rajaab
22-02-2006, 05:00 PM
التدرّج
الفكرة التي نريد التطرق إليها ومعالجتها وتبيان فسادها هي فكرة التدرّج في أخذ الإسلام وما تولد عنها من فكرة جواز مشاركة المسلمين في الأنظمة الحالية. والقول بأن الديمقراطية من الإسلام من باب تقريب الإسلام إلى العقول نظراً لعلاقة هذه الأفكار الوثيقة بعمل بعض الجماعات في التغيير.
فما هو التدرج؟ وماذا يشمل في نظر القائلين به؟ وما هي مسوغاته؟ وما هو الحكم الشرعي فيه؟.
لما وصل المسلمون إلى الحضيض في الهبوط الروحي ، والتخلّف المادي، والتأخر الفكري، والانحطاط السياسي، صارت أفكارهم من جنس واقعهم السيئ. ونشأت عند المتمسكين بالإسلام أفكار لا تعبر عن حقيقة الإسلام ونظرته للحياة، بل تعبر عن سوء فهم وعدم إدراك لحقائق الإسلام وتوجهاته في الحياة. واستطاع الكافر المستعمر الذي أصبحت أمور المسلمين في يديه، يقلبها كيف يشاء، أن يغرس مفاهيمه ومقاييسه بين المسلمين. وأن يزرع أفكاره التي أنبتت زرعاً مختلفاً أكله يطيب في فم أعدائه، ويحلو في لسانهم. وكانت الجولة لمصلحته. والسبب لم يكن في الإسلام بل في أهله الذين فقدوا التقيد الواضح، وضاع منهم الفهم الصحيح. ولقد حاولوا المقاومة بفهم متأثر بالواقع وخاضع للمصلحة، ولكنها كانت محاولات عوجاء وخطوات عرجاء انتهت بهم إلى الفشل الذريع والاستسلام المريع. وبقي الكفر يرتع في بلادنا ولا من مانع يمنعه أو زاجر يردعه. فكيف هاجم الكافر المستعمر الإسلام؟ وكيف كان رد المسلمين؟.
هاجمه بأن اتهمه بأنه لا يستطيع مجاراة العصر، ولا يستطيع إيجاد الحلول للمشاكل المستجدة. وكان الرد من المسلمين بمحاولة إيجاد حلول في الإسلام بما يقول به النظام الرأسمالي. وبما أن الأساس الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي يتناقض كلياً مع الأساس الذي يقوم عليه الإسلام عمدوا إلى التوفيق بين النقيضين فعمدوا إلى التأويل المغلوط والذي أوجد مفاهيم ومقاييس مغلوطة نُسِبت إلى الشرع زوراً وبهتاناً. وكانت الغاية من ذلك إيجاد الانسجام بينهما، وإعطاء الصورة التي تظهر أن الإسلام قادر على مسايرة التطور. وكان جرّاء ذلك أن أُخذ بها على أساس أنها أفكار وقواعد ومقاييس إسلامية، ومن خلالها يُفهم الإسلام. مع أن الأخذ بها يعني ترك الإسلام واتباع النظام الرأسمالي. وكل دعوة للتوفيق أو متأثرة بهذا التوفيق هي دعوة لأخذ الكفر وترك الإسلام. ويعني كذلك حمل أفكار الكفر للمسلمين ودعوتهم لأخذها وترك الدعوة الإسلامية الحقّة.
لذلك، لما حاول المسلمون، إبان عصور الانحطاط، النهوض بالأمة بمثل هذه الأفكار، كان عملهم هذا ضِغثاً على إبّالة ولم يستطيعوا انتشال الأمة من الحضيض لأنهم هم نزلوا إليه.
من هنا بدأنا نسمع الألسن تتطاول على الشريعة الإسلامية، بقصد أو بغير قصد، فتدعي أنه لا يعقل ونحن على بعد أربعة عشر قرناً من بعثة الرسول r أن نظل نحتكم لنفس العقلية السابقة . فلا بد في نظرها من التجديد، تجديداً يواكب الظروف ويجعل الإسلام في المقدمة من جديد، ولا بد من إلباسه لباس الحداثة، وتطعيمه بالأفكار العصرية حتى تؤلف القلوب عليه من جديد، وحتى يخرج من انغلاقه، واتهام الآخرين له. فلباسه القديم لم يعد مقبولاً.
ومن هذا المنطلق خرج بعض المسلمين بعدد من الأفكار التي تشكل قواعد فكرية لهم، وتحدد مسار القائلين بها، وتعيّن توجههم الجديد في الحياة . وهي ما اتفق على تسميتها بأفكار عصر الانحطاط، التي ظهرت إبان ظهور النهضة الغربية الفاسدة في بلادنا، حيث ظن هؤلاء المسلمون أن مسايرة الزمان، والاستفادة من الفكر الغربي الناهض أمر مطلوب إسلامياً ليبقى الإسلام على مستوى العصر.
فظهر كثير من الأفكار المتأثرة التي تخدم هذا الاتجاه من مثل (إن الدين مرن ومتطور)، (خذ وطالب)، (القبول بما يوافق الشرع أو بما لا يخالف الشرع)، (ارتكاب أخف الضررين وأَهْوَن الشرين)، (ما لا يؤخذ كله لا يترك جله)، (التدرج في أخذ الإسلام)، (الديمقراطية من الإسلام)، (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان)، (حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله). وصارت هذه الأفكار وما شاكلها هي المنطلق الفكري أو القواعد الفكرية لما سموه بـ (النهضة الإسلامية الحديثة والتي كان أهم روادها الماسوني جمال الدين الأفغاني وتلميذه الماسوني محمد عبده الذي كان يسمّى بشيخ الإسلام).
إن مثل هذا الكلام قاله أناس عن سوء نية وخبث طويّة لكي يفصلوا المسلمين عن أسباب قوتهم ، ويورثوهم ضعفاً يقعد بهم عن إقامة أمر الله مرة ثانية.
وقاله أناس عن حسن نية وسلامة قصد ظناً منهم أن في ذلك البلسمَ الشافي لكل ما يعاني منه المسلمون اليوم من تدهور وانحطاط.
وهذا الكلام، سواء أصدر عن سوء نية أو عن حسنها فإن أثره في الواقع واحد. ونحن على كل حال نحذر المسلمين من كيد الكفار لهذا الدين، وننصحهم بالإقلاع عن مثل هذه الأفكار التي أثبتت عقمها في أرض الواقع، فلم تنبت خيراً ولم تبعد شراًَ. وان الله سبحانه وتعالى جعلنا أغنى الناس، ففي الإسلام من الكفاية ما يغني عن الأخذ من غيره. وان طبيعة الإسلام تفرض طريقة أخذه. فالدين الإسلامي منزّل من عند الله ليعالج شؤون الحياة. وما على المسلم إلاّ أن يجتهد في النصوص الشرعية المنزّلة وليس خارجها ليعرف حكم الله تعالى. وان القواعد الفكرية التي تلزمه في حياته يجب أن تكون منضبطة بأدلتها الشرعية فهي أحكام شرعية ولها أدلتها التفصيلية. وطريقة الاجتهاد هذه ثابتة وواحدة ولا يجوز تبديلها بحال من الأحوال. ومن هنا ينطلق أساس نهضتنا تماماً كما انطلقت من قبل.
ولا بأس بالتذكير ببعض هذه القواعد والأفكار الشرعية المنضبطة التي يجب أن تسيطر على أذهان المسلمين لتضبط توجههم وتعين اتجاههم ليندفعوا للعمل بحسبها. وهي من مثل: (حيثما يكون الشرع تكون المصلحة وليس العكس)، (الأصل في الأفعال التقيّد بالحكم الشرعي)، (الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم)، (الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع)، (الخير هو ما أرضى الله والشر هو ما أسخطه)، (لا حكم قبل ورود الشرع)، (من أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكاً)، (ان الأمة الإسلامية هي أمة واحدة من دون الناس)، (ان الإسلام لا يقرّ الوطنية ولا القومية ولا الاشتراكية ولا الديمقراطية)، (ان الإسلام طراز معيّن في العيش يختلف عن غيره كل الاختلاف) ..
وإن الوقوف أمام بعض النصوص الشرعية يدل دلالة واضحة على أهمية التقيّد بما كان عليه السلف الصالح وعدم الخروج عنه إلى الابتداع. لأن كل ابتداع في الدين مذموم.
يقول الرسول r: «وقد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بَيِّناً، كتابَ الله وسنّةَ نبيّه» [سيرة ابن هشام] وكلمة "أبداً" تشملنا.
ويقول r: «... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار ما عدا واحدة. قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي اليوم» [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حنبل].
ويقول r: «تركتكم على المحجّة البيضاء لا يزيغ عنها بعدي إلاّ كل ضال» [رواه ابن ماجة وابن حنبل].
ويقول: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ... » [رواه مسلم].
ويقول: «... إن من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار .. عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ» [رواه أبو داود والترمذي].
ويقول: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» [رواه البخاري ومسلم].
ففي هذه الأحاديث دعوة إلى الاتباع الحسن والتحذير من الابتداع. وترتيب الخيرية يدلنا على أن الالتزام يضعف كلما ابتعد الزمان عن زمن الرسول rمما يحمل الدلالة على أنه كلما ابتعد الزمن كلما اقتضى منا ذلك تمسكاً أقوى، والتزاماً أشد، وتحرياً للصواب أكثر. وتوخياً للإخلاص أكبر. وإذا كان المطلوب منا أن نَعَضَّ على سنة الرسول rوسنة الخلفاء الراشدين المهديين. وأن نكون على ما كان عليه الرسول rوصحابته. فعلينا أن لا نبتدع في الدين، وأن لا نخرج إلى محدثات الأمور، فإن ذلك مردود على فاعله. فكيف السبيل إلى ذلك في أيامنا هذه؟.
- إنه يكون بأن نحافظ على العقيدة الإسلامية نقية صافية في نفوسنا، لم يطرأ عليها أي عامل من عوامل التغشية.
- وأن نعب من مصادر الإسلام النقية الصافية.
- وأن نحافظ على طريقة الاستدلال المنضبطة التي تمنع الهوى والرأي من أن يتسرب إلى الحكم الشرعي.
- وأن نجعل الإسلام أهم شيء في حياتنا : أهم من أنفسنا وأولادنا وأهلينا، ومصالحنا وأهوائنا ، بحيث تكون كلمة الله هي العليا في نفوسنا، وبحيث لا نقدِّم بين يدي الله ورسوله ، وبحيث نكون كما كان الحال زمن السلف الصالح.
- وأن نخلع أفكار الكفر وأدرانه من نفوسنا وعقولنا ونبعد عنا بهرجه وبريقه. كما كان يخلع الصحابة رضوان الله عليهم أدران الجاهلية أمام عتبة الإسلام ويدخلون فيه أنقياء أتقياء.
وهذا كله يقتضي منا عَوْداً على بدء ، فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فهذه لازمة لا يستغني عنها المسلمون في كل مرحلة من مراحل حياتهم. وبحسب قربهم منها أو بعدهم عنها يكون حالهم قوة أو ضعفاً.
وبعد هذا التمهيد نسأل: ما هو التدرّج؟ وماذا يشمل في نظر القائلين به؟ وما مبرراته؟ وما موقف الشرع منه؟.
إن التدرج يعني الوصول إلى الحكم الشرعي المطلوب على مراحل وليس دفعة واحدة. وهو ما يعبر عنه عند أصحابه بالمرحلية. فيطبق المسلم أولاً أو يدعو إلى حكم غير شرعي ولكنه أقرب من سابقه إلى الحكم الشرعي بنظر القائل به، ثم يتدرج في التطبيق أو الدعوة من حكم غير شرعي ولكنه أقرب من سابقه إلى الحكم الشرعي بنظر القائل به، ثم يتدرج في التطبيق أو الدعوة من حكم غير شرعي إلى حكم غير شرعي آخر أقرب، حتى يصل حسب رأيه إلى الحكم الشرعي.
ويعني كذلك أيضاً تطبيق أحكام شرعية والسكوت عن أحكام غير شرعية أخرى ريثما يصل مع الوقت إلى التطبيق الكامل للشرع.
وهذا التدرج غير مقيد بعدد ثابت من المراحل. وليس خاضعاً لقواعد منضبطة عند القائلين به. فقد يأخذ الحكم الواحد مرحلة أو مرحلتين أو ثلاثاً أو أكثر. وهذا التدرج يبقى للظروف والأوضاع تأثيرها الواضح في تحديد عدد المراحل، فقد تقل وقد تكثر، ووقت كل مرحلة قد يطول وقد يقصر.
وإن إطلاق فكرة التدرج قد يشمل أفكاراً متعلقة بالعقيدة كقبول القول (إن الاشتراكية من الإسلام) أو (إن الديمقراطية من الإسلام). وقد تشمل أحكاماً شرعية كأن تلبس المرأة المسلمة لباساً يصل ثوبها فيه إلى ما تحت ركبتها بقليل ريثما يطبق في مرحلة لاحقة الحكم الشرعي المطلوب. وقد يتعلق بالنظام كالمطالبة بالمشاركة في الحكم، مع أنه حرام شرعاً وبحسب اعتراف القائلين به. لكنها عندهم مطالبة ليست مقصودة لذاتها بل للوصول إلى الحكم بالإسلام الذي هو الأصل والواجب في مرحلة لاحقة. أو قد يكون بالعمل على إيجاد بعض الأحكام الإسلامية والسكوت عن الأخرى على أمل أن تكثر حتى تطغى ثم تسود وهكذا ... وقد تتعلق بالدعوة حين يدعى إلى كل هذا. فيلتزم المقتنع بالتدرج بهذا الأسلوب ويحاول أن يدعو الآخرين بحسبه. وقد يكون صاحب هذا الطرح من التقوى بحيث أنه من حيث الالتزام لا يقبل على نفسه أي تفريط، ولكنه يقبل لغيره من باب حرصه على الآخرين وحتى لا يرفضوا الدعوة إلى أحكام الإسلام ، فأن يكونوا على شيء أفضل من لا يكونوا على شيء.
الفكرة التي نريد التطرق إليها ومعالجتها وتبيان فسادها هي فكرة التدرّج في أخذ الإسلام وما تولد عنها من فكرة جواز مشاركة المسلمين في الأنظمة الحالية. والقول بأن الديمقراطية من الإسلام من باب تقريب الإسلام إلى العقول نظراً لعلاقة هذه الأفكار الوثيقة بعمل بعض الجماعات في التغيير.
فما هو التدرج؟ وماذا يشمل في نظر القائلين به؟ وما هي مسوغاته؟ وما هو الحكم الشرعي فيه؟.
لما وصل المسلمون إلى الحضيض في الهبوط الروحي ، والتخلّف المادي، والتأخر الفكري، والانحطاط السياسي، صارت أفكارهم من جنس واقعهم السيئ. ونشأت عند المتمسكين بالإسلام أفكار لا تعبر عن حقيقة الإسلام ونظرته للحياة، بل تعبر عن سوء فهم وعدم إدراك لحقائق الإسلام وتوجهاته في الحياة. واستطاع الكافر المستعمر الذي أصبحت أمور المسلمين في يديه، يقلبها كيف يشاء، أن يغرس مفاهيمه ومقاييسه بين المسلمين. وأن يزرع أفكاره التي أنبتت زرعاً مختلفاً أكله يطيب في فم أعدائه، ويحلو في لسانهم. وكانت الجولة لمصلحته. والسبب لم يكن في الإسلام بل في أهله الذين فقدوا التقيد الواضح، وضاع منهم الفهم الصحيح. ولقد حاولوا المقاومة بفهم متأثر بالواقع وخاضع للمصلحة، ولكنها كانت محاولات عوجاء وخطوات عرجاء انتهت بهم إلى الفشل الذريع والاستسلام المريع. وبقي الكفر يرتع في بلادنا ولا من مانع يمنعه أو زاجر يردعه. فكيف هاجم الكافر المستعمر الإسلام؟ وكيف كان رد المسلمين؟.
هاجمه بأن اتهمه بأنه لا يستطيع مجاراة العصر، ولا يستطيع إيجاد الحلول للمشاكل المستجدة. وكان الرد من المسلمين بمحاولة إيجاد حلول في الإسلام بما يقول به النظام الرأسمالي. وبما أن الأساس الذي يقوم عليه النظام الرأسمالي يتناقض كلياً مع الأساس الذي يقوم عليه الإسلام عمدوا إلى التوفيق بين النقيضين فعمدوا إلى التأويل المغلوط والذي أوجد مفاهيم ومقاييس مغلوطة نُسِبت إلى الشرع زوراً وبهتاناً. وكانت الغاية من ذلك إيجاد الانسجام بينهما، وإعطاء الصورة التي تظهر أن الإسلام قادر على مسايرة التطور. وكان جرّاء ذلك أن أُخذ بها على أساس أنها أفكار وقواعد ومقاييس إسلامية، ومن خلالها يُفهم الإسلام. مع أن الأخذ بها يعني ترك الإسلام واتباع النظام الرأسمالي. وكل دعوة للتوفيق أو متأثرة بهذا التوفيق هي دعوة لأخذ الكفر وترك الإسلام. ويعني كذلك حمل أفكار الكفر للمسلمين ودعوتهم لأخذها وترك الدعوة الإسلامية الحقّة.
لذلك، لما حاول المسلمون، إبان عصور الانحطاط، النهوض بالأمة بمثل هذه الأفكار، كان عملهم هذا ضِغثاً على إبّالة ولم يستطيعوا انتشال الأمة من الحضيض لأنهم هم نزلوا إليه.
من هنا بدأنا نسمع الألسن تتطاول على الشريعة الإسلامية، بقصد أو بغير قصد، فتدعي أنه لا يعقل ونحن على بعد أربعة عشر قرناً من بعثة الرسول r أن نظل نحتكم لنفس العقلية السابقة . فلا بد في نظرها من التجديد، تجديداً يواكب الظروف ويجعل الإسلام في المقدمة من جديد، ولا بد من إلباسه لباس الحداثة، وتطعيمه بالأفكار العصرية حتى تؤلف القلوب عليه من جديد، وحتى يخرج من انغلاقه، واتهام الآخرين له. فلباسه القديم لم يعد مقبولاً.
ومن هذا المنطلق خرج بعض المسلمين بعدد من الأفكار التي تشكل قواعد فكرية لهم، وتحدد مسار القائلين بها، وتعيّن توجههم الجديد في الحياة . وهي ما اتفق على تسميتها بأفكار عصر الانحطاط، التي ظهرت إبان ظهور النهضة الغربية الفاسدة في بلادنا، حيث ظن هؤلاء المسلمون أن مسايرة الزمان، والاستفادة من الفكر الغربي الناهض أمر مطلوب إسلامياً ليبقى الإسلام على مستوى العصر.
فظهر كثير من الأفكار المتأثرة التي تخدم هذا الاتجاه من مثل (إن الدين مرن ومتطور)، (خذ وطالب)، (القبول بما يوافق الشرع أو بما لا يخالف الشرع)، (ارتكاب أخف الضررين وأَهْوَن الشرين)، (ما لا يؤخذ كله لا يترك جله)، (التدرج في أخذ الإسلام)، (الديمقراطية من الإسلام)، (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان)، (حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله). وصارت هذه الأفكار وما شاكلها هي المنطلق الفكري أو القواعد الفكرية لما سموه بـ (النهضة الإسلامية الحديثة والتي كان أهم روادها الماسوني جمال الدين الأفغاني وتلميذه الماسوني محمد عبده الذي كان يسمّى بشيخ الإسلام).
إن مثل هذا الكلام قاله أناس عن سوء نية وخبث طويّة لكي يفصلوا المسلمين عن أسباب قوتهم ، ويورثوهم ضعفاً يقعد بهم عن إقامة أمر الله مرة ثانية.
وقاله أناس عن حسن نية وسلامة قصد ظناً منهم أن في ذلك البلسمَ الشافي لكل ما يعاني منه المسلمون اليوم من تدهور وانحطاط.
وهذا الكلام، سواء أصدر عن سوء نية أو عن حسنها فإن أثره في الواقع واحد. ونحن على كل حال نحذر المسلمين من كيد الكفار لهذا الدين، وننصحهم بالإقلاع عن مثل هذه الأفكار التي أثبتت عقمها في أرض الواقع، فلم تنبت خيراً ولم تبعد شراًَ. وان الله سبحانه وتعالى جعلنا أغنى الناس، ففي الإسلام من الكفاية ما يغني عن الأخذ من غيره. وان طبيعة الإسلام تفرض طريقة أخذه. فالدين الإسلامي منزّل من عند الله ليعالج شؤون الحياة. وما على المسلم إلاّ أن يجتهد في النصوص الشرعية المنزّلة وليس خارجها ليعرف حكم الله تعالى. وان القواعد الفكرية التي تلزمه في حياته يجب أن تكون منضبطة بأدلتها الشرعية فهي أحكام شرعية ولها أدلتها التفصيلية. وطريقة الاجتهاد هذه ثابتة وواحدة ولا يجوز تبديلها بحال من الأحوال. ومن هنا ينطلق أساس نهضتنا تماماً كما انطلقت من قبل.
ولا بأس بالتذكير ببعض هذه القواعد والأفكار الشرعية المنضبطة التي يجب أن تسيطر على أذهان المسلمين لتضبط توجههم وتعين اتجاههم ليندفعوا للعمل بحسبها. وهي من مثل: (حيثما يكون الشرع تكون المصلحة وليس العكس)، (الأصل في الأفعال التقيّد بالحكم الشرعي)، (الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم)، (الحسن ما حسنه الشرع والقبيح ما قبحه الشرع)، (الخير هو ما أرضى الله والشر هو ما أسخطه)، (لا حكم قبل ورود الشرع)، (من أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكاً)، (ان الأمة الإسلامية هي أمة واحدة من دون الناس)، (ان الإسلام لا يقرّ الوطنية ولا القومية ولا الاشتراكية ولا الديمقراطية)، (ان الإسلام طراز معيّن في العيش يختلف عن غيره كل الاختلاف) ..
وإن الوقوف أمام بعض النصوص الشرعية يدل دلالة واضحة على أهمية التقيّد بما كان عليه السلف الصالح وعدم الخروج عنه إلى الابتداع. لأن كل ابتداع في الدين مذموم.
يقول الرسول r: «وقد تركتُ فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بَيِّناً، كتابَ الله وسنّةَ نبيّه» [سيرة ابن هشام] وكلمة "أبداً" تشملنا.
ويقول r: «... وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار ما عدا واحدة. قالوا ومن هي يا رسول الله؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي اليوم» [رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة وابن حنبل].
ويقول r: «تركتكم على المحجّة البيضاء لا يزيغ عنها بعدي إلاّ كل ضال» [رواه ابن ماجة وابن حنبل].
ويقول: «خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ... » [رواه مسلم].
ويقول: «... إن من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة في النار .. عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضّوا عليها بالنواجذ» [رواه أبو داود والترمذي].
ويقول: «كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد» [رواه البخاري ومسلم].
ففي هذه الأحاديث دعوة إلى الاتباع الحسن والتحذير من الابتداع. وترتيب الخيرية يدلنا على أن الالتزام يضعف كلما ابتعد الزمان عن زمن الرسول rمما يحمل الدلالة على أنه كلما ابتعد الزمن كلما اقتضى منا ذلك تمسكاً أقوى، والتزاماً أشد، وتحرياً للصواب أكثر. وتوخياً للإخلاص أكبر. وإذا كان المطلوب منا أن نَعَضَّ على سنة الرسول rوسنة الخلفاء الراشدين المهديين. وأن نكون على ما كان عليه الرسول rوصحابته. فعلينا أن لا نبتدع في الدين، وأن لا نخرج إلى محدثات الأمور، فإن ذلك مردود على فاعله. فكيف السبيل إلى ذلك في أيامنا هذه؟.
- إنه يكون بأن نحافظ على العقيدة الإسلامية نقية صافية في نفوسنا، لم يطرأ عليها أي عامل من عوامل التغشية.
- وأن نعب من مصادر الإسلام النقية الصافية.
- وأن نحافظ على طريقة الاستدلال المنضبطة التي تمنع الهوى والرأي من أن يتسرب إلى الحكم الشرعي.
- وأن نجعل الإسلام أهم شيء في حياتنا : أهم من أنفسنا وأولادنا وأهلينا، ومصالحنا وأهوائنا ، بحيث تكون كلمة الله هي العليا في نفوسنا، وبحيث لا نقدِّم بين يدي الله ورسوله ، وبحيث نكون كما كان الحال زمن السلف الصالح.
- وأن نخلع أفكار الكفر وأدرانه من نفوسنا وعقولنا ونبعد عنا بهرجه وبريقه. كما كان يخلع الصحابة رضوان الله عليهم أدران الجاهلية أمام عتبة الإسلام ويدخلون فيه أنقياء أتقياء.
وهذا كله يقتضي منا عَوْداً على بدء ، فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. فهذه لازمة لا يستغني عنها المسلمون في كل مرحلة من مراحل حياتهم. وبحسب قربهم منها أو بعدهم عنها يكون حالهم قوة أو ضعفاً.
وبعد هذا التمهيد نسأل: ما هو التدرّج؟ وماذا يشمل في نظر القائلين به؟ وما مبرراته؟ وما موقف الشرع منه؟.
إن التدرج يعني الوصول إلى الحكم الشرعي المطلوب على مراحل وليس دفعة واحدة. وهو ما يعبر عنه عند أصحابه بالمرحلية. فيطبق المسلم أولاً أو يدعو إلى حكم غير شرعي ولكنه أقرب من سابقه إلى الحكم الشرعي بنظر القائل به، ثم يتدرج في التطبيق أو الدعوة من حكم غير شرعي ولكنه أقرب من سابقه إلى الحكم الشرعي بنظر القائل به، ثم يتدرج في التطبيق أو الدعوة من حكم غير شرعي إلى حكم غير شرعي آخر أقرب، حتى يصل حسب رأيه إلى الحكم الشرعي.
ويعني كذلك أيضاً تطبيق أحكام شرعية والسكوت عن أحكام غير شرعية أخرى ريثما يصل مع الوقت إلى التطبيق الكامل للشرع.
وهذا التدرج غير مقيد بعدد ثابت من المراحل. وليس خاضعاً لقواعد منضبطة عند القائلين به. فقد يأخذ الحكم الواحد مرحلة أو مرحلتين أو ثلاثاً أو أكثر. وهذا التدرج يبقى للظروف والأوضاع تأثيرها الواضح في تحديد عدد المراحل، فقد تقل وقد تكثر، ووقت كل مرحلة قد يطول وقد يقصر.
وإن إطلاق فكرة التدرج قد يشمل أفكاراً متعلقة بالعقيدة كقبول القول (إن الاشتراكية من الإسلام) أو (إن الديمقراطية من الإسلام). وقد تشمل أحكاماً شرعية كأن تلبس المرأة المسلمة لباساً يصل ثوبها فيه إلى ما تحت ركبتها بقليل ريثما يطبق في مرحلة لاحقة الحكم الشرعي المطلوب. وقد يتعلق بالنظام كالمطالبة بالمشاركة في الحكم، مع أنه حرام شرعاً وبحسب اعتراف القائلين به. لكنها عندهم مطالبة ليست مقصودة لذاتها بل للوصول إلى الحكم بالإسلام الذي هو الأصل والواجب في مرحلة لاحقة. أو قد يكون بالعمل على إيجاد بعض الأحكام الإسلامية والسكوت عن الأخرى على أمل أن تكثر حتى تطغى ثم تسود وهكذا ... وقد تتعلق بالدعوة حين يدعى إلى كل هذا. فيلتزم المقتنع بالتدرج بهذا الأسلوب ويحاول أن يدعو الآخرين بحسبه. وقد يكون صاحب هذا الطرح من التقوى بحيث أنه من حيث الالتزام لا يقبل على نفسه أي تفريط، ولكنه يقبل لغيره من باب حرصه على الآخرين وحتى لا يرفضوا الدعوة إلى أحكام الإسلام ، فأن يكونوا على شيء أفضل من لا يكونوا على شيء.