rajaab
01-02-2006, 03:53 PM
هل يجوز تعدد الحركات التي
تدعو إلى الإسلام؟
الآن يوجد على ساحة العمل كثيرٌ من الطروحات التي لم تقم على أساس صحيح، وكثير من الجماعات التي لا يصح أن يطلق عليها أنها الجماعات المستوفية للشروط المطلوبة شرعاً. وما هي إلاّ عبارة عن تجمعات لمسلمين ارتضت العمل الجزئي الذي لا يعالج حتى المشاكل الجزئية، وغفلت عن رؤية شرعية متكاملة. وبالتالي لم تحمل الإسلام حملاً من شأنه إيصال الإسلام كاملاً إلى واقع حياة الأمة الإسلامية. وتعددت هذه الجماعات حتى وصلت في البلد الواحد إلى المئات، وأضحت دكاكين ومزارع تستنفذ الجهود وتضيع على المسلمين التوجه والعمل الصحيحين. ومع وجد هذه الكثرة الملفتة لهذه الجماعات ( الجمعيات ) بقي القليل القليل من الحركات التي تتصف بالرؤية البعيدة لأهداف الإسلام والعمل على تحقيقها. ولو أسقطنا من حساباتها هذه المزارع والدكاكين، وجعلنا النظر ينصبّ فقط على الجماعات الكبيرة ذات الرؤية البعيدة والعمل المتكامل، فهل المطلوب شرعاً: هو وجود جماعة واحدة تستوعب العمل كله وتؤدي المطلوب؟ أو يجوز شرعاً تعدد الجماعات العاملة للتغيير ضمن الأصول الشرعية؟ وما هي النظرة الصحيحة لجزئية العمل أو تكامله وتوازنه؟ أو لإقليمية الطرح وعالميته؟.
إن وحده العمل الإسلامي أو تعدده أخذت حيزاً لا بأس به بين الأخذ والرد، فمنهم من يوجب وحدة العمل الإسلامي في التغيير. ومنهم من يجيز التعدد. ولو رددنا فروع البحث إلى أصوله لاستطعنا تمييز الأدلة الشرعية عن التبريرات. ولتبين لنا الغث من السمين.
فلو نظرنا إلى الرأي الذي يوجب وحدة العمل الإسلامي لرأينا الوجوب عنده يندرج تحت عنوانين:
العنوان الأول: وحدة العمل الإسلامي فريضة شرعية.
العنوان الثاني: وحدة العمل الإسلامي ضرورة حركية.
1 – أما اعتباره فريضة شرعية فللأدلة التالية.
أ – الأصل وحدة المسلمين ووحدة الأمة: لقوله تعالى: ]إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[ وقوله تعالى: ] وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[ وقوله r: «مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [رواه البخاري ومسلم وأحمد].
ب – الأصل الحض على الوحدة والنهي عن الاختلاف: لقوله تعالى: ]وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ ولقوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[.
ج – الأصل التزام جماعة لا جماعات.
لقوله r: «ستكون هِنات وهِنات. فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان» [رواه مسلم]. وللحديث الشريف: «دعانا النبي فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا ، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» [رواه مسلم]. وقوله r: «الجماعة رحمة والفُرقة عذاب» [رواه الإمام أحمد]. وقوله r : «يد الله مع الجماعة» [رواه الترمذي والنسائي].
2 – أما اعتباره ضرورة حركية وبشرية فلأسباب كثيرة منها:
أ – إن التغيير الإسلامي عملية شاقة ، ودحر القوى الجاهلية عن مواقعها ليس بالأمر السهل، وتحقيق قوامة الإسلام على المجتمع – فكراً وسلوكاً ونظاماً – يفرض تلاحم القوى ضمن إطار وحدة اندماجية لا تنسيقية.
ب – إن التواطؤ الدولي على الإسلام ، وعلى الحركة الإسلامية يفرض بالتالي وحدة المواجهة والتصدي. فإذا كانت القوى العالمية المعادية للإسلام المتآمرة على العالم الإسلامي تتعاون فيما بينها وتوحد جبهاتها، أفلا يحسن بالقوى الإسلامية في العالم الإسلامي أن تتداعى إلى وحدة فيما بينها كي لا تكون لقمة سائغة، وكي لا تسهل تصفيتها وسحقها؟.
فلو لم تكن وحدة العمل الإسلامي فريضة شرعية من حيث المبدأ، لأصبحت كذلك حفاظاً على المصير الإسلامي وصوناً للمسيرة الإسلامية من التعطيل والتنكيل والإبادة.
ج – إن القوى والأحزاب المحلية المعادية للإسلام باتت تجمعها اليوم جبهات على امتداد العالم الإسلامي. هذه الجبهات لا تفتأ تدرس وترصد وتخطط وتستعد على كل صعيد. أفيحسن بالقوى الإسلامية حيال هذا الواقع أن تبقى مشرذمة مفككة؟ أم يجدر بها أن تتعالى فوق كل الاعتبارات والأسباب التي تحول دون وحدتها وتلاحمها؟.
هذه المبررات وغيرها تحتم بما لا يدع مجالاً للتباطؤ والشك والتلكؤ قيام حركة إسلامية عالمية واحدة. تكون في مستوى المواجهة تفكيراً وتنظيماً وتخطيطاً وإعداداً.
هذه هي أدلة ومبررات من يوجب وحدة العمل الإسلامي ويحرّم التعدد. وعلينا أن نجري بحسب طريقة الإسلام في الاجتهاد لمعرفة مدى انطباق الأدلة على الواقع.
لقد تناولنا سابقاً أن الواقع الذي يعيشه المسلمون هو دار كفر. وأنه يجب تحويله إلى دار إسلام. وتناولنا أنه لا بد من جماعة تعمل لتحقيق هذا الأمر، وأنه يجب أن تسير على خُطا الرسول r.
ولا بد الآن، وقبل تناول الأدلة الشرعية التي اعتمد عليها أصحاب هذا الرأي، من بسط واقع الجماعة التي تريد أن تعمل لإقامة هذا الأمر: هل هي جماعة المسلمين أو هي من جماعة المسلمين، أو بعبارة أخرى: هي جماعة من المسلمين؟.
ولمعرفة ذلك نقول: إن الله قد فرض فروضاً يجب أن يسعى المسلمون لإقامتها. ومن هذه الفروض ما هو فردي، أي يستطيع المسلم أن يقوم بها فردياً ولا تسقط عنه حتى يقيمها. ومنها ما يحتاج القيام به إلى جماعة، ومن هذه الطائفة من الفروض فرض العمل لإقامة الدولة الإسلامية. فإقامة شرع الله واجب وليس في مستطاع الفرد وحده القيام به بمعزل عن غيره، بل يجب أن تلتقي الأيدي وتتجمع الإرادات الكثيرة لإقامته.
وهذا من باب (ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب).
وهذا الفرض هو من الفروض الكفائية التي يجب إقامتها. وعدم إقامته يورث القاعد عنه إثماً عظيماً. ولكن طبيعة إقامته لا تحتاج إلى كل المسلمين بل إلى من تتحقق فيهم الكفاية، أي إلى جماعة منهم. وهذه الجماعة كونها تعمل لهذا الفرض يسقط عن أفرادها إثم القعود ويبقى الإثم على من لا يعمل.
وهذه الجماعة من المسلمين تقوم لإقامة هذا الفرض، وتحاسب على صحة أو خطأ الأفكار والأحكام المتبناة واللازمة لها حين العمل لتحقيق ما قامت من أجله.
وهذه الجماعة ليست هي جماعة المسلمين لأن هناك كثيراً من أفراد المسلمين لا يعملون معها. بل قد يعملون مع غيرها كما سنبين ذلك حين التكلم عن جواز التعدد، وقد لا يعملون مع أحد من الجماعات.
وهذه الجماعة ليست هي الخليفة ولا تقوم مقامه. وأحكام الخليفة لا تتناولها ولا يحق لها أن تباشر أي عمل من أعمال الخليفة المنوطة به دون غيره.
بل هي جماعة من المسلمين فحسب، والأمة الإسلامية بأسرها هي جماعة المسلمين. وهي تضم فيما تضم الجماعة أو الجماعات ، والأفراد، والخليفة.
وجماعة المسلمين هي الأمة الإسلامية التي جمعت وآخت بينها العقيدةُ الإسلامية وليس الأحكام الشرعية. فالمسلمون يختلفون في الفروع من غير أن يقدح هذا الاختلاف بأخوتهم. ولو كانت الأحكام هي معيار الإخاء لما آخى مسلم مسلماً آخر. وأي خروج لفرد من المسلمين أو جماعة منهم عن عقيدة المسلمين يعتبر خروجاً عن الأمة الإسلامية ويكون قد شذ في النار، وهذا هو المقصود بحديث الرسول r أنه «التارك لدينه المفارق للجماعة» [رواه البخاري ومسلم] أي لجماعة المسلمين. وهذا هو المقصود بحديث الرسول r: «... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حنبل].
وجماعة المسلمين أو الأمة الإسلامية هي أمة واحدة من دون الناس. والمسلمون فيها تتكافأ دماؤهم وأموالهم، ويجير أدناهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، وإن تعددت أفهامهم واختلفت اجتهاداتهم.
إذاً؛ هناك فارق واضح بين (جماعة المسلمين) وبين (جماعة من المسلمين). ومن الخطأ أن نأتي بالأدلة المتعلقة (بجماعة المسلمين) لنطبقها على الـ (جماعة من المسلمين).
وعليه فإن قوله تعالى: ]إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[ وقوله تعالى: ]وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[ وقوله r: «مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [رواه البخاري ومسلم وأحمد]. فالمقصود بها هو الأمة الإسلامية بأسرها وليس (جماعة من المسلمين). وإذا اعتبرت أية جماعة من جماعات العمل نفسها أنها جماعة المسلمين فهذا خطأ فادح وفهم غريب قد يؤدي إلى نتائج خطيرة ليس أقلها اعتبار أن من لم يكن معهم أنه لا يشاركهم بالأخوة وأنه كالتارك لدينه المفارق للجماعة وأنه قد شذ في النار…
أما قولهم بمنع تعدد الجماعات بأدلة: ]وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ وقوله تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[.
كذلك فإن هذه الأدلة غير منطبقة على واقع ما استخدمت من أجله.
وهاتان الآيتان ليس لهما علاقة أبداً بموضوع تعدد الجماعات. وموضوعهما يتعلق بالعقائد لا بالأحكام الشرعية . وتفسيرها: ولا تكونوا كالذين تفرقوا عن دينهم واختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات أي العقائد الواضحة والبراهين القاطعة. والمقصود بهم اليهود والنصارى، ]وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[. حتى أن الإمام البيضاوي يقول في تفسير هذه الآية: []وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ[ كاليهود والنصارى اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت ]مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ[ الآيات والحجج المبينة للحق، الموجبة للاتفاق عليه. والأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع لقوله عليه الصلاة والسلام: «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد». ]وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ وعيد للذين تفرقوا وتهديد على التشبه بهم]. انتهى قول البيضاوي.
أي إن الجماعة التي تعمل لتغيير الواقع تتميز عن غيرها بأحكام شرعية. وتخالف غيرها أو يخالفها غيرها في الأحكام الشرعية. فهي جماعة مسلمة وعقيدتها إسلامية. وخلافها مع غيرها ليس على العقيدة وإنما على الأحكام. لهذا كانت هذه الآية مخرجة عن الدين من يخالف عقيدة المسلمين وليس من يختلف في الأحكام. وليس لها علاقة قطعاً في موضوع تعدد الاجتهاد.
وإذا قيل إن الآية عامة والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فنجيب أن العموم هنا لا يتعدى الموضوع الذي نزلت فيه . فهي عامة في مخالفة العقائد وليس في غيرها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى إن فهمهم هذا يعارض أحاديث جواز الاختلاف في الاجتهاد. ومن جهة ثالثة إن فهمهم هذا يعني أن مفارقتهم هي مفارقة للدين.
أما الآية الثانية: ]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[ قال ابن كثير: [قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r قال لها: «هم أصحاب البدع» (وكانوا شيعاً) أي فرقاً كأهل الملل والنِحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسوله r مما هم فيه. وفي قراءة حمزة والكسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ[ أي تركوا دينهم الذي أُمروا به وهم اليهود والنصارى ]لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ[] ويقول البيضاوي: [أي بددوه فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض ، وافترقوا فيه].
نعم إن المخالفة في العقائد هي غيرها في الفروع. فالأول جاءت هذه الأدلة وغيرها كثير لتمنع منه حتى لا يكون مَثَلُنا مثل اليهود والنصارى الذين اختلفوا على أنبيائهم وفارقوا دينهم إلى بدع وضلالات وكانوا شيعاً أي مللاً ونِحَلاً. وهذا يفسره قوله تعالى: ]وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ[ فالموضوع موضوع إيمان وكفر. أما الثاني أي الفروع فقد تضافرت الأدلة على جواز تعدد الأفهام ضمن النص ومدلوله لا خارجة. وهذا الأمر معلوم ضرورة عند علماء المسلمين. ومن البساطة والسذاجة أن تنصب أدلة عدم جواز الاختلاف في العقائد للاستدلال بها على عدم جواز تعدد الجماعات، ما دامت هذه الجماعات تقوم على أحكام شرعية.
أما أدلة: «ستكون هِنات وهِنات: فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان»، «من فرق ليس منا»، «دعانا النبي فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعَنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأَثَرَةً علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان».
هذه الأدلة متعلقة بالخليفة ومبايعته وطاعته وعدم جواز الخروج عليه إلاّ في حالة إظهاره للكفر البواح.
وإذا جاء من ينازعه ويريد أن يفرق أمر هذه الأمة فليضرب بالسيف كائناً من كان. وهذه الأدلة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالجماعة من المسلمين التي لا تأخذ أحكام الخليفة ولا تنوب عنه. بل تعمل لإيجاده فقط، ومحاسبته.
وحديث «يد الله مع الجماعة»، وحديث: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب» لا علاقة لهما بمنع التعدد فالعيش في كنف (جماعة المسلمين) أو (الجماعة من المسلمين) يشعر المسلمين بالرحمة. أما البعد والفرقة فإنها تقرب الشيطان من المسلم، وينطبق عليه قول الرسول r: «فإنما يأكل الذئب القاصيةَ» وفي هذا العذابُ، وليس في منطوق هذين الحديثين ولا في مفهومها ما يدل على وجوب وحدة العمل الإسلامي لإقامة حكم الله.
هذا ما ذُكر من أدلة شرعية على عدم جواز التعدد ومنعه وكلها غير منطبقة على ما سيقت له.
أما ما ذكر من مبررات عقلية، وما ذكر من آثار سلبية للتعدد، فهذه كلها لا تمنع ولا تحرم ولا توجب بل الذي يوجب ويحرم هو الشرع وحده. فالواقع السيئ يفهم تماماً كما هو، وتضبط حقيقته، ثم يصار إلى الشرع للإتيان بالأدلة التي توجب أو تحرم لمعالجة هذا الواقع. وعلى ذلك لا يمكننا أن نأخذ من الواقع أي حكم شرعي.
تدعو إلى الإسلام؟
الآن يوجد على ساحة العمل كثيرٌ من الطروحات التي لم تقم على أساس صحيح، وكثير من الجماعات التي لا يصح أن يطلق عليها أنها الجماعات المستوفية للشروط المطلوبة شرعاً. وما هي إلاّ عبارة عن تجمعات لمسلمين ارتضت العمل الجزئي الذي لا يعالج حتى المشاكل الجزئية، وغفلت عن رؤية شرعية متكاملة. وبالتالي لم تحمل الإسلام حملاً من شأنه إيصال الإسلام كاملاً إلى واقع حياة الأمة الإسلامية. وتعددت هذه الجماعات حتى وصلت في البلد الواحد إلى المئات، وأضحت دكاكين ومزارع تستنفذ الجهود وتضيع على المسلمين التوجه والعمل الصحيحين. ومع وجد هذه الكثرة الملفتة لهذه الجماعات ( الجمعيات ) بقي القليل القليل من الحركات التي تتصف بالرؤية البعيدة لأهداف الإسلام والعمل على تحقيقها. ولو أسقطنا من حساباتها هذه المزارع والدكاكين، وجعلنا النظر ينصبّ فقط على الجماعات الكبيرة ذات الرؤية البعيدة والعمل المتكامل، فهل المطلوب شرعاً: هو وجود جماعة واحدة تستوعب العمل كله وتؤدي المطلوب؟ أو يجوز شرعاً تعدد الجماعات العاملة للتغيير ضمن الأصول الشرعية؟ وما هي النظرة الصحيحة لجزئية العمل أو تكامله وتوازنه؟ أو لإقليمية الطرح وعالميته؟.
إن وحده العمل الإسلامي أو تعدده أخذت حيزاً لا بأس به بين الأخذ والرد، فمنهم من يوجب وحدة العمل الإسلامي في التغيير. ومنهم من يجيز التعدد. ولو رددنا فروع البحث إلى أصوله لاستطعنا تمييز الأدلة الشرعية عن التبريرات. ولتبين لنا الغث من السمين.
فلو نظرنا إلى الرأي الذي يوجب وحدة العمل الإسلامي لرأينا الوجوب عنده يندرج تحت عنوانين:
العنوان الأول: وحدة العمل الإسلامي فريضة شرعية.
العنوان الثاني: وحدة العمل الإسلامي ضرورة حركية.
1 – أما اعتباره فريضة شرعية فللأدلة التالية.
أ – الأصل وحدة المسلمين ووحدة الأمة: لقوله تعالى: ]إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[ وقوله تعالى: ] وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[ وقوله r: «مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [رواه البخاري ومسلم وأحمد].
ب – الأصل الحض على الوحدة والنهي عن الاختلاف: لقوله تعالى: ]وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ ولقوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[.
ج – الأصل التزام جماعة لا جماعات.
لقوله r: «ستكون هِنات وهِنات. فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان» [رواه مسلم]. وللحديث الشريف: «دعانا النبي فبايعناه. فقال فيما أخذ علينا أن بايعناه على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا ، وأَثَرَةٍ علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان» [رواه مسلم]. وقوله r: «الجماعة رحمة والفُرقة عذاب» [رواه الإمام أحمد]. وقوله r : «يد الله مع الجماعة» [رواه الترمذي والنسائي].
2 – أما اعتباره ضرورة حركية وبشرية فلأسباب كثيرة منها:
أ – إن التغيير الإسلامي عملية شاقة ، ودحر القوى الجاهلية عن مواقعها ليس بالأمر السهل، وتحقيق قوامة الإسلام على المجتمع – فكراً وسلوكاً ونظاماً – يفرض تلاحم القوى ضمن إطار وحدة اندماجية لا تنسيقية.
ب – إن التواطؤ الدولي على الإسلام ، وعلى الحركة الإسلامية يفرض بالتالي وحدة المواجهة والتصدي. فإذا كانت القوى العالمية المعادية للإسلام المتآمرة على العالم الإسلامي تتعاون فيما بينها وتوحد جبهاتها، أفلا يحسن بالقوى الإسلامية في العالم الإسلامي أن تتداعى إلى وحدة فيما بينها كي لا تكون لقمة سائغة، وكي لا تسهل تصفيتها وسحقها؟.
فلو لم تكن وحدة العمل الإسلامي فريضة شرعية من حيث المبدأ، لأصبحت كذلك حفاظاً على المصير الإسلامي وصوناً للمسيرة الإسلامية من التعطيل والتنكيل والإبادة.
ج – إن القوى والأحزاب المحلية المعادية للإسلام باتت تجمعها اليوم جبهات على امتداد العالم الإسلامي. هذه الجبهات لا تفتأ تدرس وترصد وتخطط وتستعد على كل صعيد. أفيحسن بالقوى الإسلامية حيال هذا الواقع أن تبقى مشرذمة مفككة؟ أم يجدر بها أن تتعالى فوق كل الاعتبارات والأسباب التي تحول دون وحدتها وتلاحمها؟.
هذه المبررات وغيرها تحتم بما لا يدع مجالاً للتباطؤ والشك والتلكؤ قيام حركة إسلامية عالمية واحدة. تكون في مستوى المواجهة تفكيراً وتنظيماً وتخطيطاً وإعداداً.
هذه هي أدلة ومبررات من يوجب وحدة العمل الإسلامي ويحرّم التعدد. وعلينا أن نجري بحسب طريقة الإسلام في الاجتهاد لمعرفة مدى انطباق الأدلة على الواقع.
لقد تناولنا سابقاً أن الواقع الذي يعيشه المسلمون هو دار كفر. وأنه يجب تحويله إلى دار إسلام. وتناولنا أنه لا بد من جماعة تعمل لتحقيق هذا الأمر، وأنه يجب أن تسير على خُطا الرسول r.
ولا بد الآن، وقبل تناول الأدلة الشرعية التي اعتمد عليها أصحاب هذا الرأي، من بسط واقع الجماعة التي تريد أن تعمل لإقامة هذا الأمر: هل هي جماعة المسلمين أو هي من جماعة المسلمين، أو بعبارة أخرى: هي جماعة من المسلمين؟.
ولمعرفة ذلك نقول: إن الله قد فرض فروضاً يجب أن يسعى المسلمون لإقامتها. ومن هذه الفروض ما هو فردي، أي يستطيع المسلم أن يقوم بها فردياً ولا تسقط عنه حتى يقيمها. ومنها ما يحتاج القيام به إلى جماعة، ومن هذه الطائفة من الفروض فرض العمل لإقامة الدولة الإسلامية. فإقامة شرع الله واجب وليس في مستطاع الفرد وحده القيام به بمعزل عن غيره، بل يجب أن تلتقي الأيدي وتتجمع الإرادات الكثيرة لإقامته.
وهذا من باب (ما لا يتم الواجب إلاّ به فهو واجب).
وهذا الفرض هو من الفروض الكفائية التي يجب إقامتها. وعدم إقامته يورث القاعد عنه إثماً عظيماً. ولكن طبيعة إقامته لا تحتاج إلى كل المسلمين بل إلى من تتحقق فيهم الكفاية، أي إلى جماعة منهم. وهذه الجماعة كونها تعمل لهذا الفرض يسقط عن أفرادها إثم القعود ويبقى الإثم على من لا يعمل.
وهذه الجماعة من المسلمين تقوم لإقامة هذا الفرض، وتحاسب على صحة أو خطأ الأفكار والأحكام المتبناة واللازمة لها حين العمل لتحقيق ما قامت من أجله.
وهذه الجماعة ليست هي جماعة المسلمين لأن هناك كثيراً من أفراد المسلمين لا يعملون معها. بل قد يعملون مع غيرها كما سنبين ذلك حين التكلم عن جواز التعدد، وقد لا يعملون مع أحد من الجماعات.
وهذه الجماعة ليست هي الخليفة ولا تقوم مقامه. وأحكام الخليفة لا تتناولها ولا يحق لها أن تباشر أي عمل من أعمال الخليفة المنوطة به دون غيره.
بل هي جماعة من المسلمين فحسب، والأمة الإسلامية بأسرها هي جماعة المسلمين. وهي تضم فيما تضم الجماعة أو الجماعات ، والأفراد، والخليفة.
وجماعة المسلمين هي الأمة الإسلامية التي جمعت وآخت بينها العقيدةُ الإسلامية وليس الأحكام الشرعية. فالمسلمون يختلفون في الفروع من غير أن يقدح هذا الاختلاف بأخوتهم. ولو كانت الأحكام هي معيار الإخاء لما آخى مسلم مسلماً آخر. وأي خروج لفرد من المسلمين أو جماعة منهم عن عقيدة المسلمين يعتبر خروجاً عن الأمة الإسلامية ويكون قد شذ في النار، وهذا هو المقصود بحديث الرسول r أنه «التارك لدينه المفارق للجماعة» [رواه البخاري ومسلم] أي لجماعة المسلمين. وهذا هو المقصود بحديث الرسول r: «... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي» [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حنبل].
وجماعة المسلمين أو الأمة الإسلامية هي أمة واحدة من دون الناس. والمسلمون فيها تتكافأ دماؤهم وأموالهم، ويجير أدناهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم، وإن تعددت أفهامهم واختلفت اجتهاداتهم.
إذاً؛ هناك فارق واضح بين (جماعة المسلمين) وبين (جماعة من المسلمين). ومن الخطأ أن نأتي بالأدلة المتعلقة (بجماعة المسلمين) لنطبقها على الـ (جماعة من المسلمين).
وعليه فإن قوله تعالى: ]إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ[ وقوله تعالى: ]وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ[ وقوله r: «مَثَلُ المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضوا تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [رواه البخاري ومسلم وأحمد]. فالمقصود بها هو الأمة الإسلامية بأسرها وليس (جماعة من المسلمين). وإذا اعتبرت أية جماعة من جماعات العمل نفسها أنها جماعة المسلمين فهذا خطأ فادح وفهم غريب قد يؤدي إلى نتائج خطيرة ليس أقلها اعتبار أن من لم يكن معهم أنه لا يشاركهم بالأخوة وأنه كالتارك لدينه المفارق للجماعة وأنه قد شذ في النار…
أما قولهم بمنع تعدد الجماعات بأدلة: ]وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ وقوله تعالى : ]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[.
كذلك فإن هذه الأدلة غير منطبقة على واقع ما استخدمت من أجله.
وهاتان الآيتان ليس لهما علاقة أبداً بموضوع تعدد الجماعات. وموضوعهما يتعلق بالعقائد لا بالأحكام الشرعية . وتفسيرها: ولا تكونوا كالذين تفرقوا عن دينهم واختلفوا فيه من بعد ما جاءهم البينات أي العقائد الواضحة والبراهين القاطعة. والمقصود بهم اليهود والنصارى، ]وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[. حتى أن الإمام البيضاوي يقول في تفسير هذه الآية: []وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ[ كاليهود والنصارى اختلفوا في التوحيد والتنزيه وأحوال الآخرة على ما عرفت ]مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ[ الآيات والحجج المبينة للحق، الموجبة للاتفاق عليه. والأظهر أن النهي فيه مخصوص بالتفرق في الأصول دون الفروع لقوله عليه الصلاة والسلام: «من اجتهد فأصاب فله أجران ومن أخطأ فله أجر واحد». ]وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ[ وعيد للذين تفرقوا وتهديد على التشبه بهم]. انتهى قول البيضاوي.
أي إن الجماعة التي تعمل لتغيير الواقع تتميز عن غيرها بأحكام شرعية. وتخالف غيرها أو يخالفها غيرها في الأحكام الشرعية. فهي جماعة مسلمة وعقيدتها إسلامية. وخلافها مع غيرها ليس على العقيدة وإنما على الأحكام. لهذا كانت هذه الآية مخرجة عن الدين من يخالف عقيدة المسلمين وليس من يختلف في الأحكام. وليس لها علاقة قطعاً في موضوع تعدد الاجتهاد.
وإذا قيل إن الآية عامة والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فنجيب أن العموم هنا لا يتعدى الموضوع الذي نزلت فيه . فهي عامة في مخالفة العقائد وليس في غيرها، هذا من جهة. ومن جهة أخرى إن فهمهم هذا يعارض أحاديث جواز الاختلاف في الاجتهاد. ومن جهة ثالثة إن فهمهم هذا يعني أن مفارقتهم هي مفارقة للدين.
أما الآية الثانية: ]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ[ قال ابن كثير: [قال مجاهد وقتادة والضحاك والسدي: نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى. وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله r قال لها: «هم أصحاب البدع» (وكانوا شيعاً) أي فرقاً كأهل الملل والنِحل والأهواء والضلالات، فإن الله تعالى قد برأ رسوله r مما هم فيه. وفي قراءة حمزة والكسائي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: ]إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ[ أي تركوا دينهم الذي أُمروا به وهم اليهود والنصارى ]لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ[] ويقول البيضاوي: [أي بددوه فآمنوا ببعض، وكفروا ببعض ، وافترقوا فيه].
نعم إن المخالفة في العقائد هي غيرها في الفروع. فالأول جاءت هذه الأدلة وغيرها كثير لتمنع منه حتى لا يكون مَثَلُنا مثل اليهود والنصارى الذين اختلفوا على أنبيائهم وفارقوا دينهم إلى بدع وضلالات وكانوا شيعاً أي مللاً ونِحَلاً. وهذا يفسره قوله تعالى: ]وَلَـكِنِ اخْتَلَفُواْ فَمِنْهُم مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُم مَّن كَفَرَ[ فالموضوع موضوع إيمان وكفر. أما الثاني أي الفروع فقد تضافرت الأدلة على جواز تعدد الأفهام ضمن النص ومدلوله لا خارجة. وهذا الأمر معلوم ضرورة عند علماء المسلمين. ومن البساطة والسذاجة أن تنصب أدلة عدم جواز الاختلاف في العقائد للاستدلال بها على عدم جواز تعدد الجماعات، ما دامت هذه الجماعات تقوم على أحكام شرعية.
أما أدلة: «ستكون هِنات وهِنات: فمن أراد أن يفرق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان»، «من فرق ليس منا»، «دعانا النبي فبايعناه فقال فيما أخذ علينا أن بايعَنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأَثَرَةً علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله قال: إلاّ أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان».
هذه الأدلة متعلقة بالخليفة ومبايعته وطاعته وعدم جواز الخروج عليه إلاّ في حالة إظهاره للكفر البواح.
وإذا جاء من ينازعه ويريد أن يفرق أمر هذه الأمة فليضرب بالسيف كائناً من كان. وهذه الأدلة لا علاقة لها من قريب أو بعيد بالجماعة من المسلمين التي لا تأخذ أحكام الخليفة ولا تنوب عنه. بل تعمل لإيجاده فقط، ومحاسبته.
وحديث «يد الله مع الجماعة»، وحديث: «الجماعة رحمة والفرقة عذاب» لا علاقة لهما بمنع التعدد فالعيش في كنف (جماعة المسلمين) أو (الجماعة من المسلمين) يشعر المسلمين بالرحمة. أما البعد والفرقة فإنها تقرب الشيطان من المسلم، وينطبق عليه قول الرسول r: «فإنما يأكل الذئب القاصيةَ» وفي هذا العذابُ، وليس في منطوق هذين الحديثين ولا في مفهومها ما يدل على وجوب وحدة العمل الإسلامي لإقامة حكم الله.
هذا ما ذُكر من أدلة شرعية على عدم جواز التعدد ومنعه وكلها غير منطبقة على ما سيقت له.
أما ما ذكر من مبررات عقلية، وما ذكر من آثار سلبية للتعدد، فهذه كلها لا تمنع ولا تحرم ولا توجب بل الذي يوجب ويحرم هو الشرع وحده. فالواقع السيئ يفهم تماماً كما هو، وتضبط حقيقته، ثم يصار إلى الشرع للإتيان بالأدلة التي توجب أو تحرم لمعالجة هذا الواقع. وعلى ذلك لا يمكننا أن نأخذ من الواقع أي حكم شرعي.