~الوعد الأزرق~
~Blue Promise~
- 1 -
رسائل تغرق: - تكملة -
(الشطر الثاني والثالث من [ - 1 - رسائل تغرق] )
وما هي بلحظات تنفذ.. حتى إستيقظ المذهولين على صريخ أخشاب تتحطم بعنف قادم من إحدى جهات السفينة.
وقبل سريان الذعر المؤكد في القلوب, إرتجت الأرضية الحافلة بالنبلاء مع طاقم سفينتهم, طارحةً عدداً رهيباً منهم أرضاً في اللحظة ذاتها.
وماهي بلحظات تالية, حتى تبعتها رجّة أخرى مع تعالي صراخ الركاب؛ وكأنما موجة عملاقة صفعة بطن السفينة من الأسفل, قاذفةً بالجميع إلى سماء غرفة الإحتفالات... طاولاتهم بما عليها من صحون وكؤوس وما بها من أطعمة ومشروبات تسابق الكراسي المقذوفة للأعلى؛ إرتطم بعضها بالثريات الضخمة المتأرجحة بعنف, فتناثر زجاجها المتكسر كأنها شلالات فتحت على الجميع في آن واحد.
الكؤوس تتكسر, والأطباق تتشطّر, الشظايا الطائشة تتناثر؛ راسمة خطوطاً حمراء هنا وهناك, الشموع الغاضبة تهاجم الستائر الراقصة وتحتضن أغطية المآدب المتشقلبة.
تكسّرت الأضلاع, ولويت الكواحل, وتلطخت الأيادي المجروحة, وكُوِيَت السيقان...
نظرت زمردة المطروحة أرضاً لما حولها؛ فوضى عارمة مريعة تحدث... عيناها تبحث عن عجوزها في الجهتين والصراخ في كل صوب...
حاولت الوقوف على الأرضيّة المزلزلة دون جدوى, وصرخت: عمي؟ عمي؟!
أجابها صراخ الناس.. ودوي حطام خشب السفينة التي أًدْرِكَ أنها تحتضن جسم صلب عملاق...
لحظات.. وتوقفت إنتفاضة السفينة فجأة... ليتلوها هدوؤ أكثر ما يكون مريب من أنه مطمئن...
وقفت زمردة متشبثةً بأحد أعمدة المسرح وعيناها جاحضتان ومشدوهتان لما جرى, وقبل أن تنادي عمها, إحتضنها قائلاً: هل أنتي بخير صغيرتي؟
كلماته جعلت في قلبها فرح مازال مرعوب...
فآهات الألم في كل صوب.
غمرها إحساس بالأسى والفزع عندما سمعت نبيلة مفجوعة: إبنتي؟! إبنتي؟!
ورجل يسحب قدمية: أين أمي؟! أين ولدي؟!!
شاب يصرخ منادياً زوجته, وطفلة تبكي تجر نفسها من تحت ركام لا يعرف بعضه.
بعض أفراد الطاقم يزيلون ما ثقل على الناس من أثاث وأقمشة محترقة....
الجميع يئن ويبحث... القاعة عملاقة بسجادها الأحمر... وأثاثها المذهّب.. المبعثر...
وقبل أن يدرك من كان سيدرك لِما كان قد سيدرك... عمَّ صوت صرير إلتواء خشب متوعّد.
مفاجأةً قبل إستطراد الصرير, صرخ القبطان بقسوة: الجميع إلى سطح السفينة فوراً!!
أخذ النبلاء يتسابقون صارخين ناحية السلالم النصف مستديرة في مقدمة القاعة, والتي ضاقت عليهم عند مخارجها. منهم من يساعدهم بعض أفراد الطاقم في النهوض والمضي للنجاة.
فقامت زمردة مع عمها وآخرون محاولين تخطي الحطام والزجاج وتفادي النار المتأججة هنا وهناك.
وقبل وصولهم إلى الأدراج.. حيث الزحام الصارخ الباكي.. والمستنفر, دوّت صرخة أخرى مرعبة عنيفة من خارج السفينة... صرخة كأنها صدى رعدٍ قاصف يخترق وادي هائل محاط بالجبال الجبارة.
توقف الجميع من إكمال هروبهم متباطئين متراجعين للخلف لدى سماعهم تلك الصرخة التي زمجرة في الخارج, فأستوقفهم صرير الخشب المتلوّى الذي أعلن ظهورة مرّة أخرى.. مهدداً بقاءهم في القاعة التي أخذت تميل هي الأخرى بأرواحهم للوراء بهدوء.
فما كان من الطاقم المستنفر إلا أن صرخ بهم ليكملوا طريقهم, فتراكضوا مدبرين مندفعين من البوابات المتعددة.
الممرات والردهات صخبت بأصوات خطوات الهاربين, والسلالم الخشبيّة صدحت بالدبيك وغصّت بالصاعدين, والقبطان يزجرهم قلقاً: هيا هيا! لا تتوقفوا! بسرعة.. قبل أن تغرق بكم السفينة... !!
جرى العم المسن مرهوباً يساعده شاب من الطاقم, وتعثرت زمردته لتلتقفها إحدى بهلوانات المسرح الأجنبيات وتركض معها, والثُريّات المترنّحة مازالت تنثر كريستالاتها كالمطر من ورائهم, حين قالت زمردة للعم متسائلة وهي باكية: عمي.. إني لا أسمع صوت تدفق الماء داخل السفينة... !!
تجاهلها عمها وهم يشقون طريقهم وسط الزحام عند سلالم القاعة الأولى.. إذ مازالوا بها خلف الجميع.
الكل يركض, الكل يتدافع, والجميع يحاول النجاة على حساب غيرهم... لا سيما من كان بمقدمة الهاربين...
يتعثر من سيتعثر, ويسقط من سيسقط, والكل يحاول الصعود في حين كانت زمردة وعمها العجوز في المؤخرة.
أخذت زمردة تفكر باكية, وتتذكر خطيبها الذي ينتظرهم في بغداد, تفكر في عمها ومصيرها إذا ما غرقت بهم السفينة. غابت عن عالمها الذي تجري فيه بلا إدراك عن كارثة مؤكدة, غابت بين مشاهد مبعثرة من ذكرياتها, بسعيدها وحزينها, ترى أياماً سعيدة لا تمت بِصِلة لما يجري لها الآن.
وقبل أن تتخيل نفسها وهي تغرق.. كيف ستغرق.. متى ستغرق, سحبها إلى واقعها صراخ من وصل من الفارين للسطح.. من المؤكد أنهم إكتشفوا مصدر الصرختين المدوّيتين المرعبتين السابقتين...
أرادت التَوَقّف قائلةً لعمها: عمي يجب أن لا نخرج لظهر السفينة!!
لم يعرف الأخير بما يجيب.
الكل يركض للأعلى رغم الصراخ المجنون القادم من السطح...
فتوسلت زمردة: عمي! لا تتقدم أكثر! توقف! دعنا بالداخل!
فأجابها: لا! نجاتنا بالخارج يا إبنتي بإذن الله!
فأستنكرت: أتسمع صراخهم؟! عمي! أرجوك!
فتمعّر وجهه وأردف بإقتضاب: لن تموتي غريقة! هيا بنا!
لكن السفينة قررت أن تتحدى قراره ذلك بعكس ذلك...
وإذا بصرير الأخشاب يصم الآذان والسفينة تميل للخلف بأسرع من ذي قبل, مستوقفةً جزء كبير مِن مَن كان يجري في مؤخرة الفارين, ومنهم زمردة والعم...
طُرِحَ بعضهم مذعوراً...
وقبل أن يكملوا وقوفهم وإتزانهم... إذا بحركة خاطفة من السفينة للخلف أسقطت الجميع في آنٍ واحد.. ليبدأوا بالإنزلاق للوراء... فتعالى صراخهم ليمتزج بصراخ من بالخارج على السطح.
أخذ المساكين ينزلقون ويتدحرجون على أرضية القاعة, بينما تشبثت زمردة وعمها وبعظهم, بقطع من الأثاث الثابتة والأعمدة الخشبية.
لحظات أخرى حتى أخذت السفينة تميل للوراء أكثر فأكثر, حتى غدت القاعة وكأنها هاوية عملاقة... فسقط من سقط وتدحرجوا ليرتطموا بجدار القاعة الخلفي مبتعدين مرّة أخرى عن الأدراج.
الجميع يصرخ, يبكي, يئن... لحظات...
العيون جاحظة, والأنفاس مقبوضة... لحظات.. وعم الهدوء... .
عم الهدوء.. هدوء غريب... أين صوت ماء البحر... ؟ تساءلت زمردة مرّة أخرى في نفسها...
ما هذا!!
لقد توقفت السفينة عن الميلان! وتوقف صراخ من وصل للخارج!
الحضور يرقب بعضهم تارة.. وينظرون تارةً أخرى للأدراج الأمامية التي أصبحت في أعلى القاعة المائلة ...
أحكمت زمردة قبضتها على ساعد عمّها عندما مالت السفينة بخفّة قليلاً للأمام.. مخففةً من حِدّة إنحدار الأرضية.. وكأنها تدعوهم للخروج للسطح ورؤية ما جرى... إذ أنه كان لا يسمع من الخارج إلا صوت الريح...
خفّ إرتباك الناس شيئاً فشيئاً.. وتشجع بعضهم للوقوف...
تساءل أحد أفراد الطاقم: مم.. ما.. مالذي جرى؟ ماذا يحدث؟!
تاجر عجوز: لقد توقفت السفينة!
سألت طفلة والدتها: أمييي... هـ.. هل.. هل سنغرق... ؟؟!
وبلا شك كان هذا تساءل الجميع!! بل والكل كان يود إجابةً على سؤال الطفلة.. من أي فرد من الموجودين!!
زمردة: عمي... ماذا جرى يا عم!!
أجابها مستغرباً لا دارياً ما يفعل: أ.. أتـ.. أتسألينني؟!
أكمل بعضهم خطف بصرهم بين بعضهم والأدراج...
ولا شعورياً أخذوا يتقدمون ببطئ وحذر على الأرضيّة المليئة بالركام, لحظات وإذا بهم راكضين ناحية الأدراج... فصعدوها بسرعة وريبة...
وما هي بلحظات أخرى حتى أصبح كل من كان بالقاعة على ظهر السفينة التي بدت مزرقّة بضوء القمر المحاط بالسحب الزرقاء المرتحلة...
رأت زمردة وعمها والبقية الباقية, من سبقهم إلى الخروج من ركاب السفينة سالفاً... متسمرين في أماكنهم مشدوهي الأبصار...
لقد بان للعيان ماجرى لسفينتهم...
السفينة سابحة في عنان السماء... مؤخرتها منخفظة ومقدمتها تشق كبد الكون... معلّقة على سياج ضخم... من القضبان السوداء الفولاذيّة العملاقة... التي كانت تظهر من عَدَم البحر... على مد البصر...
قضبان.. أسافلها كانت تفور بظهورها من الماء غازيةً فضاء سماء البحر...
أحدها قد خرق بطن السفينة...
سياج... غريب الشكل, مريب المنظر... يبدو وكأنه ليس من صنع البشر... متماسك بجسور فولاذية مسلّحة... بلغت من الضخامة بحيث تقدر أن تجري فوقها عشرون عربة متوازية بلا إشكال!
لحظات... فمالت السفينة للأمام ... لتنخفض مقدمتها المنتصبة ببطئ شيئاً فشيئاً.. كاشفةً عن ما كان أكبر... أضخم... أهول... وأكثر دهشة وعظمة!
لم يكن السياج وحده حديث الأفق فحسب...
بل بزغ ما حجب الأفق... وصاح بوجوده البحر... كان هناك قصر... عملاق... مسلسل بالسلاسل الحديدية الجبارة... غريب الصنعة والمظهر... حالك في الزرقة... دميم الأنوار... شلالات بيضاء تفريغيّة تتصبب من كل ناحية... أقطارها تزيد عن قطر السفينة برمتها!!... كان قصرأ... قلاعياً... مسلّحاً... لا يعرفه الخيال!... محاط بالأبخرة الباردة ورذاذ الماء المنهمر...
ركنت بعض النساء على ركبهن ورؤوسهن منتصبة...
وتمتمة نبيلة وكأنها مسلوبة العقل:... للأعلى...
نظرت زمردة لها بشفتين ترتعشان ولسانها يهذي بفراغ الكلمات:... ... .. . ؟!
فأكلمت النبيلة مسلوبة الحواس: للأعلى... ... !!
فقالت لها زمردة بجفنٍ يرجف:... مم.. ما.. ما... ذ.. ؟!؟!!
النبيلة:... أنظروا... للـ... أعلى... .. .
ثوان... وترددة كلمة "أنظروا للأعلى" على لسان العديدين...
أدارة زمردة نظرها ورفعته للأعلى...
كان يُرى في قمة القلعة... الشاهقة... وبنائها المرتفع... برج.. قد إخترق بطوله نور القمر.. بل نـَصـَفـَه!
القصر مازال يظهر ويبزغ من عَدَم البحر ويرتفع... مخترقاً القمر ببرجه أكثر وأكثر... لكنه متباطئ...
وما هي يثوانٍ حتى توقف هذا الشياد من الخروج من الماء...
لحظات... تركّزت فيها الأنظار لِقمة البرج... هدوء...
السحب... تستضيفها أمكنه وتودعها أمكنه في فضاء البحر...
القمر... يعتلي عرش السماء بنوره الذي كسا كون محيطهم بالزرقة اللا متناهية...
السفينة... ثابته في مكانها بلا حراك كأنها عش عصفور معلّق...
السور... راسخاً في الماء.. شاقاً عباب البحر.. صارماً كحرس السجون...
القصر... زهرة نبتت من الزرقة.. راسية فوق سطح الماء...
البرج... منتصباً شامخاً يحاكي الكون.. ويطلع على كل ما حوله...
ثوان أخريات والأبصار تحدّق في قمة البرج, وإذا به ينشر جناحين خفاشيَين مضلمَين حاجباً نور القمر!!!
إرتفعا.. إرتفعا.. إرتفعا عالياً... ثم إنخفضا مرّةً واحدة للأسفل, وكأن البرج يوشك أن يطير, فدوّت صرخة مزمجرة قويّة, مصاحبةً لإنخفاض الجناحين, صادرة من قمة البرج, مشابهة للصرختين اللتان تم سماعهما من ذي قبل... تبعها دوي وإهتزاز شديد للقصر.. والسياج.. والسفينة...
عمً الصراخ بين ركاب السفينة التي أخذت تتمايل, وإذا بالمياة تحت القصر وسياجهِ المسلّح تفور مجدداً.. ليبدأ بالظهور والخروج من البحر أكثر فأكثر مرتفعاً.. زاد إهتزاز وإرتجاج ودويّ السياج الجبار, حتى بدت السماء وكأنها تهتز للركاب الذين تزايد صياحهم وصراخهم.
فأكتسح صرير تحطم الأخشاب السفلى للسفينة صراخ المستغيثين.. وهي تميل وتنزلق للخلف.. بل وغطّى على صياحهم وهي تميل بأرواحهم...
ضم الكهل صغيرته إلى صدره في ذعر وجزع, وهما يجثيان على ركبتيهما مغمضي العينين... عندما فتحت زمردة عيناً واحدة وهي في رعب وخوف مستطير... لترى السفينة.. قد أحيطت بقطع من الخشب والألواح المتأرجحة.. تعوم في الفضاء متطايرة!!
عندها عصفت السماء وقصفت برقاً أبيض ساطع.. إبتلع بنوره كل ما يمكن رؤيته...
لحظات..
وسقطت السفينة...
يتبع بإذن الله...
+--------------------+--------------------+