراد المجموعة، وإنما هو منصب على توفير ما يشبع حاجات الأفراد -أي منصب على إشباع حاجات المجموعة- برفع مستوى الإنتاج وزيادة الدخل الأهلي للبلاد. وعن طريق توفر الدخل الأهلي يحصل حينئذ توزيع هذا الدخل بواسطة حرية الملك وحرية العمل على أفراد المجتمع، فيُترك للأفراد حرية نوال ما يستطيعونه من هذه الثروة، كلٌّ بحسب ما يملك من عوامل إنتاجها، سواء حصل الإشباع لجميع الأفراد أو حصل لبعضهم دون البعض.

      هذا هو الاقتصاد السياسي –أي الاقتصاد الرأسمالي-، وهذا خطأ محض ومخالف للواقع ولا يؤدي إلى رفع مستوى المعيشة للأفراد جميعهم ولا يحقق الرفاهية لكل فرد.

      ووجه الخطأ في هذا هو أن الحاجات التي تتطلب الإشباع هي حاجات فردية مع كونها حاجات إنسان، فهي حاجات لمحمد وصالح وحسن وليست حاجات لمجموعة الإنسان أو لمجموعة أمّة أو لمجموعة شعب، والذي يسعى لإشباع حاجاته هو الفرد سواء أكان إشباعه لها مباشرة كالأكل، أو إشباعه لها عن طريق إشباع المجموع كالدفاع عن الأمّة، ولذلك كانت المشكلة الاقتصادية متركزة على أساس توزيع وسائل الإشباع على الأفراد؛ أي توزيع الأموال والمنافع على أفراد الأمّة أو الشعب، وليس على الحاجات التي تتطلبها مجموعة الأمّة أو الشعب دون النظر إلى كل فرد من أفراده، وبعبارة أخرى المشكلة هي الحرمان الذي يصيب الفرد لا الحرمان الذي يصيب مجموع البلاد. والبحث في النظام الاقتصادي إنّما يكون في إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد لا البحث في إنتاج المادة الاقتصادية.

      ومن هنا لم تكن دراسة العوامل التي تؤثر على حجم الإنتاج الأهلي هي موضع البحث في إشباع جميع حاجات الأفراد الأساسية فرداً فرداً إشباعاً كلياً، وإنما موضع البحث هو دراسة حاجات الإنسان الأساسية من حيث هو إنسان، ودراسة توزيع الثروة على أفراد المجتمع لضمان إشباع جميع حاجاتهم الأساسية، وهو الذي يجب أن يكون ويحتل مكان الصدارة. على أن معالجة فقر البلاد لا يعالج مشاكل فقر الأفراد فرداً فرداً، ولكن معالجة مشاكل فقر الأفراد وتوزيع ثروة البلاد يحفز مجموعة أهل البلاد وأفرادهم على العمل لزيادة الدخل الأهلي. وأمّا دراسة العوامل التي تؤثر على حجم الإنتاج وزيادة الدخل الأهلي فإنّ بحثها يكون في علم الاقتصاد؛ أي في بحث المادة الاقتصادية وزيادتها، لا في بحث إشباع الحاجات التي ينظمها النظام الاقتصادي.

      أمّا كون الندرة النسبية للسلع والخدمات هي المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع، وادعاء أن كثرة الحاجات وقلة إشباعها، أي عدم كفاية السلع والخدمات لإشباع جميع حاجات الإنسان إشباعاً كلياً، هو أساس المشكلة الاقتصادية، فذلك خطأ يخالف الواقع. وذلك أن الحاجات التي تكون معالجتها حتمية هي الحاجات الأساسية لدى الفرد بوصفه إنساناً لا الحاجات الثانوية أو الكمالية، وإن كانت الحاجة الكمالية يُسعى ويُعمل لإشباعها. وعلى هذا فإن الحاجات الأساسية محدودة، والأموال والجهود التي يسمونها السلع والخدمات الموجودة في العالم كافية لإشباع الحاجات الأساسية. ويمكن إشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً للأفراد المستهلكين، فلا توجد مشكلة في الحاجات الأساسية فضلاً عن جعلها المشكلة الاقتصادية التي تواجه المجتمع. وإنما المشكلة الاقتصادية هي توزيع هذه الأموال والجهود على كل فرد من الأفراد لإشباع جميع حاجاتهم الأساسية إشباعاً كلياً ومساعدتهم على السعي لإشباع حاجاتهم الكمالية.

      أمّا مشكلة زيادة الحاجات المتجددة فإنها لا تتعلق بزيادة الحاجات الأساسية، لأن الحاجات الأساسية للإنسان من حيث هو إنسان لا تزيد، وإنما الذي يزيد ويتجدد هو حاجاته الكمالية. فالزيادة في الحاجات التي تحصل مع تقدم الإنسان في حياته المدنية إنّما تتعلق بالحاجات الكمالية لا الحاجات الأساسية، وهذه يُعمل لإشباعها، ولكن عدم إشباعها لا يسبب مشكلة، بل الذي يسبب مشكلة إنّما هو عدم إشباع الحاجات الأساسية. على أن مسألة زيادة الحاجات الكمالية مسألة أخرى تتعلق بالمجموع الذي يعيش في قطر معين لا في كل فرد من أفراد هذا القطر، وهذه المسألة يحلها اندفاع الإنسان الطبيعي لإشباع حاجاته، فيدفعه هذا الاندفاع الناتج عن زيادة الحاجات الكمالية إلى العمل لزيادة وسائل الإشباع إمّا بزيادة استغلال موارد بلاده أو بالعمل في بلاد أخرى أو بالتوسع والاندماج في بلاد أخرى. وهذه المسألة غير مشكلة إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد من أفراد المجتمع إشباعاً كلياً، لأن مشكلة توزيع الثروة على الأفراد فرداً فرداً لإشباع جميع حاجاتهم الأساسية إشباعاً كلياً ومساعدة كل فرد على إشباع حاجاته الكمالية، هذه المشكلة تتعلق بوجهة النظر في الحياة، وهي خاصة بأمّة معينة أو مبدأ معين، بخلاف مسألة زيادة الدخل الأهلي بزيادة الإنتاج، فإنها تتعلق بالواقع المحسوس للبلاد من حيث معرفة زيادة الثروة بالاستغلال أو الهجرة أو التوسع أو الاندماج، وهي منطبقة على الواقع ويقوم بها كل إنسان، وهي عامة لا تتعلق بوجهة نظر معينة ولا تخص أمّة معينة ولا مبدأ معيناً.

      وعلى هذا فالقواعد الاقتصادية التي توضع هي القواعد التي تضمن توزيع ثروة البلاد الداخلية والخارجية على جميع أفراد الأمة فرداً فرداً، بحيث يُضمن إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد فرداً فرداُ إشباعاً كلياً، وتمكين كل فرد منهم من إشباع حاجاته الكمالية.

      وأما رفع مستوى الإنتاج فيحتاج إلى أبحاث علمية، وبحثه في النظام الاقتصادي لا يعالِج المشكلة الاقتصادية، وهي إشباع جميع حاجات الأفراد فرداً فرداً إشباعاً كلياً، لأن زيادة الإنتاج تؤدي إلى رفع مستوى ثروة البلاد ولا تؤدي إلى إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد إشباعاً كلياً، وقد تكون البلاد غنية بإنتاجها كالعراق والسعودية مثلاً، ولكن الحاجات الأساسية لأكثر أفراد الشعب هناك ليست مشبَعة إشباعاً كلياً، ولذلك كانت زيادة الإنتاج لا تعالج المشكلة الأساسية التي يجب علاجها فوراً وقبل كل شيء، وهي إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد فرداً فرداً إشباعاً كلياً، ثم مساعدتهم على إشباع حاجاتهم الكمالية. وعلى ذلك فإن الفقر والحرمان المطلوب علاجه هو عدم إشباع الحاجات الأساسية للإنسان بوصفه إنساناً لا الحاجات المتجددة بحسب الرقي المدني، والمطلوب علاجه هو الفقر والحرمان لكل فرد من أفراد المجتمع فرداً فرداً لا فقر البلاد وحرمانها. وهذا الفقر والحرمان بهذا المفهوم لكل فرد لا يعالَج بزيادة الإنتاج، وإنمّا يعالج بكيفية توزيع الثروة على جميع الأفراد فرداً فرداً بحيث يشبِع كل فرد جميع حاجاته الأساسية إشباعاً كلياً ويساعَد على إشباع حاجاته الكمالية.

      أمّا موضوع القيمة، فإن النظام الاقتصادي الرأسمالي يعتبر القيمة نسبية وليست حقيقية، فهي إذن عندهم قيمة اعتبارية. وعلى هذا فقيمة ذراع القماش من الصوف هي آخر منفعة له في حالة توفره في السوق، وقيمته كذلك مقدار ما تحصل به من سلع وجهود، وتصبح القيمة ثمناً إذا كان ما تحصل عليه بثوب القماش نقوداً، وهاتان القيمتان عندهم شيئان منفصلان ومسميان مختلفان كل منهما عن الآخر، أحدهما المنفعة، والثاني قيمة الاستبدال. وهذا المعنى للقيمة بهذا التحديد خطأ لأن قيمة أي سلعة إنّما هي مقدار ما فيها من منفعة مع ملاحظة عامل الندرة، فالنظرة الحقيقية لأي سلعة هي النظرة إلى المنفعة مع ملاحظة عامل الندرة سواء ملكها الإنسان ابتداءً كالصيد أو مبادلةً كالبيع، وسواء أكان ذلك بالنسبة للشخص أو بالنسبة للشيء، فالقيمة إذاً اسم لمسمى معين له حقيقة مشخصة وليس هو اسماً لشيء اعتباري ينطبق على مسمى باعتبار ولا ينطبق عليه باعتبار آخر، فالقيمة هي شيء حقيقي وليست شيئاً نسبياً، وعليه فنظرة الاقتصاديين إلى القيمة نظرة خاطئة من أساسها.


    7. #7
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      أما ما يطلقون عليه (القيمة الحدّيّة) فإنه تقدير لتركيز الإنتاج على أسوأ الاحتمالات بالنسبة لتصريف السلع، فتقدَّر قيمة السلعة على أدنى حد حتى يظل الإنتاج سائراً على أساسٍ المضمون، وليست القيمة الحدية حقيقةً قيمة السلعة حتى ولا ثمن السلعة، لأن قيمة السلعة إنّما تقدَّر بمقدار ما فيها من منفعة عند التقدير مع ملاحظة عامل الندرة في ذلك الوقت، ولا يُنقِص من قيمتها نزول ثمنها بعد ذلك، كما لا يزيد من قيمتها ارتفاع ثمنها بعد ذلك، لأن قيمتها اعتُبرت حين تقديرها. وعلى هذه فالنظرية الحدية هي نظرية للثمن وليست نظرية للقيمة. وهنالك فرق بين الثمن والقيمة حتى عند الاقتصاديين الرأسماليين، فالثمن يتحكم في تقديره كثرة الطلب وقلة العرض معاً أو كثرة العرض وقلة الطلب معاً، وهو أمر يتعلق بزيادة الإنتاج لا في توزيعه. أما القيمة فإنه يتحكم في تقديرها المقدار الذي في السلعة من منفعة عند التقدير مع ملاحظة عامل الندرة دون اعتباره جزءاً قي التقدير. ولا يؤثر عليها العرض والطلب تأثيراً كلياً.

      وعلى هذا يكون بحث القيمة من أساسه خطأ محضاً فكل ما ترتب عليه من بحث خطأ محض من حيث التفريع. إلاّ أن قيمة السلعة إن قُدَّرت منفعتها بمنفعة سلعة أو جهد كان هو التقدير الصحيح وكان تقديراً أقرب إلى الثبات في المدى القصير، وإن قُدرت بالثمن كان تقديراً اعتبارياً لا تقديراً حقيقياً وتصبح حينئذ أقرب إلى التغير في كل وقت تبعاً للسوق، وحينئذ يَبطل كونها قيمة ولا يَصدق على واقعها حينئذ لفظ قيمة، وإنمّا تصبح أداة يحصل فيها نقود بحسب السوق لا بحسب ما فيها من منافع.

      ويقول الاقتصاديون الرأسماليون إن المنافع هي نتيجة المجهودات التي يبذلها الإنسان، فإذا لم يكن الجزاء مساوياً للعمل فلا شك أن مستوى الإنتاج ينحط. ويتوصلون من ذلك إلى أن الطريقة المثلى لتوزيع الثروة على أفراد المجتمع هي تلك التي تضمن الوصول إلى أرفع مستوى ممكن من الإنتاج.

      وهذا القول خطأ محض. فالواقع المحسوس هو أن المال الذي خلقة الله في الكون هو أساس المنفعة في السلع، والنفقات التي بُذلت في زيادة المنفعة لهذا المال أو إيجاد منفعة فيه مع العمل، هي التي جعلته على الشكل الذي صار إليه يؤدي منفعة معينة. فجعْل المنفعة نتيجة للمجهودات فحسب خطأ مخالف للواقع، وإهدار للمادة الخام وللنفقات التي بُذلت، وقد تكون هذه النفقات بدل مادة خام لا بدل عمل. وعليه فالمنفعة قد تكون نتيجة مجهودات الإنسان وقد تكون نتيجة وجود المادة الخام، وقد تكون نتيجة لهما معاً، وليست هي نتيجة لمجهودات الإنسان فحسب. وأمّا انحطاط مستوى الإنتاج فليس ناتجاً عن عدم مساواة الجزاء للعمل فحسب، فقد يكون ناتجاً عن ذلك وقد يكون ناتجاً عن استنفاد جميع الثروة التي في البلاد، وقد يكون ناتجاً عن الحروب، وقد يكون ناتجاً عن غير ذلك، فانحطاط الإنتاج في انكلترا وفرنسا بعد الحرب العالمية الثانية ليس ناتجاً عن عدم مساواة الجزاء للعمل بل هو ناتج عن تقلص ظِل كل واحدة منهما عن مستعمراتها الغنية وعن انهماكهما في الحرب. وانحطاط إنتاج الولايات المتحدة أثناء الحرب العالمية الثانية ليس ناتجاً عن عدم مساواة الجزاء للعمل بل ناتج عن انهماكها في الحرب ضد ألمانيا. وانحطاط الإنتاج في العالم الإسلامي اليوم ليس ناتجاً عن عدم مساواة الجزاء للعمل، وإنما هو ناتج عن الانحطاط الفكري الذي تتردى فيه الأمة الإسلامية بمجموعها. وعليه فإن عدم مساواة الجزاء للعمل ليست هي السبب الوحيد لانحطاط الإنتاج حتى يترتب على ذلك أن تكون الطريقة المثلى للتوزيع هي التي تَضمن رفع مستوى الإنتاج. والوصول إلى أرفع مستوى من الإنتاج لا علاقة له بتوزيع الثروة على الأفراد.

      ويقول الاقتصاديون الغربيون إن الثمن هو الحافز على الإنتاج لأن الدافع للإنسان على بذل أي مجهود هو مكافأته المادية عليه.

      وهذا القول مخالف للواقع، وهو غير صحيح، فكثيراً ما يبذل الإنسان المجهود لمكافأة معنوية كالفخر مثلاً أو لمكافأة روحية كنيل ثواب الله أو للتحلي بصفة خلقية كالوفاء. وحاجات الإنسان قد تكون مادية كالربح المادي، وقد تكون روحية كالتقديس، أو معنوية كالثناء. فحصْر الحاجات بالحاجات المادية غير صحيح، والإنسان قد يبذل مالاً لإشباع حاجة روحية أو حاجة معنوية بسخاء أكثر من بذله لإشباع الحاجات المادية. وعلى هذا فليس الثمن هو وحده الحافز على الإنتاج، فقد يكون الثمن وقد يكون غيره، ألا ترى أن حَجاراً قد يخصص نفس للعمل أشهراً في قطع الحجارة من أجل بناء مسجد؟ وأن مصنعاً قد يجعل إنتاجه أياماً من أجل توزيع منتوجاته على الفقراء؟ وأن الأمّة قد تخصص جهودها في حفر الخنادق وإعداد العدة من أجل الدفاع عن البلاد؟ فهل هذا الإنتاج ومثله كان الحافز عليه الثمن؟ على أن المكافأة المادية نفسها لا تنحصر بالثمن، فقد تكون سلعاً أخرى أو خدمات، فجعْل الثمن وحده هو الحافز على الإنتاج غير صحيح.

      ومن أغرب ما ينص عليه النظام الاقتصادي الرأسمالي جعْله الثمن المنظم الوحيد لتوزيع الثروة على أفراد المجتمع، ويقولون إن الثمن هو القيد الذي يجعل الإنسان يتوقف عن الحيازة والاستهلاك عند الحد الذي يتناسب مع موارده، وهو الذي يجعل استهلاك كل فرد قاصراً على ما تسمح به موارده، وبذلك يكون الثمن بارتفاعه لبعض السلع وانخفاضه لبعضها وتوفر النقد عند البعض وعدم توفره عند الآخرين، يكون الثمن بذلك منظِّماً لتوزيع الثروة على المستهلكين، ويكون نصيب كل فرد من ثروة البلاد ليس بمقدار حاجاته الأساسية، وإنما هو معادل لقيمة الخدمات التي ساهم بها في إنتاج السلع والخدمات، أي بمقدار ما يحوز من أرض أو رأسمال أو بمقدار ما قام به من عمل أو تنظيم لمشروعات.

      وبهذه القاعدة –وهي جعل الثمن هو المنظم للتوزيع- يكون النظام الاقتصادي الرأسمالي قد قرر أنه لا يستحق الحياة إلاّ من كان قادراً على المساهمة في إنتاج السلع والخدمات، أمّا من كان عاجزاً عن ذلك لأنه خُلِق ضعيفاً أو لأن هناك ضعفاً طرأ عليه فلا يستحق الحياة لأنه لا يستحق أن ينال من ثروة البلاد ما يسد حاجاته، وكذلك يستحق التخمة والسيادة والسيطرة على الغير بماله كل من كان قادراً على ذلك لأنه خُلِق قوياً في جسمه أو في عقله، وكان أقدر من غيره على الحيازة بأي طريق من الطرق، وكذلك يزيد في حيازة الثروة على غيره كل من كانت ميوله للمادة قوية، ويقل في حيازتها عن غيره كل من كانت ميوله الروحية وتعلقه بالصفات المعنوية أقوى لتقيده في كسب المادة بما تفرضه عليه القيود الروحية أو المعنوية التي التزم بأفكارها. وهذا يُبعِد العنصر الروحي والخلقي عن الحياة ويجعلها حياة مادية أساسها النضال المادي لكسب وسائل إشباع الحاجات المادية، وهذا ما هو واقع فعلاً في البلاد التي تعتنق النظام الرأسمالي والبلاد التي تطبقه. وقد ظهرت في البلاد التي تعتنق الرأسمالية في النظام الاقتصادي سيطرة الاحتكارات الرأسمالية واستبد المنتجون بالمستهلكين، وغدا فريقٌ قليل من الناس -كأصحاب الشركات الكبرى كشركات البترول والسيارات والمصانع الثقيلة وغيرها- يسيطر على جمهرة المستهلكين ويتحكم فيهم ويفرض عليهم أثماناً معينة للسلع، وهذا ما دعا إلى وجود محاولات لترقيع النظام الاقتصادي، فجعلوا للدولة الحق أن تتدخل في تحديد الثمن في ظروف خاصة لحماية الاقتصاد الأهلي وحماية المستهلكين ولتقليل استهلاك بعض السلع والحد من سلطة المحتكرين، وجعلوا في تنظيم الإنتاج مشروعات عامة تتولاها الدولة. إلاّ أن هذه الترقيعات وأمثالها بالرغم من أنها تناقض أساس النظام الاقتصادي –وهو الحرية الاقتصادية- فإنها تكون في أحوال وظروف معينة، علاوة على أن كثيرين من الاقتصاديين كأصحاب المذهب الفردي لا يقولون بها وينكرونها، ويقولون إن جهاز الثمن وحده كفيل بتحقيق الانسجام بين مصلحة المنتجين ومصلحة المستهلكين دونما حاجة إلى أية رقابة من حكومة. على أن هذه الترقيعات التي يقول بها أنصار التدخل إنّما تحصل في ظروف وأحوال معينة، ومع ذلك فحتى في هذه الظروف والأحوال لا يُجعَل توزيع الثروة على الأفراد محققاً إشباع جميع الحاجات لجميع الأفراد إشباعاً كلياً، وبذلك يبقى سوء التوزيع الذي قام على أساس حرية الملكية وعلى أساس جعل الثمن جهاز التوزيع الوحيد للثروة، مسيطراً على كل مجتمع يطبق النظام الاقتصادي الرأسمالي.

      أمّا ما يشاهَد في أمريكا من أن الثروة قد نال منها كل فرد أمريكي ما يشبِع حاجاته الأساسية جميعها إشباعاً كلياً ويشبع بعض حاجاته الأخرى، فإن ذلك ناتج عن وفرة غنى تلك البلاد إلى حد يتيح لكل فرد أن يتمتع بإشباع حاجاته الأساسية كلها وبعض حاجاته الكمالية، وليس راجعاً لجعل نصيب الفرد معادلاً لقيمة الخدمات التي ساهم بها في الإنتاج. ومع ذلك فإن جعل جهاز الثمن هو الذي يقيد التوزيع قد جعل الاحتكارات الرأسمالية في الغرب تخرج إلى خارج بلادها تبحث عن أسواق حتى تحصل منها على المواد الخام وعلى الأسواق لبيع مصنوعاتها. وما يعانيه العالم من استعمار ومناطق نفوذ وغزو اقتصادي إن هو إلاّ نتيجة هذه الشركات الاحتكارية ونتيجة جعل الثمن هو الذي يوزع الثروة. فتُجمَع ثروات العالم على هذا الأساس لتوضع في أيدي الاحتكارات الرأسمالية، وذلك كله من جراء سوء القواعد التي نص عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي.

    8. #8
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      هذا من ناحية النظام الاقتصادي الرأسمالي. أمّا من ناحية النظام الاقتصادي الاشتراكي ومنه الشيوعي فإنه نقيض النظام الاقتصادي الرأسمالي. وقد ظهرت أغلب الآراء الاشتراكية في القرن التاسع عشر وحارب الاشتراكيون آراء المذهب الحر محاربة شديدة؛ أي حاربوا النظام الاقتصادي الرأسمالي، وكان ظهور الاشتراكية بشكل قوي نتيجة للظلم الذي عاناه المجتمع من النظام الاقتصادي الرأسمالي وللأخطاء الكثيرة التي فيه، وباستعراض المذاهب الاشتراكية يتبين أنها تشترك في ثلاثة أمور تميزها عن غيرها من المذاهب الاقتصادية:

      أولها: تحقيق نوع من المساومات الفعلية.

      وثانيها: إلغاء الملكية الخاصة إلغاء كلياً أو جزئياً.

      وثالثها: تنظيم الإنتاج والتوزيع بواسطة المجموع.

      ولكنها مع اتفاقها في هذه الأمور الثلاثة تختلف عن بعضها اختلافاً بيناً في عدة مواضع، أهمها هي:

      أولاً: تختلف المذاهب الاشتراكية من حيث شكل المساواة الفعلية التي تريد تحقيقها، ففئة تقول بالمساواة الحسابية، ويُقصَد بها المساواة في كل ما يُنتَفع به، فيُعطى لكل فرد منه ما يعطى للآخر، وفئة تقول بالمساواة الشيوعية، ويُقصَد بها أن يراعى في توزيع الأعمال قدرة كل فرد، ويراعى في توزيع الناتج حاجات كل فرد، والمساواة تتحقق عندهم إذا ما طُبِّقت القاعدة الآتية: "مِن كلٍّ حسبَ قوّته –أي قدرته- (ويراد بهذا العمل الذي يقوم به)، ولكلٍّ حَسب حاجته (ويراد به ما يوزَّع من الإنتاج)"، وفئة تقول بالمساواة في وسائل الإنتاج، من حيث أن الأشياء لا تكفي في الواقع لسد حاجات كل الأفراد، فيجب أن تكون قاعدة التوزيع (من كلٍّ حسب قوته –أي قدرته-، ولكلٍّ بنسبة عمله)، وتتحقق المساواة إذا تهيأ لكل فرد من وسائل الإنتاج مثل ما للآخر.

      ثانياً: تختلف المذاهب الاشتراكية من حيث مقدار ما تقول بإلغائه من الملكية الخاصة، ففئة تقول بإلغاء الملكية الخاصة على الإطلاق، وهذه هي الشيوعية، وفئة تقول بإلغاء الملكية الخاصة بالنسبة لثروات الإنتاج، وهي التي يطلق عليها اسم رأس المال، مثل الأرض والمصانع والخطوط الحديدية والمناجم ونحوها؛ أي تمنع ملكية كل سلعة تنتج شيئاً، فلا يملك بيتاً يؤجره ولا مصنعاً ولا أرضاً ولا ما شابه ذلك، ولكنهم يحتفظون بالملكية للأفراد بالنسبة لثروات الاستهلاك، فيصح أن يملكوا كل ما يستهلكونه، فيملكون بيتاً للسكنى فقط ويملكون ما تنتجه الأرض والمصانع، وهذه هي اشتراكية رأس المال. وفئة لا تقول بإلغاء الملكية الخاصة إلاّ بالنسبة للأرض الزراعية دون غيرها، وهؤلاء هم الاشتراكية الزراعيون، وفئة تقول: "تُدرس كل حالة يدعو الصالح العام فيها إلى استملاك الملكية الخاصة بالملكية العامة وبتقييد أصحاب الملكية الخاصة في كثير من المواطن بأن يضع المشرِّع حداً أقصى للفائدة والإجارة وحداً أدنى للأجور، وأن يمنح العمال نصيباً في رأس المال ونحو ذلك، وهذه يقال لها اشتراكية الدولة.

      ثالثاً: تختلف المذاهب الاشتراكية من حيث الوسائل التي تقول بها لتحقيق أغراضها، فالنقابية الثورية تعتمد في تحرير العمال على ما تسميه الفعل المباشر –أي جهود العمال أنفسهم-، كالإكثار من الإضراب المتقطع وإتلاف الآلات ونشر فكرة الإضراب العام بين العمال والتأهب لتحقيقها حتى يأتي يوم يتمكنون فيه من تنفيذ مطالبهم، فتُشَل الحركات الاقتصادية وينهار النظام الاقتصادي الحالي.

      وأمّا الاقتصاديون الماركسيون فيؤمنون بسنّة التطور في المجتمع، ويعتقدون أنها وحدها كفيلة بالقضاء على النظام الموجود واستبداله بنظام آخر يقوم على أساس الاشتراكية.

      وأمّا أصحاب اشتراكية الدولة فوسيلتهم في تنفيذ أفكارهم هي التشريع، فإنّ في سنّ القوانين ما يكفل حماية المصالح العامة وتحسين حالة العمال، كما أن في فرض الضرائب وخصوصاً المدرَجة منها على الدخل ورأس المال والميراث ما يؤدي إلى تقليل التفاوت في الثروات.

      رابعاً: تختلف المذاهب الاشتراكية من حيث الهيئة التي يراد أن يوكَل إليها إدارة المشروعات في النظام الاشتراكي. فمثلاً يريد أصحاب اشتراكية رأس المال إسناد تنظيم الإنتاج والتوزيع إلى الدولة، في حين أن النقابيين يريدون إسناد الإدارة إلى جماعات من العمال منظمة على رأسهم زعماؤهم.

      وأشهر نظريات الاشتراكية وأكثرها تأثيراً نظريات كارل ماركس الألماني، فقد سادت نظرياته العالم الاشتراكي وقام على أساسها الحزب الشيوعي ودولة الاتحاد السوڤييتي في روسيا، ولا يزال لنظرياته تأثير كبير حتى اليوم.

      ومن أشهر نظريات كارل ماركس نظرية القيمة التي أخذها من علماء الاقتصاد الرأسمالي وهاجمهم بها، وذلك أن آدم سميث الذي يعتبر زعيم المذهب الحر في إنجلترا والذي يعتبر أيضاً واضع أسس الاقتصاد السياسي –أي النظام الاقتصادي الرأسمالي- قد عرَّف القيمة فقال: "قيمة أي سلعة تتوقف على كمية العمل المبذول في إنتاجها، فقيمة السلعة التي يستغرق إنتاجها ساعتين تعادل ضعف قيمة السلعة التي لا يتطلب إنتاجها سوى ساعة واحدة"، وجاء بعده ريكاردو، فحرص على أن يوضح نظرية العمل هذه فقال في تعريف القيمة: "إن ما يحد قيمة السلعة ليس هو مقدار العمل الذي يبذل في إنتاجها مباشرة فحسب، بل لا بد أن يضاف إليه العمل الذي بُذل في الماضي في إنتاج المعدات والأدوات التي تستخدم في عملية الإنتاج"؛ أي أن ريكاردو كان يعتقد أن قيمة السلعة تتوقف على نفقات إنتاجها، وقد رد هذه النفقات إلى عنصر واحد هو العمل.

      وقد جاء كارل ماركس بعد ذلك واتخذ من نظرية ريكاردو هذه للقيمة عند النظام الاقتصادي الرأسمالي سلاحاً لمهاجمة الملكية الخاصة والنظام الاقتصادي الرأسمالي بوجه عام، فذكر أن المصدر الوحيد للقيمة هو العمل المبذول في إنتاجها، وأن الممول الرأسمالي يشتري قوة العامل بأجر لا يزيد عما هو ضروري لإبقائه حياً قادراً على العمل، ثم يستغل هذه القوة في إنتاج سلع تفوق قيمتها كثيراً ما يدفعه للعامل، وقد أطلق كارل ماركس على الفرق بين ما ينتجه العامل وما يُدفَع له فعلاً اسم "القيمة الفائضة"، وقرر أنها تمثل ما يغتصبه المُلاَّك وأصحاب الأعمال من حقوق العمال باسم الريع والربح وفائدة رأس المال التي لم يعترف طبعاً بمشروعيتها.

      وقد رأى كارل ماركس أن المذاهب الاشتراكية التي جاءت قبله تعتمد في انتصار أفكارها على ما فُطِر عليه الإنسان من حبه للعدل وانتصاره للمظلوم، فكانت تضع طرقاً جديدة تعتقد بالإمكان تطبيقها على المجتمع وتتقدم بها إلى الحكام والمتمولين، والطبقة المتنورة تحثهم على تنفيذها. ولكن كارل ماركس لم يبنِ مذهبه على ذلك ولم يسلك الطرق التي سلكوها، فقد بنى مذهبه على أساس مبدأ فلسفي يُعرف "بالمادة التاريخية"؛ أي ما يسمى بالنظرية الديالكتيكية، ورأى أن قيام النظام الجديد في المجتمع سيتم بمجرد عمل القوانين الاقتصادية وبمقتضى قانون التطور في المجتمع، من غير تدخل إدارة متشرع أو مصلح. وقد أطلق على اشتراكية كارل ماركس اسم "الاشتراكية العلمية" تمييزاً لها عن الطرق الاشتراكية التي تقدمتها والتي أُطلق عليها اسم "الاشتراكية الخيالية". وتتلخص نظرية كارل ماركس الاشتراكية فيما يلي:

      ان نظام المجتمع الذي يقوم في عصرٍ ما هو نتيجة للحالة الاقتصادية، وإن التقلبات التي تصيب هذا النظام إنّما ترجع كلها إلى سبب واحد هو كفاح الطبقات من أجل تحسين حالتها المادية. والتاريخ يحدثنا بأن هذا الكفاح ينتهي دائماً على صورة واحدة هي انتصار الطبقة الأوفر عدداً والأسوأ حالاً على الطبقة الغنية والأقل عدداً، وهذا ما يسميه بقانون التطور الاجتماعي، وهو ينطبق على المستقبل كما ينطبق على الماضي، ففي العصور الماضية كان هذا الكفاح موجوداً بين الأحرار والأرِقَّاء، ثم بين الأشراف والعامة، ومن بعد بين الأشراف والفلاحين، وكذلك بين الرؤساء والعُرَفاء في نظام الطوائف، وقد كان ينتهي دائماً بانتصار الطبقة المظلومة الكثيرة العدد على الطبقة الظالمة القليلة العدد، ولكنه بعد انتصارها تنقلب الطبقة المظلومة إلى طبقة ظالمة محافظة. ومنذ الثورة الفرنسية أصبح هذا الكفاح قائماً بين الطبقة المتوسطة (البرجوازية) وطبقة العمال. فقد صارت الأولى سيدة المشروعات الاقتصادية ومالكة رؤوس الأموال كما صارت طبقة محافظة، وفي وجهها تقوم طبقة العمال، وهي لا تملك شيئاً من رأس المال ولكنها أوفر منها عدداً. فهناك تناقض بين مصالح هاتين الطبقتين، وهو يرجع إلى أسباب اقتصادية.

      ذلك أن نظام الإنتاج اليوم أصبح لا يتمشى مع نظام الملكية، فالإنتاج لم يعد فردياً أي يقوم به الشخص بمفرده كما كان في الأزمة الماضية، بل أصبح اشتراكياً -أي يشترك فيه الأفراد-، بينما أن نظام الملكية لم يتغير تبعاً لذلك، فظلت الملكية الفردية قائمة ولا تزال هي أساس النظام في المجتمع الحالي، فكان من نتيجة ذلك أن طبقة العمال –وهي تشترك في الإنتاج- لا تشترك في ملكية رأس المال وأن تصبح تحت رحمة أصحاب رأس المال الذين لا يشتركون بأنفسهم في الإنتاج في حين أنهم يستغلون العمال، إذ لا يدفعون إليهم من الأجر إلاّ ما يعادل الكفاف، والعامل مضطر إلى قبوله، إذ لا يملك غير عمله. فالفرق بين قيمة الناتج وأجر العامل –وهو ما يسميه كارل ماركس بالقيمة الفائضة- يتكون منه الربح الذي يستأثر به الرأسمالي، مع أن العدل يقضي أن يكون من نصيب العامل، فالحرب ستظل معلَنة بين هاتين الطبقتين حتى يتلاءم نظام الملكية مع نظام الإنتاج؛ أي حتى تصير الملكية اشتراكية. وسينتهي هذا النضال بانتصار الطبقة العمال تبعاً لقانون التطور في المجتمع لأنها هي الطبقة الأسوأ حالاً والأوفر عدداً. أمّا كيف تنتصر طبقة العمال وأسباب انتصارها فذلك ما ينبئ به قانون التطور للمجتمع، فنظام الحياة الاقتصادية الحاضرة يحمل في نفسه بذور الجماعة المستقبلة وهو يقضي عليه بالزوال بفعل القوانين الاقتصادية التي يخضع لها، فقد جاء وقت انتصرت فيه الطبقة المتوسطة على طبقة الأشراف فلعبت دوراً مهماً في الحياة الاقتصادية. إذ كانت هي مالكة رؤوس الأموال، ولكنها اليوم انتهت مهمتها وحان الوقت الذي تتخلى فيه عن مكانها لطبقة العمال. ويحتم عليها ذلك قانون "التركز" وفعل المنافسة الحرة. فبفعل قانون التركز أخذ يتناقص عدد أصحاب رأس المال ويتزايد عدد العمال الأُجَراء، كما أنه بفعل المنافسة الحرة تجاوز الإنتاج كل حد فأصبحت كمية الإنتاج تزيد عما يستطيع المستهلكون من طبقة العمال شراءه منها وهم يتناولون أجوراً غير كافية، فأدى ذلك إلى وقوع الأزمات التي من نتائجها أن يفقد بعض الناس رؤوس أموالهم فيدخلون في طبقة العمال، وكلما تقدم النظام الحاضر كلما اشتدت وطأة الأزمات وتقاربت أوقات وقوعها، وكلما تناقص عدد أصحاب رأس المال تزايد عدد العمال، ثم لا يلبث أن يأتي يوم تقع فيه أزمة أكبر من كل ما تقدمها فتكون هي النكبة الكبرى، إذ تقوّض أركان النظام الاقتصادي الرأسمالي فيقوم على أنقاضه نظام الاشتراكية، ويرى ماركس في قيام الاشتراكية آخر دور للتطور التاريخي لأنها إذ تهدم الملكية الخاصة فلا يكون هناك ما يدعو تطاحن الطبقات في المجتمع، وذلك لاختفاء ما بينها من الفروق.

      أما قانون التركز الذي يشير إليه كارل ماركس فهو من النظام الاقتصادي الرأسمالي. وخلاصته أن هناك حركة تنقّل في العمل ورأس المال من بعض المشروعات نحو البعض الآخر، إذ يكبر بعضها في حين يصغر البعض الآخر، فهذه كلها حالات تدل على حدوث تركز في الإنتاج، فإذا بحثت في عدد من المشروعات في فرع واحد كمصانع الشوكولاته مثلاً تجد أن عدد المشروعات قد صار إلى التناقص، في حين زاد متوسط ما يستخدم في كل مشروع من قوى الإنتاج، وفي هذا دليل على أنه قد حدث تركز في هذا الفرع من الإنتاج إذ أخذ الإنتاج الكبير يحل فيه محل الصغير، فلو كان عدد المصانع عشرة مثلاً فإنها تصبح أربعة أو خمسة مصانع كبيرة مثلاً وتنقرض باقي المصانع.

      وأمّا المنافسة الحرة الواردة في كلامه فهي تعني قاعدة حرية العمل، وهي أن يكون لكل شخص الحق في أن ينتج ما يشاء كما يشاء.

      وأمّا الأزمات الاقتصادية التي وردت في كلامه فهي تًطلق على كل اضطراب فجائي يطرأ على التوازن الاقتصادي، والأزمة الخاصة تشمل كل أنواع الأزمات التي تحل بفرع خاص من فروع الإنتاج بسبب ما يحدث من فقد التوازن بين الإنتاج والاستهلاك، وهذا الحادث ينجم إما عن إفراط في الإنتاج أو قلة فيه أو إفراط في الاستهلاك أو قلة فيه.

      وأمّا الأزمة العامة الدولية فهي تظهر على شكل هزة عنيفة تزعزع أركان النظام الاقتصادي كله وتكون هي النقطة التي تفصل بين عهد النشاط وعهد الكساد، وعهد النشاط يتراوح أجله بين ثلاث وخمس سنين، وعهد الكساد يتراوح أجله تلك المدة كذلك، والأزمات العامة الدولية لها صفات خاصة تتميز بها أهمها ثلاث صفات هي: صفة العموم، فهي تصيب في البلد الواحد كل نواحي النشاط الاقتصادي أو على الأقل أكثرها، ثم هي تظهر أولاً في أحد البلاد وتعم فيه ثم تسري منه إلى البلاد الأخرى التي أحرزت نصيباً من التقدم الاقتصادي وكان يربط بعضها ببعض علاقات مستمرة. والصفة الثانية صفة الدورية، وهي أنها تحدث كل مدة بصفة دورية، والدورة التي تفصل بين أزمة وأخرى تتراوح بين 7-11 سنة، إلاّ أن حدوثها ليس في مواعيد ثابتة ولكنها تحدث دورياً. أمّا الصفة الثالثة فهي إفراط الإنتاج، إذ يصادف أصحاب المشروعات صعوبة كبيرة في تصريف منتجاتهم فيزيد العرض على الطلب في كثير من المنتجات فتحصل الأزمة.

      فكارل ماركس يرى أن هذه الأزمات تؤدي إلى أن يفقد بعض الناس رؤوس أموالهم فيتناقص عدد أصحاب رؤوس الأموال ويتزايد عدد العمال، وهذا ما يحوِّل المجتمع إلى أن تحصل أزمة كبرى تقوِّض النظام القديم.

    9. #9
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      هذه خلاصة الاشتراكية، والشيوعية نوع من أنواعها. ومن هذه الخلاصة يتبين أن المذاهب الاشتراكية كلها بما فيها الشيوعية تعمل لتحقيق المساواة الفعلية بين الأفراد، إما المساواة بالمنافع أو المساواة في وسائل الإنتاج أو المساواة المطلقة، وكل واحد من أنواع هذه المساواة مستحيل الوقوع وهو فَرَض خيالي، وذلك أن المساواة من حيث هي غير واقعية، فهي غير عملية. أمّا كونها غير واقعية فإن الناس بطبيعة فطرتهم التي خُلقوا عليها متفاوتون في القوى الجسمية والعقلية ومتفاوتون في إشباع الحاجات، فالمساواة بينهم لا يمكن أن تحصل، إذ لو ساويت بينهم في حيازة السلع والخدمات جبراً بالقوة تحت سلطة الحديد والنار فإنه لا يمكن أن يتساووا في استعمال هذا المال في الإنتاج ولا في الانتفاع به، ولا يمكن أن تساوي بينهم بمقدار ما يشبع حاجاتهم، فالمساواة بينهم أمر نظري خيالي.

      على أن المساواة نفسها بين الناس مع تفاوتهم في القوى تعتبر بعيدة عن العدالة التي يزعم الاشتراكيون أنهم يحاولون تحقيقها، فالتفاضل بين الناس والتفاوت في حيازة المنافع وفي وسائل الإنتاج أمر حتمي، وهو الأمر الطبيعي، وكل محاولة للمساواة مكتوب لها الإخفاق لأنها مناقِضة لفطرة التفاوت الموجودة بين الأفراد من بني الإنسان.

      وأمّا إلغاء الملكية الخاصة إلغاء كلياً فهو يناقض فطرة الإنسان، لأن الملكية أو الحيازة مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهي حتمية الوجود في الإنسان لأنها فطرية فيه، فهي جزء من تكوينه ومظهر من مظاهر طاقته الطبيعية فلا يمكن إلغاؤها لأنها غريزية، وكل ما هو غريزي لا يمكن قلعه من الإنسان ما دامت تنبض فيه الحياة، وأي محاولة لإلغائها إنّما هي كبت للإنسان يؤدي إلى القلق، ولذلك كان الأمر الطبيعي أن يجري تنظيم هذه الغريزة لا إلغاؤها. وأمّا إلغاء الملكية جزئياً فإنه يُنظر فيه، فإن كان يحدد مقدار ما يملك من السلع بمقدار معين لا يتعداه فإنه يكون تحديداً للملكية بالكم وهذا لا يجوز لأنه يحد من نشاط الإنسان ويعطل جهوده ويقلل إنتاجه، فهو حين يمنعه من حيازة ما يزيد على مقدار ما حازه أوقفه عند حد، فحُرِم من مواصلة النشاط وحَرَم الجماعة من الانتفاع بجهود هؤلاء الأفراد.

      وإن كان يحدد مقدار ما يملك من السلع والخدمات بكيفية معينة من غير تحديد بالكم فذلك جائز لأنه لا يحد من نشاط الإنسان ولأن ذلك تنظيم لحيازة المال بين الأفراد، وهو يساعد على بذل المجهودات وزيادة النشاط.

      أمّا إن كان إلغاء الملكية إلغاء جزئياً يحدد أموالاً معينة يُمنع الفرد من ملكيتها ويباح له أن يملك ما عداها من غير تحديد بمقدار معين فإنه يُنظر فيه، فإن كانت طبيعة هذه الأموال التي وجدت عليها خلقة للانتفاع بها لا تتأتى حيازتها للفرد وحده دون غيره إلاّ بحرمان مجموعة الناس منها نظراً لاشتراك المنفعة فيها بين أفراد الناس طبيعياً كالطرق العامة وساحات البلدة والأنهار والبحار وما شاكل ذلك فإنَ منْع ملكية الفرد لها وحده دون غيره أمر طبيعي قد قررته طبيعة المال، فلا شيء حينئذ في منع الفرد من ملكيتها وحده دون غيره، وأمّا إن كانت طبيعة المال لا تقتضي ذلك يُنظر، فإن كان المال ملحَقاً بما هو من طبيعته أن لا يتأتى ملكه للأفراد إلاّ بحرمان مجموعة الناس منه -كالأموال التي لا يتأتى ملك أصلها كلها للأفراد مثل الماء والمعادن التي لا تنقطع- فإنه لا شيء في منع الفرد من ملكيتها لأنها ملحَقة بما من طبيعته أن لا يملكه الفرد إلاّ بحرمان المجموعة، والذي جعلها ملحَقة بتلك الأموال هو كون أصلها لا يتأتى ملكه للفرد إلاّ بحرمان المجموعة، أمّا إن لم يكن المال ملحَقاً بذلك –كسائر الأموال- فإنه لا يجوز أن يُمنَع الأفراد من ملكيتها لأنه يكون حينئذ تحديداً لملكية الأموال بالسماح لملكية بعضها دون البعض الآخر، فهو كتحديد ملكية المال بمقدار معين، ويصدق عليه ما يصدق على تحديد الملكية بالكم وتحصل له نفس النتائج فإنه يحد من نشاط الإنسان ويعطل جهوده ويقلل إنتاجه ويوقفه عن العمل حين يصل إلى المقدار الذي أُبيح له أن يحوزه وحين يُمنَع مما يزيد عليه.

      وإلغاء الملكية إلغاء جزئياً في الاشتراكية هو تحديد بالكم وليس تحديداً بالكيف، وهو منعٌ مِن ملكية بعض الأموال التي من طبيعتها ومن طبيعة أصلها الانفراد في حيازتها، لأنها إما أن تحدد الملكية بالكم كتحديد ملكية الأراضي في مساحات معينة، وإما أن تحدد الملكية بأموال معينة تمنع الأفراد من ملكيتها كتحديد وسائل الإنتاج مع أن هذه الأموال من طبيعتها أن يستقل بها الأفراد، وتحديدات الملكية في الاشتراكية هي من هذا النوع، فهي منع لملكية أموال من طبيعتها أن تُملَك فردياً، ومنع الملكية من هذه الأموال تحديد للنشاط، سواء أعُيِّنَت هذه الأموال –كمنع حق الميراث أو منع ملكية المناجم والسكك الحديدية والمصانع وما شاكل ذلك-، أو تُرك للدولة أن تمنعها كلما رأت الصالح العام يقتضي منعها، فإن ذلك كله يحد من نشاط الأفراد ما دامت الأموال التي مُنعت من طبيعتها أن يَستقل الفرد بملكيتها.

      وأمّا تنظيم الإنتاج والتوزيع بواسطة المجموع فإنه لا يتأتى بإثارة القلق والاضطراب بين الناس وإثارة الحقد والبغضاء فيهم على بعضهم البعض، فإن ذلك يعني إيجاد الفوضى وليس إيجاد التنظيم، ولا يأتي طبيعياً في ترك العمال يحسون بظلم أصحاب الأعمال لأنه قد يكون أصحاب الأعمال من المهارة بحيث يُشبعون جميع حاجات العمال كما هي الحال في عمال المصانع في الولايات المتحدة، فلا يحسون بالظلم الواقع عليهم في هضم ثمرات جهودهم، ولا يتأتى حينئذ التطور الذي ينظم الإنتاج والاستهلاك، ولذلك لا بد أن يأتي هذا التنظيم بأحكام ومعالجات صحيحة قطعية الأساس منطبقة على واقع المشاكل، والاشتراكية تعتمد في تنظيم الإنتاج والتوزيع إما على إثارة القلق والاضطرابات بين العمال، وإما على سنّة التطور في المجتمع، وإما على تشريعات وقوانين وضعية غير مستندة إلى أساس قطعي، ولذلك كان تنظيمها هذا خاطئاً من أساسه.

      هذا بيان خطأ الاشتراكية من حيث هي. أمّا خطأ اشتراكية كارل ماركس بنوع خاص فهو آتٍ من ثلاث جهات:

      الأولى: أن رأيه في نظرية القيمة خطأ مخالف للواقع، فإن كون المصدر الوحيد لقيمة السلعة هو العمل المبذول في إنتاجها يخالف الواقع، إذ العمل المبذول مصدر من مصادر قيمة السلعة وليس هو المصدر الوحيد لأن هناك أشياء أخرى غير العمل تدخل في قيمة السلعة، فهناك المادة الخام التي جري عليها العمل وهناك الحاجة لمنفعة هذه السلعة، فقد تكون المادة الخام تحوي منفعة تزيد على العمل الذي بُذِل في تحصيلها كالصيد مثلاً، وقد تكون منفعة هذه السلعة غير مطلوبة في السوق وغير مصرح بتصديرها -كالخمر عند المسلمين-، فجعْل العمل المصدر الوحيد للقيمة غير صحيح ولا ينطبق على واقع السلعة من حيث هي.

      والثانية: أن قوله إن النظام الاجتماعي الذي يقوم في عصر ما هو نتيجة للحالة الاقتصادية، وإن التقلبات المختلفة التي تصيب هذا النظام إنّما ترجع كلها إلى سبب واحد هو كفاح الطبقات الاجتماعية من أجل تحسين حالتها المادية، هذا القول خطأ مخالف للواقع ومبني على فَرَض نظري ظني. أمّا وجه خطئه ومخالفته للواقع فظاهر تاريخياً وواقعياً، فروسيا السوڤييتية حين انتقلت إلى الاشتراكية لم يحصل ذلك نتيجة لتطور مادي ولا إلى كفاح طبقات أدى إلى تغيير نظام بنظام، وإنما وصلت للحكم جماعة عن طريق ثورة دموية فأخذت تطبق أفكارها على الشعب وغيّرت النظام، وكذلك الحال في الصين الشعبية، وتطبيق الاشتراكية على ألمانيا الشرقية دون ألمانيا الغربية وعلى دول أوروبا الشرقية دون دول أوروبا الغربية لم يحصل نتيجة لأي كفاح بين الطبقات وإنما حصل من استيلاء دولة اشتراكية على هذه البلدان فطبقت عليها نظامها تماماً كما يحصل في النظام الرأسمالي، وكما حصل في نظام الإسلام، وكما يحصل في أي نظام. على أن البلاد التي كان يحتم هذا القانون أن يحول النظام لديها بفعل كفاح الطبقات هي ألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة، البلدان الرأسمالية التي يكثر فيها أصحاب رؤوس الأموال والعمال، لا روسيا القيصرية ولا الصين اللتان هما زراعيتان أكثر منهما صناعيتان، واللتان تقل فيهما طبقات العمال والرأسماليين إذا قيست بالبلدان الغربية، وبالرغم من وجود الطبقات بين الرأسماليين والعمال في دول أوروبا الغربية وفي أمريكا لم تُنقَل إلى الاشتراكية ولا تزال كلها تطبق النظام الرأسمالي، دون أن يؤثر وجود طبقة العمال وطبقة مالكي رؤوس الأموال على نظامها أي تأثير، وهذا وحده كافٍ لنقض هذه النظرية من أساسها.

      أمّا الجهة الثالثة التي يتبين فيها خطأ نظريات كارل ماركس فذلك ما يقول به من قانون التطور الاجتماعي، وأن نظام الحياة الاقتصادية مقضي عليه بالزوال بفعل القوانين الاقتصادية التي يخضع لها، وإن الطبقة المتوسطة التي انتصرت على طبقة الأشراف وكانت هي مالكة رؤوس الأموال قد حان الوقت الذي تتخلى فيه عن مكانها لطبقة العمال ويحتم عليها ذلك قانون التركز. أما وجه خطأ هذا القول فإن نظرية كارل ماركس في تركز الإنتاج التي يبنى عليها تزايد عدد العمال وتناقص أصحاب رؤوس الأموال هي نظرية فاسدة، فإن هناك حداً لا يتعداه تركز الإنتاج فيصل إلى حد معين ويقف فلا يصلح للتطور الذي يتصوره كارل ماركس إذ يحصل التجمع بين عوامل الإنتاج المشتتة إلى حد يقف عنده ولا يتعداه، علاوة على أن تركز الإنتاج ليس موجوداً مطلقاً في أهم فروع الإنتاج وهو الزراعة فكيف يحصل قانون التطور في المجتمع؟ على أن كارل ماركس يظن أن تركز الإنتاج يستتبع تركزاً في الثروات، مما ينشأ عنه قلة في عدد المتمولين الذين يستأثرون برؤوس الأموال وكثرة في عدد العمال الذين لا يملكون شيئاً وهذا خطأ لأن تركز الإنتاج قد ينشأ عنه كثرة في عدد أصحاب رؤوس الأموال وقد ينشأ عنه أن يصبح العمال أصحاب رؤوس أموال. ففي شركات المساهمة وهي الشكل الذي تتخذه عادة المشروعات الكبرى كثيراً ما يكون مساهموها أكثر من العمال فكيف يحصل تركز الإنتاج؟ وفوق ذلك فإن في المصانع عمالاً لهم أجور عالية كالمهندسين والكيميائيين والمديرين فيستطيعون أن يدخروا جزءاً كبيراً منها يصيرون به من المتمولين من غير حاجة إلى إنشاء مشروع مستقل، وحينئذ لا ينطبق عليهم ما يقوله كارل ماركس عن العمال في التطور.

      هذه لمحة خاطفة للأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الرأسمالي والأسس التي يقوم عليها النظام الاقتصادي الاشتراكي ومنه الشيوعي، وإشارة موجزة إلى ما في هذه الأسس من زيف وفساد. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنها مخالِفة لطريقة الإسلام في أخذ المعالجات ومناقِضة للإسلام. أما من ناحية مخالفتها لطريقة الإسلام في أخذ المعالجات للمشاكل، فذلك أن طريقة الإسلام في معالجة المشكلة الاقتصادية هي نفسها طريقته في معالجة كل مشكلة من مشاكل الإنسان وهي: دراسة واقع المشكلة الاقتصادية وتفهمها ثم استنباط حل المشكلة من النصوص الشرعية بعد دراسة هذه النصوص والتأكد من انطباقها عليها، بخلاف الأحكام والمعالجات الاقتصادية في الرأسمالية والاشتراكية، فإنها في الرأسمالية تؤخذ المعالجات من واقع المشكلة بعد دراستها، وفي الاشتراكية تؤخذ من فروض نظرية يُتَخيَّل أنها موجودة في المشكلة فيوضع العلاج بناء على هذه الفروض، وفي كل واحدة من هاتين الطريقتين مخالَفة لطريقة الإسلام، فلا يجوز للمسلم الأخذ بها.

      وأمّا مناقضة الاقتصاد الرأسمالي والاشتراكي –ومنه الشيوعي- للإسلام فذلك أن الإسلام إنّما يأخذ معالجاته أحكاماً شرعية مستنبَطة من الأدلة الشرعية، وهذه المعالجات الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية ليست أحكاماً شرعية بل هي من نظام الكفر، والحكم على الأشياء بها حكم بغير ما أنزل الله، ولا يحل لمسلم أن يأخذ بها ولا بوجه من الوجوه والأخذ بها فسق إذا كان الآخذ لا يعتقد بها، أمّا إذا اعتقد أنها هي الأحكام الصحيحة وأن أحكام الإسلام لا تناسب العصر الحديث ولا تعالج المشاكل الاقتصادية الحديثة فذلك كفر والعياذ بالله.

    10. #10
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي





      الاقتصــاد



      كلمة الاقتصاد مشتقة من لفظ إغريقي قديم معناه (تدبير أمور البيت)، بحيث يَشترك أفراده القادرون في إنتاج الطيبات والقيام بالخدمات، ويشترك جميع أفراده في التمتع بما يحوزون، ثم توسع الناس في مدلول البيت وصار يُقصد به الجماعة التي تحكمها دولة واحدة.

      وعليه فليس المقصود هنا من كلمة اقتصاد المعنى اللغوي وهو التوفير، ولا معنى المال، وإنما المقصود هو المعنى الاصطلاحي لمسمى معين وهو تدبير شؤون المال، إما بتكثيره وتأمين إيجاده –ويبحث فيه علم الاقتصاد-، وإما بكيفية توزيعه –ويبحث فيه النظام الاقتصادي-.

      وإنه وإن كان علم الاقتصاد والنظام الاقتصادي كل منهما يبحث في الاقتصاد ولكنهما شيئان مختلفان متغايران، ومفهوم أحدهما غير مفهوم الآخر، فالنظام الاقتصادي لا يختلف بكثرة الثروة ولا بقلتها ولا يتأثر بها مطلقاً، وكثرة الثروة وقلتها لا يؤثر عليها شكل النظام الاقتصادي ولا بوجه من الوجوه. وعليه كان من الخطأ الفادح جعل الاقتصاد موضوعاً واحداً يُبحَث على اعتباره شيئاً واحداً، لأنه يؤدي إما إلى الخطأ في إدراك المشاكل الاقتصادية المراد معالجتها، وإما إلى سوء فهم العوامل التي توفر الثروة –أي توجدها في البلاد-، ولأن تدبير أمور الجماعة من حيث توفير المال –أي إيجاده- شيء، وتدبير أمور الجماعة من حيث توزيع المال المدبَّر شيء آخر، فيجب أن يُفصل بحث تدبير مادة المال عن بحث تدبير توزيعه، إذ الأول يتعلق بالوسائل، والثاني يتعلق بالفكر، ولهذا يجب بحث النظام الاقتصادي باعتباره فكراً يؤثر على وجهة النظر في الحياة ويتأثر بها، وبحث علم الاقتصاد باعتباره علماً ولا علاقة له بوجهة النظر في الحياة، والبحث الهام منهما هو النظام الاقتصادي، لأن المشكلة الاقتصادية تدور حول حاجات الإنسان ووسائل إشباعها والانتفاع بهذه الوسائل، وبما أن الوسائل موجودة في الكون فإن إنتاجها لا يسبب مشكلة أساسية في إشباع الحاجات، بل إن إشباع الحاجات يدفع الإنسان لإنتاج هذه الوسائل أو إيجادها، وإنما المشكلة الموجودة في علاقات الناس –أي في المجتمع- ناجمة عن تمكين الناس من الانتفاع بهذه الوسائل أو عدم تمكينهم؛ أي ناجمة عن موضوع حيازة الناس لهذه الوسائل، فيكون هو أساس المشكلة الاقتصادية، وهو الذي يحتاج إلى علاج، وعلى ذلك فالمشكلة الاقتصادية آتية من موضوع حيازة المنفعة لا من إنتاج الوسائل التي تعطي هذه المنفعة.



      أساس النظام الاقتصادي



      المنفعة هي صلاحية الشيء لإشباع حاجة الإنسان. فهي تتكون من أمرين: أحدهما مبلغ ما يشعر به الإنسان من الرغبة في الحصول على شيء معين. والثاني المزايا الكامنة في نفس الشيء وصلاحيتها لإشباع حاجة الإنسان، وليس حاجة فرد معين. وهذه المنفعة إما ناتجة عن جهد الإنسان أو عن المال أو عنهما معاً. وتشمل كلمة جهد الإنسان: الجهد الفكري والجهد الجسمي الذي يبذله لإيجاد مال أو منفعة مال. وتشمل كلمة المال كل ما يُتمَوَّل للانتفاع به بالشراء أو الإجارة أو الإعارة، إما باستهلاك عينه إفنائاً كالتفاحة، أو بعدم استهلاكها كالسيارة، وإما بالانتفاع به مع بقاء عينه كالمنخل إعارة، وكسكنى الدار التي في حيازة غيره إجارة. ويشمل المال النقد كالذهب والفضة، والسلع كالثياب والأغذية، والعقارات كالدور والمصانع، وغير ذلك مما يُتمَوَّل. وبما أن المال هو الذي يُشبِع حاجات الإنسان، وما جهد الإنسان إلاّ أداة للحصول على المال عيناً ومنفعة، لذلك كان المال هو أساس المنفعة. وأمّا جهد الإنسان فهو من الوسائل التي تمكِّن من الحصول على المال. ومن هنا كان الإنسان بفطرته يسعى للحصول على هذا المال ليحوزه. وعليه يكون جهد الإنسان والمال هما الأداة التي تستخدم لإشباع حاجات الإنسان، وهما الثروة التي يسعى الإنسان للحصول عليها ليحوزها. فالثروة هي مجموع المال والجهد.

      وحيازة الأفراد للثروة تكون إما من أفراد آخرين كحيازة المال بالهبة، وإما من غير الأفراد كحيازة المال الخام مباشرة. وتكون إما حيازة للعين استهلاكاً وانتفاعاً كحيازة التفاحة وحيازة الدار ملكاً، وإما حيازة لمنفعة العين كاستئجار الدار، وإما حيازة للمنفعة الناتجة عن جهد الإنسان كخريطة دار من مهندس.

      وهذه الحيازة بجميع ما تَصدُق عليه إما أن تكون بِعِوَض كالبيع وإجارة المال وإجارة الأجير، وإما بغير عِوَض كالهبة والإرث والعارية.

      وعلى ذلك فالمشكلة الاقتصادية إنّما هي في حيازة الثروة وليست في إيجاد الثروة. وهي تأتي من النظرة إلى الحيازة أي الملكية، ومن سوء التصرف في هذه الملكية، ومن سوء توزيع الثروة بين الناس، ولا تأتي من غير ذلك مطلقاً، ولهذا كانت معالجة هذه الناحية هي أساس النظام الاقتصادي.

      وعلى ذلك فالأساس الذي يُبنى عليه النظام الاقتصادي قائم على ثلاث قواعد هي: الملكية، والتصرف في الملكية، وتوزيع الثروة بين الناس.



      نظرة الإسلام إلى الاقتصاد



      تختلف نظرة الإسلام إلى مادة الثروة عن نظرته إلى الانتفاع بها، وعنده أن الوسائل التي تعطي المنفعة شيء، وحيازة المنفعة شيء آخر. فالمال وجهد الإنسان هما مادة الثروة وهما الوسائل التي تعطي المنفعة، ووضعهما في نظر الإسلام من حيث وجودهما في الحياة الدنيا ومن حيث إنتاجهما يختلف عن وضع الانتفاع بهما وعن كيفية حيازة هذه المنفعة، فهو قد تدخّل في الانتفاع بالثروة تدخلاً واضحاً، فحرَّم الانتفاع من بعض الأموال كالخمر والميتة، كما حرّّم الانتفاع من بعض جهود الإنسان كالرقص والبغاء، فحرَّم بيع ما حَرُم أكله من الأموال، وحرَّم إجارة ما حَرُم القيام به من الأعمال. هذا من حيث الانتفاع بالمال وجهد الإنسان، أمّا من حيث كيفية حيازتهما فقد شرع أحكاماً متعددة لحيازة الثروة كأحكام الصيد وإحياء المَوات وكأحكام الإجارة والاستصناع وكأحكام الإرث والهبة والوصية.

      هذا بالنسبة للانتفاع بالثروة وكيفية حيازتها، أمّا بالنسبة لمادة الثروة من حيث إنتاجها فإن الإسلام قد حثّ على إنتاجها ورغّب فيه حين رغّب بالكسب بشكل عام، ولم يتدخل ببيان كيفية زيادة الإنتاج ومقدار ما يُنتج بل ترك ذلك للناس يحققونه كما يريدون. وأمّا من حيث وجودها فالمال موجود في الحياة الدنيا وجوداً طبيعياً، وخَلَقه الله سبحانه وتعالى مسخَّراً للإنسان، قال تعالى: )هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً(، وقال: )الله الذي سخّر لكمُ البحر لتجريَ الفلك بأمره ولتبتغوا من فضله(، وقال: )وسخّر لكم ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه(، وقال: )فلينظر الإنسان إلى طعامه أنّا صببنا الماء صباً ثم شققنا الأرض شقاً فأنبتنا فيها حباً وعنباً وقضباً وزيتوناً ونخلاً وحدائق غُلباً وفاكهة وأبّاً متاعاً لكم ولأنعامكم(، وقال: )وعلّمناه صَنعَة لَبوسٍ لكم لتُحصِنَكم من بأسكم(، وقال: )وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس(. فبيّن في هذه الآيات وما شابهها أنه خلق المال وخلق جهد الإنسان ولم يتعرض لشيء آخر يتعلق به، مما يدل على أنه لم يتدخل في مادة المال ولا في جهد الإنسان، سوى أنه بيّن أنه خلقها لينتفع بها الناس. وكذلك لم يتدخل في إنتاج الثروة، ولا يوجد نص شرعي يدل على أن الإسلام تدخّل في إنتاج الثروة، بل على العكس من ذلك نجد النصوص الشرعية تدل على أن الشرع ترك الأمر للناس في استخراج المال وفي تحسين جهد الإنسان، فقد رُويَ أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال في موضوع تأبير النخل: {أنتم أدرى بأمور دنياكم}، ورُوي أنه صلى الله عليه وسلم أرسل اثنين من المسلمين إلى جُرَش اليَمَن يتعلمان صناعة الأسلحة، وهذا يدل على أن الشرع ترك أمر إنتاج المال إلى الناس ينتجونه بحسب خبرتهم ومعرفتهم.

      وعلى هذا فإنه تبين من ذلك أن الإسلام ينظر في النظام الاقتصادي لا في علم الاقتصاد، ويجعل الانتفاع بالثروة وكيفية حيازة هذه المنفعة موضوع بحثه، ولم يتعرض لإنتاج الثروة ولا إلى وسائل المنفعة مطلقاً.

    11. #11
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي





      سياسة الاقتصاد في الإسلام


      سياسة الاقتصاد هي الهدف الذي ترمي إليه الأحكام التي تعالج تدبير أمور الإنسان. وسياسة الاقتصاد في الإسلام هي ضمان تحقيق الإشباع لجميع الحاجات الأساسية لكل فرد إشباعاً كلياً، وتمكينه من إشباع الحاجات الكمالية بقدر ما يستطيع باعتباره يعيش في مجتمع معين له طراز خاص من العيش، فهو ينظر إلى كل فرد بعينه لا إلى مجموع الأفراد الذين يعيشون في البلاد، وينظر إليه باعتباره إنساناً أولاً لا بد من إشباع جميع حاجاته الأساسية إشباعاً كلياً، ثم باعتبار فرديته المشخصة ثانياً بتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية بقدر ما يستطيع، وينظر إليه في نفس الوقت باعتباره مرتبطاً مع غيره بعلاقات معينة تُسيَّر تسييراً معيناً حسب طراز خاص. وعلى هذا فإن سياسة الاقتصاد في الإسلام ليست لرفع مستوى المعيشة في البلاد فحسب دون النظر إلى ضمان انتفاع كل فرد من هذا العيش، ولا هي لجلب الرفاهية للناس وتركهم أحراراً في الأخذ منها بقدر ما يتمكنون دون النظر إلى ضمان حق العيش لكل فرد منهم أياً كان، وإنما هي معالجة المشاكل الأساسية لكل فرد باعتباره إنساناً يعيش طبق علاقات معينة، وتمكينه من رفع مستوى عيشه وتحقيق الرفاهية لنفسه في طراز خاص من العيش. وبهذا تختلف عن غيرها من السياسات الاقتصادية.

      فالإسلام في الوقت الذي يشرِّع أحكام الاقتصاد للإنسان يجعل التشريع للفرد، وفي الوقت الذي يعمل لضمان حق العيش والتمكين من الرفاه يجعل ذلك يتحقق في مجتمع معين له طراز خاص من العيش، فهو ينظر إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع في الوقت الذي ينظر فيه إلى ضمان العيش والتمكين من الرفاه، ويجعل نظرته إلى ما يجب أن يكون عليه المجتمع أساساً في نظرته إلى العيش والرفاه. ولذلك تجد الأحكام الشرعية قد ضمنت توفير إشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً لكل فرد من أفراد رعية الدولة الإسلامية من مأكل وملبس ومسكن، وذلك بفرض العمل على الرجل القادر حتى يوفر لنفسه الحاجات الأساسية له ولمن تجب عليه نفقتهم، وفَرَضها على المولود له، وعلى الوارث إن لم يكن قادراً على العمل، أو على بيت المال إن لم يوجَد من تجب عليهم نفقته. وبهذا ضَمِن الإسلام لكل فرد بعينه أن يُشبع الحاجات التي لا بد للإنسان من حيث هو إنسان أن يشبعها، وهي المأكل والملبس والمسكن، ثم حثّ هذا الفرد على التمتع بالطيبات والأخذ من زينة الحياة الدنيا ما يستطيع، ومَنَع الدولة أن تأخذ من ماله ضرائب، مما هو فرضٌ على كافة المسلمين، إلاّ مما يزيد على كفاية حاجاته التي يشبعها فعلاً في حياته العادية، ولو كانت حاجات كمالية. وبذلك ضَمِن توفير حق العيش لكل فرد بعينه، وأتاح له الرفاه في الحياة. وهو في نفس الوقت حدد كسب المال لهذا الفرد في إشباع حاجاته الأساسية والكمالية في حدود معينة، وجعل علاقاته على طراز خاص، فحرّم إنتاج الخمر واستهلاكها على كل مسلم، ولم يعتبرها بالنسبة له مادة اقتصادية، وحرّم أكل الربا والتعامل به على كل من يحملون التابعية الإسلامية، ولم يعتبرها بالنسبة لهم مادة اقتصادية، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، فجَعَل الوضع الذي يجب أن يكون عليه المجتمع حين الانتفاع أمراً أساسياً عند الانتفاع بالمادة الاقتصادية.

      ومن ذلك يتبين أن الإسلام لم يفصِل الفرد عن كونه إنساناً، ولا فصَل كونه إنساناً عن فرديته، ولم يفصِل اعتبار ما يجب أن يكون عليه المجتمع عن ضمان إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد وتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية، بل جعل إشباع الحاجات وما يجب أن يكون عليه المجتمع أمرين متلازمين لا ينفصل أحدهما عن الآخر، ولكن بحيث يجعل ما يجب أن يكون عليه المجتمع أساساً لإشباع الحاجات. ومن أجل إشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً والتمكين من إشباع الحاجات الكمالية، لا بد أن تتوفر المادة الاقتصادية لدى الناس حتى يتمكنوا من إشباع الحاجات، ولا يتأتى أن تتوفر لديهم إلاّ إذا سعوا لكسبها، ولهذا حثّ الإسلام على الكسب، وعلى طلب الرزق، وعلى السعي، وجعَل السعي لكسب الرزق فرضاً، قال تعالى: )فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه(. إلاّ أنه ليس معنى ذلك أنه تدخَّل في إنتاج الثروة أو بيّن كيفية زيادة إنتاجها أو مقدار ما يُنتَج، لأنه لا علاقة له بذلك، بل هو حثَّ على العمل وعلى كسب المال فحسب. وقد وردت أحاديث كثيرة تحث على كسب المال، وفي الحديث: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صافح سعد بن معاذ رضي الله عنه فإذا يداه قد اكتبتا فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: أضربُ بالمرّ والمسحاة لأنفق على عيالي. فقبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم يده وقال: كفّان يحبّهما الله تعالى}، وقال عليه السلام: {ما أكل أحدكم طعاماً قط خيراً من عمل يده}، وقال عليه السلام: {إن من الذنوب ذنوباً لا يكفّرها الصوم ولا الصلاة. قيل: فما يكفّرهما يا رسول الله؟ قال: الهموم في طلب الرزق}. وروي أن عمر مرّ بقوم من القرّاء فرآهم جلوساً قد نكسوا رؤوسهم، فقال: من هؤلاء؟ فقيل: هم المتوكلون؟ فقال: كلاّ هم المتأكلون يأكلون أموال الناس. ألاَ أنبئكم من المتوكلون؟ فقيل: نعم، فقال: هو الذي يلقي الحَبّ في الأرض ثم يتوكل على ربه عزّ وجلّ. وهكذا نجد الآيات والأحاديث تحث على السعي لطلب الرزق وعلى العمل لكسب المال، كما تحث على التمتع بهذا المال وأكل الطيبات، قال تعالى: )قُل مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(، وقال تعالى: )ولا يَحسبنَ الذين يَبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً لهم بل هو شر لهم سيُطوَّقون ما بَخِلوا به يوم القيامة(، وقال تعالى: )كلوا من طيبات ما رزقناكم(، وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم وما أخرجنا لكم من الأرض(، وقال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تحرِّموا طيبات ما أحل الله لكم(، وقال: )وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً(. فهذه الآيات وما شابهها تدل دلالة واضحة على أن الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد تهدف إلى كسب المال والتمتع بالطيبات. فالإسلام فرض على الأفراد الكسب وأمرهم بالانتفاع بالثروة التي يكسبونها، وذلك لتحقيق التقدم الاقتصادي في البلاد ولإشباع الحاجات الأساسية لكل فرد، وتمكينه من إشباع حاجاته الكمالية. ومن أجل مراعاة حصول المسلم على المال نجد الإسلام حين شرَّع الأحكام المتعلقة بكيفية حيازة الثروة راعى عدم تعقيد هذه الكيفية التي يحوز بها الإنسان المال فجعلها بسيطة كل البساطة، إذ قد حدد أسباب التملك وحدد العقود التي يجري بها تبادل الملكية، وأطلق للإنسان أن يبدع في الأساليب والوسائل التي يكسب بها حين لم يتدخل في إنتاج الثروة. وقد جعل الأسباب والعقود خطوطاً عريضة تحوي قواعد شرعية وأحكاماً شرعية تدخل تحتها مسائل متعددة وتُقاس عليها أحكام متعددة. فشرع العمل وبيّن أحكامه وترك للإنسان أن يعمل نجاراً وحذّاءً وصانعاً وزارعاً وغير ذلك، وجعل الهدية على وجهٍ بحيث تقاس عليها العطية مثلاً في جعلها سبباً للملك، وجعل الإجارة على حال بحيث تقاس عليها الوكالة مثلاً في استحقاق أجرة الوكيل. وهكذا نجد أسباب التملك والعقود قد بيّنها الشارع وحدّدها في معاني عامة، وهذا يجعلها شاملة كل ما يتجدد من الحوادث ولكنها لا تتجدد بتجدد المعاملات، لوجوب تقيّد الناس بالمعاملات التي وردت في الشرع، ولكنها تنطبق على كل ما يتجدد من حوادث مهما بلغت ومهما تعددت. وبهذا يسير المسلم في كسب المال سيراً حثيثاً دون أن تقف في طريقه عقبات تحُول بينه وبين الكسب، مع الحرص على أن يجعل كسبه طيباً حلالاً. وبذلك يتوفر لكل فرد ما يشبِع له الحاجات التي تتطلب الإشباع. ولم يكتف الإسلام بحثّ الفرد، ولا جَعَل الإشباع مقصوراً على كسب الأفراد بل جعل بيت المال لجميع الرعية ينفَق عليهم منه، وجعل إعالة العاجز فرضاً على الدولة، وتوفير الحاجات للأمّة واجباً من واجباتها، لأن عليها حق الرعاية، قال عليه الصلاة والسلام: {الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته}. ومن أجل أن تقوم الدولة بما أوجبه الشرع عليها جعل لها سلطة جباية أموال معينة جباية دائمية كالجزية والخراج، وجعل أموال الزكاة في بيت المال، وجعل لها حق جباية ما هو فرض على كافة المسلمين كإصلاح الطرق وبناء المستشفيات وإطعام الجائعين وما شاكل ذلك، وجعل الملكية العامة تحت إدارتها تتولاها هي، ومنع الأفراد من أن يتولوها، ومنعها من أن تُملِّكَهم إياها أو تعطيهم إدارتها، لأن الولاية العامة هي لولي الأمر، ولا يجوز للرعية أن يقوم أحد بها إلاّ بتولية من ولي الأمر. وهذه الملكية العامة من بترول وحديد ونحاس وما شاكل ذلك أموال لا بد من استغلالها وتنميتها لتحقيق التقدم الاقتصادي للأمّة، لأن هذه الأموال للأمّة والدولة تتولاها لتنميتها وإدارتها. فإذا قامت الدولة بتوفير الأموال ونهضت بأعباء رعاية الشؤون وقام كل فرد بكسب المال والسعي إلى الرزق فقد توفرت الثروة التي تكفي لإشباع جميع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً وإشباع الحاجات الكمالية. إلاّ أن هذا التقدم الاقتصادي بالحث على كسب المال من كل فرد وجعْل أموال للدولة وإنماء الملكية العامة إنّما هو من أجل استخدام المال وسيلة لإشباع الحاجات وليس لذات المال ولا للتفاخر به ولا لإنفاقه على المعاصي أو للبطر والتجبر، ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {من طلب الدنيا حلالاً متعففاً لقي الله تعالى ووجهه كالقمر ليلة البدر، ومن طلبها مفاخراً مكاثراً لقي الله وهو عليه غضبان}، وقال عليه السلام: {ليس لك من مالك إلاّ ما أكلتَ فأفنيتَ، ولبستَ فأبليتَ، وتصدقت فأبقيت}، وقال تعالى: )ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين(. وليس جعْل القصد من كسب المال أن يكون وسيلة لإشباع الحاجات، لا للتفاخر، هو الذي طلبه الإسلام فقط بل جعل الإسلام تسيير الاقتصاد كله بأوامر الله ونواهيه أمراً حتمياً، وأمر المسلم أن يبتغي فيما يكسبه الحياة الأخرى ولا ينسى نصيبه من الدنيا، قال تعالى: )وابتغِ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنسَ نصيبك من الدنيا وأحسِن كما أحسن الله إليك ولا تبغِ الفساد في الأرض(، ولذلك جعل فلسفة الاقتصاد تسيير الأعمال الاقتصادية بأوامر الله ونواهيه بناء على إدراك الصلة بالله، أي جعل الفكرة التي بنى عليها تدبير أمور المسلم في المجتمع في الحياة هي جعل الأعمال الاقتصادية حسب ما تتطلبه الأحكام الشرعية باعتبارهاً ديناً، وجعل تدبير أمور الرعية ممن يحملون التابعية تقيّد أعمالهم الاقتصادية بالأحكام الشرعية باعتبارها تشريعاً، فيبيح لهم ما أباحه الإسلام ويقيدهم بما قيدهم به، قال تعالى: )وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا(، وقال: )يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور(، وقال: )فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم(، وقال: )وأنِ احكُم بينهم بما أنزل الله(. وقد ضمِن تقيّد المسلمين والناس بهذه الأحكام بالتوجيه الذي يجعل المسلم ينفذ هذه السياسة بدافع تقوى الله، والتشريع الذي تنفذه الدولة على الناس، قال تعالى: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين(، وقال: )يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بديْن إلى أجل مسمى فاكتبوه( إلى أن يقول: )إلاّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألاّ تكتبوها(. فهو إذن بيّن الكيفية التي تنفَّذ بها هذه الأحكام وبيّن الكيفية التي تضمن تقيّدهم بهذه الأحكام.

      وهكذا يشاهَد أن سياسة الاقتصاد في الإسلام مبنية على أساس إشباع الحاجات لكل فرد باعتباره إنساناً يعيش في مجتمع معين، وعلى كسب الثروة لتوفير ما يشبع الحاجات، وقائمة على فكرة واحدة هي تسيير الأعمال بالأحكام الشرعية ومنفـذة من كل فرد بدافع تقوى الله، وبالتنفيذ من قِبل الدولة بالتوجيه وبالتشريع.



      القواعد الاقتصادية العامة



      يتبين من استقراء الأحكام الشرعية المتعلقة بالاقتصاد أن الإسلام إنّما يعالج موضوع تمكين الناس من الانتفاع بالثروة، وأن هذه هي المشكلة الاقتصادية للمجتمع في نظره. وهو حين يبحث الاقتصاد إنّما يبحث في حيازة الثروة، وفي تصرف الناس بها، وفي توزيعها بينهم. وعلى هذا فإن الأحكام المتعلقة بالاقتصاد مبنية على ثلاث قواعد، هي: الملكية، والتصرف في الملكية، وتوزيع الثروة بين الناس.

      أمّا الملكية من حيث هي ملكية، فهي لله باعتباره مالك الملك من جهة، وباعتباره قد نص على أن المال له، قال تعالى: )وآتوهم من مال الله الذي آتاكم(، فالمال لله وحده، إلاّ أن الله سبحانه وتعالى استخلف بني الإنسان على المال وأمدّهم به، فجعل لهم حق ملكيته، قال تعالى: )وأنفقوا مما جعلكم مستخلَفين فيه(، وقال: )ويُمدِدكم بأموال وبنين(. ومن هنا نجد أن الله حين يبيّن أصل ملكية المال يضيف المال له فيقول: )مالِ الله(، وحين يبيّن انتقال الملكية للناس يضيف الملكية لهم فيقول: )فادفعوا إليهم أموالهم(، )خذ من أموالهم(، )فلكم رؤوس أموالكم(، )وأموالٌ اقتَرفتُموها(، )وما يغني عنه ماله(. غير أن حق الملكية هذا الذي جاء بالاستخلاف جاء عاماً لبني الإنسان بجميع أفرادهم، فلهم حق الملكية لا الملكية الفعلية، فهم مستخلَفون في حق التملك، أمّا الملكية الفعلية للفرد المعين فقد شرط الإسلام فيها الإذن من الله للفرد بتملكها. ولهذا فإن المال إنّما يملكه بالفعل من أذِن له الشارع بتملكه، ويكون هذا الإذن دلالة خاصة على أن هذا الفرد قد أصبح له الملكية للمال، فاستخلاف الناس جميعاً في الملكية جاء بالاستخلاف العام، وأفاد بوجود حق الملكية، واستخلاف الفرد المعين في الملكية الفعلية جاء بالإذن الخاص الذي جاء من الشارع للفرد في أن يتملكه.

      وقد بيّن الشرع أن هناك ملكية فردية، فلكل فرد أن يمتلك المال بسبب من أسباب التملك، قال عليه الصلاة والسلام: {من أحاط حائطاً على شيء فهو له}، وهناك ملكية عامة للأمّة كلها، قال عليه الصلاة والسلام: {الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار}. وهناك ملكية للدولة، فإن كل من مات من المسلمين ولا وارث له فماله لبيت المال، وما يُجبى من خراج وجزية وغير ذلك إنّما هو لبيت المال. وكل ما هو لبيت المال ملك للدولة ما عدا الزكاة. وللدولة أن تضع المال الذي هو ملكها حيث تشاء بحسب الأحكام الشرعية. وقد بيّن الشرع الأسباب التي يملك بها الفرد والحالات التي تملك بها الأمّة، والأسباب التي تملك بها الدولة، ومنع ما عدا ذلك.

      وأمّا التصرف في الملكية فإنه بالنسبة للملكية العامة جُعل للدولة لأنها نائبة عن الأمّة، ولكن الشارع منعها –أي الدولة- من التصرف بالملكية العامة بالمبادلة أو الصلة، وأجاز لها التصرف بها في غير ذلك بحسب الأحكام التي بيّنها الشرع. وأمّا بالنسبة لملكية الدولة وملكية الفرد فالتصرف واضح في أحكام بيت المال وأحكام المعاملات من بيع أو رهن أو غير ذلك. وقد أجاز الشارع للدولة وللفرد التصرف بملكيتهما بالمبادلة والصلة وغير ذلك بحسب الأحكام التي بيّنها الشرع. وأمّا توزيع الثروة بين الناس فإنه يجري في أسباب التملك وفي العقود طبيعياً، غير أن تفاوت الناس في القوى وفي الحاجة إلى الإشباع يؤدي إلى تفاوت التوزيع للثروة بين الناس، ويجعل احتمال الإساءة في هذا التوزيع موجوداً، فيترتب على هذه الإساءة في التوزيع تجمُّع المال بين يدي فئة وانحساره عن فئة أخرى، كما يترتب عليها كنز أداة التبادل الثابتة وهي الذهب والفضة، ولذلك جاء الشرع يمنع تداول الثروة بين الأغنياء فقط ويوجِب تداولها بين جميع الناس، وجاء يمنع كنز الذهب والفضة ولو أُخرجت زكاتهما.

    12. #12
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي





      الملكية الفردية



      من فطرة الإنسان أن يندفع لإشباع حاجاته، ولذلك كان من فطرته أن يحوز المال لإشباع هذه الحاجات، ومن فطرته أن يسعى لهذه الحيازة، لأن إشباع الإنسان لجوعاته أمرٌ حتمي لا يمكن أن يقعُد عنه. ومن هنا كانت حيازة الإنسان للثروة فوق كونها أمراً فطرياً هي أمر حتمي لا بد منه. ولذلك كانت كل محاولة لمنع الإنسان من حيازة الثروة مخالِفة للفطرة، وكانت كل محاولة لتحديد حيازته بمقدار معيَّن أمراً مخالِفاً للفطرة كذلك. ولهذا كان من الطبيعي أن لا يحال بين الإنسان وبين حيازة الثروة، ولا بينه وبين السعي لهذه الحيازة. إلاّ أن هذه الحيازة لا يجوز أن تُترك للإنسان ينالها كيف يشاء ويسعى لها كيف يشاء ويتصرف بها كيف يشاء، لأن هذا يؤدي إلى الفوضى والاضطراب ويسبّب الشر والفساد، لأن البشر يتفاوتون في القوى والحاجة إلى الإشباع، فإذا تُركوا وشأنهم حاز الثروة الأقوياء وحُرم منها الضعفاء، وهلك المرضى والقاصرون وأُتخِم بها المفرِطون في الشهوات. ولذلك كان لا بد من أن يكون تمكين الناس من حيازة الثروة ومن السعي لها سائراً على وجه يَضمن إشباع الحاجات الأساسية لجميع الناس، ويضمن تمكينهم من إمكانية الوصول إلى إشباع الحاجات غير الأساسية. ومن أجل ذلك كان لا بد من تحديد هذه الحيازة بكيفية معينة تتحقق فيها البساطة بحيث تكون في متناول الناس جميعاً على تفاوت قواهم وحاجاتهم وتتفق مع الفطرة بحيث تُشبِع الحاجات الأساسية وتمكِّن من الوصول إلى إشباع الحاجات غير الأساسية. ومن هنا كان لا بد من الملكية المحددة بالكيف، وكان لا بد من محاربة منع الملكية لأنها تتناقض مع الفطرة، ومحاربة تحديد الملكية بالكم، لأنها تحدد سعي الإنسان لحيازة الثروة وهو يتناقض مع الفطرة، ومحاربة حرية التملك لأنها تؤدي إلى فوضى العلاقات بين الناس وتسبب الشر والفساد. وقد جاء الإسلام فأباح الملكية الفردية وحددها بالكيف لا بالكم، فوافق بذلك الفطرة ونظم العلاقات بين الناس وأتاح للإنسان إشباع جوعاته كلها.



      تعريف الملكية الفردية



      الملكية الفردية هي حكم شرعي مقدَّر بالعين أو المنفعة، يقتضي تمكين مَن يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العِوَض عنه، وذلك كملكية الإنسان للرغيف والدار، فإنه يمكنه بملكيته للرغيف أن يأكله وأن يبيعه ويأخذ ثمنه، ويمكنه بملكيته للدار أن يسكنها وأن يبيعها ويأخذ ثمنها. فالرغيف والدار كل منهما عين، والحكم الشرعي المقدَّر فيهما هو إذن الشارع للإنسان بالانتفاع بهما استهلاكاً ومنفعة ومبادلة. وهذا الإذن بالانتفاع يستوجب أن يتمكن المالك- وهو من أضيف إليه الإذن- مِن أكل الرغيف وسكنى الدار كما يتمكن من بيعها. فبالنسبة للرغيف، الحكم الشرعي مقدَّر بالعين وهو الإذن باستهلاكها، وبالنسبة للدار، الحكم الشرعي مقدَّر بالمنفعة وهو الإذن بسكناها. وعلى هذا تكون الملكية هي إذن الشارع بالانتفاع بالعين. وعلى ذلك فلا تثبت الملكية إلاّ بإثبات الشارع لها وتقريره لأسبابها. وإذن فالحق في ملكية العين ليس ناشئاً عن العين نفسها وعن طبيعتها، أي عن كونها نافعة أو غير نافعة، وإنما هو ناشئ عن إذن الشارع وعن جعْله السبب الذي يبيح الملك للعين منتجاً المسبَّب الذي هو تملكها شرعاً. ولهذا أذِن في تملك بعض الأعيان ومَنَع مِن تملك بعضها، وأذِن في بعض العقود ومَنَع بعضها، فمنع تملّك الخمر والخنزير للمسلم، كما منع تملّك مال الربا ومال القمار لأي واحد من رعية الأمّة الإسلامية، وأذِن في البيع فأحلّه ومَنَع الربا فحرّمه، وأذِن في شركة العَنان، ومنع الجمعيات التعاونية وشركات المساهمة والتأمين.

      والتملك المشروع له شروط، كما أن للتصرف في الملك قيوداً بحيث لا تخرج الملكية عن مصلحة الجماعة ومصلحة الفرد باعتباره جزءاً من الجماعة لا فرداً منفصلاً، وباعتباره إنساناً في مجتمع معين. والانتفاع بالعين المملوكة إنّما حصل بسلطان من الشارع، أي أن أصل الملكية للشارع وهو أعطاها للفرد بترتيب منه على السبب الشرعي، فهي تمليك من الشارع لفرد في الجماعة شيئاً خاصاً لم يكن ليحق له ملكه لولا هذا التمليك.

      على أن الملكية للعين هي ملكية لذات العين وملكية لمنفعتها، وليست هي ملكية للمنفعة فقط، وإن كان المقصود الحقيقي من الملكية هو الانتفاع بالعين انتفاعاً معيناً بيّنه الشرع.

      وعلى ضوء هذا التعريف للملكية الفردية يمكن أن يُفهم أن هناك أسباباً مشروعة للتملك، ويمكن أن تُفهم أن هناك أحوالاً معينة للتصرف بهذه الملكية، ويمكن أن تُفهم أن هناك كيفية معينة للانتفاع بما يُملك، ويمكن أن تُفهم الحوادث التي تُعتبر اعتداء على حق الملكية الفردية. وهكذا يمكن أن يُفهم من التعريف المعنى الحقيقي للحيازة التي أباحها الشارع، ومعنى السعي لهذه الحيازة والانتفاع بما حازه، وبعبارة أخرى يدل التعريف على المعنى الحقيقي للملكية.



      معنى الملكيـة



      حق الملكية الفردية حق شرعي للفرد، فله أن يتملك أموالاً منقولة وغير منقولة. وهذا الحق مصون ومحدود بالتشريع والتوجيه. وحق الملكية هذا مع كونه مصلحة ذات قيمة مالية يحددها الشرع فإنه يعني أن معنى الملكية الفردية هو أن يكون للفرد سلطان على ما يملك للتصرف فيه، كما له سلطان على أعماله الاختيارية، ولذلك نجد أن تحديد حق الملكية أمر بديهي في حدود أوامر الله ونواهيه.

      وقد ظهر تحديد الملكية هذا في أسباب التملك المشروعة التي بها يتقرر حق الملكية، وفي الأحوال التي تترتب عليها العقوبات، والأحوال التي لا تترتب عليها عقوبات مثل تعريف السرقة ومتى تسمى سرقة وتعريف السلب وتعريف الغصب ... الخ، كما ظهر هذا التحديد أيضاً في حق التصرف في الملكية والأحوال التي يباح فيها هذا التصرف، والأحوال التي يُمنع فيها هذا التصرف، وفي تعريف تلك الأحوال وبيان حوادثها. والإسلام حين يحدد الملكية لا يحددها بالكمية وإنما يحددها بالكيفية، ويظهر هذا التحديد بالكيفية بارزاً في الأمور التالية:

      1- بتحديدها من حيث أسباب التملك وتنمية الملك لا في كمية المال المملوك.

      2- بتحديد كيفية التصرف.

      3- بكون رقبة الأرض الخراجية ملكاً للدولة لا للأفراد.

      4- بصيرورة الملكية الفردية ملكاً عاماً جبراً في أحوال معينة.

      5- بإعطاء من قصُرَت به الوسائل عن الحصول على حاجته ما يفي بتلك الحاجة في حدودها.

      وبهذا يظهر أن معنى الملكية الفردية هو إيجاد سلطان للفرد على ما يملك على كيفية معينة محددة جعلت الملكية حقاً شرعياً للفرد. وقد جعل التشريع صيانة حق الملكية للفرد واجباً على الدولة وجعل احترامها وحفظها وعدم الاعتداء عليها أمراً حتمياً. ولذلك وضعت العقوبات الزاجرة لكل من يعبث بهذا الحق سواء بالسرقة أو السلب أو أي طريق من الطرق غير المشروعة. فقد وضع التشريع له عقوبة زاجرة، ووضعت التوجيهات التهذيبية لكف النفوس عن التطلع إلى ما ليس لها فيه حق من حقوق الملكية، وما هو داخل في ملك الآخرين. فالمال الحلال هو الذي ينطبق عليه معنى الملكية، والمال الحرام ليس ملكاً ولا ينطبق عليه معنى الملكية.



      أسباب تملك المـال



      المال هو كل ما يُتمَوَّل مهما كانت عينه, والمقصود من سبب تملكه هو السبب الذي أنشأ ملكية المال للشخص بعد أن لم يكن مملوكاً له. وأمّا المبادلة بجميع أنواعها فليست من أسباب تملك المال وإنما هي من أسباب تملك الأعيان، إذ هي تملّك عين معينة من المال بعين غيرها من المال، فالمال مملوك أصلاً وإنما جرى تبادل أعيانه. وكذلك لا تدخل تنمية المال كربح التجارة وأجرة الدار وغلة الزرع وما شابهها في أسباب تملك المال، فإنها وإن كان قد نشأ فيها بعض المال جديداً ولكنه نشأ عن مال آخر، فهي من أسباب نماء المال وليست من أسباب تملك المال. والموضوع هو تملّك المال إنشاءً، وبعبارة أخرى هو الحصول على المال ابتداءً. والفرق بين أسباب التملك وأسباب تنمية الملك أن التملك هو الحصول على المال ابتداءً أي الحصول على أصل المال، وتنمية المال هي تكثير المال الذي مُلك، فالمال موجود وإنما نُمّيَ وكُثّرَ. وقد جاء الشرع لكل من الملك ومن تنمية الملك بأحكام تتعلق به. فالعقود، مِن بيع وإجارة، من الأحكام المتعلقة بتنمية المال، والعمل، مِن صيد ومضاربة، من الأحكام المتعلقة بالملك. فأسباب الملك هي أسباب حيازة الأصل، وأسباب تنمية الملك هي أسباب تكثير أصل المال الذي سبق أن حزناه بسبب من أسباب التملك.

      ولتملّك المال أسباب شرعية حصرها الشارع في أسباب معينة لا يجوز تعدّيها، فسبب ملكية المال محصور بما بيّنه الشرع. وتعريف الملكية السابق من أنها حكم شرعي مقدر بالعين أو المنفعة يقضي بأن يكون إذن من الشارع حتى يحصل التملك. وإذَن لا بد من أسباب يأذن الشارع بها ليحصل الملك، فإذا وُجد السبب الشرعي وُجد الملك للمال، وإذا لم يوجد السبب الشرعي لا يوجد ملك للمال ولو حازه فعلاً، لأن الملكية هي حيازة المال بسبب شرعي أذِن به الشارع، وقد حدد الشرع أسباب التملك بأحوال معينة بيّنها في عدد معين ولم يطلقها وجعلها خطوطاً عريضة واضحة تندرج تحتها أجزاء متعددة هي فروع منها ومسائل من أحكامها ولم يعللها بعلل كلية معينة فلا تقاس عليها كلّيات أخرى. وذلك لأن المتجدد من الحاجات إنّما هو في الأموال الحادثة وليس في المعاملات، أي ليس في نظام العلاقة وإنما هو في موضوعها، فكان لا بد من حصر المعاملات في أحوال معينة تنطبق على الحاجات المتجددة والمتعددة، وعلى المال من حيث هو مال، وعلى الجهد من حيث هو جهد. وفي هذا تحديد للملكية الفردية على الوجه الذي يتفق مع الفطرة وينظم هذه الملكية حتى يُحمى المجتمع من الأخطار المترتبة على إطلاقها. فإن الملكية الفردية مظهر من مظاهر غريزة البقاء، كما أن الزواج مظهر من مظاهر غريزة النوع، وكما أن العبادات مظهر من مظاهر غريزة التدين، فإذا أُطلقت هذه المظاهر في إشباع ما تتطلب إشباعه أدى ذلك إلى الفوضى والاضطراب وإلى الإشباع الشاذ أو الإشباع الخاطئ. ولذلك لا بد من تحديد الكيفية التي يحصل فيها الإنسان على المال حتى لا يتحكم أفراد قلائل في الأمّة عن طريق المال، ولا يُحرم الكثيرون من إشباع بعض حاجاتهم، وحتى لا يُسعى للمال لأجل المال فيفقد الإنسان طعم الحياة الهنيئة، ويُمنع المال من أن يناله الناس ويختفي في الخزائن والمخازن، ولهذا كان لا بد من تحديد أسباب التملك.

      وباستقراء الأحكام الشرعية التي تقتضي ملكية الشخص للمال يتبين أن أسباب التملك محصورة في خمسة أسباب هي:

      أ- العمل.

      ب- الإرث.

      ج- الحاجة إلى المال لأجل الحياة.

      د- إعطاء الدولة من أموالها للرعية.

      هـ- الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد.



      السبب الأول من أسباب التملك :



      العمــــــــل


      يتبين من إمعان النظر في أية عين من أعيان المال سواء أكانت قد وُجدت طبيعياً كالفِطر أو وُجدت بفعل إنسان كالرغيف والسيارة فإن الحصول عليها يحتاج إلى عمل.

      ولماّ كانت كلمة العمل واسعة الدلالة وكان العمل متعدد الأنواع ومختلف الأشكال ومتنوع النتائج، فإن الشارع لم يترك كلمة العمل على إطلاقها ولم ينص على العمل بشكل عام، وإنما نص على أعمال معينة محددة، فبيَّن في نصه هذا على هذه الأعمال أنواع العمل التي تصلح لأن تكون سبباً من أسباب التملك. ومن استقراء الأحكام الشرعية التي نصت على الأعمال يتبين أن أنواع العمل المشروع الذي يكون سبباً لتملك المال هي الأعمال الآتية:

      1- إحياء الموات.

      2- استخراج ما في باطن الأرض، أو ما في الهواء.

      3- الصيد.

      4- السمرة والدلالة.

      5- المضاربة.

      6- المساقاة.

      7- العمل للآخرين بأجر.



      إحياء المَوات



      المَوات هو الأرض التي لا مالك لها ولا ينتفع بها أحد. وإحياؤها هو زراعتها أو تشجيرها أو البناء عليها، وبعبارة أخرى هو استعمالها في أي نوع من أنواع الاستعمال الذي يفيد الإحياء. وإحياء الشخص الأرض يجعلها ملكاً له، قال عليه الصلاة والسلام: {من أحيا أرضاً مواتاً فهي له}، وقال: {من أحاط حائطاً على أرض فهي له}، وقال: {من أحاط حائطاً على شيء فهو له}، وقال: {من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به}. ولا فرق في ذلك بين المسلم والذمّيّ لإطلاق الأحاديث ولأن ما يأخذه الذمي من بطون الأودية والآجام ورؤوس الجبال ملكه ولا يجوز انتزاعه منه، فالأرض المَوات أولى أن تكون ملكه. وهذا عام في كل أرض سواء أكانت دار إسلام أم دار حرب، وسواء أكانت أرضاً عشرية أم خراجية. إلاّ أن شرط التملك أن يستثمر الأرض خلال مدة ثلاث سنين من وضع يده عليها، وأن يستمر هذا الإحياء باستغلالها. فإذا لم يستثمرها خلال مدة ثلاث سنوات من تاريخ وضع يده عليها أو أهملها بعد ذلك مدة ثلاث سنوات متتالية سقط حق ملكيته لها، قال عليه الصلاة والسلام: {عاديّ الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعد. فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنوات}.



      استخراج ما في باطن الأرض



      ومن أنواع العمل استخراج ما في باطن الأرض مما ليس من ضرورات الجماعة وهو الرِكاز، أي مما ليس حقاً لعامة المسلمين كما في التعبير الفقهي، فإن مُستَخرِجه يملك أربعة أخماسه ويُخرِج الخُمس زكاة له. أمّا إن كان من ضروريات الجماعة أي كان حقاً لعامة المسلمين فإنه يدخل في الملكية العامة. وضابطه أنّ ما كان مركوزاً في الأرض بفعل إنسان أو كان محدود المقدار لا يبلغ أن يكون للجماعة فيه حاجة فهو رِكاز، وما كان أصلياً وللجماعة فيه حاجة لم يكن ركازاً وكان ملكاً عاما، وأما ما كان أصلياً ولم يكن للجماعة فيه حاجة كالمحاجر التي تُستخرَج منها حجارة البناء وغيره فلا يكون ركازاً ولا ملكاً عاماً بل هو داخل في الملكية الفردية. وملكية الرِكاز وإخراج الخُمس منه ثابتة بالحديث الشريف، فقد رَوى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: {سئل رسول الله صلى الله عليه وآله سلم عن اللُّقَطة فقال: ما كان في طريق مأتيّ أو في قرية عامرة فعرّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلاّ فَلَكَ، وما لم يكن في طريق مأتي ولا في قرية عامرة ففيه وفي الركاز الخُمس}، ويلحق بأنواع استخراج ما في باطن الأرض استخراج ما في الهواء كان يُستخرَج منه الأكسجين والايدروجين، وكذلك استخراج كل شيء أباحه الشرع مما خلقه الله وأطلق الانتفاع به.



      الصيـد



      ومن أنواع العمل الصيد. فصيد السمك واللآلئ والمرجان والإسفنج وما إليها من صيد البحر يملكها من يصيدها، كما هو الحال في صيد الطير والحيوان وما إليها من صيد البر، فإنها ملك لمن يصيدها كذلك، قال تعالى: )أُحِلَّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسيارة وحرَّم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً(، وقال: )وإذا حللتم فاصطادوا(، وقال: )يسألونك ماذا أُحِلَّ لهم قل أُحِلَّ لكم الطيبات وما علَّمتُم من الجوارح مُكلِّبين تعلّمونهن مما علّمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه(، وروى أبو ثعلبة الخثني قال: {أتيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: يا رسول الله إنّا بأرض صيد، أصيد بقوسي وأصيد بكلبي المعلَّم وأصيد بكلبي الذي ليس بمعلَّم فأخبرني ماذا يصلح لي؟ قال: أمّا ما ذكرتَ أنكم بأرض صيد فما صدتَ بقوسك وذكرتَ اسم الله عليه فكُل، وما صدت بكلبك المعلَّم وذكرت اسم الله عليه فكُل، وما صدت بكلبك الذي ليس بمعلَّم فأدركتَ ذكاتهُ فكُل}.

    13. #13
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      السمسرة والدلالة



      السمسرة اسم لمن يعمل للغير بالأجر بيعاً وشراء، وهو يصدق أيضاً على الدلال فإنه يعمل للغير بالأجر بيعاً وشراء. والسمسرة نوع من أنواع الأعمال التي يُملَك بها المال شرعاً، فقد روى قيس بن أبي غرزة الكناني قال: كنا نبتاع الأوساق في المدينة ونسمي أنفسنا السماسرة فخرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمّانا باسم هو أحسن من اسمنا قال صلى الله عليه وسلم: {يا معشر التجار إن البيع يحضره اللغو والحلف فشوبوه بالصدقة}، ومعناه أنه يبالغ في وصف سلعته حتى يتكلم بما هو لغو وقد يجازف في الحلف لترويج سلعته فيُندَب إلى الصدقة ليمحو أثر ذلك. ولا بد من أن يكون العمل الذي استؤجر عليه للبيع والشراء معلوماً إما بالسلعة وإما بالمدة. فإذا استأجره ليبيع له أو ليشتري له الدار الفلانية أو المتاع الفلاني صح، وكذلك إذا استأجره ليبيع له أو ليشتري له يوماً إلى الليل صح، وأمّا إذا استأجره لعمل مجهول فهو فاسد.

      وليس من السمسرة ما يفعله بعض الأجراء وهو أن يرسل التاجر رسولاً عنه ليشتري له بضاعة من آخر فيعطيه الآخر مالاً مقابل شرائه من عنده فلا يحسبها من الثمن بل يأخذها له باعتبارها سمسرة من التاجر، وهو ما يسمى عندهم القومسيون، فهذا لا يعتبر سمسرة لأن الشخص وكيل عن التاجر الذي يشتري له، فما ينقص من الثمن هو للمشتري وليس للرسول، ولذلك يحرم عليه أخذه بل هو للمرسِل الذي أرسله، إلاّ أن يسامِح به المرسِل فيجوز، وكذلك لو أرسل خادمه أو صديقه ليشتري له شيئاً وأعطاه البائع مالاً أي قومسيون مقابل شرائه من عنده فإنه لا يجوز له أخذه لأنه ليس سمسرة وإنما هو سرقة من مال الشخص المرسِل إذ هو للمرسِل وليس للرسول المشتري عن المرسِل.



      المضارَبـة


      المضاربة هي أن يشترك اثنان في تجارة ويكون المال من أحدهما والعمل من الآخر، أي أن يشترك بَدَنٌ من شخص ومال من آخر فيكون من أحدهما العمل والمال من الآخر، وأن يتفقا على مقدار معين من الربح كثلث الربح أو نصفه مثل أن يُخرِج أحدهما ألفاً ويعمل فيه الآخر والربح بينهما. ولا بد من تسليم المال إلى العامل وأن يخلَّى بينه وبين المال، لأن المضاربة تقتضي تسليم المال المضارَب. وللعامل أن يشترط على رب المال ثلث الربح أو نصفه أو ما يُجمِعان عليه بعد أن يكون ذلك معلوماً جزءاً من أجزاء, ولأن استحقاق المضارِب الربح بعمله، فجاز ما يتفقان عليه من قليل أو كثير كالأجرة في الإجارة وكالجزء من الثمرة في المساقاة. فالمضاربة نوع من أنواع العمل الذي يكون سبباً للمِلك شرعاً فيملك المضارِب المال الذي ربحه من المضاربة بعمله حسب ما اتفقا عليه. والمضاربة نوع من أنواع الشركة لأنها شركة بَدَن ومال. والشركة من المعاملات التي نص الشرع على جوازها، قال صلى الله عليه وسلم: {يقول الله أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه فإذا خان أحدهما صاحبه خرجتُ من بينهما}، وقال عليه السلام: {يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا}، ورُوي أن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه كان إذا دفع مالاً مضاربةً شَرَط على المضارِب أن لا يسلك به بحراً وأن لا ينزل وادياً ولا يشتري به ذات كبد رطب فإن فعل ذلك ضمن. فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فاستحسنه. وأجمع الصحابة رضوان الله عليهم على جواز المضاربة، وكان عمر يدفع مال اليتيم مضاربة، وقد دفع عثمان إلى رجل مالاً مضاربة. وفي المضاربة يُنشئ المضارِب ملكاً له بعمله في مال غيره.



      المساقـــاة


      ومن أنواع العمل المساقاة، وهي أن يدفع الشخص شجره إلى آخر ليقوم بسقيه وعمل سائر ما يحتاج إليه بجزء معلوم له من ثمره. وإنما سميت مساقاة لأنها مفاعلة من السقي، لأن أهل الحجاز أكثر حاجة شجرهم إلى السقي لأنهم يستقون من الآبار فسُميت بذلك. والمساقاة هي من الأعمال التي نص الشرع على جوازها، فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: {عامَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر بشطر ما يخرج منها من ثمر أو زرع}. وتجوز المساقاة في النخل والشجر والكَرْم بجزء معلوم يُجعل للعامل من الثمر، وهذا في الشجر الذي له ثمر فقط، أمّا ما لا ثمر له من الشجر كالصفصاف، أو له ثمر غير مقصود كالصنوبر والأرز فلا تجوز المساقاة عليه لأن المساقاة إنّما تكون بجزء من الثمرة وهذا لا ثمرة مقصودة له. إلاّ أن يكون ما يقصد ورقه كالتوت والورد فإنه تجوز فيه المساقاة لأنه في معنى الثمر لأنه نماء يتكرر كل عام، ويمكن أخذه والمساقاة عليه بجزء منه فيثبت له مثل حكمه.



      إجارة الأجير



      أجاز الإسلام للفرد أن يستأجر إجراء أي عمالاً يعملون له، قال تعالى: )أهُم يَقسمون رحمة ربك فنحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سُخرِيّا(، وروى ابن شهاب فقال: أخبرني عروة بن الزبير أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: {استأجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل هادياً خريتاً وهو على دين قومه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال}. وقال الله تعالى: )فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن(، وقال عليه الصلاة والسلام: {قال الله عزّ وجلّ ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة رجل أعطى بي ثم غدر ورجل باع حراً فأكل ثمنه ورجل استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يوفّه أجره}. والإجارة هي تمليك من الأجير للمستأجر منفعة، وتمليك من المستأجر للأجير مالاً، فهي عقد على المنفعة بعِوَض. والعقد في إجارة الأجير إما أن يَرِد على منفعة العمل الذي يقوم به الأجير وإما أن يَرِد على منفعة الأجير نفسه. فإذا ورد العقد على منفعة العمل كان المعقود عليه هو المنفعة التي تحصل من العمل كاستئجار أرباب الحرف والصنائع لأعمال معينة كاستئجار الصباغ والحداد والنجار. وإن ورد العقد على منفعة الشخص كان المعقود عليه هو منفعة الشخص كاستئجار الخَدَمة والعمال. وهذا الأجير إما أن يعمل للفرد فقط مدة معلومة كمن يشتغل في معمل أو بستان أو مزرعة لأحد الناس بأجرة معينة، أو كموظفي الحكومة في جميع مصالحها، وإما أن يعمل عملاً معيناً لجميع الناس بأجرة معينة عما يعمل كالنجار والخياط والحذّاء ومن شاكلهم، والأول هو الأجير الخاص، والثاني هو الأجير المشترك أو الأجير العام.



      تحديد العمـل



      والإجارة هي الانتفاع بمنافع الشيء المؤجَّر. وهي بالنسبة للأجير الانتفاع بجهده. ولا بد في إجارة الأجير من تحديد العمل وتحديد المدة وتحديد الأجرة وتحديد الجهد. فلا بد من بيان نوع العمل حتى لا يكون مجهولاً، لأن الإجارة على المجهول فاسدة، ولا بد من تحديد مدة العمل مياومة أو مشاهرة أو مسانهة، ولا بد من تحديد أجرة العامل، قال عليه الصلاة والسلام: {من استأجر أجيراً فليُعلِمهُ أجره}، ولا بد من تحديد الجهد الذي يبذله العامل، فلا يكلَّف العمال من العمل إلاّ ما يطيقون، قال الله تعالى: )لا يكلِّفُ الله نفساً إلاّ وُسعَها(، وقال عليه الصلاة والسلام: {إذا أمرتُكم بأمر فأْتوا منه ما استطعتم}، فلا يجوز أن يُطلب من العامل أن يبذل جهداً إلاّ بقدر طاقته المعتادة. وبما أن الجهد لا يمكن ضبطه بمعيار حقيقي كان تحديد ساعات للعمل هو أقرب ميزان لضبطه في اليوم الواحد، فتُحدد ساعات العمل ضبطاً للجهد، ويحدد معها نوع العمل كحفر أرض صلبة أو رخوة وطرق حديد أو قطع حجارة أو سوْق سيارة أو عمل في منجرة، فإنه يبيّن مقدار الجهد أيضاً. وبذلك يكون العمل قد حُدّد في نوعه ومدته وأجرته والجهد الذي يبذل فيه. وعلى هذا فإن الشرع حين أباح استخدام العامل احتاط في تحديد عمله نوعاً ومدةً وأجرةً وجهداً، وهذا الأجر الذي يأخذه الأجير عِوَض قيامه بالعمل ملك له بالجهد الذي بذله.



      نوع العمل



      كل عمل حلال تجوز الإجارة عليه، فتجوز الإجارة على التجارة والزراعة والصناعة، وعلى الخدمة وعلى الوكالة وعلى نقل جواب الخصم طالباً كان أو مطلوباً، وعلى جلب البينة وحملها إلى الحاكم، وعلى طلب الحقوق وعلى القضاء بين الناس وعلى حفر الآبار والبناء وسوْق السيارات والطائرات وعلى طبع الكتب ونسخ المصاحف ونقل الركاب وغير ذلك. والإجارة على العمل إما أن تقع على عمل معين أو على عمل موصوف في الذمة، فإن وقعت الإجارة على عمل معين أو أجير معين كأن يستأجر خالد محمداً للقيام بخياطة هذا الثوب أو ليسوق هذه السيارة، وجب على نفس الأجير أن يقوم بالعمل ولا يجوز له أن يقيم غيره مقامه مطلقاً، فإذا مرض وعجز عن القيام بالعمل لم يقم غيره مقامه لأن الأجير قد عين، وإذا تلف الثوب المعين أو هلكت السيارة المعينة لا يجب عليه أن يقوم بالعمل في غيرهما لأن نوع العمل قد عُيّن. أمّا إذا وقعت الإجارة على عين موصوفة في الذمة أو أجير موصوف لعمل معين أو لعمل موصوف فإن الحكم يختلف حينئذ، ففي هذه الحال يجوز أن يقوم الأجير بالعمل ويجوز أن يقيم غيره مقامه، وإذا مرض أو عجز وجب عليه أن يقيم مقامه من يعمله، وكذلك يجب عليه أن يسوق السيارة أو يخيط الثوب، أي سيارة أو أي ثوب يحضره له المؤجر ما دام ينطبق عليه وصف العمل الذي جرى عقد الإجارة عليه، لأن التحديد لم يكن للذات فلا يكون تحديداً لها، بل هو تحديد للنوع، فيكفي فيه أي عين ما دامت من جنس النوع، وفي هذه الحال يكون تعيينه بالوصف لا بالذات جاعلاً الخيار له لأن يأتي بأي ذات من نفس النوع الذي جرى عليه العقد، وتحديد نوع العمل يشمل العامل الذي سيُعمل لبيان جهده كمهندس مثلاً، ويشمل العمل الذي سيُعمل لبيان الجهد الذي يبذل فيه كحفر بئر مثلاً، وعلى ذلك يكون تحديد العمل بالوصف كتحديده بالذات، فيكفي تعيينه بالوصف كتعيينه بالذات، ويكفي أن يكون في الذمة غائباً كما لو كان حاضراً مشاهَداً، فكما يجوز أن نستأجر فلاناً المهندس فيتعين هو، كذلك يجوز أن نستأجر مهندساً وصْفُه كذا، وكما يجوز أن نستأجر شخصاً لخياطة القميص الفلاني كذلك يجوز أن نستأجر شخصاً لخياطة قميص وصفه كذا.

      وإذا تقبَّل الرجل العمل من الأعمال فيعطيه لغيره بأقل من ذلك ويربح الباقي جاز، سواء أعان الثاني بشيء أم لم يُعِنه، لأنه يجوز له أن يؤجر غيره عليه بمثل الأجر الأول أو دونه أو زيادة عليه، وعلى ذلك فما يفعله أصحاب الصناعات كالخياطين والنجارين وأمثالهم من استئجار عمال للعمل معهم وكذلك ما يفعله المتعهدون من استئجار عمال للقيام بأعمال تعهدوا بها جاز، سواء أعطوهم المقدار الذي أخذوه أو أكثر أو أقل، لأن هذا استئجار، سواء أكان على أعمال معينة أو كان لمدة معينة، وهو من نوع الأجير الخاص الجائز شرعاً.

      أمّا تأجيره العمال على أن يأخذ شيئاً من أجرهم أو وضعه مشرفاً عليهم على جزء من أجرهم فلا يجوز، لأنه حينئذ يكون قد اغتصب جزءاً من أجرهم الذي قدره لهم، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إياكم والقسامة، قلنا: يا رسول الله، وما القسامة؟ قال: الرجل يكون على طائفة من الناس فيأخذ من حظ هذا أو حظ هذا}، فلو قاول متعهد شخصاً على أن يحضر مائة عامل كل عامل بدينار فأعطى العمال أقل من الدينار لا يجوز لأن المقدار الذي قاول عليه يعتبر أجراً محدداً لكل عامل منهم، فإذا أنقص منه أخذ من حقهم، أمّا لو قاوله على أن يحضر له مائة عامل ولم يذكر أجرة لهم وأعطاهم أجرة أقل من المقاولة فإنه يجوز، لأنه لا يكون أنقص من أجرهم المقدر لهم. ويُشترط في تحديد نوع العمل أن يكون التحديد نافياً للجهالة حتى تكون الإجارة على معلوم، لأن الإجارة على مجهول فاسدة، فلو قال: "استأجرتك لتحمل لي هذه الصناديق من البضاعة إلى مصر بعشرة دنانير" فالإجارة صحيحة، أو: "استأجرتك لتحملها لي كل طن بدينار" صح، أو: "لتحملها لي طناً بدينار وما زاد فبحساب ذلك" جاز أيضاً، وكذلك كل لفظ يدل على إرادة حملها جميعها، أمّا إذا قال له: "لتحمل منها طناً بدينار وما زاد فبحساب ذلك" يريد مهما حملت من باقيها فلا يصح، لأن المعقود عليه بعضها وهو مجهول، أمّا لو قال له "تنقل لي كل طن بدينار" صح، كما لو استأجره ليُخرج له ماءً كل متر بقرش جاز، فيُشترط أن تكون الإجارة عل معلوم، فإن دخلت الجهالة لا يصح.

    14. #14
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي



      مدة العمل



      من الإجارة ما لا بد فيه من ذكر العمل الذي يستأجر عليه فقط –كالخياطة وركوب السيارة إلى مكان كذا- ولا يُذكر فيه مدة، ومنها ما لا بد فيه من ذكر المدة التي يستأجره عليها فقط، ولا يُذكر فيه مقدار العمل، كأن يقول: "استأجرتك شهراً تحفر لي بئراً أو قناة" لم يحتج إلى معرفة القدر، وعليه أن يحفر ذلك الشهر قليلاً حفر أو كثيراً، ومنها ما لا بد فيه من ذكر المدة والعمل في مثل بناء دار وإنشاء مصفاة بترول وما شاكل ذلك، وكل عمل لا يُعرف إلاّ بذكر المدة لا بد فيه من ذكر المدة، لأن الإجارة لا بد أن تكون معلومة، وعدم ذكر المدة في بعض الأعمال يجعلها مجهولة، وإذا كانت الإجارة مجهولة لا تجوز، وإذا وقعت الإجارة على مدة معلومة كشهر وسنة ليس لأحدهما الفسخ إلاّ عند انقضاء المدة، وإذا أجّره على مدة مكررة كأن استأجر عاملاً كل شهر بعشرين دينار لزم العقد كل شهر بتلبس الأجير بالعمل الذي استؤجر للقيام به، ولا بد أن يكون ذكر المدة في عقد الإجارة، إلاّ أنه لا يُشترط في مدة الإجارة أن تلي العقد، بل لو أجّره نفسه فس شهر رجب وهو في شهر المحرم صح، وإذا ذكرت المدة في العقد أو كان ذكرها في العقد ضرورياً لنفي الجهالة يجب أن تحدد المدة بفترة من الزمن كدقيقة أو ساعة أو أسبوع أو شهر أو سنة.



      أجرة العمل



      ويُشترط أن يكون مال الإجارة معلوماً بالمشاهدة والوصف الرافع للجهالة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من استأجر أجيراً فليُعلِمه أجره}، وعِوَض الإجارة جائز أن يكون نقداً وجائز أن يكون غير نقد، وجائز أن يكون مالاً وجائز أن يكون منفعة، وكل ما جاز أن يكون ثمناً جاز أن يكون عِوَضاً، سواء أكان عيناً أو منفعة، على شرط أن يكون معلوماً، أمّا لو كان مجهولاً لا يصح، فلو استأجر الحاصد بجزء من الزرع لم يصح للجهالة، بخلاف ما لو استأجره بصاع واحد أو مُدّ صحّ، ويجوز أن يستأجر الأجير بطعامه وكسوته أو يجعل له أجراً مع طعامه وكسوته، لأن ذلك جائز في المرضعة، قال تعالى: )وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف(، فجعل لهن النفقة والكسوة على الرضاع، وإذا جاز في المرضعة جاز في غيرها، لأنه كله إجارة، فهي مسألة من مسائل الإجارة.

      والحاصل أنه يجب أن تكون الأجرة معلومة علماً ينفي الجهالة حتى يتمكن من استيفائها من غير منازعة، لأن الأصل في العقود كلها أن تنفي المنازعات بين الناس، ولا بد من المقاطعة على الأجرة قبل البدء في العمل، ويُكره استعمال الأجير قبل أن يقاطَع على الأجرة، وإن وقعت الإجارة على عمل ملك العامل الأجرة بالعقد، لكن لا يجب تسليمها إلاّ بعد العمل، فيجب حينئذ تسليمها فوراً، لقوله عليه الصلاة والسلام: {أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه}، أمّا إذا اشترط تأجيل الأجر فهو إلى أجله، وإن شرطه منجَّماً يوماً يوماً أو شهراً شهراً أو أقل من ذلك أو أكثر فهو على ما اتفقا عليه، ولا ضرورة لأن يستوفي المستأجر المنفعة بالفعل، بل يكفي تمكينه من الانتفاع لأن يجعل الأجرة مستحقة عليه، فلو استأجر أجيراً خاصاً ليخدمه في بيته وجاء إلى البيت ووضع نفسه تحت تصرفه استحق الأجر بمضي المدة التي يمكن الانتفاع فيها من الأجير، لأنه وإن كان العقد على المنفعة ولم يستوفها بالفعل، ولكن تمكينه من استيفائها وعدم مباشرته لاستيفاء المنفعة كافٍ لاستحقاق الأجرة، لأن التقصير جاء من جهة المستأجِر لا من جهة الأجير، أمّا الأجير المشترك أو الأجير العام فإنه إذا استؤجر على عمل معين في عين فلا يخلو إما أن يوقعه وهو في يد الأجير كالصباغ يصبغ في حانوته والخياط في دكانه، فلا يُبرأ من العمل حتى يسلمها للمستأجر، ولا يستحق الأجر حتى يسلمه مفروغاً منه، لأن المعقود عليه في مدة فلا يُبرأ منه ما لم يسلمه إلى العاقد، وأمّا إن كان يوقع العمل في ملك المستأجر –مثل أن يحضره المستأجر إلى داره ليخيط فيها أو يصبغ فيها- فإنه يُبرأ من العمل ويستحق أجره بمجرد عمله، لأنه في يد المستأجر فيصير مسلّماً للعمل حالاً فحالاً.



      الجهد الذي يُبذل في العمل



      يقع العقد في إجارة الأجير على منفعة الجهد الذي يبذله، وتقدر الأجرة بالمنفعة، أمّا الجهد نفسه فليس هو مقياس الأجر ولا مقياس المنفعة، وإلا لكان أجر الحجار أكثر من أجر المهندس، لأن جهده أكثر مع أن العكس هو الواقع، وعليه فإن الأجر هو بدل المنفعة وليس بدل لجهد. وكما يختلف الأجر ويتفاوت باختلاف الأعمال المتعددة فإنه يتفاوت كذلك الأجر في العمل الواحد بتفاوت إتقان المنفعة لا بتفاوت الجهد، والعقد في كلتا الحالتين وقع على منفعة الأجير لا على جهد الأجير، فالعبرة بالمنفعة، سواء أكانت منافع أجراء مختلفين في أعمال متعددة أم منافع عملاء مختلفين في العمل الواحد، ولا اعتبار للجهد مطلقاً. نعم، إن المنفعة في الأعمال إنّما هي ثمرة الجهد سواء أكان في الأعمال المختلفة أم في العمل الواحد من الأشخاص المتعددين، ولكن المراد منها هو المنفعة لا مجرد بذل الجهد، وإن كان يلاحظ الجهد، وإذا استأجر رجلاً للبناء لا بد من تقدير الاستئجار بالزمن أو العمل، فإن قدّره بالعمل فظاهر فيه المنفعة في بيان موضعه وطوله وعرضه وسمكه ومادة البناء ..إلخ، وإن قدّره بالزمن فالمنفعة فيه تزيد بكثرة المدة وتنقص بقلتها عادة، فكان وصف العمل وذِكر الزمن مقياساً للمنفعة، وإذا قدر بالزمن لا يعمل أكثر من طاقته العادية، ولا يُلزم بالمشقة غير العادية.



      حكم إجارة المنافع المحرَّمة وغير المسلِم



      ويشترط لصحة الإجارة أن تكون المنفعة مباحة، ولا تجوز إجارة الأجير في ما منفعته محرمة، فلا تجوز إجارة الأجير على حمل الخمر لمن يشتريها ولا على عصرها ولا على حمل خنزير ولا ميتة، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم أنه لعن حامل الخمرة والمحملة إليه، وكذلك لا تجوز الإجارة على عمل من أعمال الربا، لأنه إجارة على منفعة محرمة، ولأنه قد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه لعن آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه}، أمّا موظفو المصارف (البنوك) ودوائر القطع وجميع المؤسسات التي تشتغل بالربا فإنه يُنظر، فإن كان العمل الذي استؤجروا له جزءاً من أعمال الربا سواء نتج عنه وحده الربا أو نتج عنه مع غيره من الأعمال ربا فإنه يحرم على المسلِم القيام بهذا العمل، وذلك كالمدير والمحاسبين والمدققين وكل عمل يؤدي منفعة تتصل بالربا سواء أكان اتصالها بشكل مباشر أو غير مباشر، أمّا الأعمال التي لا تتصل بالربا لا بشكل مباشر ولا غير مباشر –كالبواب والحارس والكناس وما شاكل ذلك- فإنه يجوز، لأنه استئجار على منفعة مباحة، ولأنه لا ينطبق عليه ما ينطبق على كاتب الربا وشاهديه، ومثل موظفي المصارف موظفو الحكومة الذين يشتغلون بعمليات الربا، مثل الموظفين الذين يشتغلون في تحضير القروض للفلاحين بربا، وموظفي المالية الذين يعملون بما هو من أعمال الربا وموظفي دوائر الأيتام التي تقرض الأموال بالربا، فكلها وظائف محرمة يُعتبر من يشتغل بها مرتكباً كبيرة من الكبائر لأنه ينطبق عليه أنه كاتب للربا أو شاهده، وهكذا كل عمل من الأعمال التي حرمها الله تعالى يحرم أن يكون المسلم فيه أجيراً.

      أمّا الأعمال المحرم ربحها أو الاشتراك بها لأنها باطلة شرعاً –كشركات التأمين وشركات المساهمة والجمعيات التعاونية وما شاكل ذلك- فإنه يُنظر فيها، فإن كان العمل الذي يقوم به الموظف من الأعمال التي أبطلها الشرع أو كان من العقود الباطلة أو الفاسدة أو الأعمال المترتبة عليها فلا يجوز للمسلم أن يقوم به، لأنه لا يجوز للمسلم أن يباشر العقود الباطلة أو العقود الفاسدة أو الأعمال المترتبة عليها، ولا يجوز له أن يباشر عقداً أو عملاً يخالف الحكم الشرعي، فيحرم أن يكون أجيراً فيه، وذلك كالموظف الذي يكتب عقود التأمين ولو لم يقبلها، أو الذي يفاوض على شروط التأمين أو الذي يقبل التأمين، ومثل الموظف الذي يوزع الأرباح بحسب المشتريات في الجمعيات التعاونية، ومثل الموظف الذي يبيع أسهم الشركات أو الذي يشتغل في حسابات السندات، ومثل الموظف الذي يقوم بالدعاية للجمعيات التعاونية وما شاكل ذلك، فجميع الموظفين في الشركات إن كان عملهم مما يجوز شرعاً أن يقوموا به جاز لهم أن يكونوا موظفين فيه، وإن كان العمل لا يجوز له أن يباشره هو شرعاً لنفسه لا يجوز له أن يكون موظفاً فيه، لأنه لا يجوز أن يكون أجيراً فيه، فما حرم القيام به من الأعمال حرم أن يؤجر عليه أو أن يكون أجيراً فيه.

      أمّا الأجير والمستأجر فلا يشترط فيهما أن يكونا مسلمين أو أن يكون أحدهما مسلماً فيجوز للمسلم أن يستأجر غير المسلم مطلقاً لعمل الرسول صلى الله عليه وسلم ولإجماع الصحابة على استئجار غير المسلمين في أي عمل مباح وفي أعمال الدولة التي يستأجر عليها للقيام بها، فقد استأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودياً كاتباً واستأجر يهودياً آخر مترجماً واستأجر مشركاً ليدله على الطريق، واستأجر أبو بكر وعمر نصارى لحساب المال، وكما يجوز للمسلم أن يستأجر غير المسلم كذلك يجوز أن يؤجر المسلم نفسه لغير المسلم للقيام بعمل غير محرم أمّا العمل المحرم فلا يجوز سواء أكان المستأجر مسلماً أو غير مسلم، وعليه يجوز أن يؤجر المسلم نفسه لنصراني يعمل له وليس هذا من قبيل حبس المسلم عند الكافر لإذلاله بل هو إجارة نفسه لغيره وهي جائزة ولا يشترط فيها إسلام المستأجر ولا إسلام الأجير، فقد أجَّر علي رضي الله عنه نفسه من يهودي يسقي له كل دلو بتمرة وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فلم ينكره، ولأنه عقد معاوضة لا يتضمن إذلال المسلم. أمّا الأعمال التي فيها قُرَب إلى الله تعالى فيشترط أن يكون الأجير فيها مسلماً، وذلك كالإمامة والأذان والحج وأداء الزكاة وتعليم القرآن والحديث، لأنها لا تصح إلاّ من المسلم فلا يؤجّر للقيام بها إلاّ مسلم فالعلة فيها كونها لا تصح إلاّ من المسلم. أمّا إن كانت الأعمال التي يتقرب فيها إلى الله يصح أداؤها من غير المسلم فإنه يصح استئجاره للقيام بها. والحاصل أن الأعمال التي تعتبر مما يتقرب فيها إلى الله عند المستأجر ولا تعتبر مما يتقرب فيها إلى الله عند الأجير فإنه يُنظر، فإن كانت لا تصح إلاّ من المسلم كالقضاء فإنه لا يجوز أن يستأجر فيها غير المسلم، وإن كانت تصح من غير المسلم كالقتال فإنه يجوز استئجار غير المسلم للقيام بها، فالذمي يجوز أن يستأجر للجهاد ويرضخ له من بيت المال أي تدفع له الأجرة من بيت المال.

    15. #15
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي





      الإجارة على العبادات والمنافع العامة



      إن تعريف الإجارة بأنها عقد على المنفعة بعِوَض واشتراط كون المنفعة مما يمكن للمستأجر استيفاؤه يرشدنا عند تطبيقه على الحوادث إلى أن الإجارة جائزة على كل منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها من الأجير سواء أكانت منفعة الشخص كالخادم أو منفعة العمل كالصانع ما لم يرد في النهي عن تلك المنفعة دليل شرعي، لأن الأصل في الأشياء الإباحة والمنفعة شيء من الأشياء. ولا يقال هنا إن هذا عقد أو معاملة والأصل فيها التقييد لا الإباحة. لأن العقد هو الإجارة وليست المنفعة أمّا المنفعة فهي شيء تجري عليه المعاملة وينصبّ عليه العقد وليست هي معاملة أو عقداً وعلى ذلك تجوز الإجارة على جميع المنافع التي لم يرد النهي عنها سواء أوَرَد نص في جوازها أم لم يرد فيجوز أن يستأجر المرء رجلاً أو امرأة يكتب له على الآلة الكاتبة صحائف معلومة بأجر معلوم لأن ذلك إجارة على منفعة لم يرد نهي عنها، فتجوز الإجارة عليها ولو لم يرد نص في جوازها ويجوز استئجار كيّال ووزّان لعمل معلوم في مدة معلومة لما رًوي في حديث سويد بن قيس أتانا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فاشترى منا رجل سراويل وثَمَّ رجل يزن بأجر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {زن وأرجح} فهذه الإجارة جائزة إذ قد ورد نص بجوازها أمّا العبادات سواء أكانت فرضاً أو نفلاً فإنه يُنظر فيها فإن كانت مما لا يتعدى نفعه فاعله كحجّه عن نفسه وأداء زكاة نفسه فلا يجوز أخذ الأجرة عليها لأن الأجر عِوَض الانتفاع ولم يحصل لغيرة ها هنا انتفاع فإجارته غير جائزة لهذا السبب لأنها فرض عليه. أمّا إن كانت العبادة مما يتعدى نفعه فاعله فإنها تجوز الإجارة عليها وذلك كالأذان لغيره وكإمامته غيره أو كاستئجاره من يحج عن ميت له أو من يؤدي زكاته عنه، فإن ذلك كله جائز لأنه عقد على منفعة بعِوَض، والأجر هنا عِوَض الانتفاع وقد حصل بغيره فجازت الإجارة. وأمّا ما روى عثمان بن أبي العاص من أنه قال: {إنّ آخر ما عهد إليّ النبي صلى الله عليه وسلم أن أتخذَ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً}، فهذا الحديث نهى الرسول صلى الله عليه وسلم فيه عن اتخاذ المؤذن الذي يأخذ أجراً مؤذناً له، ولم ينه عن أخذ المؤذن أجراً، وهو يدل على أن هنالك مؤذنين يأخذون أجراً وآخرين لا يأخذون أجراً، فنهاه عن اتخاذ المؤذن ممن يأخذ أجراً، ونهيه هذا فيه تنفير من أخذ الأجر على الأذان مما يُشعِر بكراهة أخذ الأجرة عليه، غير أنه لا يدل على تحريم الإجارة على الأذان بل يدل على جوازها مع الكراهية.

      أمّا التعليم فإنه يجوز للمرء أن يستأجر معلماً يعلم أولاده أو يعلمه هو أو يعلم من شاء ممن يرغب تعليمهم، لأن التعليم منفعة مباحة يجوز أخذ العِوَض عنها فتجوز الإجارة عليه. وقد أجاز الشرع أخذ الأجرة على تعليم القرآن، فكان جواز أخذ الأجرة على تعليم غير القرآن من باب أولى، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن أحقّ ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله}، ورُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوّج امرأة من رجل بما معه من القرآن، أي ليعلمها إياه. وقد انعقد إجماع الصحابة على أنه يجوز أخذ الرزق على التعليم من بيت المال، فجاز أخذ الأجر عليه، فقد رُوي عن طريق ابن أبي شيبة عن صدقة الدمشقي عن الوضية بن عطاء قال: "كان بالمدينة ثلاثة معلمين يعلّمون الصبيان، فكان عمر بن الخطاب يرزق كل واحد منهم خمسة عشر كل شهر". فهذا كله يدل على جواز أخذ الأجرة على التعليم. أمّا ما ورد من أحاديث النهي في هذا الباب، فإنها جميعها منصبّة على النهي عن أخذ الأجرة على تعليم القرآن، لا النهي عن الاستئجار على تعليمه، وهي كلها تدل على كراهة أخذ الأجرة على تعليم القرآن لا على تحريم الإجارة على تعلمه. وكراهة أخذ الأجرة لا تنفي الجواز، فيُكره أخذ الأجرة على تعليم القرآن مع جواز التأجير عليه.

      وأمّا إجارة الطبيب فهي جائزة لأنها منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها، ولكن لا تجوز إجارته على البرء لأنه استئجار على مجهول، ويجوز أن يستأجر الطبيب ليفحصه لأنه منفعة معلومة ويجوز أن يستأجر الطبيب بخدمته أياماً معلومة لأنه عمل محدود، ويجوز أن يستأجره ليداويه فإن مداواته معلومة علماً نافياً للجهالة حتى ولو لم يعلم نوع المرض، إذ يكفي أن يعرف أنه مريض فقط. وإنما جاز استئجار الطبيب لأن الطب منفعة يمكن للمستأجر استيفاؤها فتجوز الإجارة عليها. ولأنه قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على جواز الإجارة على الطب، فقد رُوي عن أنس أنه قال: {دعا النبي صلى الله عليه وسلم غلاماً فحجمه فأمر له بصاع أو صاعين وكلّم مواليه مخففاً من خراجه}، وقد كانت الحجامة في ذلك الوقت من الأدوية التي يُتطَبب بها، فدل أخذ الأجرة عليها على جواز تأجير الطبيب. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم: {كسب الحجّام خبيث} فلا يدل على منع إجارة الحجام بل يدل على كراهة التكسب بالحجامة مع إباحتها، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى الثوم والبصل خبيثين مع إباحتهما.

      هذا كله في الأجير الذي منفعته خاصة. وأمّا الأجير الذي منفعته عامة، فإن خدماته تعتبر مصلحة من المصالح التي يجب على الدولة توفيرها للناس وذلك لأن كل منفعة يتعدى نفعها الأفراد إلى الجماعة، وكانت الجماعة محتاجة إليها، كانت هذه المنفعة من المصالح العامة التي يجب على بيت المال توفيرها للناس جميعاً، وذلك كأن يستأجر الأمير من يقضي بين الناس مشاهرة، وكاستئجار موظفي الدوائر والمصالح، وكاستئجار المؤذنين والأئمة. ويدخل في المصالح التي يجب على الدولة استئجار الأجراء لها للناس جميعاً التعليم والتطبيب. أمّا التعليم فلإجماع الصحابة على إعطاء رزق المعلمين قدراً معيناً من بيت المال أجراً لهم، ولأن الرسول جعل فداء الأسير تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل فدائه من الغنائم وهي ملك لجميع المسلمين. وأمّا الطب فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم أُهدي إليه طبيب فجعله للمسلمين. فكون الرسول جاءته الهدية ولم يتصرف بها ولم يأخذها بل جعلها للمسلمين، دليل على أن هذه الهدية مما هو لعامة المسلمين وليست له، فالرسول إذا جاءه شيء هدية ووضعه للمسلمين عامة يكون هذا الشيء مما هو لعامة المسلمين. وعلى ذلك فإن رزق الأطباء والمعلمين في بيت المال، وإن كان يجوز للفرد أن يستأجر طبيباً وأن يستأجر معلماً، إلاّ أنه يجب على الدولة أن توفر الطب والتعليم للرعية جميعهم لا فرق بين مسلم وذمّيّ، ولا بين غني وفقير، لأن هذا كالأذان والقضاء، فهو من الأمور التي يتعدى نفعها، ويحتاج الناس إليها، فهي من المصالح العامة ومن الأمور التي يجب أن تُوفَّر للرعية وأن يضمنها بيت المال.



      من هو الأجير؟



      إن الشرع الإسلامي يعني بالأجير كل إنسان يشتغل بأجرة سواء أكان المستأجر فرداً أو جماعة أو دولة. فالأجير يشمل العامل في أي نوع من أنواع العمل بلا فرق في الحكم الشرعي بين أجير الدولة وأجير غيرها. فموظف الدولة وموظف الجماعة وموظف الفرد كل منهم عامل وتجري عليهم أحكام العمل، أي كل منهم أجير وتجري عليهم أحكام الإجارة. فالفلاح أجير، والخادم أجير، وعمال المصانع أجراء، وكتّاب التجار أجراء، وموظفو الدولة أجراء، وكل منهم عامل لأن عقد الإجارة إما أن يَرِد على منافع الأعيان وإما أن يَرِد على منفعة العمل وإما أن يَرِد على منفعة الشخص، فإن ورد على منافع الأعيان لم يدخل فيه بحث الأجير إذ لا علاقة له به، وإن ورد على منفعة العمل كاستئجار أرباب الحرف والصنائع لأعمال معينة أو ورد على منفعة الشخص كاستئجار الخَدَمة والعمال فهذا هو الذي يتعلق بالأجير أو هذا هو الذي ينطبق عليه أنه الأجير.



      الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة



      الإجارة عقد على المنفعة بعِوَض، ويُشترط لانعقاد الإجارة أهلية العاقديْن بأن يكون كل منهما مميِّزاً، ويُشترط لصحتها رضا العاقديْن، ويُشترط أن تكون الأجرة معلومة لقوله صلى الله عليه وسلم: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يستعملن أجيراً حتى يُعلِمَه أجره}. إلاّ أنه إذا لم تكن الأجرة معلومة انعقدت الإجارة وصحّت ويُرجَع عند الاختلاف في مقدارها إلى أجر المثل. فإذا لم يُسمّ الأجر عند عقد الإجارة أو اختلف الأجير والمستأجر في الأجر المسمى فإنه يُرجَع إلى أجر المثل. وإنما رُجع إلى أجر المثل قياساً على المهر فإنه يُرجَع فيه عند عدم التسمية أو الاختلاف على المسمى إلى مهر المثل، لما رُوي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه {قضى لامرأة لم يَفرِض لها زوجها صداقاً ولم يدخل بها حتى مات. فقال: لها صداق نسائها لا ركس ولا شطط وعليها العدّة ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بروع ابنة واثق مثل ما قضيت}، ومعنى قوله: {لها صداق نسائها}، أي مهر مثل نسائها. فأوجب الشارع مهر المثل لمن لم يسمَّ لها مهر. ومثل ذلك إذا اختُلف في المهر المسمى. ولماّ كان المهر عِوَضاً في عقد النكاح فإنه يقاس عليه كل عِوَض في عقد، فإنه يُحكم فيه بعِوَض المثل في حالة عدم تسمية العِوَض في العقد أو الاختلاف على العِوَض المسمى. ولذلك يُحكم بأجر المثل في الإجارة وبثمن المثل في البيع عند عدم التسمية عند العقد وعند الاختلاف في المسمى.

      وعلى هذا يُحكم بأجر المثل عند اختلاف الأجير والمستأجِر على الأجر المسمى وعند عدم تسمية الأجر عند العقد. فإذا عُرفت الأجرة عند العقد يكون الأجر حينئذ أجراً مسمى، وإذا لم تُعرف أو اختُلف على الأجر المسمى يكون الأجر أجر المثل. وعلى ذلك فالأجرة قسمان: أجر مسمى وأجر المثل. أمّا الأجر المسمى فيُشترط في اعتباره رضا العاقديْن عليه، فإذا رضي العاقدان بأجرة معينة كانت هذه الأجرة هي الأجر المسمى، ولا يُجبر المستأجِر على دفع أكثر منها كما لا يُجبر الأجير على أخذ أقل منها، بل هي الأجرة الواجبة شرعاً. أمّا أجر المثل فهو أجر مثل العمل ومثل العامل إذا كان عقد الإجارة قد ورد على منفعة العمل، ويكون أجر المثل أجر مثل العامل فقط إذا كان عقد الإجارة ورد على منفعة الشخص.

      والذي يقدِّر الأجرة إنّما هم ذوو الخبرة في تعيين الأجرة، وليسوا هم الدولة، ولا عُرف أهل البلد، بل هم الخبراء في أجرة العمل المراد تقدير أجرته، أو العامل المراد تقدير أجرته.

      أمّا الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة من قِبل الخبراء فهو المنفعة سواء أكانت منفعة العمل أو منفعة العامل، لأن عقد الإجارة وارد على المنفعة فتكون هي الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة. فلا تقدَّر الأجرة بإنتاج الأجير ولا بأدنى حد لمستوى عيشه بين جماعته، فلا دخل لإنتاج الأجير ولا لارتفاع مستوى المعيشة في تقديرها، وإنما يرجع تقديرها للمنفعة، فبحسب تقدير الخبراء لقيمة هذه المنفعة في المجتمع الذي يعيشون فيه يقدرون أجرة الأجير، وحين يقدّر الخبراء أجرة العمل وأجرة العامل ينظرون إلى قيمة هذه المنفعة في المجتمع فيقدرونها بقيمة المنفعة التي أداها العامل أو العمل، فإذا جرى الاختلاف على تقدير قيمة المنفعة في المجتمع لا يجوز أن تقدّر بالبينة والحجة بل يُكتفى برأي الخبراء، لأن المسألة معرفة قيمة المنفعة لا إقامة بينة على مقدارها.

      هذا هو الأساس الذي يجري عليه تقدير الأجرة، وهو المنفعة حسب تقدير الخبراء. إلاّ أنه حين يقدِّر الخبراء أجر المثل لا أجرة العمل أو العامل فقط، فإنه يجب عليهم أن ينظروا إلى الشخص المماثل للأجير لذلك العمل، أي أن ينظروا إلى العمل والعامل، وأن ينظروا في نفس الوقت إلى زمان الإيجار ومكانه، لأن الأجرة تتفاوت بتفاوت العمل والعامل والزمان والمكان.

      والأصل في الخبراء الذين يقدّرون الأجرة أو أجر المثل أن يختارهم العاقدان أي المستأجِر والأجير، فإن لم يختارا الخبراء أو اختلفا عليهم فالمحكمة أو الدولة هي صاحبة الصلاحية في تعيين هؤلاء الخبراء.



      تقدير أجر الأجير



      يندفع الإنسان طبيعياً إلى بذل مجهود لإنتاج المال الذي يسد به حاجاته. وحاجات الإنسان تتعدد ولا يستطيع سدّها في عزلة عن غيره. لذلك كان عيش الإنسان في مجتمع يتبادل مع غيره نتائج مجهوداتهم أمراً حتمياً. ولهذا فإن الإنسان الذي يعيش في مجتمع يبذل مجهوده لإنتاج المال لاستهلاكه المباشر وللتبادل، ولا يبذل مجهوده للاستهلاك المباشر فقط، لأن حاجاته متعددة، فهو في حاجة إلى أموال لا توجد عنده، وفي حاجة إلى أن يستفيد من جهد غيره مباشرة كالتعليم والطب، لذلك كانت الأنواع التي ينتجها مهما تنوعت وتعددت غير كافية لإشباع جميع حاجاته، لأنه لا يستطيع أن ينتِج ما يشبِع جميع حاجاته بمجهوده الخاص بل لا بد أن يعتمد على مجهودات الآخرين، فهو في حاجة إلى مبادلة مجهودات الآخرين اللازمة له إما بجهد منه وإما بمال. ومن هنا كان لا بد من وجود التبادل في جهد الناس. وبما أن هذا الجهد قد وُضع بدله جهد آخر أو مال، فصار لا بد من مقياس يحدد قيم المجهودات المبذولة بالنسبة لبعضها كي يمكن مبادلتها، ويحدد قيم الأموال المراد الحصول عليها للإشباع ليمكن مبادلتها ببعضها، أو بجهد. ولذلك كان لا بد أن يكون المقياس الذي يحدد قيم المجهودات وقيم الأموال واحداً، حتى يمكن مبادلة الأموال ببعضها ومبادلة الأموال بمجهودات، والمجهودات بمجهودات. ولذلك اصطلحوا على الجزاء النقدي الذي يخوّل الإنسان الحصول على المال اللازم للإشباع والحصول على المجهودات اللازمة للإشباع. وهو بالنسبة للسلعة يكون ثمناً وبالنسبة للجهد يكون أجراً، لأنه في تبادل السلع مقابل لعينِ السلعة، وفي تبادل المجهودات مقابل لمنفعة الجهد المبذول من الإنسان. ولذلك كان لا غنى للإنسان عن معاملات البيع كما لا غنى له عن معاملات الإجارة. إلاّ أنه لا يوجد ارتباط بين البيع والإجارة إلاّ بكونهما معاملة بين فرد وفرد من بني الإنسان، ولا تتوقف الإجارة على البيع ولا الأجرة على الثمن، ولذلك كان تقدير الأجرة غير تقدير الثمن ولا علاقة لأحدهما بالآخر. وذلك لأن الثمن هو بدل المال فهو حتماً مال مقابل مال، سواء قدّر المال بالقيمة أو بالثمن. أمّا الأجرة فهي بدل جهد، وهو لا ضرورة لأن ينتج هذا الجهد مالاً، بل قد ينتج مالاً وقد لا ينتج مالاً، إذ منفعة الجهد غير مقتصرة على إنتاج المال، بل هناك منافع أخرى غير المال، فالجهد الذي يُبذل في الزراعة أو النجارة أو الصناعة مهما كان نوعها ومهما قل أو كَثُر مقدارها ينتج مالاً وتزيد ثروات البلاد به مباشرة، أمّا الخدمات التي يقدّمها الطبيب والمهندس والمحامي والمعلم وما شابهها فإنها مجهودات لا تنتج مالاً ولا تزيد ثروة الأمّة مباشرة، فإذا كان الصانع أخذ أجراً فقد أخذه مقابل مال أنتجه، ولكن المهندس إذا أخذ أجراً لم يُأخذ مقابل مال لأنه لم ينتج أي مال. ولذلك كان تقدير الثمن مقابل مال حتماً، بخلاف تقدير منفعة الجهد فهو ليس مقابل مال بل مقابل منفعة قد تكون مالاً وقد تكون غير مال. ومن هنا يختلف البيع عن إجارة الأجير، ويختلف الثمن من حيث التقدير الفعلي عن الأجرة. على أنه ليس معنى اختلاف البيع عن الإجارة، والثمن عن الأجرة، هو انعدام الصلة بينهما، بل معنى اختلافهما هو أن لا تبنى الإجارة على البيع ولا البيع على الإجارة، فلا يقدَّر الثمن بناء على تقدير الأجرة ولا تقدَّر الأجرة بناء على تقدير الثمن، لأن بناء أحدهما على الآخر يؤدي إلى تحكم أثمان السلع التي ينتجها الأجير بالأجرة التي يتقاضاها، مع أن أثمان السلع إنّما تتحكم بالمستأجِر لا بالأجير، فإذا جُعلت تتحكم بالأجير أدت إلى تحكم المستأجِر بالأجير، يُنزِل أجرته ويرفعها كلما أراد بحجة نزول الأسعار أو ارتفاعها، وهذا لا يجوز، لأن أجرة الأجير بدل منفعة عمله، فهي تساوي قيمة منفعته ما دامت الأجرة مقدَّرة بينهما، فلا تُربط أجرة الأجير بأثمان السلعة التي ينتجها. ولا يقال إن إجبار المستأجِر على إعطاء الأجرة المقدرة في حال هبوط أسعار السلعة التي ينتجها تؤدي إلى خسارته وهذه تؤدي إلى إخراج العامل، لأن ذلك إنّما يحصل إذا حصل للسلعة في السوق كلها، وهذا يرجع لتقدير الخبراء لمنفعة العامل لا للمستأجِر، لأنهم ينظرون إلى مجموع منفعة الأجير بشكل عام، لا إلى حالة واحدة، ولهذا لا يُربط تقدير الأجرة بثمن السلعة وإنما يُربط بتقدير الخبراء.

    صفحة 1 من 3 123 الأخيرةالأخيرة

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •