فنجان قهوة
صفحة من كتاب السياب
أجمل القصائد الغزلية التي كتبها بدر شاكر السياب لم يكتبها إلى زوجته إقبال التي يقول فيها: “غدا تأتين يا إقبال يا بعثي من العدم/ ويا مرسى سفينتي التي عادت ولا لوح على لوح/ ويا قلبي الذي إن مت أتركه على الدنيا ليبكيني”، وإنما لممرضة لبنانية كانت تشرف على علاجه أثناء استشفائه في لبنان. وعندما زرته عام ،1962 برفقة الشاعر أدونيس، في الشقة التي كان يقيم فيها في منطقة الروشة، وكانت المنطقة في ذلك الحين حقلاً من نبات الصبار تتخلله بضع بنايات، وجدته يحاول تذكر ثلاث قصائد كتبها لهذه الممرضة، عثرت زوجته إقبال عليها ومزقتها. وقال السياب إن زوجته جاءت من العراق وفوجئت بأن الممرضة جميلة جدا، فطردتها من العمل، وتعهدت هي العناية به، ومزقت القصائد، أو هي أخفتها.
ولم يكن السياب زاهدا بزوجته، فقد كان يحبها إلى درجة الوله، وفي إحدى قصائده يقول لها: “لولاك ما رمت الحياة ولا حننت إلى الديار” ولكنه كان رحمه الله، كباقي الشعراء “مناوشا عاطفيا” بامتياز، بما يثير غضبها أحيانا.
وفي عام 1964 كنت أتردد على زيارة السياب أثناء علاجه في المستشفى الأميري في الكويت مع عدد من الأصدقاء بينهم فاروق شوشة وسلمى الخضراء الجيوسي التي كانت تترأس القسم الأدبي في إذاعة الكويت، وصديقه الوفي الشاعر علي السبتي، وكان السياب يشكو مرضه الذي يثقل عليه ويقول: “إنني أمرض الحياة لا أعيشها” وأحيانا يقول: “إنني أعيش على هامش الحياة، بل على هامش ضئيل من هوامشها”، وقد وصف بعض مظاهر مرضه في العديد من قصائده الأخيرة، فقال عن شلله: “أحرك الأطراف لا تطيعني، مشلولة” وقال عن نحوله “أشاجعُ غاب عنها لحمها” وعن الرعشة التي كانت تنتابه: “وعرى عظامي فهي راعشة” وعن حالته مع مرضه “يمشي على عكازه ويَعثُرُ” وكثيرا ما كان يتمنى الموت ليتخلص من آلامه: “هات الردى أريد أن أنام/ بين قبور أهلي المبعثرة /رصاصة الرحمة يا إله”، ولكن، حتى في أحلك ساعات مرضه، لم تغب صورة تلك الممرضة اللبنانية الجميلة عن مخيلته.
وذات يوم، جاءه صديقه علي السبتي وقال له إنه يرغب في السفر إلى بيروت بضعة أيام، فتهلل وجه السياب وطلب منه الذهاب إلى المستشفى الذي تعمل فيه هذه الممرضة وإبلاغها تحياته.
وسافر السبتي وقابل الممرضة وأبلغها الرسالة، وطلب منها أن تكتب جواباً فرفضت، فقال لها: “ولكن بدرا يحبك” فقالت: “ما بيننا ليس حبا، إنه مجرد علاقة بين ممرضة ومريض” فقال: “ولكنه بحاجة إليك” فتساءلت: “وماذا باستطاعتي أن أفعل؟” فقال: “الكثير.. أكتبي له أنك تتذكرينه” فقالت: “مستحيل” فقال السبتي: “أرجوك، إن هذه الرسالة قد تساعد على شفائه وربما تنقذه من الموت المؤكد الذي يحاصره”، وألح عليها في الطلب، فكتبت رسالة تقول فيها للسياب إنها تتذكره كثيراً، وتسأل عن أحواله وتعبر له عن اشتياقها له.
وعندما عاد السبتي إلى الكويت كان أول سؤال وجهه السياب إليه، قبل السلام والكلام هو: “هل قابلت ليلى؟” فضحك السبتي ومد رأسه إليه وقال: “هذه قبلتي أولا إليك بمناسبة عودتي، وهذه قبلة ثانية طلبت ليلى مني أن أطبعها على جبينك”. وبرقت عينا السياب بسعادة عارمة، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ملأت وجهه، ثم طلب من السبتي ورقة وقلما وكتب على الفور قصيدة عمودية مطولة عنوانها “ليلى” يخاطب في مطلعها السبتي قائلا: “قرّب بعينيك مني دون إغضاء / وخلني أتملى طيف أهوائي / أبصرتها؟ كانت الدنيا تفجر في/ عينيك دنيا شموس ذات آلاء / أبصرت ليلى؟ فلبنان الشموخ على/ عينيك يضحك أزهارا لأضواء / إني سالثمها في بؤبؤيك كمن / يقبل القمر الفضي في الماء / ليلى هواي الذي راح الزمان به / وكاد يفلت في كفي بالداء / حنانها كحنان الأم دثرني / فأذهب الداء عن قلبي وأعضائي”.
رحم الله السياب، فقد كان في حالة حب دائمة، حتى عندما كان المرض يأكله قطعة قطعة.
أبو خلدون