عنوان الحلقة/ في الليلة التالية.. الدليل الوجداني
* كيف حالك يا ولدي؟
* والله يا ابي لا اخفيك.. لست على ما يرام. لم يبق لي حال.
* لماذا؟ هل تشكو من مرض؟
* يا ليتني كنت مريضاً!
* لا سمح الله يا ولدي, ما الذي حصل؟
* تسألني ما الذي حصل؟ أنا الذي سألتك هذا السؤال الليلة البارحة.
* لم يحصل الا خير.
* أي خير هذا؟ لقد ألقيتني في بحر الشك, فقذفتني الامواج بعيداً عن الساحل, لا سباحة تنفعني, ولا مركب ينقذني!
* الحمد لله.. الحمد لله. هذا ما كنت اريده.
* لماذا يا ابي فعلت ذلك؟ قل لي بالله عليك
* سأخبرك, ولكن قل لي اولاً بعد ان قذفت بك الامواج بعيداً عن الساحل حيث لا سباحة تنفعك, ولا مركب ينقذك, الى اين وصلت؟
* لقد شعرت بضعفي وانقطاع السبل بي, ولم ار من ينفعني وصرت ابحث عن قوة مطلقة تستطيع ان تمد لي يد العون وتنقذني من هذا البحر المتلاطم الى ساحل الامان, وفجأة احسست ان هذه القوة الى جانبي فناديت من اعماقي "يا رب العالمين" واذا بالطمأنينة تنزل علي, ويغمرني روح اليقين, فتبددت عني الشكوك وعدت الى ما يشبه اليقين لقد خرجت من بحر الشك الى ساحل الايمان.
* ما شاء الله, ما شاء الله, الله اكبر يا ولدي, والحمد لله, هذا بالضبط ما كنت اريده لك, لقد اردتك ان تجد الله بنفسك, وان تجده بعد البحث عنه, وان تعاني في هذا البحث, لكي تعرف قيمة ما تجد. لقد اردت لك ان تطوي رحلة القلب من الشك الى الايمان, لكي تؤمن بربك الذي وجدته, لا بالرب الذي سمعت عنه في احاديث ابيك, واين الايمان من هذا؟!
* صدقت يا ابي, لقد امتلأ قلبي اطمئناناً بعد تلك المعاناة, وانا الان اشعر بالفرق بين اماني السابق وايماني الجديد, الذي جاء بعد هذه التجربة الوجدانية.
* ان هذه التجربة تسمى بالدليل الوجداني على وجود الله, وهو دليل ليس عقلياً, وليس قائماً على التحليل المنطقي والاستدلال الكلامي, بل هو دليل الفطرة الخام, الفطرة البسيطة, المجردة, التي تتجه بطبيعتها نحو الله بعد ان تنفض عنها الركام الذي يغطيها.
* زدني يا ابي.
* الفطرة البشرية يا ولدي تؤمن بطبيعتها بالله سبحانه وتعالى, ولا تسأل الفطرة عن دليل. أرأيت كيف يتجه العطشان نحو الماء؟ فلو استوقفته وهو يرفع الكأس الى فمه لتسأله: "ما الدليل على ان ما تشربه هو الماء؟" فبماذا يجيبك؟
* اذن لماذا لا يؤمن جميع الناس بالله اذا كانت الفطرة دليلهم؟
* العين يا ولدي ترى, ولكنها لا تستطيع الرؤية اذا وضعت عليها عصابة سميكة, والاذن تسمع, ولكنها تعجز عن السمع اذا وضعت فيها اصبعك.. والفطرة كذلك تتجه الى الله, ولكنها ينبغي ان تكون حرة طليقة لا تقيدها شهوات الدنيا, ولا تغطيها شياطين الجن والانس.
* نعم يا ابي واصل حديثك الشيق.
* الدليل الوجداني على وجود الله يقول: ان الفطرة قد تتعطل اذا الف الانسان الحياة في مجتمع ضال يتوارث الضلال جيلاً بعد جيل. اقرأ في القران:
(فطال عليهم الامد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون)
واقرأ ايضاً عن توارث الضلال:
(انا وجدنا اباءنا على امة وانا على اثارهم مهتدون)
والفطرة تتبلد اذا استغرق الانسان في شهوات الدنيا ولذاتها, اقرأ قوله تعالى:
(فخلف من بعدهم خلف اضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات)
وينعى القران على الكافرين كونهم يأكلون التراث اكلاً لما ويحبون المال حباً جما.
وتشير سورة اخرى الى ان حب المال قد يغطي الفطرة لفترة تستمر حتى اخر العمر (الهاكم التكاثر, حتى زرتم المقابر)
* اذن, الشهوات يا ابي هي التي تقتل الفطرة.
* لا تقتلها.. بل تعطلها فالفطرة لا تموت.
* وكيف السبيل لاعادة (تفعيل الفطرة)؟
* السبيل هو الصدمة.
* وهي التجربة التي اردتني ان اخوضها يا ابي.. اليس كذلك؟
* بلى يا ولدي
* احسنت يا ابي.
* وانت يا ولدي, احسنت عندما اجترت التجربة بنجاح, ولم اكن قلقاً عليك, لانني كنت واثقاً من سلامة فطرتك... الا اني لا اكتمك ان امك كانت قلقة..
* اكانت امي تعلم بذلك؟
* نعم, كنت قد اطلعتها على الخطة لكي لا تفسدها علي, اقصد لكي تعينني عليها.
* ... اه... لكي لا تفسد عليك الخطة... تقصد لكي تعينك عليها... هل هاتان الجملتان تعبران عن معنى واحد؟
* يا ولدي.. يا ولدي: انها أم, كلها شفقة وعطف على ابنها, ولك يكن من السهل عليها ان تراك بهذا الحالة دون ان تفشي السر.
* حسناً يا ابي حسناً.. لنعد الى الحديث عن الدليل الوجداني على الله او دليل الفطرة. عندي سؤال.
* تفضل.
* من علمك ان تفعل بي ما فعلته البارحة, لكي توقظ فطرتي من سباتها, وتجعلني اعيش التجربة الوجدانية بنفسي؟
* من علمني؟ اليس العلم او التعليم نعمة؟
* بلى.
* وما بكم من نعمة فمن الله.
* الحمد لله.
* اليس التعليم جاءني بعد ان لم أكن أعلم.
* بلى.
* علم الانسان ما لم يعلم.
* إذن الله تعالى هو الذي علمك كيف تستيقظ الفطرة من سباتها على اثر الصدمة, ولكن كيف علمك الله ذلك؟
* (ما فرطنا في الكتاب من شيء) (ان هذا القران يهدي للتي هي اقوم)
* اه... الان عرفت... من ايات في سورة مكية على ما اظن, تتحدث عن تجربة الابحار في ظروف جوية جيدة, ثم تصل السفينة الى وسط البحر, فتهب العواصف, ويهيج البحر, وتتلاطم الامواج, ويفزع الركاب, ويبحثون عمن ينجيهم من الموت المحقق الذي احاط بهم, وعندها يتوجهون الى الله تعالى, فينجيهم منها ومن كل كرب...
* سبحان الله.. انها نفس التجربة التي عشتها امس الاول, ولكن في بحر الشك لا في بحر الماء.
* لم أشأ أن ألقيك في بحر الماء, فلم أكن مأموراً بذلك.
* وهل يعقل ان تؤمر بذلك؟
* ولماذا لا يعقل؟
* ايعقل ان يؤمر اب بالقاء ابنه في البحر؟
* فاذا أمرت أم أن تلقي بابنها في البحر, ماذا تقول؟
* لا اصدق.
* لقد نسيت القران..
* اه.. نعم.. نعم... (وأوحينا الى ام موسى ان ارضعيه)
* (فاذا خفقت عليه فالقيه في اليم ولا تخافي ولا تحزني)
(انا رادوه اليك وجاعلوه من المرسلين) انه ابتلاء عظيم لهذه الام الصابرة!
وربك يبتلي كل انسان على قدر طاقته اذ لابد من الابتلاء في الدنيا, فسورة الملك تبين لنا ان الهدف من خلق الانسان في الدنيا هو ابتلاؤه. (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم ايكم احسن عملاً) ولا تتصور يا ولدي ان الابتلاء بمعنى البلاء او المصيبة او ما شابه, فان الابتلاء هو الاختبار, والله تعالى يختبر الانسان في حالات مختلفة, لاحظ الايات الشريفة:
(وبلوناهم بالحسنات والسيئات)
(ونبلوكم بالشر والخير فتنة)
(فأما الانسان اذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي اكرمن, وأما اذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي اهانن)
والله تعالى يبتلي عبده بكل الاحوال. يعطيه ليرى ماذا يصنع, ويمنعه ليرى ماذا يصنع.
وأشد الناس بلاء هم الانبياء ثم الاولياء.
نعم يا ولدي, لأنهم اعظم قدرة على تحمل البلاء. ولكن القاعدة التي يجب ان لا تغيب عن بالك هي ان من المستحيل ان يبتلي الله الانسان فوق طاقته, فالله تعالى عادل ورحيم, ولا يكلف نفساً إلا وسعها.
* ولكنا يا أبي نجد أناساً يعانون من بلاء شديد, ويقولون: إنهم لا يطيقونه.
* مستحيل, يا ولدي, لا يكلف الله نفساً الا وسعها, هؤلاء لم يكتشفوا طاقاتهم الحقيقية في الصبر على البلاء, ارجع بذاكرتك الى الامس, هل كنت تتصور نفسك قادراً على تحمل الشك, الذي ألم بك عندما أصبتك بصدمة هزت كل مسلماتك الدينية؟
* صحيح يا أبي لم أكن أتصور أنني أتحملها, وخيل لي أني سوف اكفر او أجن.
* ولكنك لم تكفر ولم تجن.. لقد كنت قادراً على تحمل ذلك الابتلاء, ولكنك كنت تجهل مقدار طاقتك, فعرفك الله بها, وهكذا كل من يتصور ان بلاءه فوق الطاقة.
احياناً أسرح في الخيال وأنا اقرأ القران, عندما أمر على قصة ابراهيم عليه السلام وقد امره الله بذبح ابنه, فقام من نومه وقص الرؤيا على ولده اسماعيل, الذي وافق على الامرفوراً وقال:
(يا ابنت افعل ما تؤمر ستجدني ان شاء الله من الصابرين)
وأهتز خشوعاً لهذا التسليم لله سبحانه وتعالى, خصوصاً عندما يمسك ابراهيم بالسكين, وابنه مطروح بين يديه..
يا أبي ان بدني يقشعر, وانا اتصور هذا المنظر.. الابن مطروح على الارض, والاب جالس عند رأسه يمسك السكين بيده اليمنى, ورأس ابنه بيده اليسرى, والابن مستسلم للاب الذي يمرر السكين على رقبة فلذة كبده فلا تجرحه, فيتصور انها تمر برفق نابع من عطف ابوي, فيزيد من قوته على السكين, لكي تذبح الولد ولكنها لا تفعل.. الله اكبر.. الله اكبر يا ابي ان جسمي يرتعد وأنا أحدث بهذا الحديث..
* وانا كذلك, وانا استمع اليك يا ولدي, الا ترى صوتي قد تهدج والدموع فاضت من عيني, وأنا أتصور قصة العشق المقدس هذا.. وكيف تصارع حبان عظيمان فانتصر الحب الاكبر (حب الله وطاعته) على الحب الصغير (حب الوالد للولد عند ابراهيم, وحب الحياة عند اسماعيل)!
ما اعظم صبر ابراهيم واسماعيل على هذا البلاء, وصدق الله العظيم اذ يقول: (ولنبلوكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو اخباركم)
لقد ابتلى الانبياء بأكثر من ذلك يا ولدي, ابتلاهم الله بازواج يؤذينهم, وأبناء يعقونهم, وعشيرة تقاطعهم, ولكنهم ثبتوا وصبروا. لكي يوفيهم الله اجر الصابرين, انما يوفى الصابرون اجرهم بغير حساب.
* كم اتمنى يا أبي لو كنت أعيش في زمن الانبياء, لكي اؤمن بهم واجاهد معهم, وأستشهد في سبيل الله بين ايديهم.. ولكن مع الاسف انها امنية لن تتحقق!
* ولماذا لا تتحقق يا ولدي؟
* وكيف تتحقق يا ابي, وتفصلنا عن زمانهم قرون طويلة؟
* يا بني ان الله تعالى يقول: "ومن يطع الله والرسول فاولئك مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً"
* فالطريق سهل اذن, طاعة الله ورسوله.
* وبذلك تتحقق امنيتك, فلا تقنط يا بني, ثم هناك مسألة اخرى, ألست تحبهم؟
* بلى يا ابي.
* اذن فستحشر معهم, فان المرء مع من يحب.
* طبعاً لا مجرد الحب السطحي؟
* طبعاً, الحب الحقيقي الذي يؤدي الى الاتباع.
* ها قد عدت يا والدي الى الحديث عن الحب.
* وهل الدين الا الحب؟ قم يا ولدي الى فراشك, نم مبكراً, لئلا تفوتك صلاة الصبح. استودعك الله.
* تصبح على خير يا أبي.