المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كتاب الفكر الاسلامي للإمام تقي الدين النبهاني



rajaab
20-05-2005, 10:37 PM
بسم الله الرحمن الرحيم



التثقف بالثقافة الإسلامية فرض على المسلمين، سواء التثقف بالنصوص الشرعية أو بالوسائل التي تمكّن من فهم هذه النصوص وتطبيقها. ولا فرق بين التثقف بالأحكام الشرعية، أو التثقف بالأفكار الإسلامية. غير أنه من المؤلم أنه منذ غزا الغرب البلاد الإسلامية في ثقافته وحضارته، وبَسَط عليها أحكامه ومفاهيمه وسلطانه، أعرض المسلمون عن الثقافة الإسلامية نتيجة لتقلص سلطان الإسلام، وانحرافاً في الذوق السليم عن جادّته من جراء الدعايات المضللة التي تشن حملاتها على الإسلام وعلى ثقافته.

وقد رأيت أن أنشر شيئاً من هذه الثقافة الإسلامية، أملاً في أن يجد الناس بها، مسلمين وغير مسلمين، ما يثقف عقولهم، ويصحح أذواقهم، ويعالج بعض الهبوط الفكري الذي يخيّم على هذه المنطقة.

والله أسأل أن يوفق المسلمين للقيام بما فرضه الله عليهم من التثقف بالإسلام وحمل دعوته ونشر ثقافته، إنه سميع مجيب.







الإسلام طريقة معينة في العيش



الإسلام طراز خاص في الحياة، متميز عن غيره كل التميز، وهو يفرض على المسلمين عيشاً ملوناً بلون ثابت معين لا يتحول ولا يتغير، ويحتم عليهم التقيد بهذا الطراز الخاص تقيداً يجعلهم لا يطمئنون فكرياً ونفسياً إلاّ في هذا النوع المعين من العيش، ولا يشعرون بالسعادة إلاّ فيه.

جاء الإسلام مجموعة مفاهيم عن الحياة، تشكل وجهة نظر معينة. وجاء في خطوط عريضة، أي معان عامة تعالج جميع مشاكل الإنسان عن الحياة، يَستنبط منها بالفعل علاج كل مشكلة تحدث للإنسان، وجعل كل ذلك مستنداً إلى قاعدة فكرية تندرج تحتها كل الأفكار عن الحياة، وتُتخذ مقياساً يبنى عليها كل فكر فرعي. كما جعل الأحكام من معالجات وأفكار وآراء منبثقة عن العقيدة، مستنبَطة من الخطوط العريضة.

فهو قد حدد للإنسان الأفكار، ولم يَحُدّ عقله بل أطلقه.

وقيّد سلوكه في الحياة بأفكار معينة ولم يقيّد الإنسان بل أطلقه.

فجاءت نظرة المسلم للحياة الدنيا نظرة أمل باسم، وجدّيّة واقعية، ونظرة تقدير لها بقدرها، من حيث أنها يجب أن تُنال، ومن حيث أنها ليست غاية، ولا يصح أن تكون غاية. فيسعى المسلم في مناكبها ويأكل من رزق الله، ويتمتع بزينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق، ولكنه يدرك أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة هي دار البقاء والخلود.

وجاءت أحكام الإسلام تعالج للإنسان أمور البيع بطريقة خاصة كما تعالج أمور الصلاة. وتعالج مشاكل الزواج بطريقة خاصة كما تعالج أمور الزكاة. وتبين كيفية تملك المال وكيفية إنفاقه بطريقة خاصة كما تبين مسائل الحج. وتفصّل العقود والمعاملات بطريقة خاصة كما تفصّل الأدعية والعبادات. وتشرح الحدود والجنايات وسائر العقوبات كما تشرح عذاب جهنم ونعيم الجنة. وتدلّه على شكل الحكم وطريقته بطراز خاص كما تدله على الاندفاع الذاتي لتطبيق الأحكام طلباً لرضوان الله. وترشده إلى علاقة الدولة مع سائر الدول والشعوب والأمم كما ترشده لحمل الدعوة للعالمين. وتُلزِمه الاتصاف بعليا الصفات باعتبارها أحكاماً من عند الله، لا لأنها صفات جميلة عند الناس.


وهكذا، جاء الإسلام فنظم علاقات الإنسان كلها مع نفسه ومع الناس، كتنظيمه لعلاقته مع الله، في نسق واحد من الفكر ومن المعالجة. فصار

الإنسان مكلَّفاً لأن يسير في هذه الحياة الدنيا بدافع معين، وفي طريق معين محدد، ونحو غاية معينة محددة.

وقد ألزم الإسلام الناس بالتقيد في هذه الطريق وحدها دون غيرها، وحذّرهم عذاباً أليماً في الآخرة، كما حذّرهم عقوبة صارمة في الدنيا ستقع إحداهما عليهم حتماً إذا حادوا عن هذه الطريق قيد شعرة.

ولهذا يصبح المسلم سائراً في هذه الحياة سيراً معيناً، يعيش عيشة معينة، في طراز خاص، بحكم اعتناقه عقيدة الإسلام، ووجوب طاعته لأوامر الله ونواهيه بالتقيد بأحكام الإسلام.

فهذا النوع المعين من العيش في فهم معين للحياة، وسير معين في طريق معين، أمر مفروض حتماً على كل مسلم وعلى المسلمين جميعاً.

وقد جاء به الإسلام صريحاً واضحاً في الكتاب والسنّة، في العقيدة الإسلامية والأحكام الشرعية.

ومن هنا لم يكن الإسلام ديناً روحياً فحسب، ولا مفاهيم لاهوتية أو كهنوتية، وإنّما هو طريقة معينة في العيش يجب على كل مسلم وعلى المسلمين جميعاً أن تكون حياتهم حسب هذه الطريقة وحدها.



الله حقيقة ملموس وجودها وليس فكرة متخيَّلة في الأذهان



كثيرون على وجه الأرض، ولا سيما في العالم الغربي، يعتقدون بالله ويؤمنون به، ولكن اعتقادهم وإيمانهم مبني على أن الله فكرة وليس حقيقة. وهؤلاء يرون أن الإيمان بوجود "إله" إيمان بوجود فكرة الألوهية، وهي فكرة يقولون عنها إنها جميلة!! لأنه ما دام الإنسان يتخيلها، ويعتقد بها، ويخضع لسلطانها، فهو يبتعد عن الشر ويقترب من الخير بدافع هذه الفكرة. فهي رادع داخلي يفعل أكثر مما يفعله الدافع الخارجي. ولذلك يرون أنه يجب الإيمان بالله، ويجب تشجيع الإيمان به، حتى يظل الناس خيّرين مدفوعين إلى الخير بدافع داخلي يسمونه "الوازع الديني"!!..


وهؤلاء ما أسهل ما يجرون إلى الإلحاد، وما أقرب ما يرتدون عن إيمانهم هذا بمجرد أن يندفع العقل بالتفكير للمس وجود هذه "الفكرة". فإذا لم يلمس وجودها، ولم يدرك لهذا الوجود أثراً، جحد وجود إله وكفر بالله. وفوق هذا، فإن الإيمان بأن الله فكرة وليس حقيقة يجعل الخير أيضاً فكرة وليس حقيقة، ويجعل الشر أيضاً فكرة وليس حقيقة، فيقوم الإنسان بالأعمال بقدر ما يتخيل فيها من فكرة الخير، ويبتعد عنها بقدر ما يتخيل فيها من فكرة الشر.



والذى أدى بهؤلاء إلى هذا النوع من الإيمان هو أنهم لم يستعملوا العقل في الوصول إلى الإيمان بالله، ولم يهتدوا لحل العقدة الكبرى الناشئة من الأسئلة الطبيعية عن الكون والإنسان والحياة، وعما قبل الحياة الدنيا وعما بعدها، وعن علاقتها بما قبلها وما بعدها، حلاً عقلياً، وإنما لُقّنوا الحل الذي يريده ملقّنهم، فسلّموا بهذا الحل وظلوا مؤمنين دون أن يدركوا حساً وجود الذي آمنوا به. وكثير منهم من كان يحاول أن يستعمل عقله فيجاب أن الدين فوق العقل ويُجبَر على السكوت!

والصواب أن الله حقيقة وليس فكرة، وأن وجوده ملموس محسوس، وإن كانت ذاته يستحيل إدراكها. ألا ترى أن الإنسان يسمع دوي طائرة في السماء ولا يراها، لأنه جالس داخل غرفته، ومع ذلك فإنه من حسه بصوتها يدرك وجودها ولو لم يرها ولم يحس بذاتها. فهو يعتقد بوجود طائرة في السماء من سماعه صوتها، أي يصدق جازماً عن يقين بوجود الطائرة. فإدراك وجود الطائرة غير إدراك ذاتها. فإدراك ذاتها لم يحصل لعدم الإحساس بذاتها، وإدراك وجودها قطعي من الإحساس بصوتها. فوجود الطائرة حقيقة وليس فكرة.

وكذلك هذه الأشياء المدرَكة المحسوسة، فإن وجودها أمر قطعي لأنها مشاهَدة محسوسة، وكونها محتاجة لغيرها أمر قطعي، لأنه مشاهَد محسوس. فالأجرام السماوية محتاجة إلى النظام، والنار حتى تحرق محتاجة لمن يستعملها، وهكذا كل شيء مدرَك محسوس محتاج لغيره. والمحتاج لا يمكن أن يكون أزلياً، إذ لو كان أزلياً لاستغنى عن غيره، فكونه محتاجاً معناه أنه ليس بأزلي. وعلى ذلك فإنّ كون الأشياء المدرَكة المحسوسة جميعها مخلوقة أمر قطعي، إذ غير الأزلي يعني أنه مخلوق لخالق. فالإحساس بهذه المخلوقات كالإحساس بصوت الطائرة أمر قطعي، ووجود خالق لهذه المخلوقات صدرت عنه، كوجود الطائرة التي صدر عنها الصوت، أمر قطعي، فصار وجود الخالق للمخلوقات أمراً قطعياً. فالإنسان قد أدرك المخلوقات بحسه وعقله، وأدرك من الإحساس بها وجود خالق لها قطعاً. فوجود الخالق حقيقة قد لمس الإنسان وجودها بالحس وليس فكرة تخيلها الإنسان في ذهنه.


وهذا الخالق يجب عقلاً أن يكون أزلياً، إذ لو كان غير أزلي لكان محتاجاً فيكون مخلوقاً، وبما أن الطبيعة ليست أزلية لأنها محتاجة إلى أن تسير بنسب وأحوال معينة لا تستطيع إلاّ أن تتقيد بها فهي محتاجة إلى هذه النسب

والأحوال. وبما أن المادة ليست أزلية لأنها محتاجة إذ لا تستطيع أن تتحول من حال إلى حال إلاّ بتكاثر معين ونسب معينة، ولا تستطيع إلاّ أن تتقيد بهذه النسب وهذا القدر من التكاثر، فهي محتاجة، فتكون الطبيعة ليست خالقاً لأنها ليست أزلية قديمة، وتكون المادة ليست خالقاً لأنها ليست أزلية قديمة، فلم يبق إلاّ أن يكون الخالق هو الله تعالى، أي: ذلك الأزلي القديم الذي يسميه الناس الله، أو GOD أو الهيم، أو ما شاكل ذلك من الأسماء التي تدل على مسمى واحد هو الله، أي الخالق الأزلي القديم.

فالله حقيقة يُلمس وجودها بالحس من وجود مخلوقاته، والإنسان حين يخاف الله يخاف من ذاتٍ موجودة حقيقة يلمس وجودها بالحس، وحين يعبد الله يعبد ذاتاً موجودة حقيقة يلمس وجودها بالحس، وحين يطلب رضوان الله يطلب رضوان ذاتٍ موجودة حقيقة يلمس وجودها بالحس. ولذلك يكون الإنسان خائفاً من الله، عابداً الله، طالباً رضوان الله عن يقين لا يتطرق إليه أي ارتياب.

rajaab
20-05-2005, 10:41 PM
الفرض على الكفاية فرض على كل مسلم



الفرض هو خطاب الشارع المتعلق بطلب الفعل طلباً جازماً، كقوله تعالى: (أقيموا الصلاة) (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في سبيل الله)، وكقوله عليه الصلاة والسلام: (إنّما جُعل الإمام ليُؤتمَّ به) (من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية). فهذه النصوص كلها خطاب من الشارع متعلق بطلب الفعل طلباً جازماً. والذي جعل الطلب جازماً القرينة التي جاءت فيما يتعلق بالطلب فجعلته جازماً، فيجب القيام به. ولا يسقط الفرض بحال من الأحوال حتى يقام العمل الذي فُرض. ويستحق تارك الفرض العقاب على تركه، ويظل آثماً حتى يقوم به. ولا فرق في ذلك بين فرض العين والفرض على الكفاية، فكلها فرض على جميع المسلمين، فقوله تعالى: (أقيموا الصلاة) فرض عين، وقوله تعالى: (انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا) فرض كفاية، وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما جُعل الإمام ليُؤتمّ به) فرض عين، وقوله عليه السلام: (من مات وليس في عنقه بيعة.. الحديث) فرض كفاية. وكلها فرض تثبُت بخطاب الشارع المتعلق بطلب الفعل طلباً جازماً. فمحاولة التفريق بين فرض العين والفرض على الكفاية من جهة الوجوب إثم عند الله، وصد عن سبيل الله، ومغالطة للتساهل بالقيام بفروض الله تعالى.

أمّا من حيث سقوط الفرض عمن وجب عليه، فإنه أيضاً لا فرق بين فرض العين وفرض الكفاية. فلا يسقط الفرض حتى يقام العمل الذي طلبه الشارع، سواء طُلب القيام به من كل مسلم كالصلاة المكتوبة، أو طُلب القيام به من جميع المسلمين كبيعة الخليفة، فإن كلاً منها لا يسقط حتى يقام العمل، أي حتى تقام الصلاة، وحتى يقام الخليفة وتحصل البيعة له. ففرض الكفاية لا يسقط عن أي واحد من المسلمين إذا قام بعضهم بما يقيمه حتى يتم قيامه، فيبقى كل مسلم آثماً ما دام القيام بالعمل لم يتم.




وعلى ذلك فمن الخطأ أن يقال إن فرض الكفاية هو الذي إذا قام به البعض سقط عن الباقين، بل فرض الكفاية هو الذي إذا أقامه البعض سقط عن الباقين. وسقوطه حينئذ أمر واقعي، لأن العمل المطلوب قد قام ووُجد، فلم يبق مجال لبقائه. هذا هو الفرض على الكفاية، وهو كفرض العين سواء بسواء. وعلى ذلك فإن إقامة الدولة الإسلامية فرض على جميع المسلمين، أي على كل مسلم من المسلمين. ولا يسقط هذا الفرض عن أي واحد من المسلمين حتى تقوم الدولة الإسلامية. فإذا قام البعض بما يقيم الدولة الإسلامية لا يسقط الفرض عن أي واحد من المسلمين ما دامت الدولة الإسلامية لم تقم، ويبقى الفرض على كل مسلم، ويبقى الإثم على كل مسلم حتى يتم قيام الدولة. ولا يسقط الإثم عن أي مسلم حتى يباشِر القيام بما يقيمها، مستمراً على ذلك حتى تقوم. وجهاد الفرنسيين في الجزائر فرض على جميع المسلمين، فإذا قام أهل الجزائر بجهاد الفرنسيين، لا يسقط الفرض عن أحد من المسلمين حتى يتم إخراج الفرنسيين من الجزائر ويتم انتصار المسلمين. وهكذا كل فرض على الكفاية يبقى فرضاً على كل مسلم ولا يسقط هذا الفرض حتى يقام العمل المطلوب.



لا إله إلاّ الله تعني: لا معبود إلاّ الله



لمّا كان التقديس في الإنسان فطرياً، كان الإنسان من فطرته أن يعبد شيئاً. فالعبادة رَجْع طبيعي لغريزة التدين. ولذلك يشعر الإنسان حين يؤدي العبادة براحة وطمأنينة، لأنه في أدائه العبادة يكون قد أشبع غريزة التدين. إلاّ أن هذه العبادة لا يجوز أن تُترك للوجدان أن يقررها كما يتطلب، ويؤديها الإنسان كما يتخيل، بل لا بد أن يشترك العقل مع الوجدان لتعيين الشيء الذي يجب أن يُعبد. لأن الوجدان عُرضة للخطأ، ومدعاة للضلال. وكثيراً ما يدفع الوجدان الإنسان لعبادة أشياء يجب أن تحطَّم، وكثيراً ما يدفع لتقديس أشياء يجب أن تُحتقر. فإذا تُرك الوجدان وحده يقرر ما يعبده الإنسان، أدى ذلك إلى الضلال في عبادة غير الخالق، أو إلى الخرافات في التقرب إلى الخالق بما يُبعِد عنه.

وذلك أن الوجدان إحساس غريزي، أو شعور داخلي، يظهر بوجود واقع محسوس يتجاوب معه، أو من تفكير بما يثير هذا الشعور. فإذا أحدث الإنسان رجعاً لهذا الشعور بمجرد وصوله دون تفكير، قد يؤدي ذلك إلى الضلال أو الخطأ.

فمثلاً: قد ترى في الليل شبحاً فتظنه عدواً لك؛ فتتحرك فيك غريزة البقاء في مظهر الخوف؛ فإذا استجبت لهذا الشعور، وأحدثتَ الرجع الذي يتطلبه وهو الهرب مثلاً، كان ذلك خطأ منك، لأنك قد تهرب من لا شيء! وقد تهرب من شيء لا تنفع فيه إلاّ المقاومة، فيكون رجعك الذي أحدثته خطأ. ولكن حين تستعمل عقلك، وتفكر في هذا الشعور الذي ظهر لديك قبل أن تُحدث الرجع الذي يتطلبه، يتبين لك ما هو الذي يجب أن تقوم به من الأعمال. فقد يتبين لك أن الشبح عامود كهرباء، أو شجرة، أو حيوان، وحينئذ يتبدد لديك الخوف وتظل سائراً. وقد يتبين لك أنه سبع لا تقوى على الركض أمامه،

فتلجأ إلى الحيلة في تسلق شجرة، أو اللجوء إلى منزل فتنجو. ولذلك لا يجوز أن يقوم الإنسان بالرجع الذي تتطلبه الغريزة، إلاّ مع استعمال العقل، أي لا يجوز أن يقوم بأعمال بناء على دافع الوجدان وحده، بل لا بد من استعمال العقل مع الوجدان. ومن هنا كان لا بد أن يكون التقديس مبنياً على التفكير مع الوجدان، لأنه رجع لغريزة التدين، فلا يجوز أن يحصل هذا الرجع دون تفكير، لأنه قد يؤدي إلى الضلال أو الخطأ. فوجب أن لا يُحدث الإنسان هذا الرجع لغريزة التدين إلاّ بعد التفكير، أي إلاّ باستعمال العقل. ولذلك لا يجوز أن تكون عبادة إلاّ وفق ما يرشد إليه العقل، حتى تكون هذه العبادة لمن تهدي الفطرة لعبادته، وهو الخالق المدبر الذي يشعر الإنسان أنه محتاج إليه.

والعقل يحتم أن لا تكون العبادة إلاّ للخالق لأنه هو الأزلي، وهو واجب الوجود، فلا يجوز أن تكون العبادة لغيره. فهو الذي خلق الإنسان والكون والحياة، وهو المتصف بصفات الكمال المطلق. فإذا اعتقد الإنسان بوجوده فيتحتم أن يعبده، ويتحتم أن تكون العبادة له وحده. فالإقرار بكونه خالقاً، فطرياً وعقلياً، يحتم على المُقِر أن يعبده، لأن العبادة رجع لشعوره بوجوده، وهي أعظم مظهر من مظاهر الشكر التي يجب أن يقوم بها المخلوق لمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد. فالفطرة تحتم العبادة، والعقل يحتم العبادة. والفطرة تحتم أن تكون هذه العبادة لهذا الخالق وحده دون غيره، والعقل يحتم أن يكون الذي يستحق العبادة والشكر والثناء هو الخالق وحده دون سواه. ولذلك نجد الذين استسلموا للوجدان وحده في إحداث رجع التقديس دون أن يستعملوا العقل، ضلّوا، فعبدوا معبودات متعددة مع اعترافهم بوجود الخالق الواجب الوجود، ومع اعترافهم بأن هذا الخالق واحد. ولكنهم حين أحدثوا رجع التدين، قدّسوا الخالق، وقدّسوا معه غيره، فعبدوا الخالق، وعبدوا المخلوقات، إما باعتبارها آلهة تستحق العبادة لذاتها، وإما ظناً منهم أن الخالق حلّ بها، أو أنه يرضى بالتقرب إليه في عبادتها.

فالفطرة تحتم وجود الخالق، ولكن رجع التقديس الذي يتحتم إحداثه حين يحصل ما يحرك مشاعر التدين يؤدي إلى جعل التقديس لكل ما يُظن فيه أنه المستحق للعبادة، إما لكونه خالقاً، أو لتصور رضا الخالق بتقديسه، أو للظن بأنه حلّ به. فيؤدي ذلك إلى تعدد المعبودات، مع وحدة الخالق.

ولذلك جاء ظن التعدد متجهاً نحو المعبود، لا نحو الخالق، فكان النفي للتعدد يجب أن يكون نفياً للمعبودات، وحصراً للعبادة بالخالق الأزلي الذات،

الواجب الوجود.

ولذلك جاء الإسلام مبيناً لبني الإنسان كلهم، أن العبادة لا تكون إلاّ للذات الواجب الوجود، وهو الله سبحانه وتعالى، وشارحاً هذا البيان بطريق عقلي صريح. فسألهم عن الأشياء التي يجب أن يقوم بها المعبود، فأجابوا أنه هو الله، وألزموا أنفسهم الحجة، قال تعالى: (قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، سيقولون لله، قل أفلا تذكّرون. قل من رب السموات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله قل أفلا تتقون قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يُجير ولا يُجار عليه إن كنتم تعلمون، سيقولون لله، قل فأنّى تُسحرون. بل أتيناهم بالحق وإنهم لكاذبون. ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله، إذاً لذهب كل إليه بما خلق ولعلا بعضهم على بعض). فباعترافهم هذا من أن الله هو خالق كل شيء، وبيده ملكوت كل شيء، فقد ألزموا أنفسهم بعبوديته وحده، لأنه حسب اعترافهم هو وحده المستحق للعبادة. وقد بين لهم في آية أخرى أن غير الله لا يفعل شيئاً يستحق العبادة، فقال: (قل أرأيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم وختم على قلوبكم، من إله غير الله يأتيكم به)، وقال: (أم لهم إله غير الله). وقد أكد الله في القرآن وحدانية المعبود في آيات كثيرة، أكد فيها توحيد الإله، فقال: (وإلهكم إله واحد لا إله إلاّ هو) (الله لا إله إلاّ هو) (وما من إله إلاّ الله الواحد القهار) أي ما من معبود إلاّ الذات الواجب الوجود، وهو الله الواحد، وقال: (وما من إله إلاّ إله واحد) أي ما من معبود إلاّ معبود واحد.

فالإسلام جاء بتوحيد العبادة بالذات الواجب الوجود، الذي يحتم العقل والفطرة وجوده وهو الله. والآيات القرآنية تدل دلالة صريحة في نفي تعدد الآلهة، (لو كان فيهما آلهة إلاّ الله لفسدتا)، أي جاءت الآيات في نفي تعدد المعبودات، وفي حصر العبادة بالإله الواحد وهو الله، أي جاءت بأن المعبود واحد هو الذات الواجب الوجود.

و(إله) في اللغة ليس لها إلاّ معنى واحد هو المعبود، وليس لها أي معنى شرعي غير ذلك. فـ (لا إله) معناها في اللغة وفي الشرع: لا معبود. و(إلاّ الله) معناها في اللغة وفي الشرع: الذات الواجب الوجود، وهو الله. وعلى هذا فيكون المراد من الشهادة الأولى في الإسلام، ليس شهادة بوحدانية الخالق فحسب، كما يتوهم الكثيرون، وإنّما المراد من الشهادة هو أن يشهد أنه لا معبود إلاّ الله الواجب الوجود، حتى يُفرَد وحده بالعبادة والتقديس، وتُنفى نفياً قاطعاً العبادة عن أي شيء غير الله.

ومن هنا كان الاعتراف بوجود الله غير كاف في الوحدانية، بل لا بد من وحدانية الخالق، ووحدانية المعبود، لأن معنى (لا إله إلاّ الله) هو لا

معبود إلاّ الله. ولذلك كانت شهادة المسلم بأنه "لا إله إلاّ الله" ملزِمة له قطعاً بالعبادة لله، وملزِمة له بإفراد العبادة بالله وحده. فالتوحيد هو توحيد التقديس بالخالق، أي توحيد العبادة بالله الواحد الأحد.

rajaab
20-05-2005, 10:42 PM
الرزق بيد الله وحده



الرزق غير المِلكية، لأن الرزق هو العطاء. فرَزَق معناها أعطى. وأمّا الملكية فهي حيازة الشيء بكيفية من الكيفيات التي أجاز الشرع حيازة المال بها. ويكون الرزق حلالاً ويكون حراماً، وكله يقال عنه إنه رزق. فالمال الذي يأخذه العامل أجرة عمله رزق، والمال الذي يأخذه المقامر من غيره في لعب القمار رزق، لأنه مال أعطاه الله لكل منهما حين باشر حالة من الحالات التي يحصل فيها الرزق. وقد غلب على الناس الظن بأنهم هم الذين يرزقون أنفسهم. بالموظف الذي يأخذ راتباً معيناً بكدّه وجهده يظن أنه قد رزق نفسه، وحين تأتيه الزياد بناء على بذل مجهود منه، أو سعي للزيادة، يظن أنه رزق نفسه هذه الزيادة، والتاجر الذي يربح مالاً بسعيه في التجارة يظن أنه قد رزق نفسه، والطبيب الذي يعالج المرضى بأجر يظن أنه قد رزق نفسه. وهكذا يظن كل واحد يباشر عملاً يكسب منه مالاً أنه هو الذي رزق نفسه. وإنّما جاء هذا الظن للناس من كونهم لم يدركوا حقيقة الحالات التي يأتيهم فيها الرزق، فظنّوها أسباباً.

والحقيقة التي يجب على المسلم أن يسلِّم بها هي أن الرزق من الله وليس من الإنسان، وأن هذه الحالات التي يأتي فيها الرزق هي أوضاع حصل فيها الرزق، وليست هي أسباباً نتج عنها الرزق، ولو كانت أسباباً لَما تخلّفت مطلقاً، مع أن المشاهَد حساً أنها تتخلّف، فقد تحصل هذه الحالات ولا يأتي الرزق. فلو كانت أسباباً لنتج عنها المسبَّب حتماً وهو الرزق. وبما أنها لا ينتج عنها حتماً، وإنّما يأتي حين تكون، وقد يتخلف الرزق مع وجودها، فدل على أنها ليست أسباباً وإنّما هي حالات.

على أنه بالإضافة إلى ذلك لا يمكن اعتبار الحالات التي يأتي الرزق حين تكون، أسباباً للرزق، ولا الشخص الذي قام بها هو الذي أتى بالرزق بواسطتها، لأن ذلك يتعارض مع نص القرآن القطعي الدلالة والقطعي الثبوت، وإذا تعارض أي شيء مع نص قطعي الدلالة قطعي الثبوت يرجَّح النص القطعي ويؤخذ به ويُرفض غيره. وقد وردت الآيات الكثيرة التي تدل بصراحة لا تقبل التأويل على أن الرزق من الله تعالى وحده وليس من الإنسان.

وهذا ما يجعلنا نجزم بأن ما نشاهده من وسائل وأساليب يأتي فيها الرزق إنّما هي حالات يحصل أن يأتي الرزق فيها. فالله تعالى يقول: (وكلوا مما رزقكم الله) (الذي خلقكم ثم رزقكم) (أنفقوا مما رزقكم الله) (إن الله يرزق من يشاء) (الله يرزقها وإياكم) (نحن نرزقك) (نحن نرزقكم وإياهم) (نحن نرزقهم وإياكم) (ليَرزُقنّهم الله) (يبسط الرزق لمن يشاء) (فابتغوا عند الله الرزق) (وما من دابة في الأرض إلاّ على الله رزقها) (إن الله هو الرزاق).

فهذه الآيات وغيرها كثير، قطعية الدلالة ولا تحتمل إلاّ معنى واحداً لا يقبل التأويل وهو أن الرزق من الله وحده لا من غيره. إلاّ أن الله أمر عباده بالقيام بأعمال جعل فيهم القدرة على الاختيار بأن يباشروا فيها الحالات التي يأتي فيها الرزق. فهم الذين يباشرون جميع الحالات التي يأتي فيها الرزق باختيارهم، ولكن ليسوا هم الذين يأتون بالرزق، كما هو صريح نص الآيات، بل الله هو الذي يرزقهم في هذه الحالات بغض النظر عن كون الرزق حلالاً أو حراماً، وبغض النظر عن كون هذه الحالات قد أباحها الله، أو حرمها أو أوجبها، وبغض النظر عن كونها قد حصل فيها الرزق أم لم يحصل. إلاّ أن الإسلام قد بين الكيفية التي يجوز للمسلم أن يباشر فيها الحالة التي يحصل فيها الرزق، والتي لا يجوز له أن يباشرها. فبيّن أسباب التملك لا أسباب الرزق، وحصر الملكية بهذه الأسباب. فليس لأحد أن يملك الرزق إلاّ بسبب شرعي لأنه هو الرزق الحلال وما عداه فهو رزق حرام، وإن كان الرزق كله –حلالاً أو حراماً- من الله سبحانه وتعالى.



التقيد بالأحكام الشرعية يحتمه الإيمان بالإسلام



الأفعال التي يقوم بها العباد باختيارهم لا تأخذ أي حكم قبل ورود الشرع، فهي غير واجبة عليهم، ولا مندوبة، ولا محرَّمة، ولا مكروهة، ولا مباحة، بل يقومون بها حسب ما يرونه هم من مصلحة لهم، لأنه لا تكليف قبل ورود الشرع، قال تعالى: (وما كنا معذِّبين حتى نبعث رسولاً)، فأمّن الله بهذه الآية خلقه من العذاب على ما يرتكبون من أعمال قبل بعثة الرسل، فهم غير مسؤولين لأنهم غير مكلَّفين بحكم من الأحكام. فإذا أرسل الله لهم رسولاً، أصبحوا مقيَّدين بما جاءهم به ذلك الرسول ولم تبق لهم حجة على عدم التقيد بالأحكام التي جاء بها الرسول، قال تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل). فمن لم يؤمن بذلك الرسول كان مسؤولاً أمام الله عن عدم إيمانه وعن عدم التقيد بالأحكام التي جاء بها، ومن آمن به كان مقيداً بالأحكام التي جاء بها ومسؤولاً عن عدم اتباع أي حكم منها.

ومن هنا كان المسلمون مأمورين بأن يسيّروا أعمالهم بحسب أحكام الإسلام، لأنهم ملزَمون بتسيير أعمالهم وفق أوامر الله ونواهيه، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا). ولا يقال هنا: وما لم يأتكم به ولم ينهكم عنه فأنتم غير مكلَّفين به. لأن التكليف بالشرع عام لعموم الرسالة للإنسان وليس لأفعال معينة من أفعاله، قال تعالى: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً)، فصار يتحتم أن يكون ما أتاكم به من حكمِ كل فعل وما نهاكم عنه من حكمِ كل فعل. وعليه فإن كل مسلم أراد أن يقوم بفعل من الأفعال لقضاء حاجاته والقيام بمصالحه، وجب عليه شرعاً أن يعرف حكم الله في ذلك الفعل قبل القيام به حتى يقوم به بحسب الحكم الشرعي فيه. ولا يقال هنا: إن هناك أشياء حدثت لم يَنُص الشرع عليها فترك لنا الاختيار في فعلها وعدم فعلها. لأن ذلك يعني أن الشريعة ناقصة وغير صالحة إلاّ للعصر الذي جاءت به. وهذا مخالف للشريعة نفسها، وللواقع الذي تنطبق عليه، إذ أن الشريعة لم تأت بأحكام تفصيلية لأشياء معينة حتى تقف عندها، وإنّما جاءت بمعان عامة لمشاكل الإنسان من حيث هو إنسان بغض النظر عن الزمان والمكان، فتندرج تحت هذه المعاني جميع الأفعال الجزئية. فإذا حدثت مشكلة أو جدَّت حادثة فإنها تُدرَس ويُفهم واقعها ثم يُستنبَط حلها من المعاني العامة التي جاءت بها الشريعة، فيكون ما استُنبط من رأي هو حكم الله في هذه المشكلة أو تلك الحادثة. وقد سار المسلمون على ذلك منذ وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ذهاب الدولة الإسلامية. ولا يزال المسلمون المتمسكون بالإسلام يسيرون على ذلك. فقد حدثت مشاكل في أيام أبي بكر لم تكن في زمن الرسول، وحدثت مشاكل في أيام هارون الرشيد مثلاً لم تكن في أيام أبي بكر، فاستنبط لها المجتهدون الذين كانوا يُعَدّون بالمئات والألوف أحكاماً شرعية لم تكن معروفة من قبل. وهكذا ساروا في كل مشكلة، وكل حادثة، لأن الشريعة الإسلامية جامعة: فما من مشكلة إلاّ ولها محل حكم، وما من مسألة إلاّ ولها حكم. وعليه فيجب على كل مسلم أن يتقيد بأفعاله بالأحكام الشرعية، وأن لا يقوم بعمل إلاّ بحسب أوامر الله ونواهيه.



لا يحصل الموت إلاّ بانتهاء الأجل



يظن كثير من الناس أن الموت وإن كان واحداً، ولكن أسباب الموت متعددة. فقد يكون الموت من مرض مميت كالطاعون مثلاً، وقد يكون من طعن سكين أو ضرب رصاص أو حرق بالنار أو قطع رأس أو وقف القلب أو غير ذلك. فهذه كلها عندهم أسباب مباشرة تؤدي إلى الموت، أي يحصل الموت بسببها. ومن أجل ذلك اشتُهرت على لسانهم عبارة "تعددت الأسباب والموت واحد".

والحقيقة هي أن الموت واحد، وأن سببه واحد أيضاً وهو انتهاء الأجل ليس غير. وأمّا هذه الأشياء التي تحصل ويحصل من جرائها الموت فهي أحوال يحصل فيها الموت وليست أسباباً للموت.

وذلك أن السبب ينتِج المسبَّب حتماً، وأن المسبَّب لا يمكن أن ينتُج إلاّ عن سببه وحده، بخلاف الحالة، فإنها ظرف خاص بملابسات خاصة يحصل فيها الشيء عادة، ولكنه قد يتخلف ولا يحصل. فقد توجد الحالة ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت ولا تحصل الحالة.

والمتتبع لكثير من الأشياء التي يحصل فيها الموت، والمتتبع للموت نفسه، يجد أنه قد تحصل هذه الأشياء ولا يحصل الموت، وقد يحصل الموت ولا تحصل هذه الأشياء. فمثلاً: قد يُضرب شخص سكيناً ضربة قاتلة ويُجمِع الأطباء على أنها قاتلة، ثم لا يموت فيها المضروب بل يشفى ويعافى منها. وقد يحصل الموت دون سبب ظاهر، كأن يقف قلب إنسان فجأة فيموت في الحال دون أن يتبين أي سبب لوقوف هذا القلب لجميع الأطباء بعد الفحص الدقيق.

والحوادث على ذلك كثيرة يعرفها الأطباء. وقد شَهِدَت منها المستشفيات آلاف الحوادث. يحصل سببٌ يؤدي إلى الموت عادة جزماً، ثم لا يموت الشخص. ويحصل موت فجأة دون أن يظهر أي سبب أدى إليه. ومن أجل ذلك يقول الأطباء جميعاً إن فلاناً المريض لا فائدة منه حسب تعاليم الطب ولكن قد يعافى وهذا فوق علمنا. ويقولون إن فلاناً لا خطر عليه وهو معافى وتجاوز دور الخطر، ثم ينتكس فجأة فيموت. وهذا كله واقع مشاهَد محسوس من الناس ومن الأطباء. وهو يدل دلالة واضحة على أن هذه الأشياء التي حصل منها الموت ليست أسباباً له، إذ لو كانت أسباباً لَما تخلّفت، ولَما حصل بغيرها. فمجرد تخلفها ولو مرة واحدة، ومجرد حصول الموت بدونها ولو مرة واحدة يدل قطعاً على أنها ليست أسباباً بل حالات، وسبب الموت الحقيقي الذي ينتِج المسبَّب هو غيرها وليست هي.

وهذا السبب الحقيقي لم يستطع العقل أن يهتدي إليه لأنه لم يقع تحت الحس، فلا بد أن يخبرنا به الله، وأن يثبت ذلك بدليل قطعي الدلالة والثبوت. وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في آيات متعددة بأنه الأجل، وأن الله هو الذي يميت. فالموت يحصل بالأجل والذي يميت هو الله سبحانه وتعالى. وقد ورد ذلك في آيات متعددة، قال تعالى: (وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله كتاباً مؤجلاً) (الله يتوفى الأنفس حين موتها) (ربي الذي يحيي ويميت) (والله يحيي ويميت) (أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيَّدة) (قل يتوفاكم مَلَك الموت الذي وُكِّل بكم) (قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم) (نحن قدّرنا بينكم الموت) (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخَّر) (إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون).

فهذه الآيات وغيرها قطعية الثبوت قطعية الدلالة بأن الله هو الذي يميت، وأن سبب الموت هو انتهاء الأجل، وليس الحالة التي حصل فيها الموت.

وعلى ذلك كان واجباً على المسلم أن يؤمن عقلاً وشرعاً بأن ما يظنه أسباباً للموت هو حالات وليست أسباباً، وأن السبب غيرها، وثبت شرعاً من طريق الدليل القطعي أن الموت بيد الله، وأن الله هو الذي يميت، وأن سبب الموت هو انتهاء الأجل. وإذا جاء الأجل لا يؤخر ولا يقدّم ولا يستطيع إنسان أن يتوقّى من الموت أو يهرب منه مطلقاً، فهو آتيه لا محالة.

أمّا الذي أمر الإنسان أن يتوقّاه ويعمل على إبعاده عنه فهو الحالات التي يحصل منها الموت، فلا يعرِّض نفسه لأي حالة من الحالات التي يحصل فيها الموت عادة. أمّا الموت لا يخاف منه، ولا يهرب منه، لأنه لا يستطيع أن ينجو منه مطلقاً، لأن الإنسان لا يموت إلاّ بعد انتهاء أجله، سواء مات موتاً طبيعياً أم قتلاً أم حرقاً أم غير ذلك. فالموت بيد الله والأجل بيد الله.



الجهاد فرض على جميع المسلمين



الجهاد هو بذل الوُسع في القتال في سبيل الله، مباشرة أو معاوَنة بمال أو رأي أو تكثير سواد أو غير ذلك. فالقتال لإعلاء كلمة الله هو الجهاد.

أمّا الجهاد بالرأي في سبيل الله، فهو إن كان رأياً يتعلق بمعركة من المعارك أي يتعلق بالقتال مباشرة كرسم خطة لمعركة، أو إعطاء رأي في خطة للقتال، فهو جهاد. أمّا إعطاء رأي في أمر للأعداء فلا يكون جهاداً.

والخطابة والكتابة، إن كانت خطبة في الجيش لتحميسه عند المعركة أو كتابة للقتال مباشرة، فهو جهاد. وإن كانت غير ذلك لا تعتبر جهادا. فالجهاد خاص بالقتال وما يتصل بالقتال مباشرة. والمجاهدون هم المقاتلون بالفعل. والجهاد فرض بنص القرآن والحديث، قال تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله)، وقال: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرِّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يَدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون)، وقال: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غِلظة واعلموا أن الله مع المتقين)، وقال: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتِلون في سبيل الله فيَقتلون ويُقتلون وعداً عليها حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أُمرتُ أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاّ الله) وقال: (الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة)، وقال: (بُعثت والسيف بين يدي الساعة).

وفي حديث الحسن رضي الله عنه قال: (غدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها).

والجهاد فرض كفاية ابتداءً وفرض عين إن هجم العدو. ومعنى كون الجهاد فرض كفاية ابتداءً، هو أن نبدأ بقتال العدو وإن لم يبدأنا، وإن لم يقم بالقتال ابتداءً أحد في زمن ما، أثِم كل المسلمين بتركه. ولا تسقط فرضيته عن أهل الهند واندونيسيا بقيام أهل مصر والعراق، بل يُفرض على الأقرب فالأقرب من العدو، إلى أن تقع الكفاية بمن قاموا بالقتال بالفعل. فلو لم تقع الكفاية إلاّ بكل المسلمين صار الجهاد فرض عين على كل مسلم.

وذلك كإقامة الدولة الإسلامية، فإنها فرض على المسلمين جميعاً، فإنْ أقامها البعض سقطت فرضيتها ولا يسقط الإثم عن تقصيرهم عن العمل على إقامتها قبل قيامها. وإن لم يُقِمها المسلمون ظلت فرضيتها على جميع المسلمين حتى تحصل الكفاية بإقامتها بالفعل. وكذلك الجهاد إن لم يدفع العدو ظل الجهاد فرضاً على المسلمين حتى يُدفع العدو.

ومن هنا جاء الخطأ في تعريف الفقهاء لفرض الكفاية بأنه إذا قام به البعض سقط عن الباقين. لأن هذا التعريف يقضي بأنه إذا قام أهل الجزائر بالجهاد ضد فرنسا بالفعل سقط عن باقي المسلمين سواء خرجت فرنسا أم لم تخرج, لأنه يكون حسب تعريفهم قام البعض بالفرض وهو الجهاد فيسقط عن الباقين. وهذا خطأ بلا خلاف بين المسلمين منذ عهد رسول الله إلى اليوم، وهو يناقض نص القرآن القطعي في فرضية الجهاد حتى يخضع العدو.

فنص القرآن قطعي في جعل الجهاد ضد فرنسا في الجزائر فرضاً على جميع المسلمين لا على أهل الجزائر. فإذا قام أهل الجزائر بالجهاد فعلاً لا يسقط الفرض عن أهل مصر ولا أهل العراق وغيرهم، بل يظل فرضاً عليهم، آثمين بتركه حتى تخرج فرنسا بالفعل.

ولذلك كان تعريف الفقهاء لفرض الكفاية خطأ، والتعريف الصحيح هو أن فرض الكفاية يبقى فرضاً ولا يسقط حتى يوجَد الشيء الذي وُجد الفرض من أجله, فإن وُجد سقط وإن لم يوجد لم يسقط.

فإقامة الدولة الإسلامية فرض على جميع المسلمين، فإن قام حزب التحرير بالعمل لإقامتها لا تسقط فرضيتها بل تبقى فرضاً على المسلمين جميعاً حتى تقوم بالفعل، ولا يسقط إثم فرضيتها إلاّ عمّن باشر القيام بالعمل لها بالفعل، ويبقى هذا الإثم على الباقين. وكذلك جهاد فرنسا بالجزائر، وجهاد بريطانيا في عُمان، فرض على جميع المسلمين، فإن قام أهل الجزائر بجهاد فرنسا وقام أهل عُمان بجهاد بريطانيا، لا تسقط فرضية جهادهما بل تبقى فرضاً على المسلمين جميعاً حتى تطرد فرنسا وبريطانيا بالفعل. ولا يسقط إثم فرضيتها إلاّ عن أهل الجزائر فقط، ويبقى هذا الإثم على الباقين.

واليوم وقد احتل الكافر المستعمِر بعض بلاد المسلمين، فإن الجهاد فرض على جميع المسلمين ويبقى فرضاً عليهم جميعاً، آثمين بتركه حتى تطهر جميع بلاد الإسلام من سلطان الكفار من الدول الأجنبية، ويبدأ المسلمون بقتال أعدائهم. فإن حصل ذلك بالفعل سقطت حينئذ فرضيته عن باقي المسلمين. أمّا قبل ذلك فتبقى فرضية الجهاد على جميع المسلمين، ويأثمون بتركه ولو قام بعضهم بالفعل بالجهاد ولم يتحقق بهم ما قام الجهاد من أجله.

rajaab
20-05-2005, 10:46 PM
الأحكام الخمسة



الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد. فيَثبُت الحكم الشرعي بثبوت الخطاب، ويتبين ما هو بتبين معنى الخطاب. وخطاب الشارع هو ما جاء في الكتاب والسنّة من أوامر ونواهٍ. ولذلك كان فهم الحكم الشرعي متوقفاً على فهم الكتاب والسنّة، فإنهما أصل التشريع ومصدر الأحكام.

إلاّ أنه ليس كل خطاب للشارع يجب القيام به ويعاقَب على تركه، أو يحرم الإقدام عليه ويعاقَب على فعله، بل يتوقف ذلك على نوع الخطاب. ومن هنا كان من الإثم والجرأة على دين الله أن يسارع شخص للتصريح بأن هذا فرض لأنه قرأ آية أو حديثاً دل على طلب القيام به، أو يسارع للفتوى بأن هذا حرام لأنه قرأ آية أو حديثاً دل على طلب تركه.

وقد بُلي المسلمون في هذه الأيام بكثير من أمثال هؤلاء الذين يسارعون للتحليل والتحريم بمجرد قراءتهم الأمر أو النهي في آية أو حديث. وأغلب ما يكون هؤلاء من الذين اكتشفوا أنفسهم أنهم يفهمون قبل أن يفهموا، ونادراً ما يكون من الذين يفهمون معنى التشريع. ولذلك كان لا بد من فهم نوع خطاب الشارع قبل إعطاء الرأي في نوع الحكم الشرعي، أي لا بد من فهم معنى الحديث أو الآية فهماً تشريعياً لا فهماً لغوياً فحسب، حتى لا يخطئ المسلم فيُحرّم ما أحلّ الله ويحلل ما حرّمه.

وخطاب الشارع يُفهم بالنص، وبالقرائن التي تعيّن معنى النص. فليس كل أمر للوجوب، ولا كل نهي للتحريم، فقد يكون الأمر للندب أو الإباحة، وقد يكون النهي للكراهة.

فالله تعالى حين يقول: (قاتِلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخِر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله... الآية)، فإنه يأمر بالجهاد. وهذا الأمر في هذه الآية فرض، يعاقِب الله على تركه. ولكن كون هذا فرضاً لم يأت من صيغة الأمر وحدها، بل أتى من قرائن أخرى غيرها دلت على أن هذا الأمر طلب للفعل طلباً جازماً. وهذه القرينة نصوص أخرى، مثل قوله في آية ثانية: (إلا تنفروا يعذّبكم عذاباً أليماً). وحين يقول الله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) فإنه ينهى عن الزنا، وهذا النهي في هذه الآية تحريم للزنا، يعاقب الله على فعله. ولكن كون هذا حراماً، لم يأت من صيغة النهي وحدها، بل أتى من قرائن أخرى غيرها دلت على أن هذا النهي طلب للترك طلباً جازماً، وهذه القرينة نصوص أخرى، مثل قوله في نفس الآية: (إنه كان فاحشة وساء سبيلاً)، وقوله في آية أخرى: (الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة).

وحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجماعة تَفضُل على صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة) فإنه يأمر بصلاة الجماعة ولو جاء الطلب بغير صيغة الأمر. وحين يقول: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها) يأمر بزيارة القبور، إلاّ أن هذا الأمر أو هذا الطلب في هذين الحديثين مندوب، وليس بفرض. وكونه مندوباً آتٍ من قرائن أخرى، مثل سكوته صلى الله عليه وسلم عن جماعة صلوا منفردين، وسكوته عن أناس لم يزوروا القبور. فدل على أنه طلبٌ غير جازم. وحين يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كان موسراً فلم ينكح فليس منا)، وحين نقرأ نهي النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن التبتل، أي عن عدم الزواج في الحديث عن سُمرة (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن التبتل)، نجد أن الرسول ينهى عن عدم الزواج للموسر في الحديث الأول وينهى عن عدم الزواج مطلقاً في الحديث الثاني، ولكن ليس معنى ذلك أن عدم الزواج للموسر حرام، وعدم الزواج مطلقاً حرام، بل هذا النهي يدل على أنه مكروه وليس بحرام. وكونه مكروهاً فقط آتٍ من قرائن أخرى، من مثل سكوته صلى الله عليه وسلم عن بعض الموسرين وهو يعرف أنهم لم يتزوجوا، وسكوته عن بعض الصحابة وهم لم يتزوجوا.

وحين يقول الله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) (فإذا قُضيَت الصلاة فانتشروا)، فإنه يأمر بالصيد بعد فك الإحرام، ويأمر بالانتشار بعد الصلاة، ولكن هذا الأمر لا يدل على أن الصيد بعد فك الإحرام فرض ولا مندوب، ولا على أن الانتشار بعد صلاة الجمعة فرض ولا مندوب، بل يدل على أنه مباح. وكون هذا مباحاً جاء من قرينة أخرى، وهو أن الله تعالى أمر بالصيد بعد الإحرام، وكان قد نهى عنه قبل الإحرام. وأمر بالانتشار بعد صلاة الجمعة، بعد أن كان نهى عنها عند صلاة الجمعة. فدلت تلك القرينة على أن هذا الأمر للإباحة، وأن الصيد في هذه الحالة، والانتشار في تلك الحالة مباح.

وعلى ذلك فإن معرفة نوع الحكم من النص، تتوقف على فهم النص فهماً تشريعياً، بربطه بالقرائن التي تدل على معنى الخطاب فيه. ومن هنا يتبين أن الأحكام الشرعية أنواع.

ويظهر مِن تتبّع جميع النصوص والأحكام أن الأحكام الشرعية خمسة هي: الفرض ومعناه الواجب، والحرام ومعناه المحظور، والمندوب، والمكروه، والمباح. لأن خطاب الشارع إما أن يكون طلباً للفعل أو طلباً للترك أو تخييراً بين الفعل والترك. والطلب إما أن يكون جازماً وغير جازم، فإن كان طلب الفعل جازماً فهو الفرض، وإن كان غير جازم فهو المندوب. وإن كان طلب الترك جازماً فهو الحرام، وإن كان غير جازم فهو المكروه. وطلب التخيير هو المباح.

ومن هنا كانت الأحكام الشرعية خمسة ليس غير هي: الفرض، والحرام، والمندوب، والمكروه, والمباح.



الرأي الذي يستنبطه المجتهد حكم شرعي



تأخذ عملية صرف المسلمين عن التقيد بالحكم الشرعي صنوفاً من الأساليب، ومن أخبث هذه الأساليب ما يزعمه أفراد من الناس من أن رأي الأئمة المجتهدين كالشافعي أو جعفر الصادق أو أبي حنيفة ليس حكماً شرعياً وإنّما هو رأي له ولا يَلزم التقيد به، ويدّعون أن الحكم الشرعي هو نص القرآن أو الحديث فقط. ويترتب على هذا حصر الأحكام الشرعية فيما ورد به النص صراحة، ويُفهم منه بمجرد القراءة. وعلى ذلك تبقى مشاكل عديدة متجددة، ومسائل مختلفة طارئة لم يَرِد بها نص شرعي، فلا يوجد لها حكم شرعي، وإنّما يسير فيها كلٌّ برأيه، ويتحكم فيها العقل فيضع الحل الذي يراه، والحكم الذي يوافق هواه. وهذا لعمر الحق إثم مبين، وافتراء على الشريعة الإسلامية، وتعطيل للاجتهاد، وصرف للناس عن أحكام الإسلام، لأن الكتاب والسنّة وهما مصدر الشريعة الإسلامية، قد جاءا خطوطاً عريضة، ومعاني عامة، وقد جاءت نصوصهما ألفاظاً تشريعية، تدل على واقع ووقائع، فتُفهم فهماً تشريعياً، ويؤخذ فيها بمنطوقها وهو المعنى الذي دل عليه اللفظ، وبمفهومها وهو المعنى الذي دل عليه معنى اللفظ، وباقتضائها وهو المعنى الذي يقتضيه المنطوق والمفهوم. وهذه الألفاظ لها معان لغوية، ومعان تشريعية، ولها نصوص أخرى من الكتاب والسنّة تخصصها في حالة العموم، وتقيدها في حالة الإطلاق، وقرائن تعيّن المعنى المراد منها، والحكم الذي تقتضيه في دلالة الأمر على الوجوب أو الندب أو الإباحة، ودلالة النهي على التحريم أو الكراهة، وكونها خاصة في حادثة أو عامة في كل شيء، إلى غير ذلك مما تحويه نصوص القرآن أو الحديث. ولذلك تُفهم فهماً تشريعياً، لا فهماً ظاهرياً، ولا فهماً منطقياً. ولذلك يحصل الاختلاف من فهم النص الواحد، فيُعطى فيه رأيان مختلفان أو متناقضان.

هذا من ناحية الفهم أي من ناحية دلالة اللفظ. علاوة على الاختلاف في ثبوت نص الحديث من حيث اعتباره وعدم اعتباره، فيحصل الخلاف أيضاً في اعتبار الحكم الذي يؤخذ منه، وعدم اعتباره. وينتج عن هذا كله اختلاف في الآراء: في كون المعنى الفلاني هو الحكم الشرعي، أو المعنى المخالف له أو المغاير له، وكلها يدل عليها النص الشرعي، فكلها حكم شرعي، مهما تعددت واختلفت أو تناقضت، لأن الحكم الشرعي هو "خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد". وخطاب الشارع الذي جاء به الوحي يحتاج إلى فهم من المخاطَب حتى يصبح حكماً شرعياً في حقه، لأن النص يحتاج إلى فهم حتى يصبح موضع عمل. فخطاب الشارع يصبح حكماً شرعياً حين يُفهم من مدلول النص بعد أن يثبُت النص أنه قرآن أو حديث. وقبل ثبوت النص وفهم دلالته لا يعتبر حكماً شرعياً. وعليه فالذي جعل النص خطاب شارع هو فهمه. فالحكم الشرعي هو الرأي الذي يؤخذ من النص، وهو الذي يعتبر خطاب الشارع. ومن هنا كان رأي المجتهد حكماً شرعياً ما دام يستند فيه إلى الكتاب والسنّة، أو إلى ما دل عليه الكتاب والسنّة من الأدلة الشرعية.

وعليه، فآراء المجتهدين السابقين من أصحاب المذاهب وغيرهم، أحكام شرعية، وآراء المجتهدين اليوم أحكام شرعية، وآراء المجتهدين في المستقبل في كل مكان وزمان أحكام شرعية، ما داموا قد استنبطوها باجتهاد صحيح، مستندين فيها إلى الأدلة الشرعية. وقد أقر النبي صلى الله عليه وآله وسلم اعتبار فهم النص هو الحكم الشرعي، وأقر الاختلاف فيه. فإنه على اثر ذهاب الأحزاب في غزوة الخندق أمر عليه السلام مؤذناً فأذّن في الناس (من كان سامعاً مطيعاً فلا يُصلينّ العصر إلاّ في بني قريظة)، ففَهِم بعضهم ترك صلاة العصر في المدينة، فلم يُصلّوا حتى وصلوا إلى بني قريظة، وفَهِم البعض الآخر أن المقصود هو الإسراع فصلّوا العصر وذهبوا إلى بني قريظة بعد أداء صلاة العصر، وقد عرضوا ذلك على الرسول صلى الله عليه وسلم فأقرّ الفهميْن واعتبرهما. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يختلفون في فهم القرآن والحديث، ولهم في ذلك آراء مختلفة، وكل رأي من آرائهم حكم شرعي، وقد أجمعوا على أن الرأي الذي يفهمه أي مجتهد من النص حكم شرعي.

وعلى ذلك، فالسنّة وإجماع الصحابة يدلان على أن الرأي الذي يستنبطه أي مجتهد يعتبر حكماً شرعياً يجب التقيد به على مستنبِطه، وعلى كل من أقرّه على هذا الفهم، أو قلّده فيه.



الأصل في الأفعال التقيّد بأحكام الشرع

وليس الأصل فيها الإباحة ولا التحريم



المباح هو ما دل الدليل السمعي على خطاب الشارع بالتخيير فيه بين الفعل والترك من غير بدل، أو هو ما خُيِّر المرء فيه بين فعله وتركه شرعاً.

والإباحة من الأحكام الشرعية، فالمباح حكم شرعي. والحكم الشرعي يحتاج إلى دليل يدل عليه، فما لم يوجد دليل يدل عليه لا يكون حكماً شرعياً. فمعرفة كون حكم الله في الفعل مباحاً تحتاج إلى دليل شرعي. وعدم وجود الدليل الشرعي لا يدل على أن الفعل مباح، لأن عدم وجود الدليل لا يدل على وجود حكم الإباحة ولا على وجود أي حكم له، بل يدل على نفي وجود حكم له، ويدل على وجوب التماس الدليل لمعرفة حكم الله فيه حتى يحدد موقفه منه. ذلك أن معرفة حكم الشرع في الفعل فرضٌ على كل مكلف ليحدد موقفه من الفعل، هل يقوم به أو يتركه. فالإباحة خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك، فما لم يُعرف خطاب الشارع لا يُعرف الحكم الشرعي، وما لم يوجد خطاب الشارع بالإباحة لا يوجد حكم الإباحة، فإنه لا حكم لأفعال العقلاء قبل ورود الشرع. فيتوقف الحكم بكون الفعل مباحاً أو مندوباً أو فرضاً أو مكروهاً أو حراماً على ورود الدليل السمعي بهذه الأحكام. وبدون الدليل السمعي لا يمكن إعطاء الفعل حكماً من الأحكام. فلا يمكن أن نحكم بإباحة ولا حرمة ولا غيرهما من الأحكام الشرعية الخمسة إلاّ أن يقوم الدليل السمعي على ذلك.

وليس معنى هذا ترك طلب حكم الله بالفعل وتعطيل أحكام الشرع، أو ترك القيام بأعباء الحياة بحجة جهل الله فيها، فإن ذلك كله لا يجوز شرعاً، وإنّما يعني ذلك أن فعل الإنسان يحتاج إلى معرفة حكم الله فيه، وذلك يوجب طلب الأدلة الشرعية وتطبيقها على ذلك الفعل حتى يُعرف حكم الله في الفعل من كونه مباحاً أو حراماً أو فرضاً أو مكروهاً أو مندوباً. لأن مقياس الأعمال عند المسلم هو أوامر الله ونواهيه. وقد فرض الله على كل مسلم أن ينظر في كل عمل يأتيه أن يعرف قبل القيام بالفعل حكم الله فيه: هل هو حرام أو واجب أو مكروه أو مندوب أو مباح. فكل عمل لا بد أن يتعلق به حكم من الأحكام الخمسة المذكورة، فهو لا بد أن يكون إما واجباً أو حراماً أو مندوباً أو مكروهاً أو مباحاً. وكل عمل من الأعمال التي يقوم بها المسلم يجب أن يعلم حكم الله في هذا العمل قبل مباشرته له، لأن الله سيسأله عنه، قال تعالى: (فوربك لنسألنّهم أجمعين عما كانوا يعملون)، وقال: (وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلاّ كنا عليكم شهوداً إذ تُفيضون فيه)، ومعنى إخباره تعالى لعباده أنه شاهد على أعمالهم هو أنه محاسبهم عليها وسائلهم عنها.

وقد بيّن الرسول صلى الله عليه وسلم وجوب أن يكون العمل وفق أحكام الإسلام، فقال: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رَدّ)، وما زال الصحابة رضوان الله عليهم يسألون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن تصرفاتهم حتى يعرفوا حكم الله فيها قبل أن يفعلوها، فقد أخرج ابن المبارك (أن عثمان بن مظعون أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتأذن لي في الاختصاء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ليس منا من خصى أو اختصى، وإن اختصاء أمّتي الصيام. قال: يا رسول الله أتأذن لي في السياحة؟ قال: سياحة أمّتي الجهاد في سبيل الله. قال: يا رسول الله أتأذن لي في الترهب؟ قال: إن ترهّب أمّتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة). فهذا صريح بأن الصحابة ما كانوا يُقدمون على عمل إلاّ سألوا عنه قبل الإقدام عليه لمعرفة حكم الله فيه. ولو كان الأصل في الأفعال الإباحة لفعلوه وما سألوا عنه، فإذا حرّمه الله تركوه وإلاّ استمروا على فعله ولا حاجة بهم إلى السؤال.

وأمّا سكوت الشارع عن أفعال لم يبيّن حكم الله فيها مع أن الناس كانوا يفعلونها، فليس معناه أن عدم إعطاء الشارع رأياً قولياً أو فعلياً دليل على إباحة الأفعال التي لم يبيّن فيها نص صريح قولي أو فعلي، بل معنى السكوت: أن الأفعال التي فُعلت أمام الرسول، أو كان يعلم أن الناس يفعلونها داخل سلطانه، دليل على إباحة هذه الأفعال فقط، لا على إباحة الأفعال مطلقاً، لأن سكوته عليه الصلاة والسلام على الأفعال، أي إقراره لها، دليل على إباحة هذه الأفعال. فالسكوت على الفعل يعتبر دليلاً على إباحته إذا كان ذلك مع العلم به بأنْ فُعل أمامه أو كان يعلم به. أمّا سكوته عن الفعل دون علمه به، أو عن الفعل الحاصل خارج سلطانه، وإن علم به، فلا يسمى سكوتاً باعتبار السكوت من الأدلة الشرعية.

والسكوت الذي هو الدليل على الإباحة، سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم لا سكوت القرآن، لأن القرآن كلام الله، والله يعلم ما كان من الأفعال، وما يكون، وما هو كائن. فلا يعتبر عدم بيان القرآن حكم فعل أنه سكت عنه، بل المراد من السكوت عن الفعل هو سكوت الرسول صلى الله عليه وسلم عنه مع علمه به، أي أنه يُعمل العمل أمامه أو يُعمل داخل سلطانه على علم منه ويسكت عنه.

وقد استدل بعض الصحابة على جواز العزل بسكوت النبي صلى الله عليه وسلم عنه فقال: (كنا نعزل والقرآن ينزل)، أي ورسول الله بيننا، إذ قوله: (والقرآن ينزل) كناية عن وجود الرسول بينهم. واستدل بعض المجتهدين على جواز أكل لحم الضب بسكوت النبي عن أكله، فقد روي أنه (أُكل الضب على مائدة النبي ولم يأكل منه)، فسكوته عن الصحابة وهم يأكلوب الضب على مائدته دليل على إباحة أكله. فسكوت الشارع عن الفعل مع علمه به دليل على إباحته، وليس عدم بيان الشارع حكماً للفعل دليل على إباحته. وفرقٌ بين السكوت وبين عدم البيان، في الدلالة.

ومن ذلك كله يتبين أن الأصل في أفعال العباد هو أن لها حكماً شرعياً وجب طلبه من الأدلة الشرعية قبل القيام بالفعل، ويتوقف الحكم على الفعل بكونه مباحاً أو فرضاً أو مندوباً أو حراماً أو مكروهاً على معرفة الدليل السمعي على هذا الحكم من الكتاب أو السنّة أو الإجماع أو القياس.



الأصل في الأشياء الإباحة



الأشياء غير الأفعال. فالأشياء هي المواد التي يتصرف فيها الإنسان بأفعاله. وأمّا الأفعال فهي ما يقوم به الإنسان من تصرفات فعلية أو قولية لإشباع جوعاته.

والافعال لا بد أن تكون متعلقة بأشياء تُستعمل لتنفيذ الفعل الذي أراد الإنسان به الإشباع. فالأكل والشرب والمشي والوقوف وما شاكل ذلك، أفعال وتصرفات فعلية. والبيع والإجارة والوكالة والكفالة وما شاكل ذلك، أفعال وتصرفات قولية. وهذه الأفعال كلها، من تصرفات فعلية أو قولية، متعلقة بأشياء حتماً. فالأكل من حيث هو أكل، فعل، ولكنه متعلق بالخبز والتفاح ولحم الخنزير وغير ذلك. والشرب من حيث هو شرب، فعل، ولكنه متعلق بالماء والعسل والخمر وغير ذلك. فهذه الأشياء لا بد لها من حكم، كما أن الأفعال لا بد لها من حكم شرعي. فهل تأخذ الأشياء حكم الفعل المتعلق بها من حيث الوجوب أو الحرمة أو الندب أو الكراهة أو الإباحة، أو تأخذ حكماً آخر غير حكم الفعل؟ أم أنه لا حكم لها والحكم إنّما هو للفعل وحده؟

rajaab
20-05-2005, 10:47 PM
إن الذي يتبادر إلى الأذهان هو أن الأشياء والأفعال شيء واحد، فالفعل لا ينفصل عن الشيء، والشيء لا ينفصل عن الفعل إذا كان يراد أن يكون له اعتبار، وإذا انفصل أحدهما عن الآخر سقط عن الاعتبار. وبناء على ذلك يتبادر للذهن أيضاً أن حكم الفعل يكون سائراً على حكم الشيء المتعلق به الفعل. ولذلك لم يفرق العلماء في العصر الهابط بين الشيء والفعل، فقال بعضهم: الأصل في الأشياء الإباحة وجعلوها شاملة الأفعال والأشياء، وقال آخرون: الأصل في الأشياء التحريم وجعلوها شاملة للأفعال والأشياء.

والحقيقة أن هناك فرقاً بين الأفعال والأشياء في الشريعة الإسلامية. فإن المتتبع للنصوص الشرعية والأحكام الشرعية، يرى أن الشرع جعل الأحكام المتعلقة بالأفعال لا تخرج عن خمسة أحكام هي: الوجوب أو الحرمة أو الندب أو الكراهة أو الإباحة. وكل فعل لا يخرج عن كونه واجباً أو حراماً أو مندوباً أو مكروهاً أو مباحاً.

وعُرّف الحكم الشرعي بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، فجُعل الحكم الشرعي للفعل بغض النظر عن الشيء الذي يتعلق به. فالحكم الشرعي إنّما هو للأفعال لا للأشياء. فأحل البيع من حيث هو بيع، فقال تعالى: (وأحل الله البيع).

أمّا الأشياء المتعلق بها البيع، فمنها ما أحله الله كالعنب، ومنها ما حرّمه الله كالخمر. فالحكم هو لفعل البيع، والتحريم هو لفعل الربا، بغض النظر عن الشيء المتعلق به الفعل. أمّا الأشياء، فإن المتتبع للنصوص الشرعية يرى أن الله أعطاها وصف الحِل أو الحرمة فقط، ولم يعطها حكم الوجوب أو الندب أو الكراهة. وجعل الحرمة أو الحِل وصفاً للشيء، قال تعالى: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً)، وقال: (ولا تقولوا لِما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام) (إنّما حرّم عليكم الميتة) (حرّمنا كل ذي ظفر) (ويحرّم عليكم الخبائث) (لِمَ تُحرّم ما أحلّ الله لك). فالنصوص كلها لم تجعل للشيء إلاّ أحد أمرين: إما أن يكون حلالاً وإما أن يكون حراماً ولا ثالث لهما، ولا يخرج عن أحدهما.

وهذا التحليل والتحريم هو من شأن الله وحده، ليس لأحد أن يشركه فيه، وكل من يعطي رأياً من عنده فهو آثم معتدٍ مفترٍ على الله. والحِل والحرمة وصفان لا مناص من لزوم أحدهما لكل ما خلق الله من شيء يمكن أن يقع عليه حس الإنسان، سواء ما يؤكل أو يُلبس أو يُركب أو يُسكن أو يُستعمل أو لا يُستعمل. وإذا تتبعنا النصوص الشرعية نجد أن الله تعالى أصّل في هذه الأشياء جميعها أصلاً وجعله الإباحة. فرخّص لنا أن ننتفع بكل ما كان بمتناول يد الإنسان واستثنى من ذلك العموم بعض الأشياء نص عليها بخصوصها فحرّمها.

وتلك الإباحة تُفهم من نصوص الشريعة إجمالاً وتعميماً. فنجد النصوص تُجمل الإباحة في مثل قوله تعالى: (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، وتعمّم مثل قوله تعالى: (ألم تروا أن الله سخر لكم ما في السموات وما في الأرض وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة)، ويُجمل ويُفصل في مثل قوله تعالى: (الذي جعل لكم الأرض فراشاً والسماء بناءً وأنزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم) (وسخّر لكم الفُلك لتجري في البحر بأمره وسخّر لكم الأنهار وسخّر لكم الشمس والقمر دائبيْن وسخّر لكم الليل والنهار وآتاكم من كل ما سآلتموه وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها) (ونزّلنا من السماء ماءً فأنبتنا به جنات وحبّ الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقاً للعباد) (قل من حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) (إنّما حرّم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلّ به لغير الله) (لا أجد فيما أوحي إليّ محرَّماً على طاعم يطعمه إلاّ أن يكون ميتة أو دماً مسفوحا.. الآية).

فهذه الآيات تدل على أن الله أباح للإنسان جميع الأشياء، وأن ما حرّمه منها استثناه، ونص بخصوصه وحده. كما جاء الحديث فنص أيضاً على بعض الأشياء المحرّمة، فقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلف من الطير.

فالشارع أباح الأشياء جميعها بمعنى أنه أحلّها، إذ الإباحة في الأشياء معناها الحلال، ضد الحرام. فإذا نص على حُرمة بعضها استثنى هذا البعض وحده. فالحِل والحرمة بالنسبة للأشياء وصفٌ لها، وليس للأشياء غيرهما أي وصف شرعي، ولا تحتاج إباحة الشيء، أي كونه حلالاً، إلى دليل، لأن الدليل العام في النصوص أباح جميع الأشياء. وأما حرمته فهي التي تحتاج إلى دليل لأنها مستثناة ومخصصة من عموم أدلة الإباحة فلا بد لها من نص. ولذلك كان الأصل في الأشياء الإباحة، أي الأصل فيها أن تكون حلالاً.


لا يجوز أن تتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان



يسيطر على أذهان غالبية المسلمين في هذه الأيام اعتقاد مؤداه أن الإسلام مرن، وأنه يساير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في كل زمان ومكان، وهو يتطور لينطبق في أحكامه على مقتضيات الأوضاع العصرية، ومتطلبات ما ألِفَه الناس واعتادوه في أيامنا هذه.

وهم يدّعون في سند دعواهم هذه بقاعدة يصفونها بأنها شرعية تقول: "لا يُنكَر تغير الأحكام بتغير الزمان"! وعلى أساس ذلك تجدهم يسايرون الواقع في سلوكهم، ويتكيفون بتصرفاتهم حسبما يقتضيه، فإن ذكّرتهم بأحكام الشرع قالوا إنها كانت لزمن معين، والإسلام يوجِب أن يكون الإنسان مجارياً لعصره! وعاملاً بما يلائم زمانه ومكانه!!.. فهم يبررون وجود البنوك الربوية والشركات المساهمة والتعامل معها، بأن ذلك مصلحة واقعية ولا بد من ليّ الإسلام ليقبلها، فهو مرن كما يفترون. وتبرّج النساء واختلاطهن بالغير لغير حاجة يقرّها الشرع، والسهر مع الغرباء في الحفلات لا بد من السماح به والرضى به لأنه من متطلبات العصر. وكيف يخالف الإسلام العصر والقاعدة الشرعية تقول: إن الإسلام يتغير بتغير الزمان والمكان؟! ذلك ما يدّعون. وتعدد الزوجات انتهى حكمه لأن الزمن لم يعد يستسيغ ذلك. وقطع يد السارق، ورجم الزاني أو جلده لا يجوز البحث بها لأنها لا تناسب ذوق زماننا هذا.

وهكذا تسير القاعدة وأمثلتها لتركَّز تماماً في أذهان المسلمين في حين أنها تخالف الإسلام مخالفة كلية، بل تنسف أصوله وفروعه، وتقضي على تشريعه وتطمس معالمه. وهي إنّما نشأت في آخر القرن التاسع عشر أيام شدة الانحطاط الفكري، ثم جاء الاستعمار فغذّاها حتى طغت بهذا الشكل العنيف.

إن الأحكام الشرعية في الإسلام أنظمة جاءت لمعالجة الإنسان في إشباع جوعاته الغريزية والعضوية، وقد خاطَبَنا بها الشارع في الكتاب والسنّة وهما مصدر الاستنباط الوحيد للأحكام الشرعية في الإسلام. فالحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، وهو –أي الحكم الشرعي- لا بد أن يثبُت بالدليل أنه خطاب من الشارع، بمعنى أنه لا بد أن يكون مأخوذاً من النص الذي هو الآية أو الحديث، أو ما ثبت بالنص كإجماع الصحابة والقياس لعلّة شرعية. وعلى هذا كان مصدر الأحكام الشرعية واحداً لا غير، هو كتاب الله وسنّة رسوله، منهما تُستنبط المعالجات لحل مشاكل الناس وفض النزاع بينهم. فهل الزمان والمكان كتاب أم سنّة؟ وعلى أي أساس يجوز للإنسان أن ينظم معالجات نفسه، أو للأمّة أن تنظم علاقات مجتمعها بمقتضى الزمان والمكان، والله قد فرض أن يعالَج الواقع بالأحكام المستنبَطة من كتاب الله وسنّة رسوله؟

إن الشريعة الإسلامية في معالجتها للإنسان تقضي بدراسة واقع مشاكله ثم التعرف على حكم الله فيها باستنباطه من الكتاب والسنّة، أو ما أرشدا إليه. فواجب على كل مسلم عند تطبيق الشريعة على المجتمع أن يدرس المجتمع دراسة دقيقة ثم يعالجه بشرع الله، ويغيره تغييراً انقلابياً على أساس مبدأ الإسلام دون إقامة وزن للظروف والأحوال في مخالفة الشرع، فكل ما خالف الإسلام لا بد من إزالته، وكل ما أمر به الإسلام لا بد من تمكينه وجعله موضع التطبيق. فواقع المجتمع لا بد أن يكون مقيَّداً بأوامر الله ونواهيه، ولا يحل للمسلمين أن يتكيفوا حسب واقع زمانهم ومكانهم بل عليهم أن يعالجوا ذلك بكتاب الله وسنّة رسوله.



الأمر وصيغة فعل الأمر



المسلمون مكلَّفون في هذه الحياة بالسير حسب أوامر الله ونواهيه. وأوامره ونواهيه وردت على لسان رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنّة، ومنهما نستنبط الأحكام، ونستنبط ما يصلح أن يكون معهما أدلة للأحكام، وهو إجماع الصحابة والقياس.

وهذه الأحكام تؤخذ من الأوامر والنواهي الواردة في الكتاب والسنّة. والأوامر الواردة في الكتاب والسنّة ليست محصورة بصيغة فعل الأمر، بل واردة في عدة صيغ، ولذلك يخطئ الذين يظنون أن معنى أمر الله أن يأمر الله بالشيء بصيغة افعل، بل قد يأمر به بصيغة الأمر، وقد يأمر بصيغ أخرى.

فالله تعالى يقول: (كُتب عليكم الصيام) يأمر بالصيام، وحين يقول: (ولله على الناس حج البيت) يأمر بالحج، كما يأمر بذلك في قوله: (أقيموا الصلاة)، وفي قوله: (إذا تداينتم بديْن إلى أجل مسمى فاكتبوه)، مما ورد به صيغة الأمر. فالأمر من الله هو طلبه منا فعل الشيء، سواءً أطلبه بصيغة الأمر أم بصيغة الإخبار.

فلا يقال إن هذا الشيء غير واجب لأنه لم يَرِد به نص يأمرنا به لعدم ورود فعل الأمر ولوروده بصيغة الإخبار. ولا يقال إن هذا الأمر واجب لأنه ورد بصيغة فعل الأمر. إذ قد يكون الشيء واجباً ويَرِد بغير صيغة الأمر. وقد يكون غير واجب ويَرِد بصيغة فعل الأمر، لأنه المراد بالأمر طلب الفعل مهما كانت الصيغة التي ورد بها الطلب، لأنه ليس للأمر صيغة تخصه.

وأمّا صيغة "افعل" فليست خاصة بالأمر وحده بل هي لفظ مشترك بين الأمر وغيره، فقد تكون للتهديد، وتكون للإرشاد، وتكون للإباحة، وهذه كلها ليست أوامر. واللفظ المشترك في اللغة بين عدة معان، إذا ورد مجرداً عن القرائن يكون صالحاً لجميع المعاني التي وردت له في اللغة ولا تخصه في معنى معين، إلاّ إذا جاءت قرينة دالة على ذلك.

فلفظ "العين" لفظ مشترك بين عدة معان، فتُطلق على العين الباصرة، وعلى الجاسوس، وعلى العين الجارية، وعلى النقد، ولا يترجح معنى واحد من هذه المعاني على غيره إلاّ بقرينة، لأنه حقيقة فيها جميعاً، وليس هو حقيقة في بعضها مَجازاً في البعض الآخر.



وكذلك صيغة "افعل" لفظ مشترك بين عدة معان، فيُطلق ويراد منه الأمر، ويُطلق ويراد منه التخيير، ويُطلق ويراد منه الامتنان، ويُطلق ويراد منه التهديد، ولا يترجح معنى واحد من هذه المعاني على غيره إلاّ بقرينة، لأنه حقيقة فيها جميعها، وليس حقيقة في بعضها مَجازاً في البعض الآخر. وقد ورد القرآن بذلك في آيات متعددة صريحة لا تحتمل التأويل.

ويظهر من تتبّع الآيات التي وردت فيها صيغة فعل الأمر أن القرآن أطلقها على عدة اعتبارات ولم يخصّها بالأمر. فقد وردت للوجوب كقوله تعالى: (أقِم الصلاة)، وللندب كقوله: (فكاتبوهم)، وللإرشاد كقوله: (فاستشهدوا) أي إذا أردتم إتمام معاملة فالأوفق لكم أن تجعلوا شهوداً عليها حتى لا يذهب حقكم. وقد وردت للإباحة كقوله: (وإذا حللتم فاصطادوا)، و(فإذا قُضِيَت الصلاة فانتشروا في الأرض)، وللامتنان كقوله: (كلوا مما رزقكم الله)، وللإكرام كقوله: (ادخلوها بسلام)، وللتهديد كقوله: (افعلوا ما شئتم) (تمتعوا حتى حين)، وللتسخير (كونوا قردة خاسئين)، وللتعجيز (كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبُر في صدوركم)، وللإهانة كقوله: (ذُق إنك أنت العزيز الكريم)، وللتسوية (اصبروا أو لا تصبروا).

وعلى هذا، فإن صيغة فعل الأمر تحتمل عدة معان، فإذا وردت عارية عن القرائن كان لا بد من التماس القرينة في الكلام الذي وردت فيه أو في غيره مما ورد في موضوعه أو في الحال التي جاء في شأنها، حتى يتعين المراد بالأمر في النص أو يتعين المعنى المراد بصيغة فعل الأمر بالنص.

وعلى هذا الوجه يمكن أن يُفهم النص الشرعي ويمكن أن يُستنبط فيه حكم الله المراد من هذا النص، فيتبع الإنسان الحلال كما ورد لا كما يريده الشخص، ويتجنب الحرام الذي ورد لا ما يراه الشخص نفسه، فيكون اتَّبَع الإنسان الحلال وتَجنَّب الحرام على الوجه الذي أراده الله.

rajaab
20-05-2005, 10:49 PM
حيثما يكون الشرع تكون المصلحة



قال الله تعالى في كتابه العزيز مخاطِباً الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما أرسلناك إلاّ رحمة للعالمين)، وكونه قد جاء رحمة لهم يعني أنه جاء بما فيه مصلحتهم. وقال تعالى: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين). وقال تعالى: (فقد جاءتكم بينة من ربكم وهدى ورحمة). فالهدى والرحمة هي إما جلب منفعة للناس أو دفع مضرة عنهم. وهذه هي المصلحة، لأن المصالح هي جلب المنافع ودفع المفاسد. وتحديد الشيء من كونه مصلحة أو ليس مصلحة، إنّما يكون للشرع وحده، لأنه هو الذي جاء بالمصلحة، وهو الذي يحدد هذه المصلحة للناس. لأن المراد من المصلحة هي مصلحة الإنسان بوصفه إنساناً، وحتى المراد من مصلحة الفرد هو مصلحته باعتباره إنساناً لا باعتبار فرديّته وحدها.

على أن المصلحة إما أن يقررها العقل أو الشرع. فإذا تُرك تقريرها للعقل استغلق على الناس تقرير المصلحة الحقيقية، وذلك لأن العقل محدود، فهو لا يستطيع الإحاطة بكنه الإنسان وحقيقته، فلا يستطيع أن يقرر ما هو مصلحة له، لأنه لم يدرك حقيقته حتى يدرك أن هذا الشيء مصلحة له أو مفسدة، ولا يدرك حقيقة الإنسان إلاّ خالق الإنسان، فلا يمكن أن يقرر ما هو مصلحة له أو مفسدة على وجه التحقيق إلاّ خالق الإنسان وهو الله سبحانه وتعالى.

نعم إن الإنسان يمكنه أن يظن أن هذا الشيء مصلحة له أو مفسدة له، ولكنه لا يمكن أن يجزم بذلك. وترك تقرير المصلحة للظن يؤدي إلى الوقوع في المهالك، إذ قد يظن الشيء أنه مصلحة ثم يظهر أنه مفسدة، فيكون قد قرر المفسدة للإنسان على أنها مصلحة فأوقع الضرر به. وقد يظهر الشيء أنه مفسدة ثم يظهر أنه مصلحة، فيكون قد أبعد المصلحة عن الإنسان على أنها مفسدة، فأوقع الضرر به بحرمانه من المصلحة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن العقل قد يحكم على الشيء أنه مصلحة اليوم ثم يتبين له نفسه غداً أن هذا الشيء مفسدة، فيقول عنه إنه مفسدة. وقد يحصل ذلك بالنسبة للمفسدة أيضاً، فيقول عن الشيء إنه مفسدة اليوم ثم يتبين له نفسه غداً أنه مصلحة فيقول عنه إنه مصلحة، فيصبح الشيء الواحد مصلحة ومفسدة، وهذا لا يجوز ولا يكون، إذ الشيء إما مصلحة وإما مفسدة للحالة الواحدة، وبذلك تصبح المصلحة مصلحة اعتبارية لا مصلحة حقيقية.

ومن هنا وجب أن لا يُترك للعقل أن يقرر ما هي المصلحة، بل يجب أن يقرر ذلك الشرع وحده، لأنه هو الذي يقرر المصلحة الحقيقية والمفسدة الحقيقية، والعقل إنّما يفهم واقع الشيء كما هو فهماً تاماً، ثم يفهم النص الشرعي الذي جاء في هذا الشيء، ثم يطبق النص على الواقع، فإذا انطبق عليه كان مصلحة أو مفسدة حسب نص الشرع، وإن لم ينطبق عليه بُحث عن المعنى الذي ينطبق على الواقع حتى يعرف المصلحة التي قررها الشرع بمعرفة حكم الله في ذلك الشيء.

وعلى هذا فالمصلحة مصلحة شرعية لا مصلحة عقلية، وهي تدور حيثما يدور الشرع، فحيثما يكون الشرع تكون المصلحة، لأن الشرع هو الذي يقرر مصالح العباد.



أحكام العبادات توقيفية من عند الله



العبادات منتهى درجات التقديس، وهي فطرية في الإنسان، إذ هي رجْع لغريزة التدين. والعقل إنّما يجتمع فيها مع الشعور ليعبد الإنسان من يستحق العبادة وهو الخالق، حتى لا يضِل الوجدان فيعبد ما لا يستحق العبادة، أو يخطئ فيتقرب إلى المعبود بما يبعده عنه. فدور العقل في العبادة حتمي في الاهتداء لمن يُعبد وتعيين من يُعبد وهو الخالق.

أمّا الكيفية التي يؤدي فيها المخلوق العبادة إلى الخالق، فلا مجال للعقل فيها، ولا يستطيع معرفتها. لأن هذه الكيفية هي أحكام يقوم الإنسان بعبادة الله بحسبها، وبعبارة أخرى هي نظام ينظم علاقة المخلوق بالخالق، أي علاقة العابد بالمعبود. وهذا النظام لا يمكن أن يكون من المخلوق مطلقاً لأن المخلوق لا يدرك حقيقة الخالق حتى ينظم علاقته به، ولا يدرك كنهه حتى يعرف كيف يعبده. فيستحيل على الإنسان أن يضع بعقله نظاماً للعبادات بينه وبين الخالق ينظم علاقته بالخالق أي ينظم تقديسه للخالق. لأن وضع هذا التنظيم يستوجب إدراك حقيقة الخالق وهو محال، فصار محالاً أن يضع الإنسان بعقله أحكام العبادات.

ومن هنا كان لا بد أن يكون نظام العبادات آتياً من الخالق لا من المخلوق، أي آتياً من المعبود لا من العابد، فكان لا بد أن تأتي أحكام العبادات من الله وحده، وليس من الإنسان، ولا دخل للإنسان في أي شيء منها مهما قَلّ، لأنه يستحيل عليه أن يضعه. وهذا النظام لا بد أن يبلّغه الخالق للمخلوق، ليقوم بعبادة الإله بحسبه، ومن هنا كانت الحاجة إلى الرسل ليبلّغوا الناس أحكام العبادات، حتمية الوجود، لاستحالة أن يضع الناس أحكاماً في العبادات، ولأنها لا تأتي إلاّ من الله تعالى.

وقد يقال إنه لا حاجة للإنسان إلى نظام للعبادات بل يمكنه أن يقوم بالعبادات دون نظام، إذ هي منتهى درجات التقديس فيقوم بالعبادة كما يشاء لأنها رجْع لإشباع غريزة التدين ولا تحتاج إلاّ إلى الإشباع فقط، فيُشبعها بأي فعل من أفعال التقديس يؤدي فيه هذا الإشباع، فما هي الحاجة إلى تنظيم التقديس، أي إلى أحكام العبادات؟

والجواب على ذلك أن رجْع أي غريزة من الغرائز لا بد من تنظيم الأفعال التي تؤدي هذا الرجْع، لأن عدم تنظيمها يؤدي إلى الفوضى وهي تجر إلى الإشباع الخاطئ أو الإشباع الشاذ، وكلاهما يتناقض مع الأصل الذي قامت عليه الغريزة. فمثلاً غريزة النوع إذا تطلبت الإشباع الجنسي ولم يكن لها نظام لهذا الإشباع، حاوَلَت الإشباع بأي شيء يؤديه، فيجرها ذلك إما إلى الإشباع الشاذ في جهة ليست محلاً للإشباع، وهذا معناه القضاء على النوع الإنساني الذي وُجدت الغريزة من أجله، أو إلى الإشباع الخاطئ، وهو الإشباع في جهة هي محل إشباع ولكن لمجرد الإشباع المؤقت. وهذا معناه أيضاً الصرف عن نتيجة الإشباع وهو الولادة، وفي هذا تقليل النسل إن لم يكن انعداماً له، وهو صرفٌ للغريزة عما وُجدت له وهو بقاء النوع.

ولذلك كان لا بد من نظام ينظم غريزة النوع.

وكذلك غريزة التدين، لا بد من تنظيم الأفعال التي تؤدي رجْع التقديس، أي لا بد من تنظيم التقديس وهو العبادة، لأن عدم تنظيمه يؤدي إلى أن يحاول الإنسان القيام بأي فعل يؤدي التقديس، فيجُر ذلك إلى الإشباع الشاذ بتقديس جهة ليست محلاً للتقديس، كتقديس النار باعتبارها إلهاً، أو تقديس صنم من تمر يصنعه بيده فيعبده ثم يأكله. وهذا معناه صرف الغريزة إلى تقديس غير الخالق، مع أنها هي الشعور بالعجز والاحتياج إلى الخالق المدبر. فصار التقديس مناقضاً للغريزة الدافعة له. وقد يجُر إلى تقديس جهة هي محل التقديس ولكن لمجرد الإشباع لا لتحري حقيقته، كتقديس صنم على اعتبار أن الإله حلّ به أو على اعتبار أن تقديسه يقربه من الله. وهذا معناه الصرف عن نتيجة الإشباع وهو وصول الشكر إلى مستحق الحمد والثناء، إلى أداء هذا الحمد لغير من هو له وهو الصنم. وفي هذا صرفٌ للغريزة عما وُجدت له وهو تقديس الخالق المدبر.

ولذلك كان لا بد من نظام ينظم غريزة التدين كما ينظم غريزة النوع. والفرق بينهما هو أن غريزة النوع يمكن للإنسان أن يضع نظاماً من عقله للأعمال التي تؤدي رجْعها لأنها من علاقات الإنسان بالإنسان، فيمكنه إدراكه ويمكنه أن ينظم علاقته معه، وإن كان لا يمكن أن يكوّن نظاماً كاملاً. أمّا غريزة التدين فلا يمكنه أن يضع نظاماً للأعمال التي تؤدي رجْعها من عقله، لأنها علاقة للإنسان بخالقه ومدبّره، وهو لا يمكنه إدراكه، فلا يمكن أن ينظم علاقته معه، بل لا بد أن يأتي هذا النظام من الخالق.

ومن هنا كان لا بد أن تأتي أحكام العبادات من الخالق لا من المخلوق.



الفكـر



الفكر والإدراك والعقل بمعنى واحد، فهي أسماء متعددة لمسمى واحد. ويطلَق الفكر ويراد منه التفكير، أي العملية التفكيرية. وقد يطلَق ويراد منه نتيجة التفكير، أي ما توصّل إليه الإنسان من العملية التفكيرية. وليس للفكر بمعنى التفكير عضو خاص به حتى تصح الإشارة إليه، بل هو عملية معقدة تتكون من الواقع المحسوس، وإحساس الإنسان، ودماغه، والمعلومات السابقة لديه. وما لم تجتمع هذه الأشياء الأربعة في عملية معينة لا يمكن أن يحصل فكر ولا إدراك ولا عقل.

ولذلك أخطأ القدامى حين بحثوا العقل، وصاروا يحاولون تعيين مكانه في الرأس أو القلب أو غير ذلك. والظاهر أنهم كانوا يظنون أن العقل عضو معين، أو أن للعقل عضواً معيناً. وأخطأ المحدثون حين جعلوا الدماغ هو محل العقل والادراك والفكر، سواء الذين قالوا إن الفكر هو انعكاس الدماغ على الواقع، أو الذين قالوا إن الفكر هو انعكاس الواقع على الدماغ. لأن الدماغ عضو كسائر الأعضاء لا يحصل منه أي انعكاس، ولا يحصل عليه أي انعكاس. لأن الانعكاس هو تسليط الضوء على الشيء وارتداده عنه، وتسليط الشيء على جسم فيه قابلية الانعكاس وارتداده عنه مع وجود الضوء. وذلك كتسليط مصباح كهربائي على جسم ثم ارتداد الضوء عن هذا الجسم، فيُرى الجسم ويُرى الضوء. أو تسليط الشمس أو القمر أو أي ضوء من أي جهة. وكتسليط جسم على مرآة مع وجود الضوء، يرتد الضوء، وترتد صورة الجسم عن المرآة، فيُرى كما هو. إذ ترتد صورة الجسم كأنها ارتسمت خلف المرآة فرؤيت، وهي في حقيقتها لم ترتسم، وإنّما انعكست كما ينعكس الضوء على أي جسم. فهذا هو الانعكاس.

وفي عملية الفكر لا يحصل أي انعكاس، فلا يحصل فيها ولا أي انعكاس من الواقع على الدماغ. فالانعكاس من حيث هو لم يحصل. وأمّا العين التي يُتوهم أنه يحصل بواسطتها انعكاس، فلا يحصل فيها، ولا منها انعكاس، وإنّما الذي يحصل هو انكسار. فالشيء المرئي لا ترتد صورته للخارج، وإنّما يحصل بتسلطه على العين انكسار، إذ تنكسر صورة الشيء المرئي وتستقر في الداخل فيُرى الشيء، ولا يمكن أن ترتد إلى الخلف، ولا يمكن أن يحصل انعكاس منها ولا بها مطلقاً. وعليه فالدماغ ليس محل الفكر.

والذي يحصل هو أن الواقع المحسوس تنتقل صورة عنه إلى الدماغ بواسطة الحواس، وتكون هذه الصورة بحسب الحاسة التي نقلت الواقع. فإن كانت البصر، نقلت صورة الجسم، وإن كانت السمع نقلت صورة صوته، وإن كانت الشم نقلت صورة رائحته، وهكذا. فيرتسم الواقع كما نُقل إلى الدماغ، أي حسب الصورة التي نُقلت. وبذلك يحصل الإحساس بالواقع فقط، ولا يحصل تفكير، ويحصل تمييز غريزي فقط من حيث كونه يُشبِع أو لا يُشبِع، يؤلم أو لا يؤلم، يفرح أو لا يفرح، يلذ أو لا يلذ، ولا يحصل أكثر من ذلك، فلا يحصل تفكير. فإن كانت هنالك معلومات سابقة، رُبطت بواسطة قوة الربط الموجودة في الدماغ بالواقع المحسوس الذي رُسم في الدماغ، فتحصل بذلك العملية التفكيرية، وينتج إدراكه الشيء ومعرفة ما هو. وإن لم تكن هنالك معلومات سابقة لا يمكن أن يحصل إدراك لحقيقة الشيء، بل يبقى عند حد الإحساس فقط، أو عند حد التمييز الغريزي فقط، من حيث كونه يشبِع أو لا يشبِع ليس غير، ولا يحصل فكر على الإطلاق.

rajaab
20-05-2005, 10:52 PM
وعلى هذا فإن العملية الفكرية لا تحصل إلاّ بتحقق وجود أربعة أشياء هي: الواقع المحسوس، والحواس أو واحدة منها، والدماغ، والمعلومات السابقة. فإذا نقصت واحدة من هذه الأشياء الأربعة لا يمكن أن يحصل فكر مطلقاً. وما يحصل من محاولات التفكير مع عدم توفر الواقع المحسوس ومع عدم توفر المعلومات السابقة هو تخيلات فارغة لا وجود لها، وليست أفكاراً. والاستسلام لها بالبعد عن الواقع المحسوس، أو عن المعلومات السابقة المتصلة بها، يؤدي إلى الإغراق بالأوهام والضلال، وربما أدى إلى إجهاد الدماغ فيصاب بأمراض الخلل والصرع وما شاكلها. ولذلك لا بد من وجود الواقع المحسوس، ووجود المعلومات السابقة، كما لا بد من وجود الدماغ، ووجود الحواس.

وعليه فالفكر أو الإدراك أو العقل هو نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ مع معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها هذا الواقع. ويقال نقْل الواقع لا نقْل صورة الواقع، لأن الذي يُنقل هو الإحساس بالواقع لا صورة كالصورة الفوتوغرافية. فهي صورة للواقع وهي الواقع إحساساً. ولذا كان القول بأنها نقل الواقع، أدق من القول بأنها نقل صورة الواقع، لأن الصورة المنقولة هي إحساس بالواقع لا صورة عنه فقط.

هذا هو تعريف الفكر، أي هذا هو الفكر أو الإدراك أو العقل. وهذه العملية تحصل للمفكر الذي ينتِج الفكر، لا لمن يُنقَل إليه الفكر. أمّا من يُنقل إليه الفكر فلا تحصل له هذه العملية، لأن الفكر نتج وانتهى، فيعطيه منتجه للناس، وينقله الناس بعضهم لبعض، ويعبّرون عنه باصطلاحات اللغة أو غيرها، وإن كان التعبير باللغة هو السائر في أنحاء العالم.

والفكر الذي يُنقل للشخص يُنظر فيه: فإن كان له واقع محسوس، سبق أن أحسه الشخص، أو أحسه حين نُقل إليه، أو كان لم يسبق أن أحسه، أو لم يحسه حين نُقل إليه بل تصوره في ذهنه كما نُقل إليه، وصدّقه، وصار له واقع في ذهنه كأنه أحسه وسلّم به كتسليمه بالواقع المحسوس، فهو في كلتا هاتين الحالتين قد أدركه، فأصبح بوجود هذا الواقع له في ذهنه مفهوماً من مفاهيمه، وكان فكراً حقيقة كما لو نتج هذا الفكر عنه هو. وإن لم يوجَد لهذا الفكر واقع عند الشخص الذي نُقل إليه بل فَهِم الجملة، وفَهِم الفكر، وفَهِم المراد منه، ولكن لم يتكون له واقع في ذهنه لا حساً ولا تصديقاً وتسليماً، فهو معلومات فقط، أي مجرد معارف عن أشياء، فهو فكر باعتبار مدلولاته، ولكنه مجرد معارف عند من لم يوجَد لديه واقع في ذهنه عنه. ولذلك لا تؤثر المعلومات في الأشخاص وإنّما تؤثر المفاهيم لأنها أفكار لها واقع في ذهن من أدركها. ولذلك كان لا بد من معرفة الفكر ما هو، حتى يُعرف كيف يؤثر الفكر.



طريقة التفكير



ينشأ الفكر عند الإنسان من اقتران الواقع عنده بمعلومات عنه، ولا يمكن أن ينشأ من الواقع وحده مطلقاً, ولا من المعلومات وحدها ولا بوجه من الوجوه.

ضع أمام طفل صغير أشياء لم يسبق أن عرف عنها شيئاً، وانظر هل يحصل عنده فكر؟ فإنك تجد أنه يحصل عنده من تكرار إحساسه بالواقع وحده إحساس بوجود الواقع، ويحصل عنده تمييز الأشياء بعضها عن بعض، وتمييز ما يؤلم أو يلذ، أو يَسُر أو يزعج، أو يشبع، أو غير ذلك مما يتصل بالغرائز أو الحاجات العضوية، ولا يحصل عنده شيء أكثر من ذلك مهما اختلف الإحساس وتكرر وتنوع، أي يحصل عنده إحساس ويحصل من جراء هذا الإحساس وتكرره تمييز غريزي فقط. ولكنك إذا وضعتَ أمامه شيئاً ثم قرنته بمعلومات عنه أدرك ما هو الشيء. فإنْ سألته عنه شرحه لك وبيّن لك ما هو، فيصبح حينئذ عنده إدراك الشيء، أي يصبح عنده فكر. أمّا لو أعطيته معلومات فقط عن الشيء وكررت له هذه المعلومات فإنه يعاود سردها لك كما هي، ولا يحصل عنده فكر ما لم يربطها بالواقع.

والدليل الحسي على ذلك هو: ضع أمام طفل ميزاناً وتفاحة وناراً ثم حفّظه معلومات عن كل واحدة منها كأن تقول له: ميزان يزِن، تفاحة تؤكل، نار تحرق، وكررها عليه عدة مرات ثم اسأله أين الميزان فيضع اصبعه على التفاحة أو النار، وقد يضع اصبعه على الميزان، ولكنه إذا رآك لم ترض ذلك غيَّر في الحال، ووضع اصبعه على غيره. فهو قد تلقى معلومات وأعادها، ولكنه لم يحصل عنده فكر. أمّا إذا أريته الميزان وقلت له هذا ميزان يزن، وبينت له عملية الوزن وكررت ذلك، ثم أريته التفاحة أو النار وكررت ذلك فإنه يحصل عنده فكر. فإذا قلت له أين الميزان وضع اصبعه عليه ودلّك عليه. فلو رفضت ذلك وغالطته لا يرد عليك ويصر على الميزان الذي شُرح له لأنه أدركه، فيصبح يعرفه لمجرد رؤيته أو لمجرد ذكر اسمه، لأنه صار له فكر عن هذه الأشياء باقتران الواقع مع المعلومات.

وعليه فالتفكير ينشأ عند الإنسان من إحساسه بالواقع مع تلقيه من غيره معلومات مع الإحساس، فيصبح عنده من ذلك فكر. هذا إن لم تكن عنده معلومات، أمّا إن كانت عنده معلومات فيكون قد سبق أن نشأ عنده فكر، فإذا أراد أن ينشئ فكراً جديداً عن شيء فإنه يحس الواقع ثم يربط إحساسه بالواقع بمعلوماته السابقة فيصدر فكراً. فإن لم تكن عنده أي معلومات تتصل بهذا الشيء افتقر إلى أن يتلقى معلومات عنه فيحصل من تلقيه للمعلومات مع إحساسه بالواقع فكر جديد عنده. وعلى هذه الطريقة ينشأ الفكر.

وهذه النشأة هي طريقة التفكير الطبيعية عند الإنسان وهي طريقة التفكير الأساسية، وهي التي توجِد الفكر.

وعلى ذلك فطريقة التفكير من حيث هي تحتّم اقتران الإحساس بالواقع مع المعلومات السابقة عنه، أو اقتران المعلومات السابقة مع الإحساس بالواقع فحينئذ يحصل الفكر، وفي غير ذلك لا يحصل فكر مطلقاً. فلا بد من إعطاء المعلومات مع الإحساس بالواقع حين نريد أن ننشئ فكراً، ولا بد من إيجاد الإحساس بالواقع مع المعلومات حين إعطائها إذا اردنا أن يدرَك الفكر الذي نعطيه. فلا بد من وجود واقع محسوس، ومن وجود معلومات حتى يوجد فكر. وهذه وحدها هي طريقة التفكير. ولذلك كان إعطاء المعلومات وحدها وربطها مع بعضها دون اقترانها بواقع محسوس لا يشكل فكراً عند الشخص، بل يوجِد عنده معلومات ولا يوجِد أي فكر مهما شرحت له ما لم يدرِك واقعها ويكون هذا الواقع محسوساً.

هذا من حيث إيجاد فكر عند المفكر الذي أوجد الفكر أو أنشأه، وكذلك هو عند من يعطي الفكر لغيره، فإذا أريد إعطاء هذا الفكر للناس فإنه يمكن أن يُنقل إليهم بأي وسيلة من وسائل التعبير كاللغة مثلاً، فإن اقترن عندهم بواقع سبق أن أحسّوا به أو أحسّوا بمثله أو قريب منه فإنه يكون قد انتقل إليهم فكراً، فصار مفهوماً من مفاهيمهم كأنهم هم قد توصلوا إليه، وإن لم يقترن عندهم بواقع محسوس لديهم بأن فهموا معنى الجُمل وشُرحت لهم ولم يتصوروا أي واقع لها، فإنه لا يكون قد انتقل إليهم فكراً، وإنّما نُقل إليهم مجرد معلومات، فيصبحون بهذه المعلومات متعلمين ولا يصبحون مفكرين، لأنه لم يُنقل إليهم فكراً، بل نُقلت جمل تتضمن معلومات.

ومن هنا كان لا بد لمن ينقلون للناس أفكاراً أن يقرّبوا ما فيها من معانٍ لأذهان الناس بمحاولة اقترانها بواقعها المحسوس لديهم، أو بواقع قريب مما يحسونه، حتى يأخذوا منهم أفكاراً. وإن لم يفعلوا ذلك لا يكونون قد نقلوا للناس أفكارهم، وإنّما نقلوا إليهم معلومات علّموهم إياها.

ولهذا كان لا بد من الحرص على طريقة التفكير، وذلك باقتران المعلومات بالواقع عند إنشاء الفكر، أو بتقريب الأفكار من الواقع المحسوس عند من يأخذها حتى تقترن المعلومات بالواقع فتوجِد فكراً.

ومن هنا كان الاهتداء إلى طريقة التفكير والحرص عليها من أهم ما يجب توفره عند الناس.



القَدَرية الغيبية



القدرية الغيبية هي الاستسلام للقدر، وإرجاع كل شيء في الحياة إلى تصرفات المقادير المغيَّبة عن الإنسان، وأنه ليس لعمل الإنسان في الحياة أي أثر، وإنّما هو مسيَّر وليس بمخيَّر، وهو كالريشة في الفضاء تحركها الرياح حيث تشاء!

وقد شاعت هذه الفكرة، واتُخذت عقيدة، منذ أواخر عهد العباسيين، واستمرت حتى الآن. وقد اتُخذ وجوب الاعتقاد بالقضاء والقدر وسيلة أُدخلت بواسطته هذه الفكرة على المسلمين. وكان من جرائها أن وجد المخفقون في كنفها مبرراً لإخفاقهم، ووجد القَعَدة الجَهَلة في الاستناد إليها حجة لكسلهم وتقاعسهم. ورضي كثير من الناس بالظلم ينزل فيهم، وبالفقر ينهش من لحومهم، وبالذل يخيّم عليهم، وبالمعاصي تسيطر على أعمالهم، استسلاماً منهم إلى القدرية الغيبية التي يعتقدونها، زاعمين أن ذلك استسلام إلى قضاء الله وقدره!

ولا تزال هذه الفكرة مسيطرة على الناس، متحكمة في كثير من تصرفاتهم، بينما يجد الباحث المدقق أن القدرية الغيبية لم تُعرف في عهد الصحابة، ولا دارت بخَلَد أحد منهم، ولو كانت موجودة عند المسلمين لَما فتحوا الفتوحات، ولا تحمّلوا المشقات، بل لكانوا تركوا للقدر يفعل ما يشاء، ولكانوا قالوا "ما قُدّر يكون سواء عملت له أو لم تعمل!"

ولكن أولئك المسلمين العارفين أدركوا: أن الحصن لا يُفتح إلاّ بالسيف، وأن العدو لا يُقهر إلاّ بالقوة، وأن الرزق يجب أن يُسعى إليه، والمرض يجب أن يُتقى منه، وشارب الخمر المسلم يجب أن يُجلد، والسارق يجب أن تُقطع يده، والحاكم يجب أن يحاسَب، والمناورات السياسية لا بد من القيام بها مع الأعداء. ولا يمكن أن يعتقدوا غير ذلك وقد شاهدوا جيش المسلمين بقيادة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم يُهزم في معركة أُحد لأن الرماة خالفوا أوامر القيادة، وينتصر يوم حنين بعد الهزيمة لأن الجيش الذي فرّ من المعركة من خوف النبال، رجع للقتال عندما ناداه الرسول عليه الصلاة والسلام وهو ثابت مع بضعة نفر في المعركة أمام أعين الجيش الهارب.

إن الله تعالى قد علّمنا ربط الأسباب بالمسبَّبات، وجعل السبب ينتِج المسبَّب: فالنار تحرق ولا يحصل إحراق بدون نار، والسكين تقطع ولا يحصل قطع بغير سكين. وخلق الله الإنسان وجعل فيه القدرة على القيام بالعمل وأعطاه الاختيار المطلق في القيام بأعماله: يأكل متى يشاء ويمشي متى يشاء، ويسافر متى يشاء، ويتعلم فيعلَم، ويقتل فيعاقَب، ويترك الجهاد فيَذِل، ويقعد عن السعي للرزق فيفقر. فلا وجود للقدرية الغيبية في واقع الحياة، ولا في شرع الله.

أمّا القضاء والقدر فليسا من القدرية الغيبية في شيء، لا من قريب ولا من بعيد، لأن القضاء هو الأفعال التي تقع من الإنسان وعليه جبراً عنه. مثل كونه يرى بعينيه لا بأنفه، ويسمع بأذنه لا بفمه، ولا يملك السيطرة على دقات قلبه. وكصاعقة نزلت من السماء أو زلزال هز الأرض فأصاب الإنسان منه ضرر، أو سقوط شخص مِن على سطح 00000000 على إنسان فقتله. فهذه كلها أعمال داخلة في القضاء ولا يحاسَب الإنسان عليها، ولا علاقة لها بأفعال الإنسان الاختيارية.

والقدر هو خواص الأشياء التي بها يحصل إنتاج الشيء، كالإحراق المقدَّر في النار، والقطع المقدَّر في السكين، وغريزة النوع المقدَّرة في الإنسان. وهذه كلها لا تستطيع القيام بالعمل إلاّ بفعل فاعل. فإذا باشر بها الإنسان عملاً باختياره، كان هو فاعل الفعل لا القدر الموجود في الشيء. فلو قام إنسان بإحراق بيت بالنار، كان هو فاعل الإحراق لا النار التي تحرق بالخاصية المقدَّرة بها، فيحاسَب الإنسان على فعله الإحراق، لأنه هو الذي باشر بالقدر عملاً معيناً باختياره. فالقدر لا يفعل شيئاً بدون فعل فاعل، والقضاء لا دخل له في أفعال الإنسان التي يقوم بها باختيار منه. فكلاهما إذن لا دخل له بأفعال العباد الاختيارية، ولا دخل لهما أيضاً في نظام الوجود من حيث السيطرة عليه، وإنّما هما من نظام الوجود الذي يسير وفق النواميس التي خلقها الله تعالى للكون والإنسان والحياة.

وعلى ذلك فالإنسان قادر أن يؤثر في السعي لكسب العيش وفي طريقة العيش، وقادر على تقويم اعوجاج الحاكم الظالم أو خلعه، وقادر على التأثير في كل ما هو داخل في أفعاله الاختيارية. وما القدرية الغيبية إلاّ خرافة من الخرافات ووهم من الأوهام.

rajaab
20-05-2005, 10:54 PM
مفاهيم الإسلام ضوابط لسلوك الإنسان في الحياة



أفكار الإسلام هي مفاهيم وليست معلومات لمجرد المعرفة. ومعنى كونها مفاهيم أن لها مدلولات واقعة في معترك الحياة، وليست مجرد شرح لأشياء يفرض المنطق المجرد وجودها. بل كل مدلول تدل عليه له واقع يمكن للإنسان أن يضع اصبعه عليه، سواء أكانت مفاهيم عميقة تحتاج إلى عمق واستنارة لإدراكها، أو كانت ظاهرة يمكن فهمها بسهولة. وسواء أكانت محسوسة بالحواس، لها واقع محسوس كالمعالجات والأفكار والآراء العامة، أو كانت مغيَّبة ولكن الذي أخبرنا عنها قد قطع العقل حساً بصدقه، كالملائكة والجنة والنار. فكلها وقائع موجودة لها مدلولات واقعة حساً وذهناً، أو مدلولات واقعة ذهناً على شكل قطعي جازم.

إلاّ أن هذه المدلولات الواقعة ليست أبحاثاً في الفَلَك، ولا معلومات في الطب، ولا أفكاراً في الكيمياء قد جاءتنا للانتفاع بما في الكون، وإنّما هي ضوابط لسلوك الإنسان في هذه الحياة الدنيا ونحو الحياة الأخرى، ولا علاقة لها بغير ذلك مطلقاً. فهي قد جاءت هدى ورحمة وموعظة، وجاءت معالجات لأعمال الإنسان وتعييناً لكيفية سلوكه. وإذا تتبعنا هذه المفاهيم في النصوص التي صدرت عنها هذه المفاهيم، وبعبارة أخرى التي تضمنت الأفكار الدالة على هذه المفاهيم، نجد أنها جميعها من غير استثناء جاءت على هذا الوجه دون سواه، وحُصرت في هذه الناحية وحدها. فنصوص القرآن والسنّة في منطوقها –وهو ما دل عليه لفظ الجملة- ومفهومها –وهو ما دل عليه معنى الجملة- أو دلالتها –وهو ما يقتضيه معنى الجملة- فإنها كلها محصورة في إطار واحد هو العقيدة وما ينبثق عنها من أحكام ويُبنى عليها من أفكار، ولا يوجد شيء غير هذا.

وعلى هذا كان لزاماً على المسلم أن يدرك في نصوص الشريعة وهي الكتاب والسنّة، أنها جاءت للعمل بها، وجاءت خاصة بسلوكه في الحياة. أي يجب على المسلم أن يدرك في الإسلام أمرين اثنين:

أحدهما أنه جاء بمفاهيم لضبط سلوكه في الحياة الدنيا ونحو الحياة الأخرى، فيأخذ كل فكر قانوناً لضبط سلوكه ضمن هذا القانون. فتظهر فيه الناحية العملية لا الناحية التعليمية. ويجب أن يكون واضحاً أنه إذا أُخذت فيه الناحية التعليمية وحدها فَقَد صبغته الأصلية وهي كونه قانوناً لضبط السلوك، وصار معرفة كمعارف الجغرافيا والتاريخ. فيَفقد بذلك حرارة الحياة الموجودة فيه، ويصبح ليس إسلاماً بحتاً، وإنّما معارف إسلامية، يستوي في الإحاطة بها المستشرق الكافر الذي لا يؤمن بها، والذي يتعلمها ليحاربها ويحارب أهلها، مع العالِم المسلم الذي يؤمن بها ولكنه ينقّب عنها كمعلومات، وكلذّة علمية، دون أن يخطر بباله أن يتخذها ضوابط لسلوكه في الحياة.

ومن هنا كانت معرفة الأفكار الإسلامية، والأحكام الشرعية، دون تحقيق اعتبارها ضوابط للسلوك الإنساني في الحياة، هي الآفة التي لم تجعل للإسلام أثراً في سلوك حياة المسلمين اليوم.

أمّا الأمر الثاني الذي يجب على المسلم أن يدركه في الإسلام هو أن القرآن والحديث إنّما جاءا ديناً وشريعة لا معارف وعلوماً، وأنه لا دخل لهما بأي علم من العلوم، لا بالتاريخ ولا بالجغرافيا، ولا بالطبيعيات أو الكيمياء، ولا بالاختراعات أو بالاكتشافات.

أمّا ما ورد في القرآن من آيات عن القمر والنجوم والكواكب وعن البحار والجبال والأنهار والحيوان والطير والنبات كقوله تعالى: (والشمس تجري لمستقر لها) (التي تطّلع على الأفئدة) إلى غير ذلك من الآيات، فليس لها أية دلالة على أي علم من العلوم وإنّما هي لفت نظر إلى قدرة الله، وأدلة على عظمة الله وآيات تدل الإنسان على ما يُقنع عقله بضرورة الإيمان بالله سبحانه وتعالى.

فهي أدلة قدرته وعظمته، ولفت نظر للعقول لتدرِك وتتعظ، وليس لأي بحث في المعرفة أو العلم.

وعلى ذلك فإن أفكار الإسلام التي جاء بها القرآن والحديث لم تأت لمجرد المعرفة ولا للبحث التعليمي، وإنّما جاءت لمعالجة مشاكل الإنسان، فهي ضوابط لسلوكه في الحياة الدنيا ونحو الحياة الأخرى.



العقوبات في الإسلام



شرع الله العقوبات في الإسلام زواجر وجوابر. زواجر لزجر الناس عن ارتكاب الجرائم، وجوابر تجبر عن المسلم عذاب الله تعالى يوم القيامة.

أمّا كون العقوبات في الإسلام زواجر، فهذا ثابت بنص القرآن. قال تعالى: (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب). فكون الله تعالى جعل في القصاص الحياة معناه أن إيقاع القصاص هو الذي أبقى الحياة، ولا يكون ذلك في إبقاء حياة من وقع عليه القصاص، ففي القصاص يكون موته لا حياته، بل حياة من شاهد وقوع القصاص. على أن الغالب من حال العاقل أنه إذا علم أنه إذا قتل غيره قُتل هو، فإنه لا يُقدم على القتل. وهكذا جميع الزواجر.

أمّا هذه العقوبات فلا يجوز أن توقَع إلاّ بالمجرم، لأن معنى كونها زواجر أن ينزجر الناس عن الجريمة، أي يمتنعوا عن ارتكابها.

والجريمة هي الفعل القبيح، والقبيح ما قبحه الشرع. ولذلك لا يعتبر الفعل جريمة إلاّ إذا نص الشرع على أنه فعل قبيح فيُعتبر حينئذ جريمة.

وليست الجريمة موجودة في فطرة الإنسان، ولا هي مكتسَبة يكتسبها الإنسان، كما أنها ليست مرضاً يصاب الإنسان به، وإنّما هي مخالفة النظام الذي ينظم أفعال الإنسان.

وذلك أن الإنسان قد خلقه الله تعالى وخلق فيه غرائز وحاجات عضوية، وهذه الغرائز والحاجات العضوية طاقات حيوية في الإنسان تدفعه لأن يسعى لإشباعها، فهو يقوم بالأعمال التي تصدر عنه من أجل هذا الإشباع.

وترْك هذا الإشباع دون نظام يؤدي إلى الفوضى والاضطراب، ويؤدي إلى الإشباع الخاطئ أو الإشباع الشاذ.

وقد نظم الله تعالى إشباع هذه الغرائز والحاجات العضوية حين نظم أعمال الإنسان بالأحكام الشرعية. فبيّن الشرع الإسلامي علاج أعمال الإنسان في الخطوط العريضة التي هي الكتاب والسنّة، وجعل في هذه الخطوط العريضة محل الحكم في كل حادثة تحدث للإنسان. وشرع الحلال والحرام، فجاء بما يُستنبَط منه حكم كل فعل من أفعال الإنسان، وبيّن الأشياء التي حرّمها على الإنسان. ولهذا ورد الشرع بأوامر ونواه وكلف الإنسان العمل بما أمره به، واجتناب ما نهاه عنه. فإذا خالف الإنسان ذلك فقد فعل الفعل القبيح، أي فَعَل جريمة، سواء أكان ذلك عدم القيام بما أمر به أو كان فعل ما نهى عنه، ففي كلتا الحالتين يعتبر أنه فعل الجريمة. فكان لا بد من عقوبة لهذه الجرائم حتى يأتمر الناس بما أمرهم الله به، وينتهوا عما نهاهم عنه، وإلاّ فلا معنى لتلك الأوامر والنواهي إذا لم يكن عقاب على مخالفتها، إذ لا قيمة لأي أمر يُطلب القيام به إذا لم يكن مقابله ما يعاقَب به من لا يقوم بهذا الطلب، سواء أكان طلب فعل أم طلب ترك.

وقد بين الشرع الإسلامي أن على هذه الجرائم عقوبات في الآخرة وعقوبات في الدنيا. أمّا عقوبة الآخرة فالله تعالى هو الذي يعاقب بها المجرم فيعذبه يوم القيامة، قال الله تعالى: (يُعرف المجرمون يومئذ بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام)، وقال تعالى: (والذين كفروا لهم نار جهنم) (هذا وإن للطاغين لشرّ مآب جهنم يصلونها فبئس المهاد) (إنا أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالاً وسعيراً).

وقد بين الله تعالى هذه العقوبات صريحة في القرآن، فهي واقعة حتماً لأنها جاءت في آيات قطعية الثبوت قطعية الدلالة، قال تعالى: (إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يُسحبون في الحميم ثم في النار يُسجرون) (ليس له اليوم ها هنا حميم ولا طعام إلاّ من غِسلين لا يأكله إلاّ الخاطئون) (يًصب فوق رؤوسهم الحميم) (إن المجرمين في ضلال وسُعُر يوم يُسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مَسّ سَقَر) (في سموم وحميم وظل من يحموم) (لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون فشاربون عليه من الحميم فشاربون شُرب الهيم) (فنُزُلٌ من حميم وتصلية جحيم) (كلا إنها لظى نزاعة للشوى) (خذوه فغُلّوه ثم الجحيم صلّوه ثم في سلسلة ذَرعُها سبعون ذراعاً فاسلكوه) (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب).

وهكذا تبين آيات كثيرة عذاب الله بياناً قطعياً بأسلوب معجز، وأن الإنسان حين يسمعها لَيَأخذه الهول، ويتولاه الفزع، ويهُون عليه كل عذاب في الدنيا، وكل مشقة مادية، إذا تصور عذاب الآخرة وهوله، فلا يُقدِم على مخالفة أوامر الله ونواهيه إلاّ إذا نسي هذا العذاب وهوله.

هذه عقوبة الآخرة، أمّا عقوبة الدنيا فقد بيّنها الله في القرآن والحديث مجمَلة ومفصَّلة. وجعل الدولة هي التي تقوم بها. فعقوبة الإسلام التي بيّن إيقاعها على المجرم في الدنيا يقوم بها الإمام أو نائبه، أي تقوم بها الدولة الإسلامية بتنفيذ حدود الله، وما دون الحدود من التعزير والكفّارات. وهذه العقوبة في الدنيا على ذنب معين من قِبل الدولة تُسقِط عن المذنب عقوبة الآخرة. فتكون بذلك العقوبات زواجر وجوابر، فتزجر الناس عن فعل الذنوب وارتكاب الجرائم والآثام، وتجبر عقوبة الآخرة فتسقط عن المسلم عقوبة الآخرة.

والدليل على ذلك ما رواه البخاري عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس: تبايعوني على أن لا تُشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا أولادكم ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ولا تعصوا في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب في الدنيا فهو كفّارة له، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله، فأمْرُه إلى الله، إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه. فبايعناه على ذلك).


وهذا صريح في أن عقوبة الدنيا من الإمام أو نائبه على ذنب معين تُسقِط عقوبة الآخرة، ولذلك كان كثير من المسلمين يأتون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقرّون بالجرائم التي فعلوها ليوقع عليهم الحد في الدنيا حتى يسقط عنهم عذاب الله يوم القيامة، فيحتملون آلام الحد والقصاص في الدنيا لأنه أهون من عذاب الآخرة.

rajaab
20-05-2005, 10:55 PM
07

التمييز الغريزي



كثيراً ما اختلط على الناس الفكر بالتمييز الغريزي، فعجزوا عن التمييز بينهما، فوقعوا في أخطاء منها ما هو مضحك ومنها ما هو مضلِّل. فمنهم من جعل للطفل حين يولد عقلاً وفكراً، ومنهم من جعل للحيوان فكراً، ومنهم من جرّه عدم التمييز بين الفكر والتمييز الغريزي إلى الضلال في تعريف الفكر، وأن الخطأ في فهم ما هو العقل. ولهذا كان بيان ما هو التمييز الغريزي ضرورياً، كما أن بيان ما هو الفكر أو العقل أو الإدراك ضروري.

والتمييز الغريزي يحصل عند الحيوان من جراء تكرار إحساسه بالواقع. ذلك أن الحيوان لديه دماغ ولديه حواس، كما هي الحال عند الإنسان. إلاّ أن دماغ الحيوان خال من القدرة على الربط، وإنّما فيه مركز للإحساس فقط. فلا توجد لديه معلومات سابقة يربطها بالواقع أو بالإحساس، وإنّما توجد لديه انطباعات عن الواقع، ويستعيد هذه الانطباعات حين الإحساس بالواقع. وهذه الاستعادة ليست ربطاً وإنّما هي تحرُّك لمركز الإحساس من جراء الإحساس بالواقع الأول أو بواقع جديد يتصل بالواقع الأول، فيحصل من هذه الاستعادة للإحساس تمييز غريزي، وهو الذي يعيّن سلوك الحيوان نحو إشباع الغريزة أو الحاجة العضوية. ويكون هذا السلوك فقط للإشباع أو عدم الإشباع ولا يكون لأكثر من ذلك مطلقاً.

وعلى هذا فإن الذي يحصل عند الحيوان هو إحساس بالواقع فقط مهما تعدد هذا الإحساس وتنوَّع. وهذا الإحساس هو الذي يدفعه للإشباع أو عدم الإشباع. فمثلاً إذا قُدّم لحيوان أو طير طعام فإنه يميز كونه يؤكل أو لا يؤكل، ثم يعيِّن سلوكه نحوه فيأكله أو يُعرِض عنه، ولا يزيد على ذلك. وإذا وصل لهذا التمييز من ناحية الإشباع وقف عند حده، فهو لا يستطيع أن يزيد على ذلك ولا يحاول أن يزيد على ذلك. ولو قُدّم لحصان شعير وتراب فهو يحاول أن يختبر أيهما فيه إشباع، فإذا وجد ذلك في الشعير لا في التراب تركّز عنده الإحساس بأن الشعير يشبع حاجته والتراب لا يشبع. فيصبح بعد ذلك يترك التراب لمجرد الإحساس به، ويأخذ الشعير بمجرد الإحساس به إذا كان جائعاً.

فهذا التمييز حصل عند الحيوان من تجربة حصلت بواسطة الإحساس، وتكفي هذه التجربة ولو مرة، وسواء حصلت منه أو من غيره مع إحساسه بما حصل لغيره. وسواء أكان ذلك من تجربة شيء واحد أو من تجارب أشياء متعددة مختلفة، فإنها كلها تحدث تمييزاً غريزياً. إلاّ أن تجربة الشيء الواحد هي التي تظهر عند الحيوان أكثر من غيرها. وقد تحصل عنده تجارب متعددة كالتجربة على الشعير والتراب أو كالتجربة على الحلو والمر والحامض. وقد تحصل عنده تجارب معقدة فيصدر عنه استعادة الإحساس بما يشبه التفكير، ولكنه في الحقيقة استعادة لما سبق أن أحسّه، وليس ربطاً بمعلومات.

مثال ذلك تجربة سرقة الفيران للبيض، فإنه شوهد أن فأرين يذهبان إلى سوق البيض فينبطح أحدهما على ظهره ويدفع الآخر البيضة على بطن الفأر المنبطح، فيقبض ذاك رجليه عليها ويسحبه الفأر الآخر من ذنبه إلى وكرهما حتى يضعا البيضة فيه، ثم يرجعان للإتيان بغيرها على الوجه السابق. فهذه العملية معقدة، ولكنها نتجت عن تجارب في استعادة المحسوسات لا عن ربط المعلومات. وهذه التجارب لا تحصل إلاّ بما يحصل به الإشباع أو يتصل بما يحصل به الإشباع. فلا تحصل مسألة الفيران بغير ما يؤكل، لكن قد تحصل في غير البيض مما يحصل فيه إشباع. فهذا الذي حصل من الفأر والحصان، ويحصل من القرد والجَمَل وغيرها ليس تفكيراً وإنّما هو تمييز غريزي وهو خاص بما يشبع فقط ولا يتعدى التمييز. فلا يمكن أن يصل إلى معرفة ما هو هذا الشيء الذي أشبع، ولا ما هو الشيء الذي لا يحصل به إشباع. ومن هنا كان تمييزاً غريزياً وليس فكراً ولا عقلاً ولا إدراكاً.

ومثل الطفل حين يولد، فإنه وإن كان دماغه فيه قابلية الربط فإنه لم توجد لديه معلومات حتى يربطها بالإحساس بالواقع الجديد ليميزه، ولذلك لا يحصل عنده فكر ولا عقل ولا إدراك، وإنّما يحصل عنده تمييز غريزي فقط للشيء من حيث كونه يشبِع أو لا يشبِع، ولا تجعل عنده معرفة عن حقيقة الشيء الذي ميّز الإشباع فيه. فهو لا يعرف ما هو الشيء الذي أشبع، ولا ما هو الشيء الذي لم يشبِع، وإنّما يحصل عنده تمييز في حدود أنه يشبِع أو لا يشبِع فقط. فإذا عرضتَ على طفل تفاحة وحجراً، جرّب أحدهما، فما يجد فيه الإشباع يأكله، ويرمي الآخر. فتحصل عنده من ذلك تجربة يستطيع بها أن يأخذ التفاحة ويرمي الحجر بتمييز غريزي حصل من التجربة فقط، وذلك لأن المعلومات لم توجد لديه بعد. فإذا وُجدت لديه المعلومات استعملها طبيعياً لأن الربط جزء من تكوين دماغه. فإحساسه بالشيء مرتبط بربطه بالمعلومات حتماً، فيكون وجود المفهوم عن الشيء مربوطاً ربطاً حتمياً بالإحساس به. فيبدأ حينئذ عند الطفل الفكر أو العقل أو الإدراك بمجرد وجود المعلومات التي يربط بها.

وعلى هذا فإن التمييز الغريزي هو إحساس بالواقع بواسطة الحواس، يحصل به تمييز الشيء من كونه يشبِع أو لا يشبِع، بخلاف الفكر، فإنه نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ومعلومات تفسِّر هذا الواقع. فالفكر حكم على شيء، والتمييز الغريزي تبيان أن الشيء يشبِع أو لا يشبِع، ليس غير.



الخـوف



الخوف مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهو حتمي الوجود في الإنسان لأنه جزء من تكوينه، ووُجد فيه فطرةً مع وجوده. إلاّ أنه كباقي مظاهر غريزة البقاء كالسيادة والدفاع والرحمة وغيرها، بل كباقي الغرائز وهي التدين والنوع، لا يظهر إلاّ بوجود عامل يثيره، وما لم يوجد هذا العامل المثير لا يظهر الخوف مطلقاً. والعامل الذي يثير الخوف هو الذي يثير أي غريزة من الغرائز، وهو إما شيء مادي محسوس، وإما فكر من الأفكار المتصلة به، أو المتعلقة فيه. إلاّ أنه لا بد أن يكون هذا الشيء المادي أو الفكر مما يدرَك أنه يخيف أو مما يشعر وجدانياً أنه يخيف. وما لم يحصل هذا الإدراك أو هذا الشعور لا يحصل الخوف، لأن الغريزة لا تتحرك طاقتها ولا تثور إلاّ إذا كان الشيء قد ارتبطت فيه مشاعر الخوف بإدراك أو بتمييز غريزي. وعلى هذا لا يحصل إلاّ بوجود ما يثيره، وإن كان فطرياً قد خُلق مع خلق الإنسان.

والخوف مشكلة من المشكلات الخطرة التي تعاني من جرائها الشعوب المنحطة والأمم الضعيفة ما تعاني من الذل والتأخر. والخوف إذا سيطر على شخص أفقده لذة العيش، وأفقده أنبل الصفات، وجعل لديه الارتباك الذهني وعدم القدرة على الحكم على الأشياء، وشلّ عنده الحافظة وقابلية التمييز.

وأخطر أنواع الخوف الخوف من الأوهام والأشباح. وهذا لا يكون إلاّ عند ضعاف العقول، إما لأن نمو العقل عندهم لم يكتمل بعد كالأطفال، أو لعدم وجود المعلومات الكافية للربط بالواقع كالجَهَلة وكل من تنقصه معلومات بحكم حياته في المجتمع كمعظم النساء، وإما لضعف فطري في أدمغتهم مثل البُله والمعتوهين ومن شابههم. وهؤلاء يعالَج الخوف لديهم إما بالتعمق معهم في البحث وتقريب الأشياء لإدراكهم، وإما بإعطائهم أفكاراً متصلة بما يخافون منه على أن يكون لهذه الأفكار واقع محسوس لديهم، فإنهم بهذا العلاج يتخلصون من سيطرة الخوف إما بإزالته أو بتخفيفه تدريجياً إلى أن تُقلع بقايا مفاهيمه الموجودة في الأعماق.

وهناك نوع من الخوف أقل خطراً من خوف الأوهام، وهو الخوف الناتج عن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً. وذلك أن يرى الإنسان شيئاً ربما كان مخيفاً وربما كان غير مخيف. فقد يرى كلباً نائماً فيظنه كلباً مكلوباً (مسعوراً) لأنه سبق أن رأى مثله كلباً مسعوراً، فيخاف من أن يمر بالطريق ويهرب منه، ولو تحقق لرأى أنه كلب أليف لا يخيف، وهو نائم لا يشعر بمروره. وقد يرى أسداً في قفص فيخاف أن يقرب من القفص لئلا يخرج إليه الأسد، وقد يزمجر الأسد فيزداد خوفه ويهرب ظناً منه أنه قد يخرج من القفص، وهكذا. وأكثر ما يحصل عدم التقدير في الأشياء المعنوية من كتابة مقال أو خطبة في مكان أو محادثة حاكم أو مناقشة صاحب جاه، وما شاكل ذلك، فإن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً يسبب له الخوف فيمتنع عن الكتابة أو الخطابة أو المناقشة خوفاً من الأذى.

وهناك نوع من الخوف شائع ناتج عن عدم الموازنة بين ما ينتُج من القيام بالعمل وما ينتج من عدم القيام به، وكلاهما يسبب أذى فيؤدي الخطأ في هذه الموازنة إلى الخوف من بسائط الأمور والوقوع في المخاطر، وذلك كالخوف من الحاكم الظالم أن يوقع الأذى بالفرد يؤدي إلى إيقاع الأذى بالأمّة وبه نفسه كواحد من الأمّة. وكخوف الجندي في ساحة القتال من الموت يؤدي إلى إبادة الجيش كله وهو واحد منه، وكالخوف من السجن في سبيل العقيدة التي يحملها يؤدي إلى ضياع العقيدة منه، وهو أكثر ألماً من السجن أو إضاعة العقيدة من الوجود في الحياة. وهذا الخوف خطر جداً على الأمّة ويؤدي إلى المخاطر بل ربما أدى إلى الدمار والهلاك.

إلاّ أن الخوف نافع ومفيد في بعض الأحيان، ولا بد من وجوده أو من إيجاده، كما هو مضر ومهلك في بعض الأحيان ولا يجوز أن يوجد ويجب أن يعالَج ويُزال. فالخوف من الأخطار الحقيقية أمر مفيد، وهو واجب، والاستهتار بها وعدم الخوف منها أمر مضر ولا يجوز أن يكون، سواء أكانت أخطاراً على الفرد نفسه أو على أمّته. فالخوف في هذه الحالة هو الحارس وهو الحامي، ولذلك كان لا بد من شرح الأخطار المحدقة بالأمّة حتى تحسب لها حساباً وتعمل للدفاع عن نفسها وإزالة هذه الأخطار. والخوف من الله ومن عذاب الله أمر مفيد وواجب وهو الحارس والحامي، ولذلك كان لا بد من إثارة الخوف من الله في النفوس، وشرح مقدار عذاب الله على ارتكاب المعاصي وعلى الكفر حتى يتبع الناس دينه ويقوموا بأوامره ويجتنبوا نواهيه. فهذا الخوف ومثله نافع ومفيد ويجب أن يوجد وأن يُعمل على إيجاده لأنه هو الحارس والحامي، وهو الذي يضمن سير الإنسان في الصراط المستقيم.

وعلى ذلك فإن الخوف جزء من فطرة الإنسان، والمفاهيم هي التي تثيره في الإنسان وهي التي تبعده عن الإنسان، وهو من أخطر الأمور على الإنسان في نواحٍ كما أنه من أكثرها فائدة في نواحٍ أخرى، فحتى يتقي الإنسان أخطاره ويتمتع بمنافعه وجب عليه أن يحكّم به المفاهيم الصادقة وحدها، ألا وهي مفاهيم الإسلام.



الواقع والمفهوم هو الذي يثير الغرائز



تختلف الغريزة عن الحاجة العضوية، وإن كانت كل منهما طاقة حيوية فطرية. إذ الحاجة العضوية تتطلب الإشباع الحتمي وإذا لم تُشبَع يموت الإنسان، بخلاف الغريزة فإنها تتطلب الإشباع فقط وإذا لم تُشبَع يقلق، ولكنه لا يموت بل يبقى حياً. فالإنسان إذا لم يأكل أو يقضي حاجته يموت، ولكنه إذا لم يُشبِع غريزته لا يموت. فإذا لم يجتمع مع النساء اجتماعاً جنسياً أو لم يُصلّ لا يموت لأن الغريزة لا تتطلب الإشباع الحتمي. وأيضاً فإن الحاجة العضوية تتحرك للإشباع داخلياً من ذاتها وتُثار للإشباع خارجياً من خارجها، بخلاف الغريزة فإنها لا تتحرك داخلياً مطلقاً ولا يحصل الشعور بالحاجة للإشباع إلاّ بمؤثر خارجي، فإذا وُجد ما يثيرها من الخارج ثارت ووُجد الشعور الذي يتطلب الإشباع، وإذا لم يوجد شيء من الخارج يثيرها تبقى كامنة ولا يوجد أي شعور بالإشباع. فالجوع يأتي من الداخل طبيعياً ولا يحتاج وجوده إلى أي مؤثر خارجي، فيوجد الشعور الذي يتطلب الإشباع للحاجة العضوية من نفس الإنسان، فيحس بالجوع ولو لم يحصل أي شيء من الخارج. أمّا المؤثر الخارجي فإنه قد يحرك الجوع، فقد يثير الطعام الشهي شعور الجوع، وقد يثير الحديث عن الطعام الشهي شعور الجوع. أمّا الشعور الجنسي فلا يثور من نفسه مطلقاً وإنّما يحتاج تحركه إلى ما يثيره من الخارج، فلا يثور الشعور الذي يتطلب الإشباع للغريزة من نفس الإنسان مطقاً ولا يحس به الإنسان ما لم يحصل عامل خارجي يثيره، فلا توجد الرغبة في الاجتماع الجنسي ولا يوجد أي شعور بذلك إلاّ إذا رأى الإنسان واقعاً محسوساً يثير هذا الشعور، أو تحدّث إنسان أمامه عما يثير هذا الشعور من الوقائع، أو تداعت لديه معاني فوُجدت مفاهيم تثير هذا الشعور. وما لم يوجد الواقع المحسوس أو الفكر لا يمكن أن يثار هذا الشعور.

ولهذا لا يسبب وجود الغريزة من حيث هي في الإنسان قلقاً، وإنّما إثارة الشعور الذي يتطلب الإشباع هي التي تسبب القلق حين لا يتأتى الإشباع. فإذا لم يوجد شعور الإشباع بعدم وجود ما يثيره، لا يوجد أي قلق مطلقاً. ولذلك لا يوجد أي قلق للإنسان من جراء عدم إشباعه الغريزة الجنسية، ولا يوجد أي كبت إذا لم يحصل واقع أو فكر يثيرها. ولذلك كان من الحماقة وقصر النظر أن توضع بين الناس الأفكار التي تعطي المفاهيم على الجنس كالمؤلفات الجنسية والروايات الجنسية، وكان من الحمق وقصر النظر أن يُفسح المجال لإيجاد الواقع المحسوس الذي يثير غريزة النوع باختلاط الرجال بالنساء، لأن هذا يعني إيجاد ما يثير شعور الجنس، وإيجاد القلق حتى يُشبَع هذا الشعور، ثم إيجاد الواقع الذي يثيره مرة أخرى فيتحرك للإشباع دائماً، فيكون مشغولاً بالعمل لتحقيق الإشباع، أو قلقاً حين لا يحقق هذا الإشباع. وهذا هو الانحطاط الفكري أو الشقاء الدائم. ولذلك كان اختلاء الرجال بالنساء من أشد الأشياء ضرراً على المجتمع لأنه يصرف الجهد للإشباع، ويشغل الذهن بمفاهيم الإشباع، أو يضع الإنسان في قلق دائم. وكان شيوع المؤلفات الجنسية كذلك من أشد الأشياء ضرراً على المجتمع.

وقد جاء الإسلام في مفاهيم تنظم غريزة الجنس إيجابياً بنظام الزواج وما يتفرع عنه ويتعلق به، وسلبياً بالحيلولة بين الإنسان وبين ما يثير شعور النوع ولا يحقق إشباعها، وبين الإنسان وبين ما يجعله يشغل أكثر وقته بالتفكير أو العمل لإشباع غريزة النوع. فحرّم الخلوة بين الرجل والمرأة، غير المحرم وغير زوجته، فإنها تثير غريزة النوع ولا يتحقق له إشباعها وفق النظام الذي يعتنقه، فيسبب ذلك القلق له أو مخالفة النظام مخالفة فاحشة. وقد جاء دليل هذا التحريم تحريماً واضحاً في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يَخلُوَنّ رجل بامرأة إلاّ مع ذي محرم)، وقال: (لا يَخلُوَنّ رجل بعد يومي هذا سراً على مغيَّبة إلاّ ومعه رجل أو اثنان). وقد بيّن في حديث آخر الشيطان يغري المرأة والرجل معاً في حال الخلوة إذ يكون ثالثهما، فقال عليه السلام: (لا يَخلُوَنّ رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان). ولهذا يجب على المسلمين أن يُبعِدوا ما يثير غريزة النوع ويحرك مشاعره، إجابة لأمر الإسلام.



الإسلام مفاهيم للحياة وليست مجرد معلومات



ليست مفاهيم الإسلام مفاهيم كهنوتية، ولا معلومات غيبية بحتة. وإنّما هي أفكار لها مدلولات واقعية يدركها العقل مباشرة حين يكون في مقدوره أن يدركها، أو يدرك ما دل عليها قطعاً لا ظناً حين يكون عاجزاً عن إدراكها مباشرة، فيدرِك المحسوس الذي دل عليه جزماً دون أي ارتياب.

فالمفاهيم الإسلامية كلها تقع تحت الحس مباشرة، أو يقع ما يدل عليها تحت الحس مباشرة. أي أن أفكار الإسلام كلها مفاهيم، لأنها إما أن يدركها العقل، أو أنها صادرة من شيء أدركه العقل، أي دل عليه. ولا يوجد في الإسلام أي فكر إلاّ وله مفهوم، أي له واقع في الذهن، مدرَك عقلاً، أو مسلَّم به تصديقاً جازماً وله واقع في الذهن مدرَك ما دل عليه عقلاً.

ولذلك لا توجد في الإسلام مغيَّبات بحتة. والمغيَّبات التي أمر الإسلام بالإيمان بها ليست غيبية بحتة، وإنّما هي مغيَّبة موصولة بالعقل، بإدراك العقل لما دل عليها وهو القرآن والحديث المتواتر. وعلى ذلك كان الإسلام كله واقعاً موجوداً في الحياة الدنيا، لأن لكل فكر فيه واقعاً في ذهن الإنسان، مستنداً إلى الحس، مستنداً إلى العقل. ومن هنا كان العقل هو الأساس الذي يبنى عليه الإسلام عقيدة وأحكاماً. وكانت عقيدته وأحكامه أفكاراً لها واقع، وكانت عقيدته وأحكامه مدرَكة إدراكاً واقعياً، لا فرق في ذلك بين المغيَّبات والمحسوسات، ولا بين الأحكام على الأشياء وهي الأفكار، وأحكام الأشياء وهي معالَجات، أو الإخبار بالإشياء أو عن الأشياء.

فالأفكار والأحكام والمحسوسات والمغيَّبات كلها وقائع لها واقع في الذهن مستند إلى العقل أو الإدراك أو الفكر.

أمّا العقيدة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر، فإنها كلها مصدَّق بها بناء عن واقع موجود لها، ولكل واحدة منها واقع في الذهن.

فالإيمان بالله والقرآن ونبوة محمد قد حصل بناء على إدراك العقل حساً بوجود الله الأزلي الذي لا أول له. وإدراك العقل حساً أن القرآن كلام الله، بإدراكه في كل وقت حساً، إعجاز القرآن للبشر. وإدراك العقل حساً بأن محمداً نبي الله ورسوله بإدراكه حساً أنه هو الذي جاء بالقرآن كلام الله المعجِز للبشر. فهذه الأشياء الثلاثة: وجود الله، وكون القرآن كلام الله، وأن محمداً رسول الله، قد أدرك العقل مباشرة واقعها بواسطة الحس قطعاً، فآمن بها وصار لها واقع في الذهن وواقع محسوس.

وأمّا الإيمان بالملائكة والتوراة والانجيل وغيرها من الكتب السماوية والإيمان بالأنبياء والمرسَلين كموسى وعيسى وهرون ونوح وآدم، فإنه قد وُجد بناء على إخبار القرآن والحديث المتواتر بها، وأمرُه بالتصديق بها. فصار لها واقع في الذهن مستند إلى واقع محسوس، وهو القرآن والحديث المتواتر. فصارت كلها مفاهيم لأنها معاني أفكار، ذلك أن لها واقعاً موجوداً في الذهن.

وأمّا الإيمان بالقضاء والقدر، فإنه قد وُجد بناء على إدراك العقل حساً لفعل العبد بأنه وقع منه أو عليه جبراً عنه، وإدراك العقل حساً أن خواص الأشياء ليست مخلوقة لها، بدليل أن الإحراق لا يحصل إلاّ بدرجة معينة، فلو كان مخلوقاً لها لحصل كما تريد دون الخضوع لنسبة معينة، أي لنظام معين، فكان مخلوقاً لغيرها وهو الله، وليس لها. ولذلك كان القضاء والقدر قد أدرك العقل مباشرة واقعهما بواسطة الحس قطعاً، فآمن بهما وصار لهما واقع في الذهن وواقع محسوس. فكانت مفاهيم لأنها معاني أفكار، ذلك أن لها واقعاً موجوداً في الذهن. وعلى ذلك فالعقيدة الإسلامية كلها مفاهيم قطعية الوجود، قطعية الدلالة، لها واقع في ذهن المسلم يحس به، أو يحس بما يدل عليه. وبهذا يكون لها التأثير الفعال عليه.

وأمّا الأحكام الشرعية فإنها معالَجات لواقع، ويتحتم فيها دراسة الواقع وفهمه، ودراسة حكم الله في هذا الواقع بفهم النصوص الشرعية المتعلقة به، ثم تطبيق هذا الفهم عليه لإدراك ما إذا كان هو حكم الله فيه أم لا. فإن كان منطبقاً عليه في نظر المجتهد كان ذلك الفهم حكم الله في حقه، وإن لم يكن منطبقاً عليه بحث عن فهم غيره، أو نص غيره حتى يجد فهماً لنص منطبقاً على الواقع، وهكذا. وبهذا تكون الأحكام الشرعية مفهوماً لها واقع في الذهن، لأنها علاج محسوس، لواقع محسوس، فُهم من نص محسوس، فهي مفاهيم.

وعلى هذا فإن العقيدة الإسلامية، والأحكام الشرعية ليست معلومات للحفظ، ولا أفكار مجردة للمتعة العقلية، وإنّما هي مفاهيم دافعة للعمل، وجاعلة سلوك الإنسان متقيداً بها، متكيفاً بحسبها. ومن هنا كان الإسلام كله مفاهيم تسيِّر الإنسان، وليست مجرد معلومات.

rajaab
20-05-2005, 10:58 PM
التمييز الغريزي



كثيراً ما اختلط على الناس الفكر بالتمييز الغريزي، فعجزوا عن التمييز بينهما، فوقعوا في أخطاء منها ما هو مضحك ومنها ما هو مضلِّل. فمنهم من جعل للطفل حين يولد عقلاً وفكراً، ومنهم من جعل للحيوان فكراً، ومنهم من جرّه عدم التمييز بين الفكر والتمييز الغريزي إلى الضلال في تعريف الفكر، وأن الخطأ في فهم ما هو العقل. ولهذا كان بيان ما هو التمييز الغريزي ضرورياً، كما أن بيان ما هو الفكر أو العقل أو الإدراك ضروري.

والتمييز الغريزي يحصل عند الحيوان من جراء تكرار إحساسه بالواقع. ذلك أن الحيوان لديه دماغ ولديه حواس، كما هي الحال عند الإنسان. إلاّ أن دماغ الحيوان خال من القدرة على الربط، وإنّما فيه مركز للإحساس فقط. فلا توجد لديه معلومات سابقة يربطها بالواقع أو بالإحساس، وإنّما توجد لديه انطباعات عن الواقع، ويستعيد هذه الانطباعات حين الإحساس بالواقع. وهذه الاستعادة ليست ربطاً وإنّما هي تحرُّك لمركز الإحساس من جراء الإحساس بالواقع الأول أو بواقع جديد يتصل بالواقع الأول، فيحصل من هذه الاستعادة للإحساس تمييز غريزي، وهو الذي يعيّن سلوك الحيوان نحو إشباع الغريزة أو الحاجة العضوية. ويكون هذا السلوك فقط للإشباع أو عدم الإشباع ولا يكون لأكثر من ذلك مطلقاً.

وعلى هذا فإن الذي يحصل عند الحيوان هو إحساس بالواقع فقط مهما تعدد هذا الإحساس وتنوَّع. وهذا الإحساس هو الذي يدفعه للإشباع أو عدم الإشباع. فمثلاً إذا قُدّم لحيوان أو طير طعام فإنه يميز كونه يؤكل أو لا يؤكل، ثم يعيِّن سلوكه نحوه فيأكله أو يُعرِض عنه، ولا يزيد على ذلك. وإذا وصل لهذا التمييز من ناحية الإشباع وقف عند حده، فهو لا يستطيع أن يزيد على ذلك ولا يحاول أن يزيد على ذلك. ولو قُدّم لحصان شعير وتراب فهو يحاول أن يختبر أيهما فيه إشباع، فإذا وجد ذلك في الشعير لا في التراب تركّز عنده الإحساس بأن الشعير يشبع حاجته والتراب لا يشبع. فيصبح بعد ذلك يترك التراب لمجرد الإحساس به، ويأخذ الشعير بمجرد الإحساس به إذا كان جائعاً.

فهذا التمييز حصل عند الحيوان من تجربة حصلت بواسطة الإحساس، وتكفي هذه التجربة ولو مرة، وسواء حصلت منه أو من غيره مع إحساسه بما حصل لغيره. وسواء أكان ذلك من تجربة شيء واحد أو من تجارب أشياء متعددة مختلفة، فإنها كلها تحدث تمييزاً غريزياً. إلاّ أن تجربة الشيء الواحد هي التي تظهر عند الحيوان أكثر من غيرها. وقد تحصل عنده تجارب متعددة كالتجربة على الشعير والتراب أو كالتجربة على الحلو والمر والحامض. وقد تحصل عنده تجارب معقدة فيصدر عنه استعادة الإحساس بما يشبه التفكير، ولكنه في الحقيقة استعادة لما سبق أن أحسّه، وليس ربطاً بمعلومات.

مثال ذلك تجربة سرقة الفيران للبيض، فإنه شوهد أن فأرين يذهبان إلى سوق البيض فينبطح أحدهما على ظهره ويدفع الآخر البيضة على بطن الفأر المنبطح، فيقبض ذاك رجليه عليها ويسحبه الفأر الآخر من ذنبه إلى وكرهما حتى يضعا البيضة فيه، ثم يرجعان للإتيان بغيرها على الوجه السابق. فهذه العملية معقدة، ولكنها نتجت عن تجارب في استعادة المحسوسات لا عن ربط المعلومات. وهذه التجارب لا تحصل إلاّ بما يحصل به الإشباع أو يتصل بما يحصل به الإشباع. فلا تحصل مسألة الفيران بغير ما يؤكل، لكن قد تحصل في غير البيض مما يحصل فيه إشباع. فهذا الذي حصل من الفأر والحصان، ويحصل من القرد والجَمَل وغيرها ليس تفكيراً وإنّما هو تمييز غريزي وهو خاص بما يشبع فقط ولا يتعدى التمييز. فلا يمكن أن يصل إلى معرفة ما هو هذا الشيء الذي أشبع، ولا ما هو الشيء الذي لا يحصل به إشباع. ومن هنا كان تمييزاً غريزياً وليس فكراً ولا عقلاً ولا إدراكاً.

ومثل الطفل حين يولد، فإنه وإن كان دماغه فيه قابلية الربط فإنه لم توجد لديه معلومات حتى يربطها بالإحساس بالواقع الجديد ليميزه، ولذلك لا يحصل عنده فكر ولا عقل ولا إدراك، وإنّما يحصل عنده تمييز غريزي فقط للشيء من حيث كونه يشبِع أو لا يشبِع، ولا تجعل عنده معرفة عن حقيقة الشيء الذي ميّز الإشباع فيه. فهو لا يعرف ما هو الشيء الذي أشبع، ولا ما هو الشيء الذي لم يشبِع، وإنّما يحصل عنده تمييز في حدود أنه يشبِع أو لا يشبِع فقط. فإذا عرضتَ على طفل تفاحة وحجراً، جرّب أحدهما، فما يجد فيه الإشباع يأكله، ويرمي الآخر. فتحصل عنده من ذلك تجربة يستطيع بها أن يأخذ التفاحة ويرمي الحجر بتمييز غريزي حصل من التجربة فقط، وذلك لأن المعلومات لم توجد لديه بعد. فإذا وُجدت لديه المعلومات استعملها طبيعياً لأن الربط جزء من تكوين دماغه. فإحساسه بالشيء مرتبط بربطه بالمعلومات حتماً، فيكون وجود المفهوم عن الشيء مربوطاً ربطاً حتمياً بالإحساس به. فيبدأ حينئذ عند الطفل الفكر أو العقل أو الإدراك بمجرد وجود المعلومات التي يربط بها.

وعلى هذا فإن التمييز الغريزي هو إحساس بالواقع بواسطة الحواس، يحصل به تمييز الشيء من كونه يشبِع أو لا يشبِع، بخلاف الفكر، فإنه نقل الواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ومعلومات تفسِّر هذا الواقع. فالفكر حكم على شيء، والتمييز الغريزي تبيان أن الشيء يشبِع أو لا يشبِع، ليس غير.



الخـوف



الخوف مظهر من مظاهر غريزة البقاء، وهو حتمي الوجود في الإنسان لأنه جزء من تكوينه، ووُجد فيه فطرةً مع وجوده. إلاّ أنه كباقي مظاهر غريزة البقاء كالسيادة والدفاع والرحمة وغيرها، بل كباقي الغرائز وهي التدين والنوع، لا يظهر إلاّ بوجود عامل يثيره، وما لم يوجد هذا العامل المثير لا يظهر الخوف مطلقاً. والعامل الذي يثير الخوف هو الذي يثير أي غريزة من الغرائز، وهو إما شيء مادي محسوس، وإما فكر من الأفكار المتصلة به، أو المتعلقة فيه. إلاّ أنه لا بد أن يكون هذا الشيء المادي أو الفكر مما يدرَك أنه يخيف أو مما يشعر وجدانياً أنه يخيف. وما لم يحصل هذا الإدراك أو هذا الشعور لا يحصل الخوف، لأن الغريزة لا تتحرك طاقتها ولا تثور إلاّ إذا كان الشيء قد ارتبطت فيه مشاعر الخوف بإدراك أو بتمييز غريزي. وعلى هذا لا يحصل إلاّ بوجود ما يثيره، وإن كان فطرياً قد خُلق مع خلق الإنسان.

والخوف مشكلة من المشكلات الخطرة التي تعاني من جرائها الشعوب المنحطة والأمم الضعيفة ما تعاني من الذل والتأخر. والخوف إذا سيطر على شخص أفقده لذة العيش، وأفقده أنبل الصفات، وجعل لديه الارتباك الذهني وعدم القدرة على الحكم على الأشياء، وشلّ عنده الحافظة وقابلية التمييز.

وأخطر أنواع الخوف الخوف من الأوهام والأشباح. وهذا لا يكون إلاّ عند ضعاف العقول، إما لأن نمو العقل عندهم لم يكتمل بعد كالأطفال، أو لعدم وجود المعلومات الكافية للربط بالواقع كالجَهَلة وكل من تنقصه معلومات بحكم حياته في المجتمع كمعظم النساء، وإما لضعف فطري في أدمغتهم مثل البُله والمعتوهين ومن شابههم. وهؤلاء يعالَج الخوف لديهم إما بالتعمق معهم في البحث وتقريب الأشياء لإدراكهم، وإما بإعطائهم أفكاراً متصلة بما يخافون منه على أن يكون لهذه الأفكار واقع محسوس لديهم، فإنهم بهذا العلاج يتخلصون من سيطرة الخوف إما بإزالته أو بتخفيفه تدريجياً إلى أن تُقلع بقايا مفاهيمه الموجودة في الأعماق.

وهناك نوع من الخوف أقل خطراً من خوف الأوهام، وهو الخوف الناتج عن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً. وذلك أن يرى الإنسان شيئاً ربما كان مخيفاً وربما كان غير مخيف. فقد يرى كلباً نائماً فيظنه كلباً مكلوباً (مسعوراً) لأنه سبق أن رأى مثله كلباً مسعوراً، فيخاف من أن يمر بالطريق ويهرب منه، ولو تحقق لرأى أنه كلب أليف لا يخيف، وهو نائم لا يشعر بمروره. وقد يرى أسداً في قفص فيخاف أن يقرب من القفص لئلا يخرج إليه الأسد، وقد يزمجر الأسد فيزداد خوفه ويهرب ظناً منه أنه قد يخرج من القفص، وهكذا. وأكثر ما يحصل عدم التقدير في الأشياء المعنوية من كتابة مقال أو خطبة في مكان أو محادثة حاكم أو مناقشة صاحب جاه، وما شاكل ذلك، فإن عدم تقدير الأشياء تقديراً صحيحاً يسبب له الخوف فيمتنع عن الكتابة أو الخطابة أو المناقشة خوفاً من الأذى.

وهناك نوع من الخوف شائع ناتج عن عدم الموازنة بين ما ينتُج من القيام بالعمل وما ينتج من عدم القيام به، وكلاهما يسبب أذى فيؤدي الخطأ في هذه الموازنة إلى الخوف من بسائط الأمور والوقوع في المخاطر، وذلك كالخوف من الحاكم الظالم أن يوقع الأذى بالفرد يؤدي إلى إيقاع الأذى بالأمّة وبه نفسه كواحد من الأمّة. وكخوف الجندي في ساحة القتال من الموت يؤدي إلى إبادة الجيش كله وهو واحد منه، وكالخوف من السجن في سبيل العقيدة التي يحملها يؤدي إلى ضياع العقيدة منه، وهو أكثر ألماً من السجن أو إضاعة العقيدة من الوجود في الحياة. وهذا الخوف خطر جداً على الأمّة ويؤدي إلى المخاطر بل ربما أدى إلى الدمار والهلاك.

إلاّ أن الخوف نافع ومفيد في بعض الأحيان، ولا بد من وجوده أو من إيجاده، كما هو مضر ومهلك في بعض الأحيان ولا يجوز أن يوجد ويجب أن يعالَج ويُزال. فالخوف من الأخطار الحقيقية أمر مفيد، وهو واجب، والاستهتار بها وعدم الخوف منها أمر مضر ولا يجوز أن يكون، سواء أكانت أخطاراً على الفرد نفسه أو على أمّته. فالخوف في هذه الحالة هو الحارس وهو الحامي، ولذلك كان لا بد من شرح الأخطار المحدقة بالأمّة حتى تحسب لها حساباً وتعمل للدفاع عن نفسها وإزالة هذه الأخطار. والخوف من الله ومن عذاب الله أمر مفيد وواجب وهو الحارس والحامي، ولذلك كان لا بد من إثارة الخوف من الله في النفوس، وشرح مقدار عذاب الله على ارتكاب المعاصي وعلى الكفر حتى يتبع الناس دينه ويقوموا بأوامره ويجتنبوا نواهيه. فهذا الخوف ومثله نافع ومفيد ويجب أن يوجد وأن يُعمل على إيجاده لأنه هو الحارس والحامي، وهو الذي يضمن سير الإنسان في الصراط المستقيم.

وعلى ذلك فإن الخوف جزء من فطرة الإنسان، والمفاهيم هي التي تثيره في الإنسان وهي التي تبعده عن الإنسان، وهو من أخطر الأمور على الإنسان في نواحٍ كما أنه من أكثرها فائدة في نواحٍ أخرى، فحتى يتقي الإنسان أخطاره ويتمتع بمنافعه وجب عليه أن يحكّم به المفاهيم الصادقة وحدها، ألا وهي مفاهيم الإسلام.



الواقع والمفهوم هو الذي يثير الغرائز



تختلف الغريزة عن الحاجة العضوية، وإن كانت كل منهما طاقة حيوية فطرية. إذ الحاجة العضوية تتطلب الإشباع الحتمي وإذا لم تُشبَع يموت الإنسان، بخلاف الغريزة فإنها تتطلب الإشباع فقط وإذا لم تُشبَع يقلق، ولكنه لا يموت بل يبقى حياً. فالإنسان إذا لم يأكل أو يقضي حاجته يموت، ولكنه إذا لم يُشبِع غريزته لا يموت. فإذا لم يجتمع مع النساء اجتماعاً جنسياً أو لم يُصلّ لا يموت لأن الغريزة لا تتطلب الإشباع الحتمي. وأيضاً فإن الحاجة العضوية تتحرك للإشباع داخلياً من ذاتها وتُثار للإشباع خارجياً من خارجها، بخلاف الغريزة فإنها لا تتحرك داخلياً مطلقاً ولا يحصل الشعور بالحاجة للإشباع إلاّ بمؤثر خارجي، فإذا وُجد ما يثيرها من الخارج ثارت ووُجد الشعور الذي يتطلب الإشباع، وإذا لم يوجد شيء من الخارج يثيرها تبقى كامنة ولا يوجد أي شعور بالإشباع. فالجوع يأتي من الداخل طبيعياً ولا يحتاج وجوده إلى أي مؤثر خارجي، فيوجد الشعور الذي يتطلب الإشباع للحاجة العضوية من نفس الإنسان، فيحس بالجوع ولو لم يحصل أي شيء من الخارج. أمّا المؤثر الخارجي فإنه قد يحرك الجوع، فقد يثير الطعام الشهي شعور الجوع، وقد يثير الحديث عن الطعام الشهي شعور الجوع. أمّا الشعور الجنسي فلا يثور من نفسه مطلقاً وإنّما يحتاج تحركه إلى ما يثيره من الخارج، فلا يثور الشعور الذي يتطلب الإشباع للغريزة من نفس الإنسان مطقاً ولا يحس به الإنسان ما لم يحصل عامل خارجي يثيره، فلا توجد الرغبة في الاجتماع الجنسي ولا يوجد أي شعور بذلك إلاّ إذا رأى الإنسان واقعاً محسوساً يثير هذا الشعور، أو تحدّث إنسان أمامه عما يثير هذا الشعور من الوقائع، أو تداعت لديه معاني فوُجدت مفاهيم تثير هذا الشعور. وما لم يوجد الواقع المحسوس أو الفكر لا يمكن أن يثار هذا الشعور.

ولهذا لا يسبب وجود الغريزة من حيث هي في الإنسان قلقاً، وإنّما إثارة الشعور الذي يتطلب الإشباع هي التي تسبب القلق حين لا يتأتى الإشباع. فإذا لم يوجد شعور الإشباع بعدم وجود ما يثيره، لا يوجد أي قلق مطلقاً. ولذلك لا يوجد أي قلق للإنسان من جراء عدم إشباعه الغريزة الجنسية، ولا يوجد أي كبت إذا لم يحصل واقع أو فكر يثيرها. ولذلك كان من الحماقة وقصر النظر أن توضع بين الناس الأفكار التي تعطي المفاهيم على الجنس كالمؤلفات الجنسية والروايات الجنسية، وكان من الحمق وقصر النظر أن يُفسح المجال لإيجاد الواقع المحسوس الذي يثير غريزة النوع باختلاط الرجال بالنساء، لأن هذا يعني إيجاد ما يثير شعور الجنس، وإيجاد القلق حتى يُشبَع هذا الشعور، ثم إيجاد الواقع الذي يثيره مرة أخرى فيتحرك للإشباع دائماً، فيكون مشغولاً بالعمل لتحقيق الإشباع، أو قلقاً حين لا يحقق هذا الإشباع. وهذا هو الانحطاط الفكري أو الشقاء الدائم. ولذلك كان اختلاء الرجال بالنساء من أشد الأشياء ضرراً على المجتمع لأنه يصرف الجهد للإشباع، ويشغل الذهن بمفاهيم الإشباع، أو يضع الإنسان في قلق دائم. وكان شيوع المؤلفات الجنسية كذلك من أشد الأشياء ضرراً على المجتمع.

وقد جاء الإسلام في مفاهيم تنظم غريزة الجنس إيجابياً بنظام الزواج وما يتفرع عنه ويتعلق به، وسلبياً بالحيلولة بين الإنسان وبين ما يثير شعور النوع ولا يحقق إشباعها، وبين الإنسان وبين ما يجعله يشغل أكثر وقته بالتفكير أو العمل لإشباع غريزة النوع. فحرّم الخلوة بين الرجل والمرأة، غير المحرم وغير زوجته، فإنها تثير غريزة النوع ولا يتحقق له إشباعها وفق النظام الذي يعتنقه، فيسبب ذلك القلق له أو مخالفة النظام مخالفة فاحشة. وقد جاء دليل هذا التحريم تحريماً واضحاً في الحديث الصحيح، قال عليه الصلاة والسلام: (لا يَخلُوَنّ رجل بامرأة إلاّ مع ذي محرم)، وقال: (لا يَخلُوَنّ رجل بعد يومي هذا سراً على مغيَّبة إلاّ ومعه رجل أو اثنان). وقد بيّن في حديث آخر الشيطان يغري المرأة والرجل معاً في حال الخلوة إذ يكون ثالثهما، فقال عليه السلام: (لا يَخلُوَنّ رجل بامرأة فإن ثالثهما الشيطان). ولهذا يجب على المسلمين أن يُبعِدوا ما يثير غريزة النوع ويحرك مشاعره، إجابة لأمر الإسلام.



الإسلام مفاهيم للحياة وليست مجرد معلومات



ليست مفاهيم الإسلام مفاهيم كهنوتية، ولا معلومات غيبية بحتة. وإنّما هي أفكار لها مدلولات واقعية يدركها العقل مباشرة حين يكون في مقدوره أن يدركها، أو يدرك ما دل عليها قطعاً لا ظناً حين يكون عاجزاً عن إدراكها مباشرة، فيدرِك المحسوس الذي دل عليه جزماً دون أي ارتياب.

فالمفاهيم الإسلامية كلها تقع تحت الحس مباشرة، أو يقع ما يدل عليها تحت الحس مباشرة. أي أن أفكار الإسلام كلها مفاهيم، لأنها إما أن يدركها العقل، أو أنها صادرة من شيء أدركه العقل، أي دل عليه. ولا يوجد في الإسلام أي فكر إلاّ وله مفهوم، أي له واقع في الذهن، مدرَك عقلاً، أو مسلَّم به تصديقاً جازماً وله واقع في الذهن مدرَك ما دل عليه عقلاً.

ولذلك لا توجد في الإسلام مغيَّبات بحتة. والمغيَّبات التي أمر الإسلام بالإيمان بها ليست غيبية بحتة، وإنّما هي مغيَّبة موصولة بالعقل، بإدراك العقل لما دل عليها وهو القرآن والحديث المتواتر. وعلى ذلك كان الإسلام كله واقعاً موجوداً في الحياة الدنيا، لأن لكل فكر فيه واقعاً في ذهن الإنسان، مستنداً إلى الحس، مستنداً إلى العقل. ومن هنا كان العقل هو الأساس الذي يبنى عليه الإسلام عقيدة وأحكاماً. وكانت عقيدته وأحكامه أفكاراً لها واقع، وكانت عقيدته وأحكامه مدرَكة إدراكاً واقعياً، لا فرق في ذلك بين المغيَّبات والمحسوسات، ولا بين الأحكام على الأشياء وهي الأفكار، وأحكام الأشياء وهي معالَجات، أو الإخبار بالإشياء أو عن الأشياء.

فالأفكار والأحكام والمحسوسات والمغيَّبات كلها وقائع لها واقع في الذهن مستند إلى العقل أو الإدراك أو الفكر.

أمّا العقيدة وهي الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقضاء والقدر، فإنها كلها مصدَّق بها بناء عن واقع موجود لها، ولكل واحدة منها واقع في الذهن.

فالإيمان بالله والقرآن ونبوة محمد قد حصل بناء على إدراك العقل حساً بوجود الله الأزلي الذي لا أول له. وإدراك العقل حساً أن القرآن كلام الله، بإدراكه في كل وقت حساً، إعجاز القرآن للبشر. وإدراك العقل حساً بأن محمداً نبي الله ورسوله بإدراكه حساً أنه هو الذي جاء بالقرآن كلام الله المعجِز للبشر. فهذه الأشياء الثلاثة: وجود الله، وكون القرآن كلام الله، وأن محمداً رسول الله، قد أدرك العقل مباشرة واقعها بواسطة الحس قطعاً، فآمن بها وصار لها واقع في الذهن وواقع محسوس.

وأمّا الإيمان بالملائكة والتوراة والانجيل وغيرها من الكتب السماوية والإيمان بالأنبياء والمرسَلين كموسى وعيسى وهرون ونوح وآدم، فإنه قد وُجد بناء على إخبار القرآن والحديث المتواتر بها، وأمرُه بالتصديق بها. فصار لها واقع في الذهن مستند إلى واقع محسوس، وهو القرآن والحديث المتواتر. فصارت كلها مفاهيم لأنها معاني أفكار، ذلك أن لها واقعاً موجوداً في الذهن.

وأمّا الإيمان بالقضاء والقدر، فإنه قد وُجد بناء على إدراك العقل حساً لفعل العبد بأنه وقع منه أو عليه جبراً عنه، وإدراك العقل حساً أن خواص الأشياء ليست مخلوقة لها، بدليل أن الإحراق لا يحصل إلاّ بدرجة معينة، فلو كان مخلوقاً لها لحصل كما تريد دون الخضوع لنسبة معينة، أي لنظام معين، فكان مخلوقاً لغيرها وهو الله، وليس لها. ولذلك كان القضاء والقدر قد أدرك العقل مباشرة واقعهما بواسطة الحس قطعاً، فآمن بهما وصار لهما واقع في الذهن وواقع محسوس. فكانت مفاهيم لأنها معاني أفكار، ذلك أن لها واقعاً موجوداً في الذهن. وعلى ذلك فالعقيدة الإسلامية كلها مفاهيم قطعية الوجود، قطعية الدلالة، لها واقع في ذهن المسلم يحس به، أو يحس بما يدل عليه. وبهذا يكون لها التأثير الفعال عليه.

وأمّا الأحكام الشرعية فإنها معالَجات لواقع، ويتحتم فيها دراسة الواقع وفهمه، ودراسة حكم الله في هذا الواقع بفهم النصوص الشرعية المتعلقة به، ثم تطبيق هذا الفهم عليه لإدراك ما إذا كان هو حكم الله فيه أم لا. فإن كان منطبقاً عليه في نظر المجتهد كان ذلك الفهم حكم الله في حقه، وإن لم يكن منطبقاً عليه بحث عن فهم غيره، أو نص غيره حتى يجد فهماً لنص منطبقاً على الواقع، وهكذا. وبهذا تكون الأحكام الشرعية مفهوماً لها واقع في الذهن، لأنها علاج محسوس، لواقع محسوس، فُهم من نص محسوس، فهي مفاهيم.

وعلى هذا فإن العقيدة الإسلامية، والأحكام الشرعية ليست معلومات للحفظ، ولا أفكار مجردة للمتعة العقلية، وإنّما هي مفاهيم دافعة للعمل، وجاعلة سلوك الإنسان متقيداً بها، متكيفاً بحسبها. ومن هنا كان الإسلام كله مفاهيم تسيِّر الإنسان، وليست مجرد معلومات.

rajaab
20-05-2005, 10:59 PM
الشخصيـة



الشخصية في كل إنسان تتألف من عقليته ونفسيته، ولا دخل لشكله ولا جسمه ولا هندامه ولا غير ذلك، فكلها قشور، ومن السطحية أن يظن أحد أنها عامل من عوامل الشخصية أو تؤثر على الشخصية، ذلك أن الإنسان يتميز بعقله، وسلوكه هو الذي يدل على ارتفاعه أو انخفاضه، وبما أن سلوك الإنسان في الحياة إنما هو بحسب مفاهيمه فيكون سلوكه مرتبطاً بمفاهيمه ارتباطاً حتمياً لا ينفصل عنها. والسلوك هو أعمال الإنسان التي يقوم بها لإشباع غرائزه أو حاجاته العضوية، فهو سائر بحسب الميول الموجودة عنده للإشباع سيراً حتمياً، وعلى ذلك تكون مفاهيمه وميوله هي قوام شخصيته، أمّا ما هي هذه المفاهيم ومم تتكون وما هي نتائجها، وما هي هذه الميول وما الذي يُحدثها، وما هو أثرها، فذلك يحتاج إلى بيان.

المفاهيم هي معاني الأفكار لا معاني الألفاظ، فاللفظ كلام دلّ على معانٍ قد تكون موجودة في الواقع وقد لا تكون موجودة، فالشاعر حين يقول:

ومن الرجال إذا أنبريت لهدمهم هرم غليظ مناكب الصفاح

فإذا رميت الحق في أجلاده ترك الصراع مضعضع الألواح

فإن هذا المعنى موجود في الواقع، ومدرَك حساً، وإن كان إدراكه يحتاج إلى عمق واستنارة. ولكن الشاعر حين يقول:

قالوا أينظم فارسين بطعنة يوم النزال ولا يراه جليلا

فأجبتهم لو كان طول قناته ميلاً إذن نَظْم الفوارس ميلا

فهذا المعنى غير موجود مطلقاً. فلم ينظم الممدوح فارسين بطعنة، ولا سأل أحد هذا السؤال، ولا يمكن أن ينظم الفوارس ميلا. فهذه المعاني للجمل تشرح وتفسر ألفاظها.

أمّا معنى الفكر، فهو أنه إذا كان لهذا المعنى الذي تضمنه اللفظ واقع يقع عليه الحس أو يتصوره الذهن كشيء محسوس، كان هذا المعنى مفهوماً عند من يحسه ويتصوره، ولا يكون مفهوماً عند من لا يحسه ولا يتصوره، وإن كان فهم هذا المعنى من الجملة التي قيلت له أو التي قرأها. ومن هنا كان من المحتم على الشخص أن يتلقى الكلام تلقياً فكرياً سواء قرأه أو سمعه. أي أن يفهم معاني الجمل كما تدل عليه من حيث هي، لا كما يريدها لافظها أو يريدها هو أن تكون. وأن يدرك في نفس الوقت واقع هذه المعاني في ذهنه إدراكاً يشخِّص له هذا الواقع، حتى تصبح هذه المعاني مفاهيماً. فالمفاهيم هي المعاني المدرَك لها واقع في الذهن، سواء أكان واقعاً محسوساً في الخارج أم واقعاً مسلَّماً به أنه موجود في الخارج، تسليماً مبنياً على واقع محسوس. وما عدا ذلك من معاني الألفاظ والجمل لا يسمى مفهوماً، وإنما هو مجرد معلومات.

وتتكون هذه المفاهيم من ربط الواقع بالمعلومات، أو من ربط المعلومات بالواقع، ويتبلور هذا التكوين حسب القاعدة أو القواعد التي يجري عليها قياس المعلومات، والواقع حين الربط. أي حسب عقله للواقع والمعلومات حين الربط، أي حسب إدراكه لها. فتوجَد بذلك للشخص عقلية تفهم الألفاظ والجمل، وتدرك المعاني بواقعها المشخَّص، وتصدر حكمها عليه. وعلى ذلك فالعقلية هي الكيفية التي يجري عليها عقلُ الشيء، أي إدراكه. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي يُربط فيها الواقع بالمعلومات، أو المعلومات بالواقع بقياسها إلى قاعدة واحدة أو قواعد معينة. ومن هنا يأتي اختلاف العقليات كالعقلية الإسلامية، والعقلية الشيوعية، والعقلية الرأسمالية، والعقلية الفوضوية، والعقلية الرتيبة.

أمّا نتائج هذه المفاهيم فإنها هي التي تعيِّن سلوك الإنسان نحو الواقع المدرَك، وتعيِّن له نوع المَيْل لهذا الواقع من الإقبال عليه أو الإعراض عنه، وقد تجعل له مَيلاً خاصاً وذوقاً معيّناً.

أمّا الميول، فهي الدوافع التي تدفع الإنسان للإشباع مربوطة بالمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء التي يراد منها أن تشبِع. وتُحدِثُها عند الإنسان الطاقة الحيوية التي تدفعه لإشباع غرائزه وحاجاته العضوية، والربط الجاري بين هذه الطاقة وبين المفاهيم.

وهذه الميول وحدها، أي الدوافع مربوطة بالمفاهيم عن الحياة، هي التي تكوّن نفسية الإنسان. فالنفسية هي الكيفية التي يجري عليها إشباع الغرائز والحاجات العضوية. وبعبارة أخرى هي الكيفية التي تُربط فيها دوافع الإشباع بالمفاهيم. فهي مزيج من الارتباط الحتمي الذي يجري طبيعياً في داخل الإنسان بين دوافعه والمفاهيم الموجودة لديه عن الأشياء مربوطة بمفاهيمه عن الحياة.

ومن هذه العقلية والنفسية تتكون الشخصية. فالعقل أو الإدراك وإن كان مفطوراً مع الإنسان، ووجوده حتمي لدى كل إنسان، ولكن تكوين العقلية يجري بفعل الإنسان. والميول وإن كانت مفطورة عند الإنسان، ووجودها حتمي لدى كل إنسان، ولكن تكوين النفسية يجري بفعل الإنسان.

وبما أن وجود قواعد أو قاعدة يجري عليها قياس المعلومات والواقع حين الربط هو الذي يبلور المعنى فيصبح مفهوماً، وبما أن الامتزاج الذي يحصل بين الدوافع والمفاهيم هو الذي يبلور الدافع فيصبح مَيلاً، كان للقاعدة أو القواعد التي يقيس عليها الإنسان المعلومات والواقع حين الربط الأثر الأكبر في تكوين العقلية وتكوين النفسية، أي الأثر الأكبر في تكوين الشخصية تكويناً معيناً. فإن كانت هذه القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية هي نفس القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية، وُجدت عند الإنسان شخصية متميزة بلون خاص. وإن كانت القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين العقلية غير القاعدة أو القواعد التي يجري عليها تكوين النفسية كانت عقلية الإنسان غير نفسيته، لأنه يكون حينئذ يقيس ميوله على قاعدة أو قواعد موجودة في الأعماق، فيربط دوافعه بمفاهيم غير المفاهيم التي تكونت بها عقليته، فيصبح شخصية ليس لها مميز، مختلفة متباينة، أفكاره غير ميوله، لأنه يفهم الألفاظ والجمل ويدرك الوقائع على وجه يختلف عن ميله للأشياء.

ومن هنا كان علاج الشخصية وتكوينها إنما يكون بإيجاد قاعدة واحدة لعقلية الإنسان ونفسيته معاً. أي أن تُجعل القاعدة التي يقيس عليها المعلومات والواقع حين الربط هي نفس القاعدة التي يجري على أساسها الامتزاج بين الدوافع والمفاهيم. فتتكون بذلك الشخصية على قاعدة واحدة ومقياس واحد، فتكون شخصية متميزة.



الشخصية الإسلامية



عالج الإسلام الإنسان معالجة كاملة لإيجاد شخصية معينة له متميزة عن غيرها. فعالج بالعقيدة أفكاره، إذ جعل له بها قاعدة فكرية يبني عليها أفكاره، ويكوّن على أساسها مفاهيمه، فيميّز الفكر الصائب من الفكر الخاطئ حين يقيس هذا الفكر بالعقيدة الإسلامية، يبنيه عليها باعتبارها قاعدة فكرية. فتتكون عقليته على هذه العقيدة، وتكون له بذلك عقلية متميزة بهذه القاعدة الفكرية، ويوجد لديه مقياس صحيح للأفكار، فيأمَن بذلك زلل الفكر، ويتقي الفاسد من الأفكار، ويظل صادق الفكر سليم الإدراك.

وفي نفس الوقت عالج الإسلام أعمال الإنسان الصادرة عن حاجاته العضوية وغرائزه بالأحكام الشرعية المنبثقة عن هذه العقيدة نفسها معالجة صادقة، تنظم الغرائز ولا تكبتها، وتنسقها ولا تطلقها، وتهيئ له إشباع جميع جوعاته إشباعاً متناسقاً يؤدي إلى الطمأنينة والاستقرار. فالإسلام قد جعل العقيدة الإسلامية عقلية، فصلحت لأن تكون قاعدة فكرية تقاس عليها الأفكار، وجعلها فكرة كلية عن الكون والإنسان والحياة. وبما أن الشخص إنسان يحيا في الكون فقد حَلّت له هذه الفكرة الكلية جميع عقده في الداخل والخارج، فصلحت لأن تكون مفهوماً عاماً، أي مقياساً يُستعمل طبيعياً حين يجري الامتزاج بين الدوافع والمفاهيم، أي مقياساً تتكون على أساسه الميول. وبذلك أوجد عند الإنسان قاعدة قطعية كانت مقياساً قطعياً للمفاهيم والميول معاً، أي للعقلية والنفسية في وقت واحد. وبذلك كوّن الشخصية تكويناً معيناً متميزاً عن غيرها من الشخصيات.

وعلى هذا نجد أن الإسلام يكوّن الشخصية الإسلامية بالعقيدة الإسلامية، فبها تتكون عقليته وبها نفسها تتكون نفسيته. ومن هذا يتبين أن العقلية الإسلامية هي التي تفكر على أساس الإسلام، أي تجعل الإسلام وحده المقياس العام للأفكار عن الحياة، وليست هي العقلية العالِمة أو المفكرة فحسب. بل مجرد جعل الإنسان الإسلام مقياساً لجميع الأفكار عملياً وواقعياً يجعل عنده عقلية إسلامية.

وأمّا النفسية الإسلامية فهي التي تجعل ميولها كلها على أساس الإسلام. أي تجعل الإسلام وحده المقياس العام للإشباعات جميعها وليست هي المتبتلة أو المتشددة فحسب، بل مجرد جعل الإنسان الإسلام مقياساً لجميع الإشباعات عملياً وواقعياً يجعل عنده نفسية إسلامية. فيكون حينئذ بهذه العقلية وهذه النفسية شخصية إسلامية، بغض النظر عن كونه عالماً أو جاهلاً، قائماً بأداء الفروض والمندوبات وبترك المحرمات والمكروهات، أو قائماً بذلك وبما هو أكثر من ذلك من الطاعات المستحبة والبعد عن الشبهات. فكل منها شخصية إسلامية، لأن كل من يفكر على أساس الإسلام ويجعل هواه تبعاً للإسلام يكون شخصية إسلامية.

نعم إن الإسلام أمر بالاستزادة من الثقافة الإسلامية لتنمى هذه العقلية وتصبح قادرة على مقياس كل فكر من الأفكار. وأمر بأكثر من الفروض والمندوبات والمستحبات ونهى عن أكثر من المحرمات والمكروهات والشبهات لتقوى هذه النفسية وتصبح قادرة على ردع كل ميل يخالف الإسلام. ولكن هذا كله لترقية هذه الشخصية وجعلها تسير في طريق المرتقى السامي، ولكنه لا يجعل مَن دونها غير شخصية إسلامية. بل تكون هي شخصية إسلامية ويكون مَن دونها من العوام الذين يعتبرون سلوكهم بالإسلام، والمتعلمين الذين يقتصرون على القيام بالواجبات وعلى ترك المحرمات، شخصية إسلامية، وإن كانت تتفاوت هذه الشخصيات قوة، ولكنها كلها شخصيات إسلامية.

والمهم في الحكم على الإنسان بأنه شخصية إسلامية هو جعله الإسلام أساساً لتفكيره وأساساً لميوله. ومن هنا يأتي تفاوت الشخصيات الإسلامية وتفاوت العقليات الإسلامية وتفاوت النفسيات الإسلامية. ولذلك يخطئ كثيراً أولئك الذين يتصورون الشخصية الإسلامية بأنها مَلاك. وضرر هؤلاء في المجتمع عظيم جداً لأنهم يبحثون عن الملاك بين البشر فلا يجدونه مطلقاً، بل لا يجدونه في أنفسهم فييأسون وينفُضون أيديهم من المسلمين. وهؤلاء الخياليون إنما يبرهنون على أن الإسلام خيالي، وأنه يستحيل التطبيق، وأنه عبارة عن مُثُل عليا جميلة لا يمكن للإنسان أن يطبقها أو يصبر عليها، فيصدّون الناس عن الإسلام ويشلّون الكثيرين عن العمل. مع أن الإسلام جاء ليُطبَّق عملياًً وهو واقعي لا يصبح تطبيقه وفي متناول كل إنسان مهما بلغ تفكيره من الضعف ومهما بلغت غرائزه وحاجاته من القوة، فإنه ممكن له أن يطبق الإسلام على نفسه بسهولة ويُسْر بعد أن يدرك العقيدة ويصبح شخصية إسلامية. لأنه بمجرد جعله عقيدة الإسلام مقياساً لمفاهيمه وميوله وسار على هذا المقياس، كان شخصية إسلامية قطعاً. وما عليه بعد ذلك إلاّ أن يقوّي هذه الشخصية بالثقافة الإسلامية لتنمية عقليته، وبالطاعات لتقوية نفسيته حتى يسير نحو المرتقى السامي ويَثبُت على هذا المرتقى في الدنيا، وينال رضوان الله في الدنيا والآخرة.



الدعاء في الإسلام



الدعاء هو سؤال العبد ربه، والدعاء من أعظم العبادة، أي من أعظم ما يُتعبّد به. وقد أخرج الترمذي من حديث أنس (الدعاء مُخ العبادة). وقد تواردت الآثار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالترغيب في الدعاء والحث عليه، فقد أخرج ابن ماجه من حديث أبي هريرة (ليس شيء أكرم على الله من الدعاء)، وأخرج البخاري حديث (من لم يَسأل الله يغضب عليه)، وحديث ابن مسعود (سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يُسأل) أخرجه الترمذي، وله من حديث ابن عمر (إن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم عباد الله بالدعاء)، وأخرج الترمذي والحاكم من حديث عبادة بن الصامت (ما على الأرض مسلم يدعو بدعوة الله إلاّ آتاه الله إياها أو صرف عنه من السوء مثلها)، ولأحمد في حديث أبي سعيد رفعه (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلاّ أعطاه الله بها إحدى ثلاث: إما أن يُعجِّل له دعوته وإما أن يدّخرها له في الآخرة وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها).

فهذه الأحاديث وغيرها تدل في مجموعها على ثبوت الدعاء، وهو سؤال العبد ربه. وقد وردت في القرآن عدة آيات تدل على الدعاء، قال تعالى: (وقال ربكم ادعوني استجب لكم)، وقال: (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداعي إذا دعان)، وقال: (أمّن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض)، وقال عن دعاء الملائكة: (الذين يحملون العرش ومن حوله يسبّحون بحمد ربهم ويؤمنون به ويستغفرون للذين آمنوا ربنا وسعتَ كل شيء رحمة وعلما فاغفر للذين تابوا واتّبعوا سبيلك وقِهِم عذاب الجحيم. ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم ومَن صَلُح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم إنك أنت العزيز الحكيم).

فالله تعالى قد طلب منا أن ندعوه وبيّن لنا أنه وحده الذي يجيب الدعاء دون غيره. وأوضح لنا شيئاً مما كانت تدعو به الملائكة، فيُندَب للمسلم أن يدعو الله في السراء والضراء، في السر والعَلَن، حتى ينال ثواب الله. والدعاء أفضل من السكوت والرضا, لكثرة الأدلة الدالة عليه، ولِما فيه من إظهار الخضوع والافتقار إلى الله تعالى.

ولكن يجب أن يكون واضحاً أن الدعاء لا يغيّر ما في علم الله، ولا يدفع قضاء، ولا يسلب قدراً، ولا يحدث شيئاً على غير سببه. لأن علم الله متحقق حتماً، وقضاء الله واقع لا محالة. إذ لو دفعه الدعاء لَما كان قضاء. والقدر أوجده الله فلا يسلبه الدعاء. والله خلق الأسباب ومسبَّباتها، وجعل السبب يُنتج المسبَّب حتماً، ولو لم ينتجه لما كان سبباً. ولذلك لا يجوز أن يُعتقد أن الدعاء طريقة لقضاء الحاجة، حتى لو استجاب الله وقُضيت الحاجة بالفعل. لأن الله جعل للكون والإنسان والحياة نظاماً تسير عليه، وربط الأسباب بالمسبَّبات. والدعاء لا يؤثر في خرق أنظمة الله ولا في تخلف الأسباب. وإنّما الغاية من الدعاء تحصيل الثواب بامتثال أمر الله. وهو عبادة من العبادات. فكما أن الصلاة عبادة والصوم عبادة والزكاة عبادة.. الخ، فكذلك الدعاء عبادة. فيدعو المؤمن ويطلب من الله قضاء حاجته، أو كشف غمّته، أو غير ذلك من الأدعية المتعلقة بالدنيا والآخرة التجاءً إلى الله، وخضوعاً وطلباً لثوابه، وامتثالاً لأوامره. فإن قُضيت حاجته كان فضلاً من الله، ويكون قضاؤها وفق أنظمة الله سائراً على قاعدة ربط الأسباب بالمسبَّبات، وإن لم يقضها كُتب له ثوابها.

على هذا الوجه ينبغي أن يكون الدعاء من المسلم، خضوعاً لله، وامتثالاً لأمره، وطلباً لثوابه، سواء قُضيت حاجته أم لم تُقض. ويجوز للمسلم أن يدعو بأي دعاء يريده بالقلب أو اللسان أو بأي تعبير يراه، ولا يتقيد بدعاء معين، فله أن يدعو الأدعية الواردة في القرآن، وله أن يدعو الأدعية الواردة في الحديث، وله أن يدعو بدعاء من عنده، أو بدعاء دعا به غيره، فلا يقيَّد بدعاء معين، وإنّما يُطلب منه أن يدعو الله تعالى. إلاّ أن الأفضل أن يدعو بما ورد في القرآن أو الحديث.

rajaab
20-05-2005, 11:01 PM
معنى التقديس



التقديس هو منتهى الاحترام القلبي، ويحصل من الإنسان للأشخاص والاشياء إما بناء على دافع مشاعري مقرون بمفاهيم غريزية، وإما بدافع فكري مقرون بمشاعر حرّكها نفس الفكر الدافع. فتقديس الأصنام وتقديس الأبطال الخرافيين يحصل بدافع مشاعري مقرون بمفاهيم غريزية عن الآلهة وعن العظمة. وأمّا تقديس الله بعبادته أو بالخضوع والتسليم لأحكامه يحصل بدافع إدراك العقل أن الله وحده مستحق للعبادة أو بإدراك العقل أن هذه الأحكام من الله تعالى فهي واجبة التسليم وواجب الخضوع لها. وفي كلتا الحالتين يكون هذا الدافع مقروناً بمشاعر غريزة التدين وهي الإحساس بالعجز والاحتياج إلى الخالق المدبر.

والتقديس أمر فطري وهو رَجْع لغريزة التدين، وله مظاهر متعددة، أعلاها العبادة بأنواعها ومنها الخضوع والخشوع والتذلل كما أن منها الإكبار والإجلال.

والمشاعر تهتز لهذا التقديس اهتزازاً يقوى ويضعف بحسب المفاهيم المربوطة بالمشاعر لأنها هي التي تعيّن كيفية التقديس ومتى يكون التقديس ومتى لا يكون. ولذلك تحصل المغالطة في صرف التقديس عن أشياء لأشياء أخرى، كما تحصل المغالطة في تقديس الخالق إلى تقديس المخلوقات، وقد تحصل المغالطة في كيفيات التقديس، فيعتبِر أن قيامه بتقبيل القرآن هو تقديسه، ولو فعل أو قال في نفس الوقت ما يناقض هذا التقديس كأن يمس القرآن وهو غير متوضئ، أو يقول إن القرآن أصبح لا يصلح لهذا العصر. فهو قد قدّس القرآن بتقبيله ولو خالف ما نص عليه صراحة وهو قوله: (لا يمسه إلاّ المُطّهَّرون)، أو كفر به صراحة بقوله إنه لا يصلح.

ومن هنا كان بالإمكان سلب التقديس عن أشياء إما لغيرها أو بالإيهام أن العمل الفلاني وحده تقديس لها والعمل الآخر ليس تقديساً ولا شأن له بالتقديس ولا يناقضه. وهذا السلب يحصل بواسطة المغالطات عن طريق تغيير المفاهيم، وهذا سهل ميسور وفي متناول الناس جمعياً أن يفعلوه مع من ينشأ تقديسهم بدافع مشاعرهم، لأنه سهل أن يغير المفاهيم المربوطة بهذه المشاعر، لأنها غالباً ما تكون مفاهيم غريزية أو مفاهيم تسليمية سهلٌ قلعها. أمّا التقديس الناجم عن دافع الفكر المقرون بمشاعر حركها نفس الفكر فإنه يصعب سلب التقديس وإن كان ممكناً لذوي القدرة على التلاعب بالأفكار والجمل، ولكنه يلاقي مقاومة عنيفة قبل أن يحصل فيه التغيير. ولهذا كان لا بد أن يحصل التقديس عن دافع فكري مقرون بمشاعر حتى يكون تقديساً ثابتاً وحتى يؤمن خطؤه وضلاله.

والتقديس من حيث هو عند المسلم كالعقيدة يجب أن تصدر عن عقل هو بطبيعته ناجم عن دافع العقيدة، وهي عقيدة عقلية، ولذلك كان لا بد من التثبت ممن يقدس ومما يقدس، غير أنه إذا ثبت أنه واجب التقديس تحتّم تقديسه ويصبح حينئذ معنى تقديسه عدم قبول المناقشة فيه بعدما ثبتت صحة تقديسه إلاّ في حالة إرادة إقناع الغير بتقديسه. لأن معنى إعادة المناقشة والبحث فيه بعد ثبوت صحة التقديس تنافي التقديس، كما أن إعادة المناقشة والبحث في العقيدة بعد ثبوت العقيدة ينافي كونها عقيدة، بل يجب أن تنتقل العقيدة من فلسفة إلى بديهيات، والتقديس من دافع فكري وبحث عقلي إلى بديهية وخضوع، وإلاّ فلا يمكن أن تتركز عقيدة عند شخص دائم المناقشة فيها، ولا القداسة لشيء تدوم المناقشة في تقديسه.

والمسلمون أدركوا عقلياً أن تقديس الله هو عبادته وهو طاعة أوامره واجتناب نواهيه والخضوع والتسليم لما جاء في كلامه بالقرآن الكريم. وأدركوا عقلياً أن تقديس النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو تعظيمه وتبجيله في جميع الحالات، في كل شيء من شؤون الحياة، وهو الخضوع والتسليم المطلق لما جاء في الصحيح من حديثه باعتباره وحياً من الله. فكان تقديس القرآن والحديث بدافع فكري مقرون بمشاعر حرّكها نفس الفكر. ولذلك لا بد من تقديسهما ولا بد أن يتحول هذا التقديس لهما إلى بديهة من البديهات لا تقبل مناقشة ولا تدخل تحت البحث بين من تم عندهم ثبوت التقديس. فإذا حاول أحد صرف التقديس عن الحديث إلى القرآن وحده كان كفراً، أو حاول تصوير تقديس القرآن بتقبيله والاعتقاد بعدم صلاحيته لهذا العصر كان كفراً أيضاً، بل لا بد أن يكون التقديس تعظيماً وخضوعاً واستسلاماً شاملاً عاماً وأن لا يقبل البحث والمناقشة إلاّ في حالة الإقناع بأصل التقديس.

وعلى هذا فالإنسان من حيث هو مفطور على التقديس ولا يمكن أن يُزال منه التقديس وإن كان يمكن أن يُكبت ويحوَّل. والمسلمون وقد عَيّنت لهم عقيدتهم العقلية من يقدّسون والأشياء التي يجب أن يقدّسوها، فهم كناس من بني البشر مفطورون على التقديس، وكمسلمين عيَّن لهم العقل المقدسات وكيفية تقديسها، لا يستطيعون أن يتركوا التقديس لأنه جزء من تكوين خلقتهم، ولا يجوز لهم أن يتركوا تقديس المقدسات التي فرض الإسلام عليهم تقديسها لأنه من مقتضيات إسلامهم. ولكن أعداء الإسلام جاءوا عن طريق المغالطات يسلبون التقديس عن أشياء أمر الإسلام بتقديسها ويغيّرون معنى تقديس الأشياء التي عجزوا عن سلب التقديس عنها، فكان لزاماً على الواعين أن يجعلوا التقديس عند المسلمين ناجماً عن دافع العقيدة الإسلامية عقلياً وأن يحوّلوا هذا التقديس إلى بديهيات حتى يصبح كل مسلم قادراً لأن يكون على ثغرة من ثُغَر الإسلام فلا يُؤتَيَنّ مِن قِبله.



عصمة الرسول



عصمة الأنبياء والرسل مسألة يحتّمها العقل، لأنه كونه نبياً أو رسولاً يحتّم أنه معصوم في التبليغ عن الله، إذ لو تطرق الخلل إلى إمكانية عدم العصمة في مسألة واحدة لَتطرّق الخلل إلى كل مسألة، وحينئذ تنهار النبوة والرسالة كلها. فثبوت أن الشخص نبي الله أو رسول من عند الله تعني أنه معصوم فيما يبلّغه عن الله. فعصمته في التبليغ حتمية والكفر بها كفر بالرسالة التي جاء بها وبالنبوة التي بُعث بها.

أمّا عصمته عن الأفعال المخالِفة لأوامر الله ونواهيه، فالمقطوع به أنه معصوم عن الكبائر حتماً فلا يفعل كبيرة من الكبائر مطلقاً، لأن فعل الكبيرة يعني ارتكاب المعصية، والطاعة لا تتجزأ والمعصية لا تتجزأ، فإذا تطرقت المعصية إلى الفعل تطرقت إلى التبليغ، وهي تناقِض الرسالة والنبوة، ولذلك كان الأنبياء والرسل معصومين من الكبائر كما هم معصومون بالتبليغ عن الله.

أمّا العصمة عن الصغائر فإنه قد اختلف العلماء فيها، فمنهم من قال إنهم غير معصومين عنها لأنها ليست معصية، ومنهم من قال إنهم معصومون لأنها معصية. والحق أن كل ما كان القيام به حراماً وما كان القيام به واجباً، أي جميع الفروض والمحرمات هم معصومون بالنسبة لها، معصومون عن ترك الواجبات وعن فعل المحرمات سواء أكانت كبائر أم صغائر، أي معصومون عن كل ما يسمى معصية ويصدق عليه أنه معصية، وما عدا ذلك مما هو خلاف الأوْلى فهم غير معصومين عنها، فيجوز عليهم فعل خلاف الأوْلى مطلقاً لأنه في جميع وجوهه لا يدخل تحت مفهوم كلمة معصية. هذا ما يحتمه العقل ويقتضيه كونهم أنبياء ورسل.

وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبي ورسول فهو كباقي الأنبياء والرسل معصوم عن الخطأ فيما يبلغه عن الله تعالى عصمة قطعية دل عليها الدليل العقلي والشرعي. وما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يبلّغ الأحكام إلاّ عن وحي، قال تعالى في سورة الأنبياء: (قل إنّما أنذركم بالوحي) أي قل لهم يا محمد إنما أنذركم بالوحي الذي أُنزل عليّ أي إنذاري لكم محصور بالوحي. وقال تعالى في سورة النجم: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحي يوحى) وكلمة (وما ينطق) من صيغ العموم فهي عام يشمل القرآن وغيره ولا يوجد ما يخصصها بالقرآن لا من الكتاب ولا من السنّة فتبقى على عمومها أي أن جميع ما ينطقه من التشريع وحي يوحى ولا يصح أن تُخصص بأن ما ينطقه من القرآن فقط، بل يجب أن تبقى عامة شاملة للقرآن والحديث.

وأمّا تخصيصها فيما يبلّغه عن الله من تشريع وغيره من الأحكام والعقائد والأفكار والقصص، وعدم شمولها للأساليب والوسائل لرسم المعركة أو تأبير النخل أو غيره فذلك لأنه رسول، والكلام عن رسول، والبحث فيما أُرسل به لا في غير ذلك، فكان موضوع الكلام هو المخصص، وصيغة العموم تبقى عامة في الموضوع الذي جاءت به فلا يكون حينئذ من قبيل التخصيص لقوله تعالى: (قل إنما أنذركم بالوحي)، ولقوله تعالى في سورة ص: (إن يوحى إليّ إلاّ أنما أنا نذير مبين)، فإنها تبين أن المراد هو ما أتى به من العقائد والأحكام وكل ما أُمر بتبليغه والإنذار به، ولذلك لا تشمل استعمال الأساليب أو أفعاله الجبلّيّة التي تكون من جِبِلّة الإنسان أي من طبيعة خلقته كالمشي والنطق والأكل.. الخ، وتختص بما يتعلق بأفعال العباد وأفكارهم لا بالوسائل والأساليب وما شابهها. فكل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم مما أُمر بتبليغه من كل ما يتعلق بأفعال العباد والأفكار هو وحي من الله.

ويشمل الوحي أقوال الرسول وأفعاله وسكوته، لأننا مأمورون باتباعه، قال تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)، وقال: (لقد كان لكم في رسول الله أُسوة حسنة)، فكلام الرسول وفعله وسكوته دليل شرعي، وهي كلها وحي من الله تعالى. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي ويبلّغ ما يأتيه به عن الله تعالى، ويعالج الأمور بحسب الوحي ولا يخرج عن الوحي مطلقاً. قال تعالى في سورة الأحقاف: (إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ)، وقال في سورة الأعراف: (إنّما أتّبع ما يوحى إليّ من ربي) أي لا اتّبع إلاّ ما يوحى إليه من ربي، فحصر اتّباعه بما يوحى إليه من ربه. وهذا كله صريح وواضح وظاهر في العموم، وأن كل ما يتعلق به صلى الله عليه وسلم مما هو مأمور بتبليغه هو وحي فحسب.

وكانت حياة الرسول التشريعية في بيان الأحكام للناس سائرة على ذلك، فإنه عليه الصلاة والسلام كان ينتظر الوحي في كثير من الأحكام كالظهار واللعان وغيرهما، وما كان يقول حكماً في مسألة أو يفعل فعلاً تشريعياً أو يسكت سكوتاً تشريعياً إلاّ عن وحي من الله تعالى. وقد كان يختلط على الصحابة في بعض الأحكام الحكم في فعل من أفعال العباد بالرأي في شيء أو وسيلة أو أسلوب فيسألون الرسول: أذلك وحي يا رسول الله أو الرأي والمشورة؟ فإن قال لهم وحي سكتوا لأنهم عرفوا أنه ليس من عنده، وإن قال لهم بل هو الرأي والمشورة تناقشوا معه وربما اتّبع رأيهم، كما في بدر والخندق وأُحد. وكان يقول لهم في غير ما يبلّغه عن الله: (أنتم أدرى بأمور دنياكم) كما ورد في حديث تأبير النخل. ولو كان ينطق في التشريع عن غير وحي لَما كان ينتظر الوحي حتى يقول الحكم، ولَما سأله الصحابة عن الكلام هل هو وحي أم رأي، إذ لأجاب من عنده أو لناقشوه من غير سؤال.

وعلى ذلك فإنه عليه الصلاة والسلام كان لا يصدر في قوله أو فعله أو سكوته إلاّ عن وحي من الله تعالى لا عن رأي من عنده، وأنه عليه الصلاة والسلام معصوم عن الخطأ في كل ما يبلّغه عن الله تعالى.



لا يجوز في حق الرسول أن يكون مجتهداً



لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم يجتهد قط، ولا يجوز الاجتهاد على الرسول شرعاً وعقلاً. أمّا شرعاً فللآيات الصريحة التي تدل على حصر جميع ما ينطق به وما ينذر به وما يتبعه بالوحي (قل إنما أنذركم بالوحي) (إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ) (وما ينطق عن الهوى). وأمّا عقلاً فإنه صلى الله عليه وسلم كان ينتظر الوحي في كثير من الأحكام مع الحاجة الماسة لبيان حكم الله، فلو جاز له الاجتهاد لَما أخر الحكم بل يجتهد. وبما أنه ثبت أنه كان يؤخر الحكم حتى ينزل الوحي فدل على أنه لا يجوز له الاجتهاد ولم يجتهد. وأيضاً فإنه صلى الله عليه وسلم واجب الاتّباع، فلو اجتهد لجاز عليه الخطأ، ولو أخطأ لوجب علينا اتباعه، فيلزم الأمر باتباع الخطأ وهو باطل. وجواز الخطأ على الرسول ينافي الرسالة والنبوة، فالإقرار بالرسالة والنبوة يحتم عدم جواز الخطأ على الرسول والنبي، ويحتم استحالة الخطأ عليه فيما يبلّغه عن الله. وعليه فلا يجوز في حقه صلى الله عليه وسلم الاجتهاد مطلقاً، وكل ما بلّغه من الأحكام بقوله أو فعله أو سكوته وحي من الله ليس غير.

ولا يقال إن الله لا يقره على الخطأ وأنه يبينه له سريعاً، لأن الخطأ في الاجتهاد حين يحصل من الرسول يصبح فرضاً على المسلمين أن يتّبعوه حتى يحصل البيان، فيكون هذا البيان جدد حكماً آخر غير الأول أُمر المسلمون باتّباعه وبترك الحكم الأول وهو الخطأ، وهذا باطل ولا يجوز في حق الله تعالى ولا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم.

على أنه لم يحصل من الرسول اجتهاد فيما بلّغه عن الله تعالى في أي حكم من أحكام الله مطلقاً، بل الثابت بنص القرآن وبصحيح السنّة أنه صلى الله عليه وسلم كان يبلّغ عن الوحي، ولا يبلّغ عن غير طريق الوحي. وأنه كان حين لا ينزل الوحي في حادثة ينتظره حتى ينزل بها.

وأمّا الآيات التي أوردوها وأوردوا أنه صلى الله عليه وسلم اجتهد بها مثل قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخِن في الأرض)، ومثل قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنتَ لهم)، ومثل قوله تعالى: (ولا تُصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تَقُم على قبره)، ومثل هذا من الآيات والأحاديث، فإن ذلك لم يكن من قبيل الاجتهاد في حكم وتبليغه للناس ثم الرجوع عنه وتصحيحه في حكم آخر، وإنّما هو من قبيل العتاب على القيام بأعمال. إذ لم يبلّغ الرسول حكماً معيناً ثم جاءت الآية تبين خطأ الحكم الأول الذي بلّغه وأخطأ اجتهاده فيه، وإنّما قام الرسول بعمل تطبيقاً لأحكام الله التي نزل بها الوحي وبلّغها للناس. فالحكم كان مشرعاً وكان مأموراً به وكان الرسول قد بلّغه. وفي هذه الحادثة قام الرسول عليه الصلاة والسلام بالعمل حسب ما أمره الله تعالى، إلاّ أن قيامه به كان على وجه خلاف الأوْلى فعوتب على ذلك عتاباً. فالآيات آيات عتاب على قيام الرسول بما هو خلاف الأوْلى وليست تصحيحاً لاجتهاد ولا تشريعاً لحكم آخر يخالف حكماً كان الرسول قد اجتهد فيه.

ومنطوق الآيات ومفهومها يدل على ذلك، فإن قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يُثخِن في الأرض) يدل على أن الأمر كان مشروعاً بشرط سبق الإثخان في الأرض، ويؤيده آية (حتى إذا أثخنتموهم فشُدّوا الوَثاق)، والمراد بالإثخان هو القتل والتخويف الشديد. ولا شك أن الصحابة قتلوا يوم بدر خلقاً عظيماً حتى سحقوا عدوهم سحقاً، وليس من شرط الإثخان في الأرض قتل جميع الناس. ثم إنهم بعد القتل الكثير أسروا جماعة. والآية نفسها تدل على أنه بعد الإثخان يجوز الاسر، فصارت هذه الآية دالة دلالة بيّنة على أن ذلك الأمر كان جائزاً بحكم هذه الآية، فلا يكون الرسول قد اجتهد في حكم الأسرى ولا يكون الأسر في بدر ذنباً مخالفاً للحكم الذي نزلت به الآية ولكن يدل على أنه في تطبيق حكم الأسرى على هذه الحادثة كان الأوْلى أن يكون القتل أكثر حتى يكون الإثخان أبرز، فنزلت الآية معاتِبة على التطبيق على وجه خلاف الأوْلى، أي آية عتاب على فعل من أفعال الرسول في حادثة معروف حكمها فعله مخالفاً ما هو الأوْلى بالفعل، فهو عتاب على خلاف الأوْلى. والأنبياء ليسوا معصومبين عن فعل خلاف الأوْلى، فيجوز في حقهم أن يفعلوه، وحين يفعلونه يعاتبهم الله عليه، فهذا عتاب للرسول.

وأمّا قوله تعالى: (عفا الله عنك لم أذنتَ لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين)، فإنها لا تدل على أي اجتهاد، فإنه يجوز للرسول أن يأذن به، بدليل قوله تعالى في سورة النور: (فإن استأذنوك لبعض شأنهم فأْذَن لمن شئت منهم)، فهي صريحة وتدل على أنه يجوز للرسول أن يأذن لهم، ولكن في تلك الحادثة وهي غزوة تبوك وتجهيز جيش العُسرة كان الأوْلى أن لا يأذن الرسول للمنافقين في التخلف، فلمّا أذن لهم في تلك الحادثة بالذات عاتبه الله على ذلك، أي عاتبه على القيام بخلاف الأوْلى، وليست الآية تصحيحاً لاجتهاد ولا تشريعاً لحكم يخالف حكماً كان الرسول قد اجتهد فيه في نفس الحادثة، وإنّما هو عتاب على ما هو خلاف الأوْلى.

وأمّا قوله تعالى: (ولا تُصلّ على أحد منهم مات أبداً ولا تَقُم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون)، فإنها جاءت بعد قوله تعالى: (فإن رَجَعَك الله إلى طائفة منهم فاستأذنوك للخروج فقل لن تخرجوا معي أبداً) الآية، وقد بين في آية (فإن رَجَعَك الله) أن لا يصحبهم الرسول في غزواته وذلك لتخذيلهم وإخافتهم. وبيّن في الآية التي بعدها وهي (ولا تُصلّ على أحد منهم) الآية، شيئاً آخر في إذلالهم. وكان ذلك أثناء الحملة على المنافقين للقضاء عليهم، وليس في الآية ما يدل على أن الرسول اجتهد في حكم وجاءت الآية دالة على خلافه، بل هي تشريع ابتداءً في حق المنافقين وهي منسجمة مع آيات المنافقين المكررة في نفس السورة، فلا يظهر فيها لا صراحة ولا دلالة ولا منطوقاً ولا مفهوماً أنها تصحيح لاجتهاد وتنبيه على خطأ. وهي نزلت في السنة التاسعة للهجرة بعد تبوك حين حج أبو بكر بالناس. وأمّا ما ورد في شأن نزول هذه الآية والآيات السابقة من أخبار عن سبب النزول وعن حوادثها، فإن كثيراً من هذه الأخبار لم يَصِح، وما صح منها من أحاديث عن سبب النزول فهي أخبار آحاد ظنية ولا تعارِض القطعي الذي يحصر تبليغ الرسول للأحكام بالوحي فحسب، وأنه لا يتبع إلاّ الوحي ولا ينطق إلاّ بالوحي (إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ).

وعلى ذلك لا دلالة في الآيات المذكورة على حصول الاجتهاد من الرسول، فليس فيها تشريع لحكم جديد ولا تصحيح لحكم قديم وإنّما فيها عتاب للرسول على أفعال قام بها وكان حكمها معروفاً بالوحي قبل قيامه بها عليه السلام، وكون الرسول مجتهداً أو يجوز عليه الاجتهاد ممنوع عقلاً وشرعاً، فلا يجوز في حق الرسول صلى الله عليه وسلم الاجتهاد فيما يبلّغه عن ربه من أحكام سواء أكان التبليغ بالقول أو السكوت أو الفعل، لأن الآيات قطعية الثبوت قطعية الدلالة على أنه لا ينطق ولا يتّبع ولا يُنذِر إلاّ بالوحي. ومن هنا كان من غير الجائز في حق الرسول صلى الله عليه وسلم وفي حق سائر الرسل أن يخطئوا فيما يبلّغونه عن الله سواء أكان الخطأ عن اجتهاد أو نسيان أو تعمّد، لأنه ينافي العصمة الواجبة في حقهم عليهم الصلاة والسلام.

rajaab
20-05-2005, 11:03 PM
علوم النفس والاجتماع والتربية



يوجد عند الناس خلط بين الأفكار الاستنتاجية الناتجة عن الطريقة العقلية والأفكار العلمية الناتجة عن الطريقة العلمية، وبناء على هذا الخلط يعتبرون ما يسمى علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية علماً، ويعتبرون أفكارها أفكاراً علمية، لأنها جاءت بناء على ملاحظات جرى تتبعها على الأطفال في ظروف مختلفة وأعمار مختلفة؛ أو جرى تتبعها على جماعات مختلفة في ظروف مختلفة؛ أو على أعمال مختلفة لأشخاص مختلفين في ظروف مختلفة، فسمّوا تكرار هذه الملاحظات تجارب.

والحقيقة أن أفكار علم النفس وعلم الاجتماع وعلم التربية ليست أفكاراً علمية، وإنّما هي أفكار عقلية، لأن التجارب العلمية هي إخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة أثر هذا الإخضاع، أي هي إجراء التجارب على نفس المادة كتجارب الطبيعة والكيمياء. أمّا ملاحظة الشيء في أوقات وأحوال مختلفة فليس بتجارب علمية. وعليه فملاحظة الطفل في أحوال مختلفة وأعمار مختلفة، وملاحظة الجماعات في بلدان مختلفة وظروف مختلفة، وملاحظة الأعمال من أشخاص مختلفين وفي أحوال مختلفة، كل ذلك لا يدخل في بحث التجارب العلمية، فلا يعتبر طريقة علمية، وإنّما هو ملاحظة وتكرار للملاحظة واستنتاج فحسب. فهو طريقة عقلية وليست علمية. وعليه فإن أفكار ما يسمى علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية أفكار عقلية وتدخل في الثقافة ولا تدخل في العلم.

على أن علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية هي أمور ظنية قابلة للخطأ وليست من الأمور القطعية، فلا يصح أن تُتخذ أساساً للحكم على الأشياء ولا يجوز أن يُستدل بها على صحة الأشياء أو عدم صحتها، لأنها ليست من قبيل الحقائق العلمية أو القوانين العلمية حتى يقال هي صواب حتى يثبت خطؤها، بل هي معارف ظنية جاءت عن طريق الظن. وهي وإن كان قد تُوصّل إليها بالطريقة العقلية ولكنها ليست من قبيل الحكم بوجود الأشياء بل هي من قبيل الحكم على حقيقة الشيء ما هو، وهذا الحكم ظني قطعاً فيه قابلية الخطأ. على أن هذه المعارف الثلاث: علم النفس وعلم الاجتماع وعلوم التربية مبنية على أسس مغلوطة، وهذا ما جعل كثيرا من الأفكار التي احتوتها أفكاراً مغلوطة.

وذلك لأن علم النفس مبني في جملته على نظرته للغرائز ونظرته للدماغ. فهو ينظر إلى أن في الإنسان غرائز كثيرة منها ما اكتُشف ومنها ما لم يُكتشف، وبنى علماء النفس على هذه النظرة للغرائز نظريات خاطئة، فكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى الخطأ في كثير من الأفكار الموجودة في علم النفس. أمّا النظرة إلى الدماغ، فإن علم النفس يعتبر الدماغ مقسماً إلى مناطق وأن كل منطقة لها قابلية خاصة، وأن في بعض الأدمغة قابليات ليست موجودة في أدمغة أخرى. وبناء على هذا فإن بعض الناس فيهم قابلية لفهم اللغات وليس فيهم قابلية لفهم الرياضيات، وهناك أشخاص على العكس فيهم قابلية لفهم الرياضيات وليس فيهم قابلية فهم اللغات. وهكذا بُنيت على هذه النظرة الخاطئة نظريات خاطئة. فكان هذا أيضاً من الأسباب التي أدت إلى الخطأ في كثير من الأفكار الموجودة في علم النفس.

والحقيقة في هذا كله هي: أن المشاهَد بالحس مِن تتبُّع الرجْع أو رد الفعل أن الإنسان فيه طاقة حيوية لها مظهران: أحدهما يتطلب الإشباع الحتمي وإذا لم يُشبَع يموت الإنسان والثاني يتطلب الإشباع وإذا لم يُشبَع يبقى الإنسان حياً ولكنه يتألم وينزعج من عدم الإشباع. والمظهر الأول يتمثل في الحاجات العضوية كالجوع والعطش وقضاء الحاجة، والمظهر الثاني يتمثل في الغرائز وهي غريزة التدين وغريزة النوع وغريزة البقاء. وهذه الغرائز هي الشعور بالعجز والشعور ببقاء النوع والشعور ببقاء الذات ولا يوجد غير ذلك. وما عدا هذه الغرائز الثلاث هي مظاهر للغرائز كالخوف والسيادة والملكية مظاهر لغريزة البقاء، وإكبار الأبطال والعبادة مظاهر لغريزة التدين، والميل الجنسي والأبوة والأمومة والأخوة مظاهر لغريزة النوع. وهكذا كل مظهر من المظاهر يرجع إلى غريزة من هذه الغرائز.

هذا من ناحية الغرائز، أمّا من ناحية الدماغ، فالحقيقة هي أن الدماغ واحد وأنّ تفاوت الأفكار واختلافها نابع لتفاوت المحسوسات والمعلومات السابقة واختلافها، وتابع لتفاوت قوة الربط. وأنه لا توجد في دماغ قابلية لا توجد في الآخر بل جميع الأدمغة فيها قابلية الفكر في كل شيء متى توفر الواقع المحسوس والحواس والمعلومات السابقة والدماغ. وإنّما تتفاوت الأدمغة في قوة الربط وفي قوة الإحساس كما تتفاوت العيون في قوة الإبصار وضعفه، وكما تتفاوت الآذان في قوة السمع وضعفه. ولذلك يمكن إعطاء كل فرد أي معلومات وفيه قابلية لهضمها، ولا أساس لما جاء في علم النفس من القابليات للأدمغة أو للدماغ الواحد.

وعلى هذا فاعتبار علم النفس للغرائز اعتباراً خاطئاً، واعتباره للدماغ اعتباراً خاطئاً أدى إلى خطأ النظريات التي بُنيت على أساسها.

أمّا علم الاجتماع فمبني في جملته على نظرته للفرد والمجتمع، فهي مبنية على النظرة الفردية. ولهذا تنتقل نظرتها من الفرد إلى الأسرة، وإلى الجماعة، وإلى المجتمع، على اعتبار أن المجتمع مكون من أفراد. ولهذا تعتبر المجتمعات منفصلة وأن ما يصلح لمجتمع لا يصلح لمجتمع آخر. وبنى علماء الاجتماع على هذه النظرة نظريات خاطئة، وكان ذلك السبب الرئيسي الذي أدى إلى الخطأ في أفكار علم الاجتماع.

والحقيقة هي أن المجتمع ليس مكوناً من أفراد مطلقاً، فالفرد مع الفرد مع الفرد يكوّنون جماعة وليس مجتمعاً، والجماعة لا تشكل مجتمعاً إلاّ إذا نشأت بين أفرادها علاقات دائمية، فإذا لم تنشأ علاقات ظلوا جماعة. ومن هنا كان وجود عشرة آلاف شخص مسافرين في باخرة لا يجعل منهم مجتمعاً بل يظلون جماعة، ولكن وجود مائتي شخص في قرية يشكلون مجتمعاً لِما بينهم من علاقات دائمية. فوجود العلاقة الدائمية بين الجماعة هو الذي يجعل منهم مجتمعاً. فالبحث في المجتمع يجب أن يكون بحثاً في العلاقات لا بحثاً في الجماعة. إلاّ أن الذي يوجِد هذه العلاقة بين الأفراد إنّما هو المصلحة التي لهم، فإذا كانت هنالك مصلحة لهم نشأت بينهم علاقة، وإذا لم تكن هناك مصلحة لا تنشأ علاقات. والمصلحة لا تُنشئ علاقة إلاّ إذا اجتمعت فيها ثلاثة أمور: أحدها أن يتوحد فكر الطرفين على اعتبار أن هذه مصلحة، فإذا رآها أحدهما مصلحة والآخر رآها مفسدة لا تنشأ بينهما علاقة، فلأجل أن تنشأ العلاقة يجب أن يراها كل منهما أنها مصلحة. والثاني أن تتوحد المشاعر على المصلحة، فإذا فرح لها الطرفان أو غضبوا منها تكوّنت علاقة، أمّا إذا فرح بها أحدهما وغضب منها الآخر لا تنشأ منها علاقة. والثالث أن يتوحد النظام الذي ينظم هذه المصلحة، فإذا نظم أحد الطرفين المصلحة على نظام ورفض الآخر هذا النظام ونظمها على نظام آخر لا تنشأ بينهما علاقة، فلا بد أن يتفق الطرفان على كيفية تنظيم المصلحة لهما.

فبتوحيد الأفكار والمشاعر والأنظمة في الأفراد ينشأ المجتمع. إلاّ أن هؤلاء الأفراد يُنشئون مجتمعاً معيناً خاصاً بهم، فإذا أرادوا ضم غيرهم لهم من مجتمعات أخرى، كان عليهم أن ينقضوا الأفكار والمشاعر والنظام عند الطرفين بأفكار ومشاعر وأنظمة أخرى للجميع حتى يكوّنوا مجتمعاً، ولذلك لا يكون تعريف المجتمع بالأفراد منطبقاً على المجتمع المبدئي وإنّما ينطبق على مجتمع خاص.

أمّا المجتمع بمعناه الصحيح فهو مكون من الإنسان والأفكار والمشاعر والأنظمة، وأن ما يصلح من أفكار ومعالَجات للإنسان في مكان ما يصلح للإنسان في كل مكان ويحوّل المجتمعات المتعددة إلى مجتمع واحد تصلحه الأفكار والمشاعر والأنظمة.

والفرق بين الإنسان والفرد، أنك حين تبحث محمداً وخالداً وحسناً بما لكل منهم من صفات لا يشاركه فيها غيره من بني الإنسان طبيعياً فتكون قد بحثتَ فيه باعتباره فرداً، وإذا بحثتَ محمداً وخالداً وحسناً بما عنده من أمور فطرية طبيعية موجودة عند بني الإنسان طبيعياً فتكون قد بحثتَ فيه باعتباره إنساناً وإن كنت تبحث أشخاصاً معينين. ومن هنا كان إصلاح المجتمع إصلاحاً جذرياً إنّما يكون ببحث المجتمع باعتباره إنساناً وأفكاراً ومشاعر وأنظمة لا باعتباره فرداً. فالنظرة إذن نظرة إنسانية لا نظرة فردية حتى لو بُحثت في فرد معين.

هذا هو تعريف المجتمع، وهذه هي النظرة الصحيحة له. وهذا هو واقع المجتمع وواقع الجماعة وواقع الفرد. وبهذا يتبين أن خطأ النظرة إلى المجتمع ترتب عليها خطأ النظريات، وترتب عليها خطأ علم الاجتماع في جملته.

أمّا ما جاء في علم الاجتماع عن الجماعة من حيث الضعف العام في إدراك الأمور لها عن الفرد الواحد، ومن ناحية قربها لإثارة المشاعر أكثر من الفرد، فالصحة فيه ليست آتية من ناحية النظرة إلى المجتمع وإنّما هي آتية من حيث غلبة المعلومات الكثيرة المترددة على المعلومات الفردية فتتحكم بالحكم على الواقع، وآتية من حيث أن مظهر القطيع الذي يظهر في الجماعة يثير المشاعر لأنه من مظاهر غريزة البقاء.

وعلى ذلك فإن كل ما بُني على النظرة إلى المجتمع فهو فاسد، وما صح منه تكون صحته آتية من كونه ناتجاً عن سبب آخر لا عن النظرة إلى المجتمع. وعلى هذا فإن علم الاجتماع فاسد لأنه مبني على نظرة فاسدة وهي النظرة إلى المجتمع والفرد.

أمّا علوم التربية فهي مبنية على علم النفس ومتأثرة بنظريات علم الاجتماع، وناتجة عن ملاحظة أعمال الأفراد وأحوال الأطفال. وهذا يجعل علوم التربية مختلط فيها الصحيح بالفاسد، فما بُني على علم النفس وتأثر بعلم الاجتماع فهو فاسد. وفساده هذا أدى إلى الوقوع في أفكار تربوية فاسدة أدت إلى فساد مناهج التعليم وطرقه. فاعتبار الطفل غير قابل لبعض العلوم وقابلاً للبعض الآخر اعتبار فاسد، ولذلك كان تقسيم التعليم إلى علمي وأدبي وترك الشخص يختار حسب استعداده/ من أفسد الأمور. فهو مخالف للواقع ومُضِر في صالح الأمّة. واعتبار الشخص غير قابل لتعلم بعض العلوم وقابلاً لغيرها اعتبار فاسد أيضاً، وقد أدى إلى حرمان الكثيرين من تعلم بعض العلوم وحرمان الكثيرين من مواصلة التعليم.

أمّا ما بُني من علوم التربية على ملاحظة الأطفال وملاحظة أعمال الأفراد في ظروف وأحوال مختلفة، فإنّ ما كان منها موافقاً للواقع صحيح الاستنتاج كالتعب والراحة والنشاط الذهني وما شاكل ذلك، فإنه صحيح في جملته. وما كان منها غير موافق للواقع مثل تقسيم السنة إلى ثلاثة فصول وإعطاء أربعة أشهر عطلة للتلميذ، ومثل الامتحانات وما شاكلها فإنه خطأ في جملته. ومن هنا جاء خطأ النظريات التربوية وفساد علوم التربية في جملتها، وخاصة فيما بُني على علم النفس وتأثر بعلم الاجتماع.



الطريقة العلمية والطريقة العقلية



الطريقة العلمية هي منهج معين في البحث يُسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يُبحث عنه عن طريق إجراء تجارب على الشيء، ولا تكون إلاّ في بحث المواد المحسوسة، ولا يتأتى وجودها في بحث الأفكار. وهي تكون بإخضاع المادة لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وملاحظة المادة والظروف والعوامل الأصلية التي أُخضعت لها ثم تُستنتج من هذه العملية على المادة حقيقة مادية ملموسة، كما هي الحال في المختبرات.

وتفرض هذه الطريقة التخلي عن جميع المعلومات السابقة عن الشيء الذي يُبحث وعدم وجودها، ثم تبدأ بملاحظة المادة وتجربتها، لأنها تقتضيك إذا أردت بحثاً أن تمحو من نفسك كل رأي وكل إيمان سابق لك في هذا البحث وأن تبدأ بالملاحظة والتجربة ثم بالموازنة والترتيب ثم بالاستنباط القائم على هذه المقدمات العلمية، فإذا وصلت إلى نتيجة من ذلك كانت نتيجة علمية خاضعة بطبيعة الحال للبحث والتمحيص، ولكنها تظل علمية ما لم يثبِت البحث العلمي تسرب الخطأ إلى ناحية من نواحيها.

فالنتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العلمية هي مع تسميتها حقيقة علمية أو قانوناً علمياً فإنها ليست قطعية وإنّما هي ظنية فيها قابلية الخطأ. وقابلية الخطأ هذه في الطريقة العلمية أساس من الأساس التي يجب أن تلاحَظ فيها حسب ما هو مقرر في البحث العلمي. وقد حصل الخطأ في نتائجها بالفعل وظهر ذلك في كثير من المعارف العلمية التي تبيَّن فسادها بعد أن كان يُطلَق عليها حقائق علمية. فمثلاً الذرّة كان يقال عنها إنها أصغر جزء في المادة ولا تنقسم، فظهر خطأ ذلك وتبين بالطريقة العلمية نفسها أنها تنقسم.

وعلى هذا تكون الطريقة العلمية خاصة بالمادة لأن من أسسها الرئيسية التجربة على المادة بإخضاعها لظروف وعوامل غير ظروفها وعواملها الأصلية، وهذا لا يتأتى في الفكر إذ لا يمكن أن تجري عليه تجربة. وعلى هذا أيضاً تكون النتائج التي يُتوصل إليها في الطريقة العلمية نتائج ظنية وليست قطعية، وفيها قابلية الخطأ.

أمّا الطريقة العقلية فهي منهج معين في البحث يُسلك للوصول إلى معرفة حقيقة الشيء الذي يُبحث عنه عن طريق نقل الحس بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ ووجود معلومات سابقة يفسَّر بواسطتها الواقع، فيُصدر الدماغ حكمه عليه. وهذا الحكم هو الفكر أو الإدراك العقلي. وتكون في بحث المواد المحسوسة وفي بحث الأفكار، وهي الطريقة الطبيعية في الوصول إلى الإدراك من حيث هو، وعمليتها هي التي يتكون بها عقل الأشياء أي إدراكها، وهي نفسها تعريف للعقل، وعلى منهجها يصل الإنسان من حيث هو إنسان إلى إدراك أي شيء سبق أن أدركه أو يريد إدراكه.

إلاّ أن النتيجة التي يصل إليها الباحث على الطريقة العقلية يُنظر فيها: فإن كانت هذه النتيجة هي الحكم على وجود الشيء فهي قطعية لا يمكن أن يتسرب الخطأ إليها مطلقاً ولا بحال من الأحوال. وذلك لأن هذا الحكم جاء عن طريق الإحساس بالواقع، والحس لا يمكن أن يخطئ بوجود الواقع، إذ أن إحساس الحواس بوجود الواقع قطعي، فالحكم الذي يصدره العقل عن وجود الواقع في هذه الطريقة قطعي.

أمّا المغالطات التي تحصل فيخطئ فيها الحس مثل رؤية السراب وظنه أنه ماء ورؤية القلم الصحيح المستقيم وهو في كوب من الماء أنه مكسور أو أعوج، فليس خطأ في وجود الواقع وإنّما هو خطأ في صفات الواقع، فهو لم يخطئ في وجود شيء وهو السراب أو القلم، وإنّما أخطا في صفة الشيء فقال عن السراب إنه ماء وعن القلم الصحيح المستقيم إنه مكسور أو أعوج.

وهكذا في جميع الأشياء مهما حصلت فيها من مغالطات، فإن الحس لا يمكن أن يخطئ في وجودها، فهو حين يحس بوجود شيء يكون هذا الشيء موجوداً قطعاً، والحكم على وجوده يكون قطعياً. أمّا إن كانت النتيجة هي الحكم على حقيقة الشيء أو صفته فإنها تكون نتيجة ظنية فيها قابلية الخطأ، لأن هذا الحكم جاء عن طريق المعلومات أو تحليلات الواقع المحسوس مع المعلومات، وهذه يمكن أن يتسرب إليها الخطأ ولكنها تبقى فكراً صائباً حتى يتبين خطؤها وحينئذ فقط يُحكم عليها بالخطأ، وقبل ذلك تبقى نتيجة صائبة وفكراً صحيحاً.

أمّا البحث المنطقي فليس طريقة في التفكير وإنّما هو أسلوب من أساليب البحث المبنية على الطريقة العقلية، لأن البحث المنطقي هو بناء فكر على فكر بحيث يُنتهى إلى الحس والوصول عن طريق هذا البناء إلى نتيجة معينة مثل: لوح الكتابة خشب، وكل خشب يحترق، فتكون النتيجة أن لوح الكتابة يحترق. ومثل: لو كان في الشاة المذبوحة حياة لتحركت لكنها لم تتحرك، فتكون النتيجة أنه لا توجد في الشاة المذبوحة حياة، وهكذا. فقد قرنت في المثال الأول فكرة كل خشب يحترق مع فكرة لوح الكتابة خشب، فنتج عن هذا الاقتران أن لوح الكتابة يحترق. وقرن في المثال الثاني كون الشاة المذبوحة لم تتحرك مع فكرة أن الحياة في الشاة تجعلها تتحرك، فنتج عن هذا الاقتران أن الشاة المذبوحة لا توجد فيها حياة.

فهذا البحث المنطقي إذا كانت قضاياه التي تتضمن الأفكار التي جرى اقترانها صادقة، تكون النتيجة صادقة، وإذا كانت كاذبة تكون النتيجة كاذبة. وشرط المقدمات أن تنتهي كل قضية منها إلى الحس، ولذلك ترجع إلى الطريقة العقلية ويحكم فيها الحس حتى يُفهم صدقها. ومن هنا كانت أسلوباً من الأساليب المبنية على الطريقة العقلية وفيها قابلية الكذب وفيها قابلية المغالطة، وبدل أن يُختبر صدق المنطق بالرجوع إلى الطريقة العقلية فالأوْلى أن تُستعمل الطريقة العقلية في البحث ابتداءً وأن لا يُلجأ إلى الأسلوب المنطقي. وإن كان يمكن أن يُستعمل إذا صحت قضاياه بإرجاعها إلى الطريقة العقلية.

وعلى هذا فإن للتفكير طريقتين اثنتين فقط هما: الطريقة العلمية والطريقة العقلية. والأولى تفرض التخلي عن المعلومات السابقة، والثانية تحتم وجود المعلومات السابقة. والطريقة العقلية هي الأساس في التفكير وبها وحدها ينشأ الفكر، وبدونها لا ينشأ فكر ولا يتأتى أن توجد الطريقة العلمية ولا الأسلوب المنطقي ولا غير ذلك. فبواسطة الطريقة العقلية يوجد إدراك الحقائق العلمية بالملاحظة والتجربة والاستنتاج؛ وبواسطتها يوجد إدراك الحقائق المنطقية في المنطق وما شابهه؛ وبواسطتها يوجد إدراك حقائق التاريخ وتمييز الخطأ من الصواب فيها؛ وبواسطتها توجد عند الإنسان الفكرة الكلية عن الكون والإنسان والحياة، وعن حقائق الكون والإنسان والحياة.

أمّا الطريقة العلمية فإنها لا يمكن أن توجَد ولا يتأتى أن تكون إلاّ إذا بُنيت على الطريقة العقلية وعلى ما ثبت بالطريقة العقلية. فمن الطبيعي، ومن المحتم، أن لا تكون هي أساساً للتفكير. على أن الطريقة العلمية تقضي بأن كل ما لا يُلمس مادياً لا وجود له في نظر الطريقة العلمية، وإذن لا وجود للمنطق ولا للتاريخ وغيرهما، لأن ذلك لم يثبت علمياً، أي لم يثبت عن طريق ملاحظة المادة وتجربتها والاستنتاج المادي للأشياء الملموسة، وهذا هو الخطأ الفاحش، لأن العلوم الطبيعية فرع من فروع المعرفة، وفكر من الأفكار، وباقي معارف الحياة كثيرة، وهي لم تثبت بالطريقة العلمية، بل تثبت بالطريقة العقلية، ولذلك لا يجوز أن تُتخذ الطريقة العلمية أساساً للتفكير. والذي يجب أن يُتخذ أساساً للتفكير هو الطريقة العقلية وحدها.

على أن هذا لا يعني أن الطريقة العلمية طريقة خاطئة، بل الخطأ هو جعلها أساساً للتفكير، لأن جعلها أساساً لا يتأتى إذ هي ليست أصلاً يُبنى عليها وإنّما هي فرع بُني على أصل، ولأن جعلها أساساً يُخرِج أكثر المعارف والحقائق عن البحث، ويؤدي إلى الحكم على عدم وجود كثير من المعارف التي تُدرس والتي تتضمن حقائق مع أنها موجودة بالفعل، وملموسة بالحس والواقع.

على أن الطريقة العلمية ظنية وقابلية الخطأ فيها أساس من الأسس التي يجب أن تلاحَظ فيها، فلا يجوز أن تُتخذ أساساً للتفكير. وذلك أن الطريقة العلمية توجِد نتيجة ظنية عن وجود الشيء وعن صفته. وأمّا الطريقة العقلية فإنها تُعطي نتيجة قطعية عن وجود الشيء وعن وجود صفات معينة له. وإن كانت تعطي نتيجة ظنية عن كنه الشيء وحقيقة صفته، فهي من حيث حكمها على وجود الشيء ووجود صفات معينة له قطعية يقينية فيجب أن تُتخذ هي أساساً للبحث باعتبار أن نتائجها قطعية. وعلى هذا فلو تعارضت نتيجة عقلية مع نتيجة علمية عن وجود الشيء وعن وجود صفة معينة له، تؤخذ النتيجة العقلية حتماً، وتُترك النتيجة العلمية التي تتعارض مع النتيجة العقلية، لأن القطعي هو الذي يؤخذ لا الظني.

ومن هنا كان الخطأ الموجود في العالِم هو اتخاذه للطريقة العلمية أساساً للتفكير، وجعلها حكماً في الحكم على الأشياء، فيجب أن يصحح هذا الخطأ، ويجب أن تصبح الطريقة العقلية هي أساس التفكير وهي التي يُرجع إليها في الحكم على الأشياء.

rajaab
20-05-2005, 11:10 PM
الوعي السياسي



الوعي على الأوضاع السياسية أو على الموقف الدولي أو على الحوادث السياسية غير الوعي السياسي. لأن الوعي على الأوضاع السياسية أو الموقف الدولي أو الحوادث السياسية هو تدبّرها، أمّا الوعي السياسي فهو تدبر الإنسان لرعاية شؤونه. والوعي السياسي هو النظرة إلى العالم من زاوية خاصة. فالنظرة إلى العالم من غير زاوية خاصة تعتبر سطحية وليس وعياً سياسياً، والنظرة إلى المجال المحلي وحده تفاهة وليس وعياً سياسياً. ولا يتم وجود الوعي السياسي إلاّ إذا توفر فيه عنصران: أحدهما أن تكون النظرة إلى العالم كله، والثاني أن تنطلق هذه النظرة من زاوية خاصة محددة، أياً كانت هذه الزاوية، سواء أكانت مبدأ معيناً أو فكرة معينة. إلاّ أن الزاوية الخاصة إن كانت مبدأ تجعل الوعي السياسي ثابتاً آخذاً طريقه في اتجاه غاياته كلها نحو غاية واحدة لا يتحول عنها ويكسب العراقة والتركيز في نفس الأمّة لا في نفس أفراد فحسب.

والوعي السياسي يحتم طبيعياً خوض النضال في سبيل تكوين مفهوم معين عن الحياة لدى الإنسان من حيث هو إنسان، في كل مكان. وتكوين هذا المفهوم هو المسؤولية الأولى التي ألقيت على كاهل الواعي سياسياً والتي لا تنال الراحة إلاّ ببذل المشقة لأدائها.

والواعي سياسياً يتحتم عليه أن يخوض النضال ضد جميع الاتجاهات التي تناقض اتجاهه وضد جميع المفاهيم التي تناقض مفاهيمه، في الوقت الذي يخوض فيه النضال لتركيز مفاهيمه وغرس اتجاهاته، فإنه لا ينفصل أحدهما عن الآخر في النضال قيد شعرة. ويدخل في ذلك النضال ضد المطاعن التي تهاجم مفهومه عن الحياة وضد مفاهيم الأعماق التي جاءت من العصور الهابطة، وضد التأثير الرأسمالي الذي يتمكن منه بواسطة تحقيق الطلبات الآنية، وضد اختصار الغايات السامية بغايات جزئية.

والوعي السياسي لا يعني الإحاطة بما في العالم ولا الإحاطة بالمبدأ أو بما يجب أن يُتخذ زاوية خاصة للنظرة إلى العالم، وإنّما يعني فقط أن تكون النظرة إلى العالم مهما كانت معارفه عنه قليلة أو كثيرة، وأن تكون هذه النظرة من زاوية خاصة مهما كانت معرفته بهذه الزاوية قليلة أو كثيرة. فمجرد وجود النظرة إلى العالم من زاوية خاصة تدل على وجود الوعي السياسي، وإن كان يتفاوت هذا الوعي قوة وضعفاً بتفاوت المعارف للعالم وللزاوية، لأن المقصود من النظرة إلى العالم يتركز في النظرة إلى الإنسان الذي يعيش في العالم، والمقصود من النظرة من زاوية خاصة يتركز في مفهومه عن الحياة الذي اتخذه زاوية خاصة. وعلى هذا فالوعي السياسي ليس خاصاً بالسياسيين والمفكرين، وإنّما هو عام وممكن إيجاده في العوام والأميين كما يمكن إيجاده في العلماء والمتعلمين، بل يجب إيجاده ولو إجمالاً في الأمّة بجملتها، لأنه بدون هذا الوعي السياسي عند الأمّة، بل عند أي فرد، لا يمكن إدراك قيمة الأفكار التي لديه في حياة الأمّة.

والوعي السياسي هو الحاجة الملحة التي لا غنى عن سدّها وتأمينها لدى الأمّة الإسلامية. وبدون هذا الوعي السياسي لا يمكن إدراك قيمة الإسلام في حياة الأفراد والمجتمع، ولا يمكن ضمان سير الأمّة مع حملة الدعوة الذين يكافحون الكفر ويكافحون الاستعمار سيراً دائمياً في جميع الظروف في الانتصار والهزيمة سواء.

وبدون الوعي السياسي تتعطل فضائل الإسلام، وبدون الوعي السياسي تزداد حالة الأمّة سوءاً وتنقطع أسباب الرقي عنها وتُهدر كل الجهود التي تُبذل في إنهاضها. وبدون الوعي السياسي عند المسلمين بوصفهم مسلمين، يُسرع الانقراض إلى الإسلام ويزداد خطر الإبادة للمسلمين وتنعدم الطرق والوسائل التي تمكّن من استئناف الحياة الإسلامية وحمل الدعوة الإسلامية. فوجود الوعي السياسي مسألة في منتهى الضرورة للأمّة الإسلامية وهي دون مبالغة مسألة حياة أو موت.

ووجود أفراد في الأمّة يتمتعون بالوعي السياسي لا يمكن أن يجنّب الأمّة الكارثة ولا أن يحفظها من الانزلاق، مهما كثر عدد الأفراد الواعين في الأمّة، ما داموا أفراداً، بل لا بد أن تجرفهم الكارثة مع الأمّة وأن يشهدوا انزلاقها ويصطلوا بنار هذا الانزلاق. بل يجب أن يوجد الوعي في الأمّة بمجموعها وإن كان لا ضرورة لأن يوجد في جميعها.

لذلك لا بد من أن ينفَق من الجهد أقصى حد في إيجاد الوعي السياسي لدى الأمّة بقدر ما ينفَق من جهد في إيجاد المفاهيم الإسلامية وإذكاء المشاعر الإسلامية، فإيجاد الشعور بحاجة العالم إلى الإسلام لهدايته يجب أن ينبثق عن الشعور بحاجة الأمّة إلى الإسلام، وأن يغذّى هذا بتفهيم الناس الإسلام وإثارة مشاعرهم له. أي يجب أن ينفَق الجهد لأن تنظر الأمّة إلى العالم من زاوية الإسلام حتى تتركز هذه النظرة ولو إجمالاً في جمهرة الناس وأن يلاحَظ هذا الأساس عند بذل الجهد لتفهيم الإسلام وإثارة الشوق إليه.

إن أول ما يجب أن يلاحَظ أن الوعي الذي يثمر يتميز بنظرة شاملة إلى مصلحة العالم من زاوية الإسلام. ويجب أن تعتقد الأمّة بمجموعها أن إنقاذ العالم بدون الإسلام مستحيل، وأن تدرك الأمّة ولو إجمالاً أن إيجاد الإسلام في معترك الحياة في المجتمع بدون الدولة الإسلامية خيال. ويجب أن يكون واضحاً لدى الذين نما لديهم الوعي السياسي وتفتّح أن تحقيق الدولة الإسلامية بدون الأمّة الإسلامية وهْم، وأن جعل الأمّة تحقق الدولة الإسلامية دون الوعي السياسي أكثر خيالاً وأشد وهماً.

ويظهر الوعي السياسي في الأمّة إذا ظهرت نظرتها إلى العالم من زاوية الإسلام، ولكن الفرد لا يظهر عليه الوعي السياسي إلاّ إذا نما هذا الوعي وتفتّح. ومن هنا تجد من الصعوبة أن تدرك على الشخص أنه واعٍ سياسياً إذا لم يتمثل مثل هذا الوعي فيه بشكل ظاهر. والواعي سياسياً لا يمكن أن يؤخذ بالألفاظ أو بالأسماء أو بالألقاب، ويحذر دوماً أن يكون ذهنه فريسة الدعايات والإعلانات. ويتحاشى أن يضيع عن الوقائع أو يضل في تحري الحقيقة عن الغاية التي يُعمل لها.

والميزة التي يتمتع بها الواعي سياسياً هي الحذر في تلقي الأنباء والآراء من أن يعلق بها شيء مهما بلغت تفاهته. أي أن يأخذ كل شيء في حالة وعي وهو يفكر في حقيقته وفي موقعه من الغاية التي يُعمل لها.

وليحذر الواعي سياسياً من تسلط ميوله على الآراء أو الأنباء. فرغبات الناس لشيء ذاتي أو حزبي أو مبدئي قد يفسِّر الرأي أو النبأ أو قد يضفي عليه ما يجعله يخيل إلى الرائي أنه صدق وهو كذب، أو يخيل إليه أنه كذب وهو صدق. ولذلك لا بد من أن يتبين الواعي الكلام الذي يقال والعمل الذي يُعمل. ولا يكفي أن يدرك ذلك هو، بل الواعي سياسياً هو الذي يدرك الأشياء ويعلنها للناس حتى توضع على بساط البحث والمناقشة وحتى يعمل على إيجاد الوعي عند الأمّة في مجموعها فتتعوّد أن لا تؤخذ بالألفاظ وتتعود على تنقيح الآراء والأنباء.

ولا يصح اعتبار المرء واعياً وعياً سياسياً إذا كان يقول شيئاً ويعمل بخلافه، أو يرى رأياً ولا يجهد في تطبيقه. إن إيمان الواعي بمبدأ أو بفكرة وعياً سياسياً يتمثل في أفعاله لا في خطاباته وكتاباته ولا في أحاديثه ومناقشاته. فإذا لم تتجسد أفكاره في أعمال وآثار حق له ولغيره أن يشك في وعيه أو في صحة وعيه على الأقل. فالواعون أفراداً كانوا أو جماعات أو كتلة، لا يتأكد وعيهم إلاّ بالعمل ولا يظهر صدقهم إلاّ بالإقدام والتضحية. وهذي هي العلامة الفارقة للوعي السياسي الصحيح لأن معنى كونه وعياً هو كونه تدبراً، ومعنى كونه سياسياً، هو كونه يرعى شؤونه كلها وشؤون أمّته على أساس هذا الوعي.

ولذلك كان اصطدام الواعين بالقضايا في احتكاكهم بالواقع والناس ومشاكل الحياة المباشرة أمراً حتمياً، لا فرق في ذلك بين الصعيد المحلي الداخلي والصعيد الدولي العالمي. وفي هذا الاصطدام تبرز المقدرة على جعل الرسالة التي يحملها أو الزاوية الخاصة التي ينظر إلى العالم منها هي الأساس وهي الحكم، وهي الغاية التي يسعى إليها. ولا فرق في ذلك بين الأفراد وبين الأمّة، فعمل الأمّة بما تقتضيه الزاوية الخاصة التي تنظر إلى العالم منها أمر حتمي كعمل الفرد، وتصديقها بها أمر حتمي كالفرد، واصطدامها بالقضايا واحتكاكها بالمشاكل أمر حتمي أيضاً كالفرد حتى يصح اعتبار وجود الوعي السياسي لديها. ولهذا يجب أن تتأصل في نفوس الأمّة كمجموعة واحدة، ثلاث خصال:

إحداها: الاهتمام بمصالح الأمّة اهتماماً تاماً بشكل آلي بديهي، فيقول المسلم في دعائه: "اللهم ارحم الأمّة الإسلامية" كما يقول: "اللهم ارحمني"، ويسأل: هل انتصر الجيش، قبل أن يسأل عن ابنه في الجيش.

ثانيها: وحدة الرأي والانتظام تجاه ما يجب القضاء عليه، وتجاه ما يجب تأييده من أفكار وأعمال وأشخاص. أي تجاه ما يجب بناؤه وتجاه ما يجب هدمه.

ثالثها: جعل الطاعة سجية من السجايا، والتمرد رذيلة مستقبَحة ومستنكَرة. ولا يسمى الخضوع للعدو طاعة ولا الوقوف في وجه الطغيان تمرداً، وإنّما الطاعة تنفيذ أمر من له الصلاحية بخضوع ورغبة ورضا واطمئنان، والتمرد عكسه.



القوة الروحية أكثر القوى تأثيراً



يندفع الإنسان للقيام بالعمل بمقدار ما يملك من قوى، وكلما كانت قواه أكثر كان اندفاعه أكثر. ويكون مقدار ما يحققه من أعمال بمقدار ما يملكه من قوى. غير أن الإنسان يملك قوى متعددة، فيملك قوى مادية تتمثل في جسمه والوسائل التي يستعملها لإشباع شهواته، ويملك قوى معنوية تتمثل في الصفات المعنوية التي يهدف إلى الاتصاف بها، ويملك قوى روحية تتمثل في إدراكه لصلته بالله أو شعوره بها أو بهما معاً. ولكل قوة من هذه القوى الثلاث أثر في قيام الإنسان بالعمل. إلاّ أن هذه القوى ليست متساوية في التأثير في الإنسان بل تتفاوت تأثيراً على الإنسان. فالقوى المادية أضعفها تأثيراً والقوى المعنوية أكثر تأثيراً من القوى المادية. أمّا القوى الروحية فهي أكثرها تأثيراً وأشدها فعالية.

وذلك أن القوى المادية من جسمية أو وسيلة تدفع لإرضاء شهوة صاحبها إلى العمل بمقدار تقديره لها ليس أكثر. وقد لا تدفعه إلى العمل مطلقاً مع توفرها لأنه لا يجد حاجة لهذا العمل. وعلى هذا فهي قوى محدودة الاندفاع ووجودها وحده لا يحتم الاندفاع إلى العمل. فالإنسان حين يريد أن يحارب عدوه يزن قواه الجسمية ويبحث وسائله المادية، فإذا وجد فيها الكفاية لمحاربة عدوه أقدم وإلاّ أحجم وتراجع. وقد يجد قواه كافية لسحق عدوه ولكن يتوهم أنه قد ينتصر بمن هو أقوى منه فيجبُن، أو يرى أن صرف قواه في رفاهة نفسه أو رفع مستوى عيشه فيتقاعس. فمحاربة العدو عمل يريد أن يقوم به الإنسان، ولكن لمّا كان يريد أن يندفع لذلك بمقدار ما يملك من قوى مادية صار اندفاعه محدوداً بها وصار متردداً في القيام بالعمل مع توفرها حين عرضت له عوارض بعثت فيه الجُبن أو التقاعس.

وهذا بخلاف القوى المعنوية فإنها تبعث في النفس تيار القيام بالعمل أولاً ثم تسعى للحصول على القوى الكافية للقيام به دون أن تقف عند حد قواها الموجودة، وقد تندفع بأكثر مما تملك من قوى مادية عادة، وقد تقف عند حد ما وصلت إلى جمعه من قوى. وعلى أي حال فهي تقوم بأكثر مما تملك من قوى مادية، وذلك كمن يريد أن يحارب عدوه لتحرير نفسه من سيطرته أو للأخذ بالثأر أو للشهرة أو انتصاراً للضعيف أو ما شاكل ذلك، فإنه يندفع أكثر ممن يحارب عدوه للغنيمة أو للاستعمار أو لمجرد السيطرة أو ما شابه ذلك. والسبب في هذا هو أن القوى المعنوية هي دافع داخلي مربوط بمفاهيم أعلى من المفاهيم الغريزية ويتطلب إشباعاً معيناً فتندفع القوى لإيجاد الوسائل لهذا الإشباع فتسيطر على المفاهيم الغريزية وتسخر القوى المادية، وبذلك تصبح لها هذه القوى التي تفوق القوى المادية.

ومن هنا كانت دول العالم كله تحرص على إيجاد القوى المعنوية لدى جيوشها مع استكمال القوى المادية.

أمّا القوى الروحية فإنها أقوى تأثيراً في الإنسان من القوى المعنوية والقوى المادية، لأن القوى الروحية تنبعث من إدراك الإنسان صلته بالله خالق الوجود وخالق القوى. وهذا الإدراك العقلي أو الشعور الوجداني بهذه الصلة بالله يجعل اندفاع الإنسان بمقدار ما يطلب منه الخالق، لا بمقدار ما يملك من قوى، ولا بمقدار ما يمكنه أن يجمع من قوى، بل بمقدار ما يُطلب منه مهما كان هذا الطلب سواء أكان بمقدار قواه أم أكثر أم أقل، فقد يكون الطلب تقديم حياته صراحة، أو قد يكون مؤدياً إلى تقديم حياته، فإنه يقوم بالعمل وإن كان أكثر مما يملك من قوى وأكثر مما يجمع من قوى. ومن هنا كانت القوى الروحية أكثر تأثيراً من جميع القوى التي لدى الإنسان.

إلاّ أن هذه القوى الروحية إن كانت ناجمة عن شعور وجداني فقط فإنه يُخشى عليها من الهبوط والتغير بسبب تغلب مشاعر أخرى عليها أو تحولها بالمغالطة إلى أعمال أخرى غير التي كانت مندفعة لها. ولذلك كان لزاماً أن تكون القوى الروحية ناجمة عن إدراك وشعور يقينيين بصلة الإنسان بالله، وحينئذ تثبُت هذه القوى ويظل تيارها مندفعاً بمقدار ما يُطلب منها دون تردد. وإذا وُجدت القوى الروحية لم يصبح أي أثر للقوى المعنوية لأن الإنسان حينئذ لا يقوم بالعمل بدافعها بل بدافع القوى الروحية فقط، إذ لا يحارب عدوه لأخذ غنيمة ولا لفخر النصر، بل يحاربه لأن الله طلب منه ذلك، سواء حصلت له غنيمة أم لم تحصل، نال فخر النصر أو لم يعلم به أحد، لأنه لم يقم بالعمل إلاّ لأن الله طلب منه ذلك. أمّا القوى المادية فإنها تصبح وسائل للعمل لا قوى دافعة عليه.

وقد حرص الإسلام على جعل القوى الدافعة للمسلم قوى روحية حتى ولو كانت مظاهرها مادية أو معنوية، إذ جعل الأساس الروحي هو الأساس الوحيد للحياة الدنيا كلها. فجعل العقيدة الإسلامية أساس حياته، والحلال والحرام مقياس أعماله، ونوال رضوان الله غاية الغايات التي يسعى إليها. وحتم عليه أن يقوم بأعماله كلها صغيرها وكبيرها بحسب أوامر الله ونواهيه بناء على إدراك صلته بالله تعالى. فإدراك الصلة بالله والشعور بها إدراكاً وشعوراً يقينيين هو الأساس الذي تقوم عليه حياة المسلم، وهو القوى التي تدفعه للقيام بأي عمل صغُر أم كبُر. فهو الروح التي تقوم بها حياته الدنيوية في جميع أعماله، وبمقدار ما يملك من هذا الإدراك والشعور يكون مقدار ما عنده من قوى روحية. ولذلك كان واجباً على المسلم أن يجعل قواه هي القوى الروحية، فهي كنزه الذي لا يفنى وهي سر نجاحه وانتصاره.



الأسلوب الفكري والأسلوب الأدبي



أسلوب الكتابة هو معانٍ مرتبة في ألفاظ منسقة، أو هو كيفية التعبير لتصوير ما في نفس المتكلم من معانٍ بالعبارات اللغوية. فالصورة اللفظية وإن كانت هي الظاهرة في الأسلوب ولكنها لا يمكن أن تحيا مستقلة عن المعاني، وإنّما يرجع الفضل في نظامها اللغوي الظاهر إلى نظام آخر من المعاني انتظم وتألف في نفس الكاتب أو المتكلم، فكان بذلك أسلوباً معيناً، ثم تكوّن التآلف اللفظي على مثاله وصار ثوبه الذي لبسه.

ويتطلب الأسلوب من الكاتب أو المتكلم أن يكون فاهماً لما يريد أداءه فهماً دقيقاً جلياً ثم يحرص على أدائه كما هو، ولذلك أثره البعيد في قيمة الأسلوب. وبعد ذلك يأتي التعبير اللغوي الذي يتطلب من المنشئ ثروة لغوية وقدرة على التصرف في التراكيب والعبارات والكيفية التي يريد أداء الأفكار بها، كما يتطلب الأسلوب من المتكلم أن يكون هو نفسه متأثراً منفعلاً قد أدرك الحقائق وحرص على إذاعتها. فيجب أن يوقظ عقله ومشاعره وأخيلته لتدرك المعاني بقوة، ثم بعد ذلك تأتي قوة التعبير باختيار الألفاظ التي تؤدي المعاني بما يتلاءم مع المعنى. فالمعنى الرقيق يؤتى له باللفظ الرقيق والمعنى الفخم يؤتى له باللفظ الفخم، وهكذا. وفوق ذلك فإن الأسلوب يتطلب من الكاتب أو المتكلم أن يدرك ما في المعاني من عمق واستنارة وما يتصل فيها من أسرار جميلة إدراكاً حاداً رائعاً، ثم بعد ذلك يختار أصفى العبارات وأليقها بهذا الخيال الجميل أو المعنى البديع مبتعداً عن الألفاظ الخشنة والمتنافرة التي تؤذي الحس والذوق.

هذا هو الأسلوب وهذا ما يتطلبه. ومنه يتبين أن المراد من الكتابة أو التكلم إنّما هو أداء المعاني التي لدى الكاتب أو المتكلم للقارئ أو السامع. ومن هنا كان الأصل في التعبير إنّما هو المعاني ثم تأتي بعد ذلك الألفاظ التي تؤدي هذه المعاني كما هي لدى الكاتب أو المتكلم. فالمسألة إذن تنحصر في أمرين: المعاني والألفاظ التي تؤدى بها هذه المعاني؛ ومن هنا اختلفت عناية الكتّاب والمتكلمين بالمعاني والألفاظ، فمنهم من وجّه عنايته إلى المعاني أولاً وأخضع الألفاظ إلى الدقة في أدائها، ومنهم من وجّه عنايته إلى الألفاظ أولاً وتساهل في دقة أداء المعاني في سبيل الألفاظ. ولذلك انقسم الأسلوب في الكتابة والتكلم إلى قسمين اثنين: أحدهما فكري والآخر أدبي، ولكل منهما نسيج خاص يخالف الآخر.

أمّا الأسلوب الفكري فإن الكاتب أو المتكلم يختار الأفكار التي يريد أداءها لجدّتها أو أو قيمتها أو ملاءمتها لمقتضى الحال، ثم يرتب هذه الأفكار ترتيباً معقولاً ليكون ذلك أدعى إلى فهمها وحسن ارتباطها في ذهن القارئ، وأخيراً يعبر عنها بالألفاظ اللائقة بها. والأسلوب الفكري فيه الانفعال طبيعي أساسي صادر من نفس صادقة، والمعارف العقلية هي الأساس الأول في بنائه، ولا يظهر فيه أي أثر لصنعة الانفعال، وعنايته إنّما هي باستقصاء الأفكار، وهو لغة العقل. والغرض منه أداء الحقائق قصد التعليم وخدمة المعرفة وإنارة العقول. وتمتاز عبارته بالدقة والتحديد والاستقصاء. والأصل فيه هو قيامه على العقل ونشر الحقائق الفكرية والمعارف التي يحتاج الوصول إليها إلى جهد وتعمق. وهو في جملته يتكون من عنصرين أساسيين: أحدهما الأفكار والثاني العبارات.

والأسلوب الأدبي نجد الكاتب أو المتكلم فيه لا يقف عند حد الحقائق والمعارف ولا يجعل قصده تغذية العقل بالأفكار وإنّما يقرب هذه الحقائق ويختار أهمها وأبرزها الذي يستطيع أن يجد فيه مظهراً لجمال ظاهر أو خفي أو معرّضاً لعِظة واعتبار أو داعياً لتفكير أو تأثير. ثم يفسر ما اختاره تفسيراً خاصاً به بما يخلع عليه من نفسه المتعجبة أو المتعظة أو الراضية أو الساخطة، ثم يحاول نقل هذا الانفعال أو إثارة مثله إلى نفوس القراء والسامعين ليكونوا متعجبين أو مغتبطين، راضين أو ساخطين.

والأسلوب الأدبي فيه صنعة الانفعال والعناية بإظهار هذا الانفعال في المعاني والألفاظ التي يؤدي بها أفكاره، والاهتمام فيه منصب على قوة الانفعال وهو لغة العاطفة والمشاعر، والغاية فيه هي إثارة القراء والسامعين، وذلك بعرض الحقائق رائعة جميلة كما يتصورها الكاتب، أو كما يجب أن يتصورها السامعون والقراء. ويقصد فيه أن تتصف عبارته بالتفخيم والتعميم والوقوف عند مواطن الجمال والتأثير. ويتميز بقوة العاطفة التي تؤثر في عباراته تأثيراً واضحاً يبدو في الكلمات والصور والتراكيب. وهو في جملته يتكون من ثلاثة عناصر: أحدها الأفكار، والثاني الصور التي يؤلفها، والثالث العبارات التي يصوغ بها الأفكار والصور.

rajaab
20-05-2005, 11:12 PM
أمّا قوة الأسلوب ووضوحه وجماله فهي تكون بالأسلوب الفكري كما تكون في الأسلوب الأدبي ولا تختص بأسلوب معين، فهي صفة للأسلوب من حيث هو، سواء أكان أدبياً أم فكرياً. ومن هنا نجد أن كثيراً من الأساليب الفكرية بلغ فيها وضوح الأسلوب وجماله وقوته ما جعلها تفوق كثيراً من الأساليب الأدبية تأثيراً. والأسلوب الفكري يتحتم في تعليم الناس الأفكار وتفهيمهم إياها وإيجاد التصديق بها لديهم، ولا يؤدى ذلك إلاّ بالأسلوب الفكري وهو أيضاً يفيد بإثارة المشاعر للعمل بالأفكار التي فهمها، ولكن إثارته بطيئة وتحتاج إلى وجود إدراك للفكر حتى تثور المشاعر؛ إلاّ أن المشاعر التي توجد في هذا الأسلوب مشاعر دائمية لا تخبو إلاّ إذا فُقد التصديق بالفكر الذي أثارها.

بخلاف الأسلوب الأدبي فإنه لا يفيد إلاّ باثارة المشاعر وهو يتحتم لتحريض الناس على العمل. وهو وإن كان يعلّم السامع والقارئ حقائق ولكنه يعلّم الحقائق السطحية والمعارف التافهة ولا قدرة له على أداء الأفكار العميقة، وإذا أن يؤديها فإنه يبسطها وينفشها ويتصرف بها فيذهب عنها عمقها ومعانيها فتسخف.

ولذلك لا يمكن أن تؤدى أفكار المبادئ والفلسفة والتشريع والعلوم التجريبية وما شاكلها إلاّ بالأسلوب الفكري، ولا يمكن أن يؤدى الشعر والخطابة وما شابهها إلاّ بالأسلوب الأدبي. فالأسلوب الفكري يتحتم لأداء الفكر، والأسلوب الأدبي يتحتم لاثارة الناس وتحريضهم على العمل الذي يراد منهم.

ومن هنا تجد الأسلوب الفكري يفشو في الأمّة وهي في حال نهضتها وعنفوان سيرها التصاعدي؛ والأسلوب الأدبي يفشو في الأمّة وهي سطحية التفكير أو في حالة الترف. ولذلك نجد العصر الذي بُعث فيه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد ضعُف فيه الشعر وقل النثر الأدبي، وفشا الأسلوب الفكري في الخطب والأحاديث، وكان القرآن الكريم أروع مثل في الأسلوب الفكري وكان أكثره من هذا الأسلوب، وإن كان قد حوى أروع ما في الأسلوب الأدبي ولكنه يلتزم ما يُلتزم في الأسلوب الفكري من الدقة والتحديد.

والأمّة الإسلامية في هذا العصر قد دبّت فيها أحاسيس النهضة فهي في حاجة إلى الأسلوب الفكري لأداء الحقائق للناس وجعل مشاعرهم المثارة للعمل بها دائمية وإن كنا لا نستغني عن الأسلوب الأدبي في تحريض الناس على العمل، ولكن بعد وضع الفكر الذي نريد منهم أن يعملوا به في أذهانهم وتركيز تصديقهم به.

إنتهى الكتاب

سهم الاسلام
20-05-2005, 11:15 PM
السلام عليكم , بارك الله فيك ,
أخي الفاضل : rajaab .
وفقك الله وأنار لك بصيرتك وزادك علماً ونوراً أخي في الله .
و السلام