-
مشاركة: النظام الإقتصادي
الجزيـة
الجزية حق أوصل الله سبحانه وتعالى المسلمين إليها من الكفار خضوعاً منهم لحكم الإسلام. وهي مال عام يُصرف على مصالح الرعية كلها وتُستحق بحلول الحول ولا تُستحق قبله، وهي ثابتة بنص القرآن الكريم، قال تعالى: )حتى يُعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون( {كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر يدعوهم إلى الإسلام فمن أسلم قبِل منه ومن لا ضُربت عليه الجزية في أن لا تؤكل له ذبيحة ولا تُنكح له امرأة}. وتؤخذ من الكفار ما داموا باقين على الكفر فإذا أسلموا سقطت عنهم. وتوضع الجزية على الرؤوس لا على الأموال، فتؤخذ عن كل شخص من الكفار لا على ماله. والجزية مشتقة من الجزاء، فهي تؤخذ جزاء على كفرهم، ولذلك لا تسقط إلاّ إذا أسلموا. ولا تسقط عنهم إذا اشتركوا في القتال لأنها ليست جزاء حمايتهم. ولا تؤخذ إلاّ من القادر على دفعها لقوله تعالى: )عن يدٍ( أي عن مقدرة، فلا تؤخذ من العاجز، ولا تؤخذ إلاّ على الرجال، فلا تجب على امرأة ولا على صبي، ولا على مجنون، حتى لو جاءت امرأة لتعيش في دار الإسلام على أن تدفع الجزية مقابل إقامتها، تُقبل في دار الإسلام ويُسمح لها بالإقامة ولا تؤخذ منها جزية. ولا يقدَّر مقدار مخصوص للجزية بل هي متروكة لرأي الإمام واجتهاده على شرط ألاّ تكون أكثر مما يطيق الذي تستحق عليه الجزية. عن أبي بجيح قال: "قلت لمجاهد: ما شأن أهل الشام عليهم أربعة دنانير وأهل اليمن عليهم دينار؟ قال: جُعل ذلك من قبيل اليَسار"، وإذا استحقت الجزية على قادر وأعسَر قبل دفعها تبقى ديناً عليه ويعامَل معاملة المدين المعسِر فيُنظَر إلى ميسرة.
الخَـراج
الخراج هو حق أوصل الله المسلمين إليه من الكفار، وهو حق يوضع على رقبة الأرض التي غُنمت من الكفار حرباً أو صلحاً، والخراج في لغة العرب للكراء والغلة، ومنه قول النبي عليه السلام: {لا يجتمع خراج وعشر في أرض مسلم}، وكل أرض أُخذت من الكفار عنوة بعد إعلان الحرب عليهم تعتبر أرضاً خراجية، وإذا أسلموا بعد الفتح تبقى أرضهم خراجية، فقد روي عن الزهري قال: {قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيمن أسلم من أهل البحرين أنه قد أحرز دمه وماله إلاّ أرضه، فإنها فيء للمسلمين، لأنهم لم يسلموا وهم ممتنعون}؛ أي وهم في مَنَعة من المسلمين، أمّا قدرُ الخراج الذي يُضرب على الأرض فيعتبر بما تحتمله الأرض، فإن عمر حين وضع الخراج راعى ما تحتمله الأرض من غير حيْف بمالِك ولا إجحاف بزراع، فقد ضرب في بعض نواحيه على كل جريب قفيزاً ودرهماً، وضرب على ناحية أخرى غيرها غير هذا القدر، وعمل في نواحي الشام غير هذا، فعُلم أنه راعى في كل أرض ما تحمله، فإذا تقرر الخراج بما احتملته الأرض فإنه يحصله على الوجه الذي وضعها عليه، فإنْ وضع الخراج على مساحة الأرض سنوياً حصَّل الخراج عند نهاية السنّة الهلالية لأنها السنّة المعتبرة شرعاً، وإن جُعل الخراج عل مساحة الزرع حُصّل الخراج كل سنة عند نهاية السنّة الشمسية لأنها السنّة التي تكون عليها الأمطار ويُزرع الزرع. وإنْ وَضَعها مقاسمة أي قدّر نسبة معينة مما تنتجه عادة حُصّل الخراج عند كمال الزرع وتصفيته. وللإمام أن يقدِّر الخراج مراعياً أصلح الأمور في هذه الأوجه الثلاثة، إما على مساحة الأرض أو مساحة الزرع أو تقدير مقدار الناتج. وإذا حَصَلت تحسينات في الأرض فنَتج عن هذه التحسينات زياردة في الإنتاج، أو طرأ على الأرض عوامل أنقصت الإنتاج يُنظر، فإن كانت هذه الزيادة من فعل الزرّاع كأن حفروا بئراً أو أوصلوا قناة ماء لا يزاد عليهم شيء، وإن كان النقص بفعلهم كهدمهم القناة أو إهمالهم البئر لا يُنقص عنهم شيء ويؤمرون بإصلاح ما خرّبوه. وإن كانت الزيادة أو النص من الدولة كأن حفرت لهم هي بئراً أو أهملت إصلاح الآبار والقنوات فإن لها أن تزيد الخراج في حالة زيادة الإنتاج، وعليها أن تنقصه في حالة نقصان الإنتاج. أمّا إن حصلت الزيادة والنقص بعوامل طبيعية كان اقتلعت الزوابع الأشجار أو جرف السيل الأقنية، فإنه يوضع على الأرض قدرَ ما تحتمل حتى لا يُظلم أهلها. والخراج يقدّر لمدة معلومة ولا يقدر دائمياً، ويتغير هذا التقدير عند انتهاء المدة بما تحتمله الأرض عند التقدير للمدة الجديدة.
الضرائـب
إن المواد التي حددها الشرع لبيت المال كافية لإدارة شؤون الرعية ورعاية مصالحهم، ولا يحتاج الأمر إلى فرض ضرائب مباشرة أو غير مباشرة، ولكن الشرع مع ذلك احتاط فجعل حاجات الأمّة قسمين اثنين: منها حاجات فرضها على بيت المال أي على الموارد الدائمة لبيت المال، ومنها حاجات فرضها على كافة المسلمين وجعل للدولة الحق أن تحصّل المال منهم لقضاء تلك الحاجات. وعلى ذلك فالضرائب هي مما فرضه الله على المسلمين لقضاء مصالحهم، وجعل الإمام والياً عليهم يحصّل هذا المال وينفقه هو على الوجه الذي يراه. ويصح أن يسمّى هذا الذي يُجمع ضريبة كما يصح أن يسمى مالاً مفروضاً وغير ذلك. وما عدا ما فرضه الله من الموارد التي نص الشرع عليها كالجزية والخراج، وما عدا ما فرضه الله على المسلمين للقيام بالإنفاق على الحاجة المفروضة عليهم كافة كالطرقات والمدارس لا تؤخذ ضرائب، فلا تؤخذ رسوم للمحاكم ولا للدوائر ولا لأي مصلحة. أمّا ضريبة الجمارك فليست من قبيل الضرائب المأخوذة وإنما هي معامَلة للدول بمثل ما تعاملنا به، وليست ضريبة لسد كفاية بيت المال، وقد سماها الشرع مكوساً ومنع أخذها من المسلمين والذميين. ولا يجوز أن يؤخذ غير ما فرضه الشرع ضريبة مطلقاً، إذ لا يجوز أن يؤخذ من مال المسلم شيء إلاّ بحق شرعي دلت عليه الأدلة الشرعية التفصيلية، ولم يَرِد أي دليل يدل على جواز أخذ ضريبة من أحد من المسلمين سوى ما تقدم. أمّا غير المسلمين فلا تؤخذ منهم ضريبة لأن قضاء الحاجات الذي فرضه الشرع إنّما فرضه على المسلمين فقط، فلا تؤخذ الضريبة إلاّ من المسلمين ولا تؤخذ من غير المسلمين ضريبة سوى الجزية فقط. والخراج يؤخذ من المسلم وغير المسلم على الأرض الخراجية. أمّا كيف تؤخذ الضريبة من المسلمين فإنها تؤخذ مما زاد على نفقتهم، وعما يُعتبر عن ظهر غِنى شرعاً.
وما يُعتبر عن ظهر غِنى هو ما يفضُل عن إشباعه حاجاته الأساسية وحاجاته الكمالية بالمعروف، لأن نفقة الفرد على نفسه هي سدّه لكفاية جميع حاجاته التي تتطلب إشباعاً بالمعروف حسب حياته التي يعيش عليها بين الناس، وهذا لا يقدَّر بمقدار معيّن عام لجميع الناس، وإنما يقدَّر لكل شخص بحسب مستوى معيشته، فإذا كان ممن يحتاج مثله إلى سيارة وخادم يقدَّر بما زاد عنهما، وإنْ كان يحتاج إلى زوجة يقدَّر بما يزيد على زواجه، وهكذا. فإن كان ما يملكه يزيد على هذه الحاجات تحصَّل منه ضريبة، وإن كان لا يزيد على ذلك لا تحصَّل لأنه لا يكون مستغنياً فلا تجب عليه ضريبة.
ولا يراعى في فرض الضرائب منع تزايد الثروة وعدم الغِنى لأن الإسلام لا يمنع الغِنى. ولا يراعى أي اعتبار اقتصادي لجمع الضرائب وإنما تؤخذ ضريبة المال على أساس كفاية المال الموجود في بيت المال لسد جميع الحاجات المطلوبة منه، فتؤخذ بمقدار حاجات الدولة للنفقات، ولا يراعى فيها إلاّ حاجات الرعية ومقدرة المسلمين على دفعها. ولا تقدّر بنسبة تصاعدية أو تنازلية مطلقاً، وإنما تقدّر بنسبة واحدة على المسلمين بغض النظر عن مبلغ المال الذي تؤخذ منه. ويراعى في تقدير النسبة العدل بين المسلمين، إذ لا تؤخذ إلاّ عن ظهر غِنى، وتؤخذ على جميع المال الزائد عن الحاجة لا على الدخل فقط، لا فرق بين رأس المال أو الربح أو الدخل، بل تؤخذ عن المال كله. ولا تعتبر آلات الإنتاج اللازمة للعمل في الصناعة والزراعة ولا الأرض ولا العقار من رأس المال.
توزيع الثروة بين الناس
لقد أباح الإسلام الملكية الفردية، ولكنه حدد كيفية التملك. وأَذِن للفرد بأن يتصرف بما يملك، ولكنه حدد كيفية التصرف. ولاحَظ تفاوت القوى العقلية والجسمية لدى أفراد بني الإنسان، فاحتاط لهذا التفاوت في إعانته العاجز وكفايته المحتاج وفرضِه في أموال الأغنياء حقاً للفقراء والمساكين، وقد جعل ما لا تستغني عنه الجماعة ملكاً عاماً لجميع المسلمين لا يجوز لأحد أن يمتلكه أو يحميه لنفسه أو لغيره. كما جعل الدولة مسؤولة عن توفير الثروة أموالاً وخدمات للرعية، وأباح لها أن تتملك ملكية خاصة بها.
وبهذا كله ضَمِن العيش لكل فرد من أفراد الرعية، وضَمِن للجماعة أن تبقى مجتمعة متماسكة، وضَمِن مصالح هؤلاء الأفراد ورعاية شؤون هذه الجماعة، وحَفِظ كيان الدولة في قدرة كافية للاضطلاع بمسؤولياتها الاقتصادية. غير أن ذلك كله يحصل إذا بقي المجتمع على وضع يتحقق فيه توفير الثروة لجميع أفراد الرعية فرداً فرداً، وكان أفراد الرعية في جملتهم قائمين بتنفيذ جميع أحكام الشرع. أمّا إذا قام المجتمع على تفاوت فاحش بين أفراده في توفير الحاجات كما هي الحال الآن في العالم الإسلامي، كان لا بد من إيجاد توازن بين أفراده في عملية توزيع جديدة توجِد التقارب في توفير الحاجات.
وكذلك أيضاً إذا حصل انحراف في أذهان الناس في تطبيق الأحكام الشرعية لفهم سقيم، أو لفساد طارئ، أو حصل تقصير من الدولة في تطبيق النظام، فإنهم حينئذ ينحرفون عن النظام وينحرف المجتمع عن وضعه المرسوم فيؤدي ذلك إلى الأثَرة والأنانية وسوء التصرف في الملكية الفردية فيحصل حينئذ سوء توزيع الثروة بين الناس فيصبح لا بد من حفظ التوازن بين أفراد المجتمع أو إيجاد هذا التوازن.
وفي كلتا الحالتين يحصل سوء التوزيع للثروة بين الناس من أحد أمرين: إما مِن تداول الثروة بين فئة الأغنياء وحدهم، وإما من منعها عن الناس ومنع أداة التداول بينهم بحجزها عن المجتمع. وقد عالج الإسلام هاتين الناحيتين فوضع أحكاماً شرعية تضمن تداول الثروة بين الناس جميعاً وتعيد توزيعها كلما حصل اختلاف في توازن المجتمع. كما وضع أحكاماً شرعية تمنع كنز الذهب والفضة بوصفهما أداة التبادل وتجبر على وضعهما في المجتمع بين الناس موضع التبادل. وبذلك يعالَج المجتمع الفاسد، ويعالَج المجتمع المنحرف أو المائل للانحراف، ويُعمل لتوفير الثروة لجميع أفراد الرعية فرداً فرداً حتى يُشبِع كل فرد منهم حاجاته الأساسية إشباعاً تاماً، ويُفتح أمامه السبيل ليعمل على إشباع حاجاته غير الأساسية قدر ما يستطيع.
-
مشاركة: النظام الإقتصادي
التوازن الاقتصادي في المجتمع
أوجب الإسلام تداول المال بين جميع أفراد الرعية، ومنع حصر تداوله بين فئة من الناس، قال تعالى: )كيلا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم(. فإذا كان المجتمع على حال من التفاوت الفاحش بين أفراده في توفير الحاجات وأريد بناؤه من جديد، أو حصل فيه هذا التفاوت من إهمال أحكام الإسلام والتساهل في تطبيقها، كان على الدولة أن تعالِج إيجاد التوازن في المجتمع بإعطائها من أموالها التي تملكها لمن قَصُرت به حاجته حتى تكفيها، وحتى يحصل بهذه الكفاية التوازن في توفير الحاجات. وعليها أن تعطي المال منقولاً وغير منقول، لأنه ليس المقصود من إعطاء المال قضاء الحاجة مؤقتاً، بل المقصود توفير وسائل قضائها بتوفير ملكية الثروة التي تسد هذه الحاجات، وإذا كانت الدولة لا تملك مالاً أو لم تفِ أموالها بإيجاد هذا التوازن لا يصح أن تُملَك من أموال الناس، فلا تَفرض ضرائب من أجل هذا التوازن لأنه ليس من الأمور التي فُرضت على كافة المسلمين، بل عليها أن تسعى لتوفير المال من غير الضرائب كالغنائم والملكية العامة حتى تقوم بإيجاد التوازن. وهكذا كلما رأت الدولة اختلالاً بالتوازن الاقتصادي في المجتمع عالجت هذا الخلل بإعطاء من قَصُرت بهم الحاجة من أموال بيت المال، إن كان في بيت المال مال جاءه من الغنائم والأملاك العامة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين رأى التفاوت في ملكية الأموال بين المهاجرين والأنصار خصّ المهاجرين بأموال الفيء الذي غنمه من بني النضير من أجل إيجاد التوازن الاقتصادي، فقد رُوي أنه لما فَتح النبي صلى الله عليه وسلم بني النضير صلحاً وأجلى اليهود عنها، سأل المسلمون النبي صلى الله عليه وسلم أن يَقسِم لهم فنزلت )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى( الآيات، فجعل الله أموال بني النضير للنبي صلى الله عليه وسلم يضعها حيث يشاء فقَسَمها النبي بين المهاجرين ولم يُعطِ الأنصار منها شيئاً سوى رجلين اثنين هما أبو دجانة سماك بن خرشة، وسهل بن حنيف، فقد كانت حالهما كحال المهاجرين من حيث الفقر. وعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: إن شئتم قسمتم للمهاجرين من دُوركم وأموالكم وقسمتُ لكم من الغنيمة كما قسمت لهم وإن شئتم كانت لهم الغنيمة ولكم دياركم وأموالكم. فقالوا: لا، بل نقسم لهم من ديارنا وأموالنا ولا نشاركهم في الغنيمة. فأنزل الله )ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة(. والآية صريحة في أن الفيء جعله الله حقاً للفقراء المهاجرين، قال تعالى: )ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم، وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب. للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يَبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون(. فقوله تعالى: )كي لا يكون دُولةً بين الأغنياء منكم( أي كيلا يُتداول بين الأغنياء فقط، والدُولة في اللغة اسم للشيء الذي يتداوله القوم وهي أيضاً اسم لما يُتداول من المال، أي كيلا يكون الفيء الذي حقه أن يعطى للفقراء ليكون بُلغة لهم يعيشون بها، واقعاً في يد الأغنياء ودُولةً بينهم. وقوله تعالى: )للفقراء المهاجرين( بدل من قوله لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، كأنه قيل أعني بأولئك الأربعة هؤلاء الفقراء المهاجرين الذين صفتهم كذا وكذا.
وما فُعل بفيء بني النضير وهو من أموال بيت المال لجميع المسلمين قد خُص به الفقراء وحُرم منه الأغنياء لتوازن توفير الحاجات بينهم. ويُفعل ذلك في أموال بيت المال إذا كانت هذه الأموال لم تأت مما يُجمع من المسلمين كأموال الغنائم وأموال الأملاك العامة. أمّا إذا كان المال جُمع من المسلمين فلا يُصرف على التوازن. ويُفعل ذلك في كل وقت لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وعليه فإن على الخليفة أن يوجِد التوازن الاقتصادي بإعطائه الفقراء من الرعية وحدهم من أموال بيت المال التي لجميع المسلمين حتى يوجد التوازن الاقتصادي بهذا العطاء. إلاّ أن هذا لا يعتبر من نفقات بيت المال الثابتة بل هو معالجة لحالة معينة من أموال معينة.
منع كنز الذهب والفضة
إن ظاهرة سوء توزيع الثروة بين الأفراد في مختلف دول العالم من الحقائق الثابتة التي تنطق بها كافة مظاهر الحياة اليومية في صراحة وفصاحة لا تَدَعان كبير مجال للتدليل عليها، وأن ما يعانيه البشر من هذا التفاوت الفاحش في قضاء الحاجات لا يحتاج إلى إظهار حدّة هذا التفاوت وبشاعته. وقد حاولت الرأسمالية معالجة ذلك فلم تفلح. والاقتصاديون الرأسماليون حين يبحثون نظرية توزيع الدخل يُهملون كل الإهمال سوء توزيع الدخل الشخصي، ويكتفون بعرض الإحصاءات من غير معالجة ولا تعليق. والاشتراكيون لم يجدوا وسيلة لمعالجة سوء التوزيع سوى تحديد الملكية بالكم. والشيوعيون جعلوا المعالجة منع الملكية.
أمّا الإسلام فقد ضَمِن حسن التوزيع في تحديد كيفية الملكية وكيفية التصرف وفي إعطاء من قَصُرت به مواهبه ما يضمن له تقارباً مع غيره ممن يعيشون في المجتمع لإيجاد التقارب في توفير الحاجات بين الناس. وبذلك عالج سوء التوزيع. إلاّ أنه مع وجود التقارب في قضاء الحاجات بين الأفراد قد توجد ثروات كبيرة لدى بعض الأفراد. والإسلام لم يفرض التقارب بين الناس في الملكية، وإنما فرض استغناء كل فرد عن غيره في حاجاته المعروفة بالنسبة له، {خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى}. وهذه الثروات الكبيرة تهيئ لأصحابها فرص الادخار وتساعد على اكتساب الدخول الكبيرة فتظل الثروة الكبيرة حيث يوجد المال الكبير، لأن المال يجلب المال، وإن كان للجهد أثر في اكتساب الثروة وتهيئة الفرص لاستغلال الأموال، فلا يوجد منها أي خطر على الاقتصاد، بل على العكس تنمي الثروة الاقتصادية للجماعة كما تنمي ثروة الفرد. ولكن الخطر إنّما يأتي من النقود المكنوزة عند بعض الأفراد من ذوي الثروات الكبيرة. فيهبط بكنز النقود مستوى الدخل وتنتشر البطالة ويصل الناس إلى حالة من الفقر. ولذلك لا بد من معالجة كنز النقود. فالنقود هي أداة التبادل بين مال ومال، وبين مال وجهد، وبين جهد وجهد. فهي المقياس لهذا التبادل، فإذا اختفت من السوق ولم تصل إليها أيدي الناس عُدم هذا التبادل، فوقف دولاب الاقتصاد. وبقدر وجود هذه الأداة متوفرة بين أيدي الناس بقدر ما يدفع سير العمل إلى الأمام.
وذلك أنه ما من دخلٍ لشخص أو هيئة إلاّ ومصدره شخص آخر أو هيئة أخرى، فالأموال التي تجبيها الدولة من الضرائب هي دخل للدولة، ولكنها إنفاق من الناس، والنفقات التي تنفقها الدولة على الموظفين والمشاريع وأرزاق الجند وغيرها هي دخل لهؤلاء وإنفاق من الدولة، والنفقات التي ينفقها الموظف والجندي وغيرهما هي دخل لمن تشترى السلع منهم كصاحب المنزل واللحام والخضري والتاجر وغيرهم، وهكذا.. فتكون دخول الناس في المجتمع ونفقاتهم الإجمالية تسير في شكل دائرة مستمرة، فإذا كَنَز شخص النقد فإنه يكون قد سحب من السوق نقداً، وهذا بالطبع لا ينتج إلاّ من تقليل إنفاقه فيؤدي حتماً إلى تقليل ما يدخل للآخرين الذين يعطيهم أو يتبادل معهم ما كنزه من النقد. وهذا يؤدي إلى تقليل إنتاجهم لأن الشراء على السلع قد قلّ، وهذا يؤدي إلى البطالة وإلى هبوط الاقتصاد في جملته. ومن هنا كان كنز النقد مؤدياً حتماً إلى وجود البطالة وهبوط الاقتصاد من قلة ما يَدخل للناس.
إلاّ أن الذي يجب أن يُعلم أن هذا الضرر إنّما يأتي من كنز النقد لا من ادخاره، فالادخار لا يوجِد وقوف دولاب العمل وإنما الذي يوقفه هو الكنز. والفرق بين الكنز والادخار هو أن الكنز عبارة عن جمع النقد بعضه فوق بعض لغير حاجة، فهو حبس النقد عن السوق. وأمّا الادخار فهو خزن النقد لحاجة من الحاجات كأن يجمع النقد ليبني بيتاً أو ليتزوج أو ليشتري مصنعاً أو ليفتح تجارة أو غير ذلك. فهذا النوع من جمع النقد لا يؤثر على السوق ولا على دولاب العمل لأنه ليس حبساً للمال وإنما هو تجميع له لإنفاقه، فهو سيدور حين يوضع موضع الإنفاق. ولذلك لا يوجد خطر من الادخار، والخطر إنّما هو من كنز النقد أي من جمع بعضه فوق بعض لغير حاجة.
وقد أباح الإسلام ادخار الذهب والفضة لأنه جمعٌ للنقد لحاجة، فأباح للمكاتِب أن يشتغل ويجمع النقد بعضه فوق بعض ليؤدي ما وجب عليه لسيّده ليُعتَق، وأباح للرجل جمع النقد بعضه فوق بعض ليجمع مهر امرأة ليتزوجها، وأباح جمع النقد بعضه فوق بعض حتى يقوم بأداء فريضة الحج، ولم يجعل في هذا النقد المجموع من الذهب والفضة سوى الزكاة عليه إذا بلغ مقداره النصاب، وحالَ عليه الحَوْل.
والذهب والفضة حين نزلت الآية في منع كنزهما كانت ذاتهما أداة للتبادل ومقياساً للجهد في العمل، والمنفعة في المال، سواء أكانت مصكوكة كالدراهم والدنانير أو لم تكن مصكوكة كالسبائك. وعليه فالنهي منصبّ على الذهب والفضة بوصفهما أداة للتبادل.
أمّا كنز الذهب والفضة فقد حرّمه الإسلام بصريح القرآن، قال تعالى: )والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشِّرهم بعذاب أليم(، فهذا الوعيد بالعذاب الأليم لمن يكنزون الذهب والفضة دليل ظاهر على أن الشارع طلب ترك الكنز طلباً جازماً فكان كنز الذهب والفضة حراماً.
والآية جاءت عامة لجميع الذهب والفضة سواء أكان نقداً أم سبائك أم حُلياً، غير أن الحديث استثنى الحلي من الكنز فأباحه، فقد روى أبو داود من رواية ثابت بن عجلان عن عطاء عن أم سلمة قالت: كنت ألبس أوضاحاً من ذهب فقلت: يا رسول الله أكنزٌ هو؟ فقال: {ما بلغ أن تؤدى زكاته فزُكِّي فليس بكنز}، والأوضاح نوع من أنواع الحلي. فهذا الحديث مخصِّص لعموم الآية بأن الكنز الممنوع إنّما هو في غير الحلي، أمّا الحلي فلا يُمنع كنزها ما دامت تؤدى زكاتها. والحديث وإن كان لا يَنسخ القرآن ولكنه يخصصه. فالله تعالى حين قال: )الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة( خصَّص ذلك في غير المحصَن، أمّا المحصَن فيُرجَم لأن الرسول رجم المحصَن وأمر أن يُرجَم، فخصَّص عمل الرسول عموم الآية. والله تعالى حين قال: )السارق والسارقة فاقطعوا أيديهما( خصَّص القطع في غير المجاعة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {لا قطع في مجاعة مضطر}. فحديث الأوضاح خصَّص آية الكنز كما خصص آية الجلد حديث المحصَن وآية السرقة حديث المجاعة.
والدليل على أن الآية قد حرّمت كنز الذهب والفضة تحريماً قاطعاً هو:
أولاً: عموم هذه الآية. فنص الآية منطوقاً ومفهوماً دليل على منع كنز المال من الذهب والفضة منعاً باتاً، فالمصير إلى أن الكنز مباح بعد إخراج الزكاة تركٌ لحكم الآية الذي دلت عليه دلالة قطعية، وهذا لا يصار إليه إلاّ بدليل منفصل عنها يصرفها عن معناها أو ينسخها. ولم يَرِد أي نص صحيح يصرفها عن معناها ولا يُحتمل أن يكون هناك دليل يصرفها عن معناها، لأنها قطعية الدلالة، فلم يبقَ إلاّ الدليل الذي ينسخها، ولا يوجد دليل ينسخها. أمّا آية )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم( فإنها نزلت في السنّة الثانية للهجرة حين فُرضت الزكاة، وهذه الآية قد نزلت في السنّة التاسعة للهجرة ولا يَنسخ المتقدم المتأخر في النزول. وأمّا الأحاديث الواردة في أنه ما أُدّي زكاته فليس بكنز فإنه لم يصح منها سوى حديث واحد هو حديث أم سلمة وما عداه من جميع الأحاديث التي رويت في هذا الباب فإنها كلها مكذوبة مطعون بها رواية ودراية، أي سنداً ومتناً. وحديث أم سلمة هذا في الأوضاح خاص بالحلي، وهو مخصِّص لعموم الآية. على أن الحديث لو صح ولو كان متواتراً فإنه لا ينسخ الآية، لأن الأحاديث النبوية لا تنسخ القرآن الكريم ولو كانت متواترة لأن القرآن قطعي الثبوت لفظاً ومعنى ونحن متعبّدون بلفظه ومعناه، بخلاف الحديث المتواتر فهو قطعي الثبوت معنىً لا لفظاً ولسنا متعبّدين بلفظه فلا يُنسخ القرآن بالأحاديث ولو كانت متواترة. فكيف يُجعل حديث الآحاد كحديث أم سلمة ناسخاً لآية قطعية الثبوت قطعية الدلالة؟
ثانياً: أسند الطبري إلى أبي أمامة الباهلي قال: مات رجل من أهل الصفّة فوُجد في برده دينار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كَيّة}، ثم مات آخر فوُجد له ديناران فقال رسول الله {كيّتان}، وهذا لأنهما كانا يعيشنا من الصدقة وعندهما التبر. والدينار والديناران لا يبلغان نصاباً حتى تُخرج منهما الزكاة، فقول الرسول عنهما {كيّة وكيّتان} دليل اعتباره لهما أنهما كنز ولو لم تجب فيهما الزكاة، وهو يشير إلى ما جاء في آية الكنز )يوم يحمى عليها في نار جهنم فتُكوى بها جباههم وجنوبهم(.
ثالثاً: إن نص الآية هو صب الوعيد على أمرين اثنين: أحدهما كنز المال، والثاني الإنفاق في سبيل الله، أي الذين يكنزون الذهب والفضة والذين لا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بالعذاب. ومن ذلك تبين أن من لم يكنز ولم ينفق في سبيل الله يشمله الوعيد، ومن كنز وأنفق في سبيل الله يشمله الوعيد، قال القرطبي: "فإنّ من لم يكنز ومَنَع الإنفاق في سبيل الله فلا بد وأن يكون كذلك" والمراد بالآية من قوله: )في سبيل الله( أي في الجهاد، لأنها مقترنة بالإنفاق، وكلمة )في سبيل الله( إذا قُرنت بالإنفاق كان معناها الجهاد، وقد وردت في القرآن في هذا المعنى وحده ولم ترد كلمة )في سبيل الله( في القرآن ومعها الإنفاق إلاّ كان معناها جزماً الجهاد، ولا تحتمل غيره مطلقاً.
رابعاً: روى البخاري عن زيد بن وهب قال: "مررت بالربذة فإذا أنا بأبي ذر، فقلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في )الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله( فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، وكان بيني وبينه في ذلك، فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إليّ عثمان أن أقدِمَ المدينة، فقَدِمتها فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحّيت فكنت قريباً، فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أمّروا عليّ حبشياً لسمعتُ وأطعتُ"، فخلاف أبي ذر ومعاوية إنّما كان في حق من نزلت الآية لا في معناها، ولو كان هناك حديث مروي في ذلك الوقت بأن ما أديت زكاته فليس بكنز لاحتج به معاوية ولأسكت أبا ذر به. والظاهر أن هذه الأحاديث وُضعت بعد حادثة أبي ذر هذه، وقد ثبت أنها كلها أحاديث غير صحيحة.
خامساً: الكنز في اللغة جمع المال بعضه على بعض وحفظه، ومال مكنوز أي مجموع، والكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها. والقرآن تُفسَّر كلماته بمعناها اللغوي وحده، إلاّ أن يرد من الشرع معنى شرعي لها فتُفسَّر حينئذ بالمعنى الشرعي، وكلمة الكنز لم يصح أنه ورد أي معنى شرعي وُضع لها، فيجب أن تفسر بمعناها اللغوي فقط، وهو أنه مجرد جمع المال بعضه إلى بعض لغير حاجة جمع من أجلها، يعتبر من الكنز المذموم الذي أوعد الله فاعله بالعذاب الأليم.
-
مشاركة: النظام الإقتصادي
الربا والصرف
الربا هو أخذ مال بمال من جنس واحد متفاضلين، والصرف هو أخذ مال بمال من الذهب والفضة من جنس واحد متماثلين أو من جنسين مختلفين، متماثلين أو متفاضلين، والصرف لا يكون إلاّ في البيع. أمّا الربا فإنه لا يكون إلاّ في بيع أو قرض أو سَلَم. فأما البيع فهو مبادلة المال بالمال تمليكاً وتملكاً وهو جائز لقوله تعالى: )وأحل الله البيع( ولقوله صلى الله عليه وسلم: {البيِّعان بالخَيار ما لم يتفرقا}. وأمّا السَلَم فهو أن يسلم عرضاً حاضراً بعرض موصوف في الذمة إلى أجل، ويسمى سَلَماً وسلفاً وهو نوع من البيع ينعقد بما ينعقد به البيع وبلفظ السَلَم، وهو جائز لقوله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بديْن إلى أجل مسمى فاكتبوه(، قال ابن عباس: {أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله في كتابه وأذن فيه} ثم قرأ هذه الآية. ولأنه روي عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم {أنهم قدموا المدينة وهم يسلفون في الثمار السنتين والثلاث، فقال: من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم}. وأمّا القرض فهو نوع من السلف، وهو أن يعطي مالاً لآخر ليسترده منه، وهو جائز، فقد روى أبو رافع {أن النبي صلى الله عليه وسلم استسلف من رجل بكراً فقَدِمَت على النبي صلى الله عليه وسلم إبل الصدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرجل بكرخ، فرجع إليه أبو رافع فقال: يا رسول الله، لم أجد فيها إلاّ خياراً رباعياً، فقال: أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء}، وقال صلى الله عليه وسلم: {ما من مسلم يُقرض مسلماً قرضاً مرتين إلاّ كان كصدقة مرة}، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقرض.
والربا لا يقع في البيع والسَلَم إلاّ في ستة أشياء فقط، في التمر والقمح والشعير والملح والذهب والفضة. والقرض يقع في كل شيء، فلا يحل إقراض شيء ليرد إليك أقل ولا أكثر، ولا من نوع آخر أصلاً، لكن مثل ما أقرضت في نوعه ومقداره. والفرق بين البيع والسلم وبين القرض أن البيع والسلم يكونان في نوع بنوع آخر، وفي نوع بنوعه، ولا يكون القرض إلاّ في نوع بنوعه ولا بد. وأمّا كون الربا في هذه الأنواع الستة فقط فلأن إجماع الصحابة انعقد عليها، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {الذهب بالذهب مِثلاً بمثل، والفضة بالفضة مِثلاً بمثل، والتمر بالتمر مِثلاُ بمثل، والبُرّ بالبُرّ مِثلاُ بمثل، والملح بالملح مِثلاُ بمثل، والشعير بالشعير مِثلاً بمثل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى، بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا البُرّ بالتمر كيف شئتم يداً بيد، وبيعوا الشعير بالتمر كيف شئتم يداً بيد}. فالإجماع والحديث نص على أشياء معينة فيها الربا فلا يثبت إلاّ فيها ، والأشياء التي يحصل فيها الربا تنطبق عليها قاعدة "الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم"، ولم يرد في غير هذه الأنواع الستة دليل على التحريم فلا يكون الربا في غيرها، ويدخل فيها كل ما هو من جنسها وما ينطبق عليه وصفها. وأمّا ما عداها فلا يدخل.
أمّا تعليل التحريم في هذه الأشياء فلم يرد في النص فلا يُعلّل لأن العلة علة شرعية لا عقلية فما لم تًفهم العلة من نص فلا تعتبر.
وأمّا قياس العلة فلا يأتي هنا لأنه يشترط في قياس العلة أن يكون الشيء الذي اعتبر علة وصفاً مفهِماً حتى يصح القياس عليه، فإذا لم يكن وصفاً مفهِماً بأن كان اسماً جامداً أو كان وصفاً غير مفهِم فلا يصلح أن يكون علة ولا يقاس عليه غيره، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال: {لا يقضي القاضي وهو غضبان} اعتبر الغضب علة لمنع القضاء لأن الغضب وصفٌ مفهم للمنع فكان علة، واستنبطت علّيّته مما فيه من معنى فُهم منه أن المنع كان لأجله، وهذا المعنى هو تحيّر العقل فيقاس على الغضب كل ما فيه مما جعل الغضب علة وهو تحيّر العقل، فهنا يصح أن يقاس غير الغضب على الغضب لأن لفظ "الغضب" وصف مفهِم لمنع القضاء بخلاف قوله تعالى: )حُرِّمت عليكم الميتة( فإن الميتة ليست وصفاً مفهِماً للتحريم فلا يقاس عليها فينحصر التحريم بالميتة، وكذلك إذا ورد النص على تحريم الربا في القمح فإنه لا يقاس عليه لأن القمح اسم جامد وليس وصفاً مفهِماً. فلا يقال حرم الربا في القمح لأنه مطعوم إذ هو ليس وصفاً مفهِماً، فلا يعتبر علة للتحريم ولا يقاس عليه غيره. وأمّا قوله صلى الله عليه وسلم : {الطعام بالطعام مثلاً بمثل}، وما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: {قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم طعاماً مختلفاً فتبايعناه بزيادة فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نأخذه إلاّ كيلاً بكيل}، وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تباع الصبرة من الطعام بالصبرة من الطعام ولا الصبرة من الطعام بالكيل من الطعام المسمى} فإن ذلك كله لا يدل على أن علة التحريم الطعام، وإنما يدل على أن الربا يحصل في الطعام فيشمل جنس الطعام كله فهو عام ، فجاء حديث الرسول الذي عين أنواع الطعام فخصصه فيها. بدليل أن هناك أطعمة كثيرة لا يحرم فيها الربا وهي من الطعام، فالباذنجان والقرع والجزر والحلاوة والفلفل والتوم والعناب تعتبر من المطعومات ولا يدخلها الربا بالإجماع مع أنه يصدق عليها لفظ الطعام لأنها من المطعوم ولأن الرسول قال: {لا صلاة بحضرة الطعام}؛ أي: أيّ طعام مُعدّ للأكل. فلو كان الربا في كل مطعوم لدخلها الربا. وعلى ذلك فإن حديث الطعام عام قد خُصص الربا منه فيما ذكره الرسول من أنواع الطعام في قوله: {التمر بالتمر والحنطة بالحنطة والشعير بالشعير والملح بالملح} الحديث. وكما يخصَّص القرآن بالحديث فكذلك يخصَّص الحديث بالحديث. وعليه فالربا لا يقع في البيع والسلم إلاّ في هذه الأشياء الستة. وكذلك لا يقال: حُرّم الربا في الذهب والفضة لأنه موزون فتُحمل علّة تحريم الربا فيه كونه موزون جنس، ولا يقال: حُرّم الربا في الحنطة والشعير والتمر والملح لأنه مكيل فتُجعل علة تحريم الربا فيها كونها مكيل جنس، لأن الوزن والكيل جاء في الحديث وصفاً لها لا علة، قال عليه الصلاة والسلام: {الذهب بالذهب تبره وعينه وزناً بوزن، والفضة بالفضة تبره وعينه وزناً بوزن، والملح بالملح والتمر بالتمر والبر بالبر والشعير بالشعير كيلا بكيل، فمن زاد أو ازداد فقد أربى}. فالحديث بيّن الحالة التي عليها التحريم وهما الوزن بالذهب والفضة تفاضلاً، والكيل في القمح والشعير والملح والتمر تفاضلاً، فهو بيان ما يجري فيه التبادل لا علة له. وعليه فلا يجري الربا في كل مكيل أو موزون وإنما يجري الربا في هذه الأشياء الستة فقط، وزناً في الذهب والفضة، وكيلاً فيما عداها.
وأمّا القرض فجائز في هذه الأصناف الستة وفي غيرها وفي كل ما يُتملك ويحل إخراجه عن الملك ولا يدخل الربا فيه إلاّ في وجه واحد فقط وهو اشتراط أكثر مما أقرض أو أقل مما أقرض أو أدنى مما أقرض، أي أردأ جنساً.
الصـــــرف
يتبين من تتبع جميع ما تجري عليه عقود البيع من المعاملات المالية الجارية في الأسواق العالمية أن عمليات الشراء والبيع تجري في ستة أنواع: أحدها شراء عملة بنفس العملة كاستبدال أوراق النقد الجديدة من الدينار العراقي بأوراق قديمة، والثاني هو استبدال عملة بعملة أخرى كاستبدال دولارات بجنيهات مصرية، والثالث شراء بضاعة بعملة معينة وشراء هذه العملة بعملة أخرى كشراء طائرات بدولارات واستبدال دولارات بدنانير عراقية في صفقة واحدة، والرابع بيع بضاعة بعملة بجنيهات إسترلينية واستبدال دولارات بالجنيهات الإسترلينية، والخامس بيع سندات معينة بعملة معينة، والسادس بيع أسهم في شركة معينة بعملة معينة. فهذه المعاملات الست تجري فيها عقود البيع في المعاملات المالية.
أمّا شراء السندات والأسهم وبيعها فلا يجوز شرعاً مطلقاً لأن السندات لها فائدة مقررة فيدخل فيها الربا، بل هي نفسها معاملة ربا. وأمّا الأسهم فإنها حصة في شركة باطلة شرعاً غير جائزة، فشراؤها وبيعها فاسد، ولذلك لا يجوز التعامل بالأسهم في الشركات المساهمة كلها، سواء أكانت في شركة عملها حلال كالشركات التجارية والصناعية أم كانت في شركات عملها حرمها كأسهم البنوك. وأمّا شراء البضاعة بعملة والاستبدال بتلك العملة عملة أخرى وبيعها بعملة والاستبدال بتلك العملة عملة أخرى فكل واحدة مها عمليتان: عملية بيع وشراء، وعملية صرف، فتجري عليهما أحكام البيع والصرف، ويجري فيهما حكم تفريق الصفقة، وأمّا بيع عملة بنفس العملة أو بيع عملة بعملة أخرى فهو عملية الصرف، وهي جائزة، لأن الصرف مبادلة مال بمال من الذهب والفضة، إما بجنسه مماثَلة وإما بغير جنسه مماثَلة ومفاضلة، ويجري الصرف في النقد كما يجري في الذهب والفضة، لأنه ينطبق عليه وصف الذهب والفضة باعتباره عملة وليس هو قياساً على الذهب والفضة، وإنما هو نوع من أنواعهما لاستناده إليهما في الاعتبار النقدي، فإذا اشترى ذهباً بفضة عيناً بعين بأن يقول: "بعتك هذا الدينار الذهب بهذه الدراهم الفضة" ويشير إليهما وهما حاضران، أو اشترى ذهباً بفضة بغير عينه بأن يوقِع العقد على موصوف غير مشار إليه، فيقول: "بعتك ديناراً مصرياً بعشرة دراهم حجازية"، فهذا كله جائز لأن النقود تتعين بالتعيين في العقود، فيثبت الملك في أعيانها، فإن بيع الذهب بالفضة جائز سواء في ذلك الدنانير بالدراهم أو بالحلي أو بالنقار، والنقار هو ما يقابل التبر في الذهب والفضة، وكذلك بيع الفضة بالذهب وبحلي الذهب وسبائكه وتبره، غير أن ذلك كله يكون يداً بيد ولا بدّ، وعيناً بعين ولا بدّ، متفاضلين ومتماثلين وزناً بوزن وجزافاً بجزاف ووزناً بجزاف في كل ذلك. هذا إذا كان الصرف بين نقدين متخالفين، أمّا إن كان الصرف في نقد من جنس واحد فلا يصح إلاّ متماثلاً ولا يصح متفاضلاً، فيباع الذهب بالذهب، سواء أكان دنانير أو حلياً أو سبائك أو تبراً وزناً بوزن عيناً بعين يداً بيد، لا يحل التفاضل بذلك أصلاً، وكذلك تباع الفضة بالفضة دراهم أو حلياً أو نقاراً وزناً بوزن عيناً بعين يداً بيد، ولا يجوز التفاضل في ذلك أصلاً، فالصرف في النقد الواحد جائز، ويشترط أن يكون مثلاً بمثل يداً بيد عيناً بعين، والصرف بين نقدين جائز ولا يشترط فيه التفاضل، وإنما يشترط أن يكون يداً بيد وعيناً بعين، ودليل جواز الصرف قوله عليه الصلاة والسلام: {بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد}، وعن عبادة بن الصامت قال: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الذهب بالذهب والورِق بالورِق والبُر بالبُر والشعير بالشعير والتمر بالتمر إلاّ مثلاً بمثل يداً بيد، وأمَرَنا أن نبيع الذهب بالورِق والورِق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر يداً بيد كيف شئنا}، وعن مالك بن أوس الحدثان أنه قال: "أقبلتُ أقول: من يصطرف الدراهم، فقال طلحة بن عبيد الله وهو عند عمر بن الخطاب: أرنا ذهبك، ثم جئنا إذا جاء خادمنا نعطك ورِقك، فقال عمر بن الخطاب: كلا والله لتعطينه ورِقه أو لتردن إليه ذهبه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {الورِق بالذهب ربا، إلاّ هاء وهاء، والبُر بالبُر ربا إلاّ هاء وهاء، والشعير بالشعير ربا إلاّ هاء وهاء، والتمر بالتمر ربا إلاّ هاء وهاء}، فلا يجوز بيع الذهب بالفضة إلاّ يداً بيد، فإذا افترق المتبايعان قبل أن يتقابضا فالصرف فاسد، قال عليه السلام: {الذهب بالورِق ربا إلاّ هاء وهاء}.
ويشترط أن يقبض المتصارفان في المجلس ومتى انصرف المتصارفان قبل التقابض فلا بيع بينهما، لأن الصرف بين الأثمان بعضها ببعض والقبض في المجلس شرط لصحته، قال صلى الله عليه وسلم: {الذهب بالورِق ربا إلاّ هاء وهاء}، وقال عليه السلام: {بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد}، ونهى النبي عن بيع الذهب بالورِق ديناً، ونهى عن أن يباع غائب منها بناجز، ولذلك كان لا بد من التقابض في المجلس، فإن تفرقا قبل التقابض بَطُل الصرف لفوات شرطه، وإن قُبض البعض ثم افترقا بَطُل فيما لم يُقبض وفيما يقابله من العِوَض، وصح فيما قُبض وفيما يقابله من العِوَض، لجواز تفريق الصفقة، فلو صارف رجل آخر ديناراً بعشرة دراهم وليس معه إلاّ خمسة دراهم لم يجُز أن يتفرقا قبل قبض العشرة كلها، فإن قُبض الخمسة وافترقا بَطُل الصرف في نصف الدينار وصح فيما يقابل الخمسة المقبوضة، لجواز تفريق الصفقة في البيع، فإذا استقرض من مصارفه أو غيره وأتم به صرفه فجائز، ما لم يكن عن شرط في الصفقة، فإن كان عن شرط في الصفقة لم يجُز.
معاملات الصرف
مهما تعددت وتنوعت معاملات الصرف فإنها لا تخرج عن بيع نقد بنقد من جنس واحد، وبيع نقد بنقد من جنسين مختلفين، وهي إما حاضر بحاضر أو ذمة بذمة، ولا تكون بين حاضر وذمة مطلقاً. وإذا تمت عملية الصرف وأراد أحدهما الرجوع بها لا يصح متى تم العقد والقبض، إلاّ أن يكون هنالك غبن فاحش أو عيب فإنه يجوز، فإذا وجد أحد المتبايعين في ما اشتراه عيباً بأن وجده مغشوشاً كأن يجد في الفضة نحاساً أو يجد الفضة سوداء، فله الخيار بين أن يَرُد أو يقبل إذا كان بصرف يومه؛ أي بنفس السعر الذي صرف به، يعني الرد جائز ما لم ينقص قيمة ما أخذه من النقد عن قيمته يوم اصطرفا، فإن قبله جاز البيع، وإن رده فسخ البيع، فإذا اشترى ذهباً من عيار 24 بذهب من عيار 24 ووجد أحدهما الذهب الذي أخذه بعيار 18 فإنه يعتبر غشاً، وله الخيار بين أن يرد أو يقبل بصرف يومه، ولو أراد من استبدل الذهب بالذهب قبول النقد بعيبه على أن يأخذ منه ما نقص من ثمنه بالنسبة لعيبه لا يجوز لحصول الزيادة في أحد العوضين وفوات المماثلة المشترطة في الجنس الواحد، وإذا كان على رجل دين مؤجل فقال لغريمه: "ضع عني بعضه وأعجل لك بقيته" لم يجز، لأنه بيع معجل بمؤجل بغير مماثلة، فكأنه باعه دينه بمقدار أقل منه حاضراً، فصار التفاضل موجوداً فكان الربا، وكذلك إذا زاده الذي له الدين فقال له: "أعطيك عشرة دراهم وتعجل لي المائة التي عليك" لا يجوز لوجود التفاضل فهو ربا، قال صلى الله عليه وسلم: {والذهب بالذهب والفضة بالفضة يداً بيد عيناً بعين مثلاً بمثل، فما زاد فهو ربا}.
وإذا كان لرجل في ذمة رجل ذهب وللآخر في ذمة الأول فضة فاصطرفا بما في ذمتهما بأن قضاه ما في ذمته من الذهب بما له عنده ديناً من الفضة جاز هذا الصرف، لأن الذمة الحاضرة كالعين الحاضرة، وإذا اشترى رجل بضاعة بذهب وقبض البائع ثمنها فضة جاز، لأنه يجوز اقتضاء أحد النقدين من الآخر، ويكون صرفاً بعين وذمة، وذلك لما رَوى أبو داود والأثرم في سننهما عن ابن عمر قال: كنت أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة، فقلت: يا رسول الله، رويدك أسألك، إني أبيع الإبل بالبقيع، فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم، وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير، آخذ هذه من هذه وأعطي هذه من هذه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا بأس أن تأخذها بسعر يومها ما لم تفترقا وبينكما شيء}، وإذا اشترى رجل من رجل ديناراً صحيحاً بدينارين مغشوشين لا يجوز، ولكن لو اشترى ديناراً صحيحاً بدراهم فضة ثم اشترى بالدراهم دينارين مغشوشين جاز، سواء اشتراهما من نفس الذي باعه أو من غيره، لما روى أبو سعيد قال: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم بتمر برني قال له النبي صلى الله عليه وسلم: {من أين هذا}؟ قال بلال: كان عندنا تمر رديء فبعت صاعين بصاعٍ ليطعم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي: {أوه، عين الربا، لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشتري فبع التمر ببيع آخر ثم اشتري به}، وروى أيضاً أبو سعيد وأبو هريرة {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل رجلاً على خيبر فجاءه بتمر جنيب، فقال: أكُلُّ تمر خيبر هكذا؟ قال: لا والله إنا لنأخذ الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تفعل، بِع التمر بالدراهم ثم اشترِ بالدراهم جنيباً}، ولم يأمره أن يبيعه لغير الذي يشتري منه، ولو كان البيع لمن اشترى منه محرَّماً لبيَّنه وعرَّفه إياه. ولأنه باع الجنس بغيره من غير شرط ولا مواطأة فجاز، كما لو باعه من غيره. وبيع الذهب بالفضة ثم شراء الفضة كذلك. أمّا إن تواطأ على ذلك لم يَجُز، وكان حيلة محرَّمة لأن الحيل كلها محرَّمة غير جائزة في شيء من الدين، وهي أن يُظهر عقداً مباحاً يريد به محرَّماً مخادَعةً وتوسلاً إلى فعل ما حرَّمه الله أو إسقاط ما أوجبه، أو دفعِ حق أو نحو ذلك، لأن الوسيلة إلى الحرام محرَّمة، ولأن الرسول قال: {لَيَستحِلَّنَّ قوم من أمتي الخمر يُسمّونها بغير اسمها}.
وعلى هذا فالصرف من المعاملات الجائزة في الإسلام وفق أحكام مخصوصة بيَّنها الشرع، وهو يجري في المعاملات الداخلية كما يجري في المعاملات الخارجية، فكما يُستبدل الذهب بالفضة والفضة بالذهب من نقد البلد، فكذلك يُستبدل النقد الأجنبي بنقد البلد سواء أكان في داخل البلاد أم خارجها، وسواء أكان معاملات مالية نقداً بنقد أم معاملات تجارية يجري فيها صرف النقد بالنقد. ولبيان الصرف في المعاملات الخارجية بين نقود مختلفة لا بد من بحث النقود.
النقــود
النقود هي مقياس المنفعة التي في السلعة والجهد، ولذلك تُعرَّف النقود بأنها الشيء الذي تقاس به كل السلع والجهود. فالثمن للشيء والأجر للشخص مثلاً كلٌ منهما هو تقدير المجتمع لقيمة ذلك الشيء وجهد ذلك الشخص. ولا تعتبر السندات ولا الأسهم ولا ما شاكلها، من النقود.
وهذا التقدير لقِيَم الأشياء والجهود يعبَّر عنه بوحدات في شتى البلدان، فتصبح هذه الوحدات هي المقياس الذي تقاس به منفعة الشيء ومنفعة الجهد. وتكون هذه الوحدات واسطة للمبادلة. وهذه الوحدات هي النقود.
والإسلام حين قرر أحكام البيع والإجارة لم يعيِّن لمبادلة السلع أو لمبادلة الجهود والمنافع شيئاً معيناً تجري المبادلة على أساسه فرضاً، وإنما أطلق للإنسان أن يُجري المبادلة بأي شيء ما دام التراضي موجوداً في هذه المبادلة. فيجوز أن يتزوج امرأة بتعليمها القرآن، ويجوز أن يشتري سلعة بالعمل عند صاحبها يوماً، ويجوز أن يشتغل عند شخص يوماً بمقدار معيّن من التمر. وهكذا أطلق المبادلة لبني الإنسان بما يريدون من الأشياء. إلاّ أن مبادلة السلعة بوحدة معينة من النقد قد أرشد الإسلام إلى هذه الوحدة النقدية، وعيّنها للمسلمين في جنس معين من النقد هو الذهب والفضة، فهو لم يترك للمجتمع أن يعبِّر عن تقديره لمقياس المنفعة للأشياء أو الجهود بوحدات نقدية ثابتة أو متغيرة يتصرف بها كما يشاء، وإنما عَيَّن هذه الوحدات النقدية التي يعبِّر بها المجتمع عن تقدير القيم للأشياء وللجهود تعييناً ثابتاً بوحدات نقدية معينة. ويُفهم هذا التعيين من عدة أمور:
أحدها: أن الإسلام حين نهى عن كنز المال خصّ الذهب والفضة بالنهي مع أن المال هو كل ما يُتموَّل. فالقمح مال، والتمر مال، والنقد مال. والكنز إنّما يظهر في النقد لا في السلع والجهود. والمراد من الآية النهي عن كنز النقد لأنه هو أداة التبادل العامة، ولأن كنزه هو الذي يظهر فيه أثر النهي. أمّا غير النقد فإن جَمْعَه لا يسمى كنزاً وإنما يسمى احتكاراً. ولهذا كانت الآية التي نهت عن كنز الذهب والفضة إنّما نهت عن كنز النقد. وقد عَيَّنت الآية النقد الذي نهى الله عن كنزه وهو الذهب والفضة، قال تعالى: )والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشّرهم بعذاب أليم(، فالنهي منصبّ على أداة التبادل النقدية. وعلى هذا فإن كنز الذهب والفضة عيناً حرام سواء أكان مضروباً أو غير مضروب. وكنز النقود الورقية النائبة حرام لأنها تمثل كمية من الذهب والفضة على شكل نقود أو سبائك مودَعة في مكان معين.
هذا إذا كان المبلغ الذي يمثله الورق يساويه، أمّا إذا كان لا يساويه فإن كنزه حرام بالمبلغ الذي يساويه فقط. وأمّا النقود الورقية الإلزامية فلا يعتبَر كنزها حراماً لأنها أوراق اصطُلح عليها اصطلاحاً فلا يعتبر كنزها كنزاً لذهب وفضة. فنص الآية على تحريم كنز أداة التبادل وتعيين جنسها يدل على أن هذا الجنس هو النقد الذي يتخذه المسلمون، لأنها هي أداة التبادل الشرعية. فتحريم الإسلام كنز الذهب والفضة –حين حرّم كنز النقد- دليل على أن الذهب والفضة هما النقد في الإسلام.
-
مشاركة: النظام الإقتصادي
ثانيها: رَبَط الإسلام الذهب والفضة بأحكام ثابتة لا تتغير.فحين فرض الدية عيّن لها مقداراً معيناً من الذهب. وحين أوجب القطع في السرقة عيَّن المقدار الذي يُقطع بسرقته من الذهب. قال صلى الله عليه وسلم في كتابه الذي كتبه إلى أهل اليمن: {وإنّ في النفس المؤمنة مائة من الإبل، وعلى أهل الورق ألف دينار}، وقال: {لا قطع إلاّ في ربع دينار فصاعداً}. فهذا التحديد لأحكام معينة بالدينار والدرهم والمثقال يجعل الدينار بوزنه من الذهب، والدرهم بوزنه من الفضة، وحدة نقدية تقاس بها قِيَم الأشياء والجهود. فتكون هذه الوحدة النقدية هي النقد، وهي أساس النقد. فكون الإسلام ربط الأحكام الشرعية بالذهب والفضة نصاً حين تكون هذه الأحكام متعلقة بالنقد، دليل على أن النقد إنّما هو الذهب والفضة فحسب.
ثالثها: لقد عيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم الذهب والفضة نقداً، وجعلهما وحدهما المقياس النقدي الذي يرجع إليه مقياس السلع والجهود، وعلى أساسهما كانت تجري جميع المعاملات، وجَعَل المقياس لهذا النقد الأوقية، والدرهم، والدانق، والقيراط، والمثقال، والدينار. وكانت هذه كلها معروفة مشهورة في زمن النبي عليه السلام يتعامل بها الناس، والثابت أنه عليه السلام أقرها. وكانت تقع بالذهب والفضة بوصفهما نقداً جميع البيوع والأنكحة، كما ثبت في الأحاديث الصحيحة. وقد حدد الرسول ميزان الذهب والفضة بميزان معين هو ميزان أهل المدينة، فقال صلى الله عليه وسلم في ميزان الذهب والفضة نقداً {الميزان ميزان أهل المدينة}. ومن مراجعة الموازين النقدية في الإسلام يتبين أن الأوقية الشرعية أربعون درهماً، والدرهم ست دوانق، والدينار أربعة وعشرون قيراطاً، وكل عشرة دراهم سبعة مثاقيل. وقد أُقِرَّت موازين المدينة على هذا.
رابعها: أن الله سبحانه حين أوجب زكاة النقد أوجبها في الذهب والفضة، وعيَّن لها نصاباً من الذهب والفضة. فاعتبار زكاة النقد بالذهب والفضة يعيِّن أن النقد هو الذهب والفضة. ولو كان النقد غيرهما لَما وجبت فيه زكاة نقد لأنه لم يأت نص في زكاة النقد إلاّ على الذهب والفضة مما يدل على أنه لا اعتبار لغيرهما من النقود.
خامسها: أن أحكام الصرف التي جاءت في معاملات النقد فقط، إنّما جاءت بالذهب والفضة وحدهما. وجميع المعاملات المالية التي وردت في الإسلام إنّما جاءت نصاً على الذهب والفضة. والصرف هو بيع عملة بعملة، إما بيع عملة بنفس العملة، أو بيع عملة بعملة أخرى. وبعبارة أخرى الصرف مبادلة نقد بنقد، فتعيين الشرع للصرف –وهو معاملة نقدية بحتة ولا تتعلق إلاّ بالنقد- بالذهب والفضة، دليل صريح على أن النقد يجب أن يكون الذهب والفضة لا غير، قال عليه الصلاة والسلام: {بيعوا الذهب بالفضة كيف شئتم يداً بيد}، وقال عليه السلام: {الذهب بالورِق ربا إلاّ هاء وهاء}.
وعلى ذلك تعتبر النقود من الأشياء التي جاء الإسلام بحكمها، وليست هي من الأشياء التي تدخل في الرأي والمشورة، ولا بما تتطلبه الحياة الاقتصادية، أو الحياة المالية، بل هي من حيث كونها وحدة نقدية، ومن حيث جنسها ثابتة بحكم شرعي. والناظر في الأمور الخمسة السابقة يجد أن النقد في الإسلام تعلقت به أحكام شرعية، ورُبطت به أحكام شرعية. فتحريم كنزه، ووجوب الزكاة فيه، وجعْل أحكام الصرف له، وإقرار الرسول للتعامل به، وربط الدية والقطع في السرقة فيه، كل ذلك يجعله أمراً يتوقف الرأي فيه على نص الشرع، فكون الشرع نص على هذا النقد بهذه الأحكام المتعلقة به وحده والمرتبطة به، أنه الذهب والفضة، دليل واضح على أن النقد يجب أن يكون من الذهب والفضة، أو أساسه الذهب والفضة. فكان لا بد من التزام ما عيَّنته الأحكام الشرعية من نوع النقد. فيجب أن يكون النقد في الإسلام هو الذهب والفضة، ولا يجوز أن يكون غيرهما ولا بوجه من الوجوه.
إلاّ أنه ليس معنى تعيين الذهب والفضة وحدهما نقداً أنه لا يجوز التبادل بغيرهما، بل معناه لا يجوز للمسلمين أن يتخذوا نقداً لهم سوى الذهب والفضة، وموضوع النقد هنا ليس موضوع التبادل بل هو موضوع اتخاذ نقد. فإنه مع جواز التبادل بين الناس بكل شيء، إلاّ أن اتخاذ مقياس نقدي للتبادل ولغيره لا يجوز أن يكون إلاّ الذهب والفضة، أي لا يجوز أن يكون النقد في الإسلام إلاّ ذهباً وفضة.
غير أن الرسول جعل جنس الذهب والفضة نقداً، سواء أكان مضروباً أم غير مضروب، ولم يضرب نقداً معيناً على صفة معينة لا تختلف، بل كانت وحدات الذهب والفضة مجموعات من ضرب فارس والروم، صغاراً وكباراً، وقطع فضة غير مضروبة، ولا منقوشة، ويمنية ومغربية يتعامل بها جميعها. ولكن اعتبارها كان بالوزن لا بالعدد ولا بالنقش، أو عدم النقش. فقد تكون الذَهَبة بمقدار البيضة وبحجمها ويُتعامل بها. فالتحديد كان بتعيين الذهب والفضة وبتعيين الوزن لكل منهما. وكانت حقوق الله كالزكاة وحقوق العباد كالديْن وثمن المبيع تتعلق بالدراهم والدنانير، أي بالذهب والفضة المقدرة بالوزن. وظل الحال كذلك طوال أيام النبي صلى الله عليه وسلم وطوال أيام الخلفاء الراشدين الأربعة وصدر أيام بني أمية، حتى جاء عبد الملك بن مروان فرأى صرف جميع ما يتعامل به من الذهب والفضة منقوشاً وغير منقوش إلى ضرب الإسلام ونقشه، وتصييرها وزناً واحداً لا يختلف، وأعياناً يُستغنى فيها عن الموازين فجَمَع أكبرها وأصغرها وضربها على وزن المدينة. فضرب عبد الملك الدراهم من الفضة والدنانير من الذهب، وكان ذلك سنة خمس وسبعين هجرية. ومنذ ذلك التاريخ وُجدت دراهم إسلامية ودنانير إسلامية مضروبة. أي منذ ذلك التاريخ صار نقد الدولة الإسلامية متميزاً على صفة واحدة لا تختلف. وعلى هذا فنظام النقد في الإسلام من حيث أساسه هو الذهب والفضة بالوزن. أمّا حجمه وضربه وشكله ونوع نقشه فكل ذلك من الأسلوب. وعليه تكون كلمة الذهب والفضة، أينما وردت في ألفاظ الشرع وتقديراته تنطبق على أمرين: على النقد الذي يُتعامل به ولو كان نحاساً أو برنزاً أو ورقاً نقدياً إذا كان له مقابل، باعتبار ما يقابله من الذهب والفضة، وعلى معدني الذهب والفضة. فما كان من النقد ذهباً وفضة اعتُبر، وما كان أوراقاً نقدية أو نحاساً أو غير ذلك مما يمكن تحويله إلى قيمته من الذهب أو الفضة اعتُبر إذا كان يستند إلى الذهب والفضة. أمّا إذا كان لا يستند إلى الذهب والفضة كالنقود الورقة الإلزامية فلا يُعتبَر.
نظام الذهب
تسير الدولة على نظام الذهب إذا كانت هذه الدولة تستعمل عملة ذهبية في معاملاتها الداخلية والخارجية، أو إذا كانت تستعمل في الداخل عملة ورقية قابلة للتحويل إلى ذهب، إما للاستعمال في الداخل والدفع إلى الخارج، أو للدفع إلى الخارج فقط. على أن يكون هذا التحويل بسعر ثابت؛ أي أن تكون الوحدة الورقية قابلة للتحويل إلى كمية معينة من الذهب وبالعكس بسعر محدود. وطبيعي في مثل هذه الحالة أن تظل قيمة العملة في البلد مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بقيمة الذهب. فإن ارتفعت قيمة الذهب بالنسبة للسلع الأخرى ارتفعت قيمة العملة بالنسبة للسلع الأخرى. وإن انخفضت قيمة الذهب بالنسبة للسلع انخفضت قيمة العملة.
والنقد في الأساس الذهبي يستجمع صفة خاصة وهي أن الوحدة النقدية مرتبطة بالذهب بتعادل معين؛ أي أنها تتألف قانوناً من وزن معين من الذهب. واستيراد الذهب وتصديره يجريان بحرية بحيث يجوز للناس حوْز النقد أو السبائك الذهبية أو التبر وتصديرها بحرية.
وبما أن الذهب يتجول بحرية بين البلاد المختلفة فلكل شخص الخيار بين شراء النقد الأجنبي وبين إرسال الذهب، وإنما يختار الوسيلة الأقل كلفة، فما دام سعر الذهب مضافاً إليه تكاليف إرساله أعلى من سعر النقود الأجنبية في السوق، فإرسال النقد الأجنبي (القطع) أفضل. أما إذا تجاوز سعر الصرف هذا الرقم فالأفضل أخذ الذهب من التداول وإرساله.
فوائد نظام الذهب
إن فوائد نظام الذهب إذا قيست بنظام الورق وغيره من الأنظمة تجعل من المحتم أن يكون نظام الذهب للنقد عالمياً، ولا تجيز هذه الفوائد أن يكون غيره من الأنظمة نظاماً للنقد. وقد سار العالم كله منذ عُرف النقد حتى الحرب العالمية الأولى على نظام الذهب ونظام الفضة ولم يُعرف غيرها نظاماً. ولكن لما افْتَنَّ المستعمرون بأساليب الاستعمار الاقتصادي والاستعمار المالي واتخذوا النقد وسيلة من وسائل الاستعمار حوّلوا النقد لأنظمة أخرى، واعتبروا الودائع المصرفية والنقود الورقية الإلزامية التي لا تستند إلى الذهب أو الفضة من كمية النقود، كما اعتبروا الذهب والفضة من كمية النقود. ومن هنا صار لا بد من بيان فوائد نظام الذهب، ومن أهم هذه الفوائد ما يلي:
1- إن الأساس الذهبي يفترض حرية تداول الذهب واستيراده وتصديره، الأمر الذي يفترض دور استقرار نقدي ومالي واقتصادي، وفي هذه الحال لا تعدو عمليات الصرف أن تكون ناشئة عن مدفوعات خارجية تسدد أثمان البضائع وأجور المستخدَمين.
2- إن نظام الذهب معناه ثبات سعر الصرف بين الدول، وينجم عن ثبات سعر الصرف تقدُّم في التجارة الدولية لأن التجار لا يخشون التوسع في التجارة الخارجية، لأن سعر الصرف ثابت، فلا خوف من توسع تجارتهم.
3- في النظام الذهبي لا يمكن للبنوك المركزية أو للحكومات التوسع في إصدار ورق النقد، إذ طالما أن ورق النقد قابل للتحويل إلى ذهب بسعر محدود فإن السلطات المختصة تخشى إن توسعت في الإصدار أن يزداد الطلب على الذهب وأن تعجز عن مواجهة هذا الطلب، لذا فهي تحتفظ بنسبة معقولة بين ما تصدره من ورق النقد وبين احتياطياتها من الذهب.
4- تتحدد كل عملة من العملات المستعملة في العالم بمقدار معين من الذهب، ويسهل حينئذ انتقال البضائع والأموال والأشخاص من بلد إلى بلد، وتذهب صعوبات القِطَع والعملات النادرة.
5- يُحفظ لكل دولة ثروتها الذهبية، فلا يحصل تهريب الذهب من بلد إلى آخر، ولا تحتاج الدول إلى أي مراقبة للمحافظة على ثروتها لأنها لا تنتقل منها إلاّ بسبب مشروع، إما أثمان سلع أو أجور مستخدَمين.
هذه بعض فوائد نظام الذهب، وهي كلها تحتم أن يسير العالم على نظام الذهب، ولذلك لا عجب أن رأينا العالم كله يسير عليه حتى الحرب العالمية الأولى، وعندما نشبت الحرب العالمية الأولى كان النظام النقدي السائد في العالم يقوم على قاعدة الذهب، وكانت النقود المتداولة -إذ ذاك- عبارة عن قطع ذهبية وأوراق نقدية تقبل التحويل إلى قيمتها من الذهب، وكان معه نظام الفضة أيضاً، وقد كان لتطبيق هذا النظام أطيب الأثر على العلاقات الاقتصادية، ولكن حين أُعلِنت الحرب العالمية الأولى سنة 1914 عمدت الدول المتحاربة إلى اتخاذ إجراءات جعلت نظام الذهب يضطرب، فمنها من أوقف قابلية تحويل عملاتها إلى ذهب، ومنها من فرض القيود الشديدة على تصدير الذهب، ومنها من صار يعرقل استيراده، فاختل النظام النقدي وتقلبت أسعار الصرف، ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم تعرضت الحياة النقدية في العالم إلى عدة عوامل حتى أصبح نظام الذهب ليس نظاماً عالمياً وإنما خاصاً ببعض الدول، ومن هنا بدأت العراقيل وبدأت الصعوبات في انتقال النقود والسلع والأشخاص.
مشاكل نظام الذهب
حين كان نظام الذهب عالمياً لم تكن أي مشكلة لنظام الذهب، وإنما طرأت المشاكل من يوم أن أخذت الدول الكبرى تحاول ضرب أعدائها عن طريق النقد، وحين جعلت مع نظام الذهب نظام النقد الورقي الإلزامي، وحين أوجدت الدول الاستعمارية الغربية صندوق النقد الدولي، ولذلك توجد أمام الدولة التي تستعمل نظام الذهب مشاكل لا بد من معرفتها لمعرفة حلها والتغلب عليها، وهذه المشاكل هي:
1- تركُّز الذهب في الدول التي زادت قوتها على الإنتاج ومقدرتها على المنافسة في التجارة الدولية أو نبوغها في الخبراء والعلماء والصناعيين، وهذا يجعل الذهب يصب فيها إما ثمناً للسلع وإما أجوراً للمستخدَمين من الخبراء والعلماء والصناعيين، فتصبح كمية الذهب الموجودة في العالم مكدسة أكثرها في هذه البلدان، فيختل حينئذ توزيع الذهب بين الدول، وينتج عن هذا أن تخشى الدول من تسرب الكمية التي لديها من الذهب، فتمنع خروجه منها، فتقف حركة تجارتها الخارجية.
2- إن بعض الدول يتسرب إليها الذهب نتيجة لاتجاه الميزان الحسابي في مصلحتها، ولكنها تمنع هذا الذهب الذي دخل إليها من التأثير على السوق الداخلية ومن رفع مستوى الأسعار فيها، وذلك إذ تضع في السوق كمية من السندات تكفي لسحب مبلغ من النقود معادل لمقدار ما ورد إليها من الذهب، فيبقى الذهب عندها ولا يخرج منها فلا يرجع للبلاد التي أصدرته فتتضرر من نظام الذهب.
3- إن انتشار نظام الذهب كان مقروناً بفكرة التخصيص بين الدول في نواحي الإنتاج المختلفة وعدم إقامة العراقيل في سبيل التجارة بينها، إلاّ أنه قد ظهرت في الدول اتجاهات قوية نحو حماية الصناعة والزراعة فيها، وفرضت حواجز جمركية، فصار يتعسر إدخال سلع لهذه الدولة ليخرج الذهب منها، ولذلك تتضرر الدولة التي تسير على نظام الذهب، لأن هذه الدولة إن لم تتمكن من إدخال بضائعها لغيرها بالسعر العادي فإنها إما أن تضطر إلى تخفيض مستوى أسعار بضاعتها تخفيضاً إضافياً لتتغلب على الحواجز الجمركية أو لا تدخل بضاعتها إليها، وفي هذا خسارة عليها.
هذه هي أهم المشاكل التي يتعرض لها نظام الذهب إذا استعملته الدولة الواحدة أو استعملته دول متعددة، وطريق التغلب على هذه المشاكل هو أن تكون السياسة التجارية تقوم على الاكتفاء الذاتي، وأن يكون أجر الأُجَراء مقدراً بمنفعة جهدهم لا بثمن السلع التي ينتجونها ولا بحسب مستوى المعيشة لهم، وأن لا تعتبر السندات المالية ولا الأسهم مالاً مملوكاً للأفراد في بلادها، وأن تقلل الدولة من الاعتماد على التصدير في إنتاج ثروتها، بل تعمل لجعل إنتاج الثروة يأتي داخلياً دون حاجة إلى سلع أو مستخدَمين تذهب إلى الخارج، وبهذا لا تؤثر عليها الحواجز الجمركية، ومتى سارت الدولة على هذه السياسة فإنها تسير على نظام الذهب وتكسب جميع فوائده وتتجنب مشاكله ولا يصيبها منه أي ضرر، بل على العكس يصبح من مصلحتها ومن المحتم عليها اتباع نظام الذهب والفضة ليس غير.
-
مشاركة: النظام الإقتصادي
نظام الفضة
يقصد بنظام الفضة –أو الأساس الفضي- أن الفضة هي أساس الوحدة النقدية، وأن معدنها يتمتع بحرية الضرب وبقوة إبرائية غير محدودة، وقد كان هذا النظام معروفاً منذ القديم، فكان في الدولة الإسلامية سائراً مع نظام الذهب، كان عند بعض الدول نظام نقدها الأساسي وحده، وظل نظام الفضة معمولاً به في الهند الصينية حتى 1930 حيث استبدلت في تلك السنة القرش الذهبي بقرشها الفضي. ونظام الفضة كنظام الذهب في كل تفاصيله، ولذلك كان من السهل الجمع بين النظام الذهبي والنظام الفضي في الدولة الواحدة، وقد كانت الدولة الإسلامية منذ هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم قائمة على سياسة الذهب وسياسة الفضة معاً، ولا بد أن ظل هذه السياسة النقدية قائمة على الأساس الذهبي والأساس الفضي معاً؛ أي يجب أن يكون النقد ذهباً وفضة، سواء أكان هو عينه متداولاً أو كان هنالك نقد ورقي متداول مقابله ذهب وفضة في مكان معين.
النقود المعدنية
يُرجِع الاقتصاديون أنواع النقود المعدنية المختلفة التي يمكن وجودها إلى نوعين رئيسيين هما نظام المعدن الفردي ونظام المعدنين، فالأول هو النظام الذي تكون النقود الرئيسية فيه قاصرة على مصكوكات معدن واحد، وأما الثاني وهو نظام المعدنين فهو الذي تكون المصكوكات الذهبية والفضية على السواء نقوداً رئيسية. ونظام المعدنين هذا يتضمن توفر ثلاث صفات:
الأولى: أن تكون للمصكوكات الذهبية قوة إبراء غير محدودة. والثانية: أن تتوفر حرية الضرب بالنسبة لسبائك المعدنين. والثالثة: أن تكون هناك نسبة قانونية بين قيمتي المصكوكات الذهبية والفضية.
ونظام المعدنين يمتاز بأنه يجعل كمية النقود التي يجري بها التداول عظيمة، إذ تستعمل مصكوكات المعدنين معاً نقوداً رئيسية، وبذلك تحتفظ الأثمان بمستوى مرتفع، وهذا من شأنه أن يشجع على زيادة الإنتاج، وهو كذلك يجعل قيمة النقود أكثر ثباتاً، وبذلك تكون الأثمان أقل عرضة للتغييرات الشديدة التي تؤدي إلى اضطراب الحالة الاقتصادية، وبذلك يظهر أن استعمال معدنين من النقود المعدنية خير من استعمال معدن واحد.
النقود الورقية
النقود الورقية ثلاثة أنواع، هي:
1- نقود ورقية نائبة، وهي أوراق تمثل كمية من الذهب والفضة على شكل نقود أو سبائك مودَعة في مكان معين لها من القيمة المعدنية ما لهذه الأوراق من القيمة الاسمية، وتصرف بها لدى الطلب، وفي هذه الحالة يقوم التداول على النقود المعدنية، وكل ما في الأمر أنه بدلاً من أن تتداول بنفسها تقوم هذه الأوراق مقامها باعتبارها نائبة عنها.
2- نقود ورقية وثيقة، وهي أوراق يتعهد الموقِّع عليها بدفع مبلغ معين من النقود المعدنية لحاملها، وتتوقف قيمتها في التداول على ما يتوفر من الثقة في الموقِّع عليها وعلى قدرته في الوفاء بتعهده، فإذا كان موثوقاً به لدى الجمهور سَهُل استعمالها في التداول كالمصكوكات. والنوع الرئيسي لهذه النقود هي الأوراق المصرفية التي يصدرها مصرف معروف وموثوق به لدى الجمهور. إلاّ أن الأوراق المصرفية هذه –أو بعبارة أخرى النقود الورقية الوثيقة- لا يحتفظ مُصدرها -سواء أكان البنك أو الحكومة- بمقدار من الذهب يساوي قيمتها تماماً كما هي الحال في النقود الورقية النائبة، بل يحتفظ المصدر الذي يصدر النقود الورقية الوثيقة في خزانته في الأوقات العادية باحتياطي معدني ضماناً لهذه الأوراق بنسبة معينة من قيمتها قد تكون ثلاثة الأرباع أو الثلثين أو الثلث أو نسبة مئوية معينة، فلذلك يعتبر المقدار من الأوراق المصرفية الذي يقابله ما يعادل قيمته تماماً من الاحتياطي المعدني نقوداً ورقية نائبة، في حين يعتبر المقدار الباقي الذي لا يقابله احتياطي معدني نقوداً ورقية وثيقة تستمد قوتها في التداول من ثقة الجمهور في الموقِّع عليها، فمثلاً يحتفظ مُصدر الأوراق مصرفاً كان أو حكومة في خزائنه باحتياطي معدني قدره عشرون مليوناً من الدنانير، ويصدر نقوداً ورقية قدرها أربعون مليوناً من الدنانير، فالعشرون مليوناً من الأوراق المصرفية –أي من النقود الورقية- التي لا يقابلها احتياطي معدني هي نقود ورقية وثيقة، والعشرون مليوناً من النقد الورقية التي يقابلها احتياطي معدني مساوٍ لقيمتها هي نقود ورقية نائبة.
وعلى هذا فالدولة التي تضع ذهباً أو فضة يساوي قيمة النقود الورقية التي أصدرتها تماماً تعتبر نقودها نقوداً ورقية نائبة وتعتبر نقوداً كاملة، أمّا الدولة التي تضع معدناً من ذهب أو فضة لا يساوي قيمة النقود الورقية كاملة وإنما يساوي جزءاً من قيمتها فإنه يُنظر، فإن عُرف مقدار الاحتياطي الذي لها من المعدن اعتُبر النقد بمقدار الاحتياطي فقط ولا يُعتبر في ما زاد على ذلك من قيمتها، وإن لم يُعرف مقدار الاحتياطي فلا تعتبر نقداً كاملاً.
3- نقود ورقية غير قابلة للصرف، وتسمى أيضاً نقوداً ورقية إلزامية، ويطلق عليها اسم الأوراق النقدية، وهي أوراق تصدرها الحكومات وتجعلها نقوداً رئيسية، ولكنها لا تصرف بذهب أو فضة ولا يضمنها احتياطي ذهب أو فضة أو أوراق مصرفية (بنكنوت)، ولكن يصدر بشأنها قانون يعفي المصرف الذي أصدرها من التزام صرفها بالذهب أو الفضة، وهذه الأوراق النقدية جميعها نقود أهلية، فلا يتعدى تداولها حدود البلد الذي يخضع للقانون الذي قضى بجعلها عملة رئيسية، وليس لهذه الأوراق النقدية سوى قيمة قانونية، ولكن ليس لها قيمة سلعية، إذ هي تستمد قيمتها من إرادة المشرع الذي فرض تداولها، فلو ألغى التعامل بها أصبحت عديمة الفائدة.
والشرع الإسلامي لا يعتبر الأوراق النقدية أي النقود الإلزامية نقداً شرعياً لأنها لا ينطبق عليها حكم كنز النقود، ولا حكم زكاة النقود، ولا تقوم بها الأحكام الشرعية المرتبطة بنقد الذهب والفضة. أمّا باقي النقود الورقية وهي النقود الورقية النائبة، والنقود الورقية الوثيقة التي لها قيمة من الذهب والفضة تساويها، فإنها تُعتبر شرعاً نقوداً، لأنها ذهب وفضة فهي إما لها قيمة من الذهب والفضة كانت هي المتداولة حقيقة والأوراق المتداولة شكلاً، وإما يمكن أن تحصَّل قيمتها من الذهب والفضة فتُطبق عليها أحكام النقد في الإسلام، والأحكام المرتبطة بها في الشرع.
إصدار النقود
الثمن هو تقدير المجتمع لقيم السلع، والأجر هو تقدير المجتمع لقيم الجهود. والنقود هي الشيء الذي يعبَّر به عن هذا التقدير. وهي الشيء الذي يمكّننا من قياس السلع المختلفة والجهود المختلفة وردّها إلى أساس واحد، فتسهُل عندئذ المقارنة بين أهمية السلع المختلفة، والمقارنة بين الجهود المختلفة بردّها إلى وحدة هي المقياس العام. ويجري دفع الثمن للسلعة، وإعطاء الأجرة للأجير على أساس هذه الوحدة.
وتقدَّر قيمة النقود بمقدار ما فيها من القوة الشرائية، أي بمقدار ما يستطيع الإنسان الحصول بواسطتها على سلع أو جهود. وعلى ذلك فلا بد أن تكون للشيء الذي يعبِّر عن تقدير المجتمع لقيم السلع والجهود قوة شرائية حتى يكون نقداً، أي قوة يستطيع كل إنسان بواسطتها الحصول على السلع والجهود.
والأصل أنه لا بد أن تكون لهذا الشيء قوة ذاتية، أو يستند إلى قوة ذاتية، أي أن يكون هو نفسه ذا قيمة معتبَرة عند الناس حتى يكون نقداً. إلاّ أن الواقع في إصدار النقود عند دول العالم أن منها من جَعلت نقودها قوة ذاتية أو تستند إلى قوة ذاتية, ومنها من جَعلت نقودها نقداً اصطلاحياً، أي تصطلح على شيء أنه نقد، وتَجعل فيه قوة شرائية. وتسير الدول في إصدار النقود إما على نظام الذهب والفضة، وإما على النظام الورقي الإلزامي. أمّا الدول التي تسير على نظام الذهب والفضة فإنها تَتبع أسلوبين في الإصدار: أحدهما الأسلوب المعدني، سواء أكان الأسلوب المعدني الفردي أو أسلوب المعدنين. والثاني الأسلوب الورقي. فالأسلوب المعدني هو أن تُخرج مصكوكات ذهبية أو فضية بأن تضرب قِطعاً من الذهب أو الفضة بقيم مختلفة مبنية على وحدة نقدية تُنسب إليها كل قيمة كل النقود والسلع المختلفة. وتُصك كل قطعة على أساس بنائها على هذه الوحدة، وتوضع هذه القطع نفسها للتداول نقوداً للدولة. والأسلوب الورقي في الدول التي تسير على نظام الذهب والفضة هو أن تستعمل الدولة نقداً ورقياً أي عملة ورقية قابلة للتحويل إلى الذهب والفضة، وتسلك في ذلك طريقين: إحداهما أن تجعل النقود الورقية تمثل كمية من الذهب والفضة على شكل سبائك أو نقود مودَعة في مكان معين، لها من القيمة المعدنية ما لهذه الأوراق من القيمة الاسمية وتُصرف بها لدى الطلب، وهذا ما يسمى بالنقود الورقية النائبة. أمّا الطريقة الثانية فهي أن يُجعل النقد الورقي أوراقاً يتعهد الموقِّع عليها بدفع مبلغ معين من النقود المعدنية لحاملها، ولا تمثل هذه النقود الورقية كمية من الذهب والفضة لها من القيمة المعدنية ما لهذه النقود المصدَرة من القيمة الاسمية، بل يحتفظ المصدِّر الذي يصدرها سواء أكان مصرفاً أو دولة في خزائنه باحتياطي معدني من الذهب والفضة أقل من قيمتها الاسمية، وذلك بأن يحتفظ بثلاثة أرباع القيمة أو الثلثين أو الثلث أو الربع أو نسبة مئوية من قيمتها الاسمية، كأن يُصدر المصرف أو الدولة نقداً ورقياً بمبلغ خمسماية مليون دينار ويحتفظ بخزائنه بمبلغ مائتي مليون دينار فقط من الذهب والفضة، ويسمى هذا النوع من النقد الورقي النقود الورقية الوثيقة. وقد اصطُلح على الاحتياطي المعدني اسم احتياطي الذهب أو غطاء الذهب.
وعلى أية حال فإن الدولة التي تُصدر النقد في جميع هذه الحالات تكون سائرة على نظام الذهب.
ومن هنا يتبين أن الأشياء التي تكون لها قوة ذاتية وهي الذهب والفضة تكون هي بذاتها نقوداً، وتكون أساساً تستند إليها النقود، وكل ما في الأمر أن كل بلد يصطلح على صفة معينة له لا تختلف من شكل معين ووزن معين ونقش معين حتى يكون نقدها الذي يتميز عن نقد سواها أو تصطلح هي على نقود ورقية نائبة تستند إلى الذهب والفضة يُتداول بها في الداخل والخارج أو يُتعامل بها مع الخارج، أو تصطلح على نقود ورقية وثيقة تغطى بنسبة معينة من قيمتها الاسمية بغطاء من الذهب، أي يوضع لها احتياطي بمقدار أقل من قيمتها من الذهب، وتكون هذه الأوراق على صفة معينة ورسم معين حتى تكون نقد البلد الذي أصدرها يتميز عن نقد سواها.
أمّا الدول التي تسير على نظام الورق الإلزامي فإنها تُصدر أوراقاً نقدية غير قابلة للتحويل إلى ذهب أو فضة أو أي معدن نفيس بسعر محدود. فالهيئة التي تُصدر هذه الأوراق النقدية غير ملزَمة بتحويل هذه الأوراق النقدية (أي هذا البنكنوت) إلى ذهب بسعر معين عندما يطلب الأفراد هذا التحويل. وإنما الذهب في مثل هذا البلد أو عند هذه الدولة يعتبر سلعة مثل أي سلعة أخرى يتغير ثمنه بين وقت وآخر حسب ظروف العرض والطلب. ولا يضمن هذه الأوراق النقدية احتياطي معدني، ولا تُصرف بنقود معدنية، ولا يتعدى تداولها حدود البلد الذي يخضع للقانون الذي جعلها عملة رئيسية، وليس لها إلاّ قيمة قانونية، وليس لها قوة ذاتية، ولا تستند إلى قوة ذاتية، وإنما هي وحدة اصطُلح عليها لتكون أداة للتبادل، ويستطيع الإنسان الحصول بها على السلع والجهود. فهذه ليست نقداً لذاتها، وإنما هي نقد لاصطلاح الناس عليها، فإنها تُصدرها سلطة أو سلطة نقدية، وتُلزم الناس على التعامل بها، والحصول على السلع والجهود بواسطتها. وعلى هذا فإن مثل هذا النقد وهو البنكنوت أو الأوراق النقدية ليس نقداً حقيقة وإنما هو من أساسه نقد اصطلاحاً.
هذا من حيث واقع إصدار النقد. أمّا من حيث الحكم الشرعي فيه فهو أن النقد في الإسلام لا يكون إلاّ ذهباً وفضة ليس غير، ولذلك يكون النقد نقداً شرعياً إذا كانت الدولة تسير على نظام الذهب وأصدرت النقد معدناً أي بالأسلوب المعدني، وورقاً أي بالأسلوب الورقي إذا كان من نوع النقود الورقية النائبة أي يمثل كمية من الذهب والفضة لها من القيمة المعدنية ما للنقود الورقية من القيمة الاسمية، وتصرَف بها لدى الطلب. فهذا كله يعتبر نقداً في الإسلام، ويعتبر نقداً شرعياً يحرم كنزه، وتجب فيه الزكاة، وتقدَّر به السرقة والدية وغير ذلك من الأحكام الشرعية بغض النظر عن الدولة التي أصدرته سواء أكانت دولة إسلامية أو دولة كافرة. أمّا النقود الورقية الوثيقة وهي التي لها غطاء من الذهب والفضة أي يحتفظ مُصدِرها بمقدار معيّن هو دون قيمتها الاسمية، فإنه يُنظر فيها، فإن كانت نسبة احتياطي الذهب والفضة الذي يحتفظ به لتغطيتها معروفة فإنه يُعتبر نقداً بمقدار نسبة الاحتياطي ثلثين أو ثلث أو ربع أو غير ذلك. وما زاد على نسبة الاحتياطي من قيمتها الاسمية لا يعتبر نقداً شرعاً. فإن كانت نسبة الاحتياطي النصف فإن الدينار الواحد يعتبر شرعاً نصف دينار نقداً شرعياً، ولا يعتبر ديناراً. فلا تُقدَّر قيمته الشرعية إلاّ بهذا المقدار، وهو ما يوجد مقابله ذهب وفضة. وعلى هذا الاعتبار تجري الأحكام الشرعية المتعلقة بالنقد عليه من حيث الكنز والزكاة والأحكام الأخرى المرتبطة به. أمّا إذا كانت النسبة غير معروفة فلا يعتبر نقداً مطلقاً لجهالة ما يقابله من الذهب والفضة. أمّا النقد الورقي الإلزامي، أي الأوراق النقدية، فلا يعتبر نقداً شرعاً مطلقاً.
وما دام النقد يصدر على الوجه المتقدم فإن كل بلد يستطيع أن يصطلح على شيء يعبِّر به عن تقدير المجتمع للسلع والجهود، إذا كانت في هذا الشيء القوة الشرائية التي يستطيع بها الإنسان الحصول على سلع وجهود من هذا البلد. وعلى هذا الأساس تستطيع كل دولة أن تصدر نقداً على صفة معينة لا تختلف، تعبِّر به عن تقدير المجتمع لقيم السلع والجهود، أي نقداً يستطيع كل إنسان أن يحصل من هذا البلد على السلع والجهود بالمقدار الذي وُضع لهذا النقد. وهي التي تفرض على الدول الأخرى الاعتراف بهذا النقد بمقدار ما يستطيعون به الحصول منها على السلع والجهود.
ولا تحتاج الدولة إلى الاستناد إلى صندوق النقد الدولي، ولا إلى البنك الدولي، ولا إلى بنك مركزي، ولا أي شيء من هذا مطلقاً، وإنما تكفي قوة الوحدة في الحصول على السلع والجهود لأن تجعلها نقداً إما لذاتها كالذهب والفضة وإما لاستنادها إلى الذهب والفضة كالنقود الورقية النائبة فإنها تمثل قيمتها الاسمية من الذهب والفضة، وإما لأن لها احتياطياً بمقدار معين من الذهب والفضة كالنقود الورقية الوثيقة، وإما لقدرتها على أن يستطيع الإنسان الحصول بها على سلع وجهود كالأوراق النقدية أي البنكنوت.
وقد كانت الدول تتعامل بالذهب والفضة، وتصطلح كل دولة على صفة معينة لا تختلف للذهب والفضة يتميز بها نقدا عن نقود غيرها. ثم صارت الدولة الواحدة تُصدر نقوداً ورقية مع النقود الذهبية والفضية المتخَذة لها صفة معينة لا تختلف. ثم اصطلحت الدولة الواحدة على إصدار أوراق نقدية مع بقاء النقود الذهبية والفضية. فكان في العالم نقود معدنية من الذهب والفضة، ونقود ورقية تحوَّل إلى ذهب وفضة أو تغطى بذهب وفضة، وأوراق نقدية لا تستند إلى شيء. ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية حتى الآن تتكون النقود من نوعين رئيسيين هما: النقود المعدنية، والنقود الورقية بأنواعها الثلاثة. ويعتبِر بعض الاقتصاديين أن الودائع المصرفية من الأنواع الرئيسية التي تتكون منها النقود، ولكن الواقع هو أنها عبارة عن ديْن يقبَله البنك على نفسه ويتعهد بدفعه للأفراد كلما سحبوا عليه شيكات، فهي في الحقيقة حسابات يفتحها البنك للأفراد وليست نقداً.
-
مشاركة: النظام الإقتصادي
سعر الصرف
الصرف هو استبدال عملة بعملة، أي استبدال العملة بعضها ببعض. وهو يكون إما استبدال عملة بعملة من جنس واحد، كاستبدال الذهب بالذهب والفضة بالفضة، وإما استبدال عملة بعملة من جنسين مختلفين كاستبدال الذهب بالفضة والفضة بالذهب. أمّا استبدال عملة بعملة من جنس واحد فيشترط فيه التماثل ولا يجوز فيه التفاضل مطلقاً لأنه ربا وهو حرام، كاستبدال الذهب بالذهب واستبدال الورق النقدي الذي يمكن تحويله إلى قيمته من الذهب بالذهب، ولذلك لا يوجد في هذه الحالة سعر الصرف.
وأمّا استبدال عملة بعملة من جنسين مختلفين كاستبدال الذهب بالفضة واستبدال الجنيه الإنجليزي بالدولار والروبل بالفرنك، فإنه يجوز بشرط التقابض وتكون نسبة أحدهما للآخر هي سعر الصرف، فسعر الصرف هو نسبة الاستبدال بين عملتين مختلفتين.
والذي يحمل الناس على الصرف هو حاجة أحد المصطرفين إلى العملة التي بيد المصطرف الآخر. أمّا الصرف بين الناس في العملة المتداولة في الدولة الواحدة كصرف الذهب بالفضة والفضة بالذهب فإنه واضح ويكون بين الذهب والفضة، لأن الدولة تسير على النظام الذهبي والنظام الفضي ويكون بين العملتين سعر الصرف، وهو يقرر حسب سعر السوق، ولا ضرر من تغير سعر الصرف بين العملة الواحدة التي ستعملها الدولة من جنسين مختلفين لأنه كتغير سعر السلع.
أمّا الصرف بين عملتين مختلفتين لدولتين أو أكثر، فهذا هو الذي توجد منه المشاكل، لذلك كان لا بد من بحثه باعتباره واقعاً وبيان الحكم الشرعي فيه وفي سعر الصرف من حيث هو.
أمّا باعتباره واقعاً فإن الدول تتبع أنظمة مختلفة ويختلف وضع الدول التي تتبع نظام الذهب عن وضع الدول التي تتبع النظام الورقي الإلزامي، فحين تتبع عدة دول نظام الذهب فإن سعر الصرف بينها أو نسبة الاستبدال بين عملاتها لا بد أن تظل ثابتة تقريباً، فإن كانت تسير على الأسلوب المعدني فالأمر ظاهر، لأنك في الواقع لا تستبدل عملتين مختلفتين قد تتغير قيمة كل واحدة منهما بالنسبة للأخرى تبعاً لظروف العرض والطلب الخاصة بكل منهما، وإنما أنت تستبدل ذهباً بذهب، وكل ما في الأمر أن الذهب قد طُبع عليه في إحدى الدول شعار أو صورة مختلفة عن الشعار أو الصورة التي طُبعت عليه في الدولة الأخرى، وسعر الصرف بين الدولتين يكون عندئذ النسبة بين وزن الذهب الصافي في عملة الدولة الأولى ووزن الذهب الصافي في عملة الدولة الثانية، وسعر الصرف بين الدول التي تتبع نظام الذهب لا يمكن أن يتغير إلاّ داخل حدين معينين يتوقفان على نفقات نقل الذهب بينهما، ويطلق عليهما اصطلاح "حَدًّي الذهب"، وحيث أن هذه النفقات تكون في الغالب صغيرة فيمكننا بشيء من التجاوز أن نقول إن سعر الصرف بين البلاد التي تتبع نظام الذهب سعر ثابت تقريباً، وإن كانت البلاد تسير على أسلوب النقود الورقية النائبة فإنها تكون في موضوع سعر الصرف كما هي الحال في الأسلوب المعدني سواء بسواء، لأنه في هذه الحالة يقوم التداول في الواقع على النقود المعدنية، وكل ما في الأمر أنه بدلاً من أن تتداول بنفسها تقوم هذه النقود الورقية مقامها باعتبارها نائبة عنها، ولذلك تأخذ وضعها تماماً في سعر الصرف، بل تأخذ حكمها في كل شيء. وأما إن كانت البلاد تسير على أسلوب النقود الورقية الوثيقة –أي البنكنوت- فإنها وإن كانت سائرة على النظام الذهبي إلاّ أن الذهب يغطي جزءاً من قيمتها وليس هو قيمتها كلها، ولذلك تختلف قيمتها بحسب احتياطي الذهب الذي لها، ويتكون بينهما سعر الصرف، إلاّ أن سعر الصرف هذا يظل ثابتاً وتسهل معرفته لأنه يتوقف على نسبة احتياطي الذهب، وهي كميات معروفة واضحة.
وأمّا إذا اتبعت عدة دول النظام الورقي الإلزامي فإنه ينشأ عندئذ موضوع تحديد سعر الصرف بينها، فإنه عند امتناع تحويل العملة إلى ذهب بسعر محدود فإن المشكلة التي تواجه الدول حينئذ هي كيف يتحدد سعر الصرف بين هذه الدول التي تتبع النظام الورقي الإلزامي؟
وحل هذه المشكلة هو أن العملات الورقية المختلفة هي سلع مختلفة يتداول الناس فيها في السوق النقدي العالمي، ويشترونها لا لذاتها وإنما لقدرتها على شراء سلع أخرى في مواطنها الأصلية، لذلك فإن نسبة الاستبدال بين عملتين ورقيتين –أو سعر الصرف بينهما- تتحدد تبعاً للقوة الشرائية لكل منهما في موطنها الخاص، وعلى هذا فسعر الصرف هو نسبة الاستبدال بل عملتين، فلو كانت مصر وإيطاليا تتبعان النظام الورقي وكانت الليرة الإيطالية تشتري في إيطاليا عشر وحدات من السلع وكان الجنيه المصري يشتري في مصر مائة وحدة من السلع لكانت نسبة الاستبدال بينهما هي جنيه مصري واحد لكل عشر ليرات إيطالية، إلاّ أن سعر الصرف هذا يمكن أن يتغير، لأن العملات الورقية هي عبارة عن سلع مختلفة يتبادل الناس بها في السوق النقدي العالمي، ويشترونها لا لذاتها وإنما لقدرتها على شراء سلع وجهود من البلدان التي أصدرتها، فترتفع قيمتها بانخفاض أسعار السلع في مواطنها الأصلية، وتنخفض بارتفاع أسعار تلك السل.، فمنفعة العملة الأجنبية عندنا تتوقف على قوتها الشرائية، فإن زادت هذه القوة زادت منفعتها لدينا وازداد استعدادنا لدفع كمية أكبر من عملتنا للحصول على كمية تقابلها من العملة الأجنبية، وإن قلَّت هذه القوة قلَّت منفعة تلك العملة لدينا وقلَّ استعدادنا لدفع كمية كبيرة من عملتنا للحصول على كمية من العملة الأجنبية، لأن تلك العملة الأجنبية صارت لا تستطيع أن تشتري سلعاً في مواطنها الأصلية بالقدر الذي كانت تشتريه، في حين أن عملتنا لا تزال محافظة على قيمتها. فلو فرضنا أن مستوى الأسعار بين مصر وإنجلترا في سنة معينة كان مائة في البلدين، وكان سعر الصرف بينهما هو جنيه مصري لكل جنيه إنجليزي فإن سعر الصرف يكون متعادلاً، ويكون القصد من الصرف هو الحصول على سد الحاجة من البضائع الإنجليزية، ولذلك لا يحصل إقبال ولا إعراض على الجنيه الإنجليزي في بلادنا، ولكن لو ارتفع مستوى الأسعار عندنا إلى مائتين وبقي مستوى الأسعار في إنجلترا مائة فإن الجنيه الإنجليزي في بلادنا تتضاعف قيمته فيصبح سعر الصرف هو جنيه مصري لنصف جنيه إنجليزي، فيحصل الإقبال على الجنيه الإنجليزي لانخفاض الأسعار في إنجلترا، ويقل الإقبال على الجنيه المصري لارتفاع الأسعار في مصر، ويترتب على ذلك أن طلب الإنجليز للجنيهات المصرية سيقل، وبالتالي سيقل إقبالهم على السلع المصرية وسيفضلون عليها حتماً سلعهم الحالية، لأن أسعار السلع المصرية قد ارتفعت إلى الضعف بينما أسعار السلع المنتَجة عندهم قد ظلت كما هي، وهكذا يتغير سعر الصرف تبعاً لتغير أسعار السلع في البلد التي أصدرت العملة، ولو ارتفع مستوى الأسعار في بلد ما عنه في بلد آخر بسبب زيادة النقود مثلاً فإن سعر الصرف لا بد أن يتغير بينهما فتنخفض القيمة الخارجية لعملة الدولة التي ارتفعت الأسعار فيها.
إن أسعار الصرف بين عملة دولة ما والعملات الأجنبية تتمشى مع العلاقة بين أسعار الصرف للعملات الأجنبية فيما بينها، بمعنى أنه لو كان الدينار العراقي يعادل 100 ريال إيراني أو 200 ليرة إيطالية أو 400 فرنك فرنسي فإن أسعار الصرف بين العملات الأجنبية هذه تكون في إيران هي ريال واحد إيراني= ليرتين إيطالية أو أربعة فرنكات فرنسية، وفي إيطاليا ليرة إيطالية واحدة= فرنكين فرنسي أو نصف ريال إيراني، وهكذا. وهذا هو ما يحدث فعلاً لو كانت كل دولة تترك القيمة الخارجية لعملتها تتغير تبعاً لتغير مستوى الأسعار فيها، ولا تفرِض القيود الثقيلة على حركة التجارة الدولية، وعلى تحويل النقد الأجنبي إلى نقد محلي أو النقد المحلي إلى نقد أجنبي. ولكن قد تحاول دولة المحاولة على القيمة الخارجية لعملتها رغم ارتفاع الأسعار فيها، وذلك بواسطة تحديد طلب المستوردين فيها على السلع الأجنبية عن طريق التقليل من رخص الاستيراد مثلاً، وفي مثل هذه الحالة قد يختل التناسب بين أسعار الصرف المختلفة في البلاد المختلفة، فهذا الاختلاف في التناسب بين أسعار الصرف لا يمكن أن يحدث إلاّ إذا فرضت بعض الدول قيوداً على عمليات النقد الأجنبي فيها، وذلك لأنه إن لم توجد هذه القيود فإن التاجر قد يتمكن من استبدال العملة فيربح، ويتهافت الناس على ذلك، فتنتج إعادة التناسب مرة أخرى بين أسعار الصرف المختلفة. وهذه القيود على المعاملات الصرفية ظاهرة شائعة في كثير من البلاد في سِنِي الحرب وفي حالات الاختلال الاقتصادي الشديد الذي قد يُلِم بها، وإننا لنجد في مثل هذه الأوقات أن قيمة عملة الدولة التي تقيد معاملاتها النقدية بهذه القيود تختلف من بلد إلى آخر تبعاً للأنظمة النقدية المتبعة في كل بلد، ففي البلد الذي فيه نظام سعر الصرف الموحد يظل سعر الصرف الرسمي بين عملته وعملة الدولة المذكورة ثابتاً، إذ يشتريها البنك المركزي والبنوك المرخص لها بمزاولة عمليات النقد الأجنبي بسعر ثابت ويبيعها بسعر ثابت.
أمّا في البلاد التي تتبع نظام سعر الصرف الموحد والتي لا يتعهد فيها البنك المركزي بشراء أو بيع العملات الأجنبية بسعر معين فإن أسعار هذه العملات الأجنبية تتغير بين وقت وآخر تبعاً لظروف العرض والطلب. ويوصف نظام الصرف في البلاد التي تسمح بتغيرات أسعار العملات الأجنبية فيها تبعاً لظروف العرض والطلب بأنه نظام أسعار الصرف المتغيرة، ويلاحَظ أن أسعار الصرف فيه قد لا تنشأ فقط عن تغيرات مستويات الأسعار بينه وبين البلاد الأخرى، وإنما قد تنشأ أيضاً بسبب تحديد حركة التجارة الدولية أو اختلال الموازين الحسابية للدول المختلفة لأي سبب. وفي بعض البلاد يكون نظام أسعار الصرف المتغيرة مسموحاً به قانوناً كلبنان، فإنه بلد تسمح فيه الحكومة بتغير أسعار الصرف تبعاً للتغيرات اليومية الطارئة على ظروف العرض والطلب. وفي بعض البلدان الأخرى يكون نظام أسعار الصرف المتغيرة ممنوعاً، ولكنه مع ذلك قد توجد فيه معاملات بين الأفراد ترمي إلى بيع أو شراء عملات أو حسابات أجنبية بأسعار تختلف كل الاختلاف عن الأسعار الرسمية.
هذا هو الصرف وسعر الصرف لدى الدول القائمة في العالم، وبعبارة أخرى هذا هو واقع الصرف وواقع سعر الصرف في بلدان العالم.
أمّا الحكم الشرعي بالنسبة للصرف وسعر الصرف فإن الدولة الإسلامية تسير على نظام الذهب، سواء أجعلته نظاماً معدنياً أو جعلته نقوداً ورقية نائبة لها مقابل من الذهب والفضة مساوٍ لقيمتها الاسمية تماماً، وسواء جعلت للنقد المعدني صفة معينة لا تختلف أم لم تجعل، فإنها ملزَمة بالسير عليه لأنه حكم شرعي، وتترتب عليه عدة أحكام شرعية، والصرف في داخلها بين الجنس الواحد يجب فيه التماثل ولا يجوز فيه التفاضل، وكذلك الصرف في خارجها بين الجنس الواحد لا يختلف مطلقاً، فالحكم الشرعي واحد لا يتغير، وأمّا الصرف بين جنسين مختلفين فإنه يجوز فيه التفاضل والتماثل -كالصرف بين الذهب والفضة- على شرط التقابض يداً بيد بالذهب والفضة، ولا فرق في ذلك بين الصرف في الداخل وفي الخارج، لأن الحكم الشرعي واحد لا يتغير، فكما جاز التفاضل في الصرف بين الذهب والفضة في الداخل يداً بيد فكذلك يجوز التفاضل بينهما في الخارج يداً بيد. وكذلك الحال في الصرف بين عملة الدولة الإسلامية وعملات الدول الأخرى من النقود المعدنية والنقود الورقية النائبة أي التي لها مقابل من الذهب والفضة مساو تماماً لقيمتها الاسمية، فإنه يجوز فيها التفاضل عند اختلاف الجنس، ولكن على شرط أن يكون يداً بيد في الذهب والفضة، ولكن لا يجوز فيه التفاضل عند اتحاد الجنس، بل يجب التماثل لأن التفاضل ربا وهو حرام شرعاً.
أمّا النقود الورقية الوثيقة، وهي التي يغطى قسم من قيمتها؛ أي التي يكون لها احتياطي أقل من قيمتها الاسمية، فإنها تعتبر قيمتها النقدية بمقدار ما لها من احتياطي، وتُصرف بعملتنا الإسلامية على هذا الاعتبار، وتأخذ حينئذ بهذا الاعتبار وبهذا المقدار، حكم الصرف بين الذهب والفضة في النقد المعدني مع اعتبار قيمة الاحتياطي فقط عند حساب الصرف.
أمّا الأوراق النقدية، -أي البنكنوت-، وهي النقود الورقية الإلزامية التي ليس لها أي شيء من قيمتها الاسمية، فإنها لا تعتبر نقداً مطلقاً ولا تدخل تحت أحكام الصرف، ولذلك لا يُبحث فيها سعر الصرف من ناحية إسلامية، وإنما هي سلعة كباقي السلع تشترى وتباع كأي سلعة بأي ثمن حسب سعر السوق، ولا يُنظر فيها أي تفاضل أو تماثل بل يُنظر فيها سعرها في السوق ولا يوضع لها أي نظام. وما دامت اعتبرت سلعة لا نقداً واعتبرت من باب البيع والشراء للسلع لا من باب البيع والشراء للنقود؛ أي لم تعتبر من باب الصرف، فإنه تطبق عليها أحكام البيع والشراء التي تطبق على السلع، ولذلك لا يجوز أن تُسعر فلا يوضع لها سعر معين ولا يلزم الناس بسعر موحد لها، وعلى ذلك تكون سائرة على نظام أسعار الصرف المتغيرة المسموح به عند بعض الدول، ولكن لا من حيث كونها سعر الصرف بل من حيث كونها سلعة من السلع.
وعلى هذا فالصرف بين عملة الدولة الإسلامية وبين عملات الدول الأخرى جائز كالصرف بين عملتها سواء بسواء. وجائز أن يتفاضل الصرف بينهما لأنهما من جنسين مختلفين، على شرط أن يكون يداً بيد بالنسبة للذهب والفضة.
ونسبة الاستبدال بين الذهب والفضة، أو سعر الصرف بينهما ليس ثابتاً تماماً وإنما يتغير بحسب سعر السوق للذهب والفضة. ولا فرق في ذلك بين الصرف في الداخل وبينه في الخارج. وكذلك الحال بين عملة الدولة الإسلامية وعملات الدول الأخرى، فإنه جائز أن يتغير سعر الصرف بينهما. إلاّ أن سعر الصرف بين عملة الدولة الإسلامية وعملات الدول الأخرى لا يؤثر على الدولة الإسلامية لسببين اثنين:
أحدهما: أن البلاد الإسلامية متوفرة لديها جميع المواد الخام التي تلزم للأمّة وللدولة، فلا تحتاج إلى سلع غيرها احتياجاً أساسياً، أو احتياج ضرورة. ولهذا تستطيع أن تستغني بسلعها المحلية فلا يؤثر عليها التغير.
ثانيهما: أن البلاد الإسلامية تملك سلعاً كالبترول مثلاً تحتاجها جميع الدول في العالم، وتستطيع أن تمنع بيعها للناس إلاّ إذا دفعوا لها ثمنها ذهباً. والدولة التي تستغني عن غيرها بسلعها المحلية، والتي تملك سلعاً يحتاجها جميع الناس لا يمكن أن يؤثر عليها تغيير سعر الصرف مطلقاً، فهي التي تستطيع أن تتحكم في الأسواق العالمية النقدية، ولا يستطيع أحد أن يتحكم بعملتها.
-
مشاركة: النظام الإقتصادي
التجارة الخارجية
بعد أن انتقل تعامل البيع والشراء من مبادلة المقايضة إلى المبادلة بتوسيط النقود، ازداد النشاط التجاري بين الأفراد، وازداد تقسيم العمل بين الأفراد في البلد الواحد، وازداد تقسيمه بين الشعوب والأمم في البلدان المختلفة. وهكذا انتهى العهد الذي كان يعيش فيه الفرد لنفسه، وانتهت الأجيال التي كانت تعيش فيها كل أمّة أو كل شعب بمعزل عن غيرها من الشعوب والأمم، وأصبحت التجارة الداخلية والخارجية من مقتضيات الحياة في العالم.
والفرق بين التجارة الداخلية والتجارة الخارجية أن التجارة الداخلية هي عمليات البيع والشراء بين أفراد الأمّة الواحدة، وهذه تنطبق عليها أحكام البيع التي ذكرها الفقهاء، ولا تحتاج إلى أية مباشرة من الدولة حتى ولا إشراف مباشر، وإنما تحتاج إلى إشراف عام في إلزام الناس بأحكام الإسلام في البيع والشراء ومعاقبة المخالفين لها كأي عملية من عمليات المعاملات كالإجارة والزواج وغير ذلك. أمّا التجارة الخارجية فهي عمليات البيع والشراء التي تجري بين الشعوب والأمم لا بين أفراد من دولة واحدة، سواء أكانت بين دولتين أو كانت بين فردين كل منهما من دولة غير الأخرى يشتري بضاعة لينقلها إلى بلاده، فهي كلها تدخل تحت سيطرة علاقة دولة بدولة، ولذلك تباشر الدولة منع إخراج بعض البضائع وإباحة بعضها، وتباشر موضوع التجار الحربيين والمعاهدين، فهي تباشر التجارة مطلقاً وتباشر موضوع التجار من غير رعاياها، أمّا رعاياها فيكفي الإشراف عليهم في التجارة الخارجية كالتجارة الداخلية، إذ هم من العلاقة الداخلية.
والتجارة الخارجية كانت تتنقل بين الدول بواسطة الأفراد من التجار، فيذهب الرجل إلى بلاد أخرى ليحضر تجارة فيقوم بشراء بضاعة ينقلها إلى بلاده، أو يأخذ هو بضاعة إلى بلاد أخرى لبيعها حتى يحضر ثمنها لبلاده أو يشتري بها بضاعة يحضرها لبلاده، وفي كلتا الحالتين –بل في جميع الحالات- تقوم الدولة بتنظيم هذه التجارة والإشراف عليها مباشرة، ومن أجل ذلك وضعت مراكز لها على حدود البلاد، وهذه المراكز هي التي يسميها الفقهاء مسالح، إذ ينبغي للخليفة أن تكون له مسالح على المواضع التي تنفذ إلى بلاد الكفار من الطرق، فيفتشون من مرّ بهم من التجار، فهذه المسالح على الحدود هي التي تشرف مباشرة على التجارة التي تدخل البلاد أو التي تخرج منها؛ أي من أجل الإشراف مباشرة على التجار، سواء أكانوا بائعين أو مشترين، فهي تقوم بتنظيم هذه التجارة وتنفذ هذا التنظيم بواسطة هذه المراكز التي على الحدود؛ أي تقوم على تنظيم تنقّل الأشخاص والأموال الداخلة إليها أو الخارجة منها عبر حدودها، وتشرف مباشرة على ذلك.
ولماّ كان الحكم الشرعي هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، كانت الأحكام الشرعية المتعلقة بالتجارة الخارجية إنّما نزلت في حق أفراد الإنسان، وكان الحكم المتعلق بالمال إنّما يتعلق بالمال من ناحية كونه مملوكاً لفرد معين، ومن هنا كانت أحكام التجارة باعتبار التجار لا باعتبار نوع المال، ولهذا كانت الأحكام المتعلقة بالتجارة الخارجية إنّما هي الأحكام المتعلقة بالأفراد من حيث نظر الشرع لهم ولأموالهم؛ أي من حيث حكم الله في حقهم ومن حيث حكم الله في أموالهم المملوكة لهم.
وعلى هذا فإن أحكام التجارة الخارجية ليست متعلقة بالتجارة ولا بالمنشأ الذي أنتجها، وإنما هي متعلقة بالتاجر، لأن أحكام المال تابعة لمالك المال تأخذ حكمه، فما يصدق من حكمٍ على المالك يصدق على ماله المملوك له، وهذا بخلاف النظام الرأسمالي، فإن حكم التجارة الخارجية إنّما هو للمال لا لصاحبه، فينظر إليه من حيث منشأ المال لا من حيث التاجر.
وهذا هو الفرق بين نظرة الإسلام ونظرة النظام الرأسمالي، إذ النظام الرأسمالي ينظر للمال وللمنشأ الذي أنتجه، فيعطيه حكم المنشأ، أمّا الإسلام فينظر لمالك المال –أي للتاجر- بغض النظر عن منشأ المال الذي أنتجه. فالرأسمالية تعتبر المال والإسلام يعتبر الشخص. نعم، إن لنوع المال الذي يتاجر به أثراً في إباحة التجارة أو منعها، ولكن هذا متعلق بوصف المال من حيث كونه مضراً أو نافعاً، وليس هو من حيث منشؤه، فالحكم إنّما هو بالنسبة للشخص المالك للتجارة –أي بالنسبة للتاجر- لا للتجارة، والتجار الذين يدخلون أراضي الدولة الإسلامية أو يخرجون منها ثلاثة أصناف: فهم إما أشخاص من رعايا الدولة -سواء أكانوا مسلمين أو ذميين-، وإما أشخاص معاهدون، وإما أشخاص حربيون.
أمّا الذين هم من رعايا الدولة الإسلامية فإنه لا يجوز لهم أن يَحملوا إلى دار الحرب ما يستعين به أهل الحرب على الحرب من الأسلحة والخيل وكل ما يستعان به في الحرب؛ أي يحرم عليهم أن يُخرجوا من البلاد جميع المواد الاستراتيجية التي تستعمل في الحرب فعلاً، لأن فيه إمداد الأعداء وإعانتهم على حرب المسلمين، ويعتبر ذلك تعاوناً على الإثم لأنه تعاون مع الحربيين على المسلمين، قال الله تعالى: )ولا تعاونوا على الإثم(، فلا يمكَّن أحد من حمل هذه المواد وإخراجها من بلاد الإسلام، سواء أكان مسلماً أو ذميا. هذا إذا كان إخراجها إعانة لأهل الحرب على الحرب ضد المسلمين، أمّا إذا لم يكن إخراجها إعانة لهم ضد المسلمين فإنه حينئذ يجوز، وأمّا حمل ما عدا ذلك من أنواع التجارة كالثياب والمتاع ونحو ذلك إليهم فإنه يجوز، لأن الرسول أمر تمامة أن يمير أهل مكة وهم حرب عليه، ولانعدام معنى الإمداد والإعانة للحربي، ولأن تجار المسلمين كانوا يدخلون دار الحرب للتجارة في أيام الصحابة وعلى مرأى ومسمع منهم من غير ظهور الرد والإنكار عليهم، مع أنه مما لا يَسكت عن مثله الصحابة لو كان غير جائز، فسكوتهم عن ذلك مع علمهم به يعتبر إجماعاً سكوتياً، فيجوز للتجار المسلمين والذميين أن يُخرجوا الطعام والمتاع خارج البلاد للتجارة، إلاّ أن تكون مما تحتاج إليه الرعية لقلّته فيُمنع.
هذا بالنسبة لإخراج التجارة من البلاد. أمّا بالنسبة لإدخال التجارة إلى البلاد فإن قوله تعالى: )أحل الله البيع( عام يشمل التجارة الداخلية والتجارة الخارجية، ولم يرِد نص يمنع المسلم أو الذمي من إدخال المال للبلاد، بل يبقى نص الحِل على عمومه، وعليه يجوز للمسلم أن يدخل التجارة للبلاد مهما كان نوعها، ولا يمنع من إدخال كل مال يجوز للمسلم أن يملكه وكل بضاعة يجوز للفرد أن يملكها دون أي حاجز.
أمّا المعاهِدون فإنهم يعاملون في التجارة الخارجية بحسب نصوص المعاهدة المعقودة معهم، سواء أكان ذلك في البضاعة التي يخرجونها من بلادنا أو البضاعة التي يدخلونها لبلادنا، إلاّ أنهم لا يمكَّنون من أن يشتروا من بلادنا السلاح وكل ما يستعان به على الحرب، ولو اشتروا ذلك لا يمكَّنون من إخراجه من بلادنا لأن ذلك إعانة لهم، وهم وإن كانوا معاهدين فإنهم لم يخرجوا عن كونهم يمكن أن يكونوا محاربين، إلاّ أن يكون ذلك مما لا يعتبر إعانة لهم كأن كانت مصلحة المسلمين في تسليحهم بسلاح معين لا يؤثر ولا يصل إلى درجة الإعانة، لأن منع بيع السلاح وما شاكله بما يستعان به في الحرب هو لعلة عدم إمداد العدو وإعانته، فإذا عدمت العلة عدم الحكم.
أمّا الحربيون فهم كل من ليس بيننا وبينهم معاهدات وليسوا من رعايا الدولة الإسلامية، سواء أكانت حالة الحرب بيننا وبينهم قائمة أم لم تكن، فهم يعتبرون بالنسبة للمسلمين حربيين، إلاّ أنه إن كانت حالة الحرب بيننا وبينهم قائمة بالفعل فيعتبرون كاعتبار من نشتبك معهم في معركة، نأخذ أسراهم ونقتل من نظفر به إن لم يكن أعطي أماناً، ونستحل أموالهم. وإن لم تكن حالة الحرب قائمة بالفعل فإنه لا يحل منهم شيء، إلاّ من دخل بلادنا بغير أمان، سواء دخل هو أو ماله، فيعتبر هو اعتبار الحربي، ويعتبر ماله أنه مال حربي. وعلى هذا الأساس يعامل التجار الحربيون سواء أكان التاجر بائعاً أو مشترياً، فكلهم يعتبرون تجاراً والحكم الشرعي في ذلك يتلخص فيما يلي:
لا يجوز لحربي أن يدخل دار الإسلام إلاّ بأمان، أي بإذن خاص بالدخول. وإعطاؤه الأمان هو إذن له بالدخول، فإن دخل بغير أمان يُنظر، فإن دخل وكان معه متاع يبيعه في دار الإسلام، وقد جرى التعامل معهم أن يدخلوا إلينا تجاراً بغير أمان، لم يُعرض لهم وإنما يؤخذ على أموالهم ما يؤخذ على الأموال الخارجية، وهو أن نأخذ منهم ما يأخذون من تجارنا، أي المعاملة بالمثل. ويُسمح لمن دخل، بالبيع والشراء طبقاً للتعامل، مثل حالة الأشخاص القريبين من حدود البلاد، فإن التعامل معهم يجري أن يدخلوا دون إذن، أي دون أمان. أمّا إن لم يجرِ التعامل معهم على دخولهم تجاراً، أو جرى التعامل ولكن الشخص الذي دخل قد دخل بغير تجارة، عومل معاملة الحربي غير التاجر، فلا يُحفظ دمه ولا ماله في البلاد. ولو قال جئت مستأمناً لا يُقبل منه، وذلك لأن إعطاء الأمان للحربي شرط في استحقاقه حفظ دمه وماله في بلادنا، فإن لم يُعطَ الأمان لا يُحفظ. ويقوم مقام إعطاء الأمان التعامل التجاري في شأن التجار فحسب، إذا كانوا يحملون تجارة. وإعطاء الحربي الأمان لنفسه يعتبر إعطاء للأمان لماله. فإن نوى الحربي الإقامة في البلاد وأقام ثم أراد الرجوع إلى دار الحرب وأودَع ماله مسلماً أو ذمّيّاً أو أقرضهما إيّاه فإنه يُنظر، فإن عاد إلى دار الحرب لغرض من الأغراض، أو عاد تاجراً أو رسولاً أو متنزهاً أو لحاجة يقضيها ثم يعود إلى دار الإسلام، فإنه يبقى أمانه على ماله ونفسه، لأن خروجه لدار الحرب مع بقاء نيته الإقامة في دار الإسلام أشبه الذمّيّ إذا دخل دار الحرب، فيَأخذ حكم الذمّيّ، ولا يُبطِل الأمان خروجه لدار الحرب ما دامت نيته العودة إلى دار الإسلام. أمّا إن عاد إلى دار الحرب مستوطناً بَطُل الأمان في نفسه مطلقاً. فلو أراد الدخول مرة ثانية يحتاج إلى أمان جديد. أمّا الأمان بالنسبة لماله فيُنظر فيه، فإن كان ماله هذا قد أبقاه في دار الإسلام بأن أودعه مسلماً أو ذمّيّاً، فإن الأمان يبقى لهذا المال، لأنه بدخوله دار الإسلام بأمان، ثبت الأمان له ولماله الذي معه، فإذا بقي ماله في دار الإسلام ورجع هو وحده لدار الحرب بَطُل الأمان في نفسه وحدها بدخوله في دار الحرب، وبقي الأمان في ماله الباقي في دار الإسلام، لاختصاص المبطَل في نفسه فيُخَص البطلان به. فإن مات، انتقل هذا المال لوارثه، لأن الأمان حق لازم يتعلق بالمال، فإذا انتقل المال إلى الوارث انتقل حق الأمان فيُسلَّم لورثته. أمّا إذا أخرج ماله معه، نُقِض الأمان بنفسه وماله معاً.
والحاصل أن تجارة الحربي لا يصح أن تدخل بلادنا إلاّ بأمان لصاحبها، ويكون أمانه أماناً لها، وإذا أراد الحربي إدخال تجارته من غير أن يدخل هو فإنه يُعطى الأمان لتجارته أو لا يُعطى، لأن الأمان للمال قد ينفصل عن أمان النفس، فإذا دخل الشخص الحربي بلادنا وأُعطي أماناً لنفسه فإنه يكون أماناً له ولماله الذي معه تبعاً له ولا يكون أماناً لماله الذي لم يدخل معه دار الإسلام. فإذا خرج من دار الإسلام وأبقى ماله في دار الإسلام، فإنه يبقى الأمان لماله الذي في دار الإسلام للمال، وينتهي الأمان الذي أُعطي لنفسه. وعلى هذا فإنه يجوز للخليفة أن يعطي الأمان لتجارة الحربي أي لماله أن يدخل البلاد دون، فإن أعطي الأمان لماله أي لتجارته كان له أن يرسل هذه التجارة مع وكيله أو أجيره أو غير ذلك. وبهذا يتبين أن المال الحربي يحتاج دخوله إلى أمان كالحربي سواء بسواء. وعلى ذلك فالتجارة الخارجية يحتاج دخولها إلى بلاد الإسلام إلى أمان –أي إذن من الدولة-. فإن أعطي لها إذن كان على الدولة صيانتها كباقي أموال الرعية، وإن دخلت بغير أمان أي بغير إذن كانت ملكاً حلالاً للدولة لها أن تستولي عليها. غير أن هذا إذا كانت هذه التجارة ملكاً للتجار الحربيين، أمّا إذا اشتراها تاجر من رعية الدولة مسلماً كان أو ذمياً، ثم أراد أن يدخلها فلا يحتاج إدخالها من قبله إلى أي إذن، ولكن ذلك مشروط فيما إذا كانت ملكه وكانت ملكيته لها قد تمت بإتمام صفقة البيع بجميع نواحيها. أمّا إذا كانت ملكيته لها لم تتم بأن كانت صفقة البيع لم تتم بل بدئ بإجرائها -كما هي الحال في التجارة الآن- لا يعتبر التاجر ملزماً إلاّ بعد تسلمه أوراق شحن البضاعة، أو كان قبض التجارة لم يتم بالرغم من شرائها، فإن هذه التجارة في مثل هذه الحالة تعتبر تجارة لحربي ويحتاج دخولها إلى أمان، أي إذن. فإذا كان القبض يعتبر بمجرد خروجها من المصنع أو بمجرد شحنها كان قبضاً وتعتبر تجارة مسلم أو ذمي، وإن كان القبض يعتبر عند دخولها إلى البلاد لم يكن قبضاً وتعتبر تجارة حربي.
هذا بالنسبة لدخول تجارة الحربي أو دخول التاجر الحربي. أما بالنسبة لخروج تجارة الحربي من بلادنا -أي بالنسبة لشراء الحربي بضعة من بلادنا وإخراجها منها- فإنه يُنظر، فإن كانت هذه البضاعة من المواد الاستراتيجية كالسلاح وككل ما يستعان به في الحرب على العدو، فإنه يمنع من شرائه ويمنع من إخراجه، وإذا اشتراه منع من حمله وإخراجه. أمّا باقي المواد كالطعام والمتاع ونحوه فإنه يسمح للحربي الذي أعطي الأمان أن يشتريها وأن يحملها ويخرجها من بلادنا، ما لم تكن مما تحتاج إليه الرعية لقلّته، فإنه حين ذلك يمنع لحاجة الرعية إليه كما يمنع التجار المسلمون والذميون من إخراج هذه المواد التجارية لعلة حاجة الرعية إليها.
هذا بالنسبة لخروج التجار والتجارة من بلاد الإسلام، وبالنسبة لدخول التجار والتجارة. أمّا بالنسبة لما يوضع على هذه التجارة من ضرائب، فإن الحكم الشرعي فيها يختلف باختلاف التجار لا باختلاف التجارة، لأن نظرة الإسلام ليست للتجارة من حيث كونها مالاً فقط أو من حيث منشؤها، وإنما نظرة الإسلام للتجارة من حيث كونها مملوكة لشخص، ولذلك يختلف حكم ما يوضع عليها باختلاف التجار بغض النظر عن منشأ التجارة وعن نوعها. فإذا كان التاجر من رعايا الدولة الإسلامية مسلماً كان أو ذمياً، فإنه لا يوضع على تجارته شيء مطلقاً لِما رُوي عن عقبة بن عامر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يدخل الجنة صاحب مُكس}، وعن أبي الخير قال: {سمعت رُوَيفَع بين ثابت يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن صاحب المُكس في النار قال: يعني العاشر}. والعاشر هو الذي يأخذ العُشر على التجارة التي تأتي من الخارج. وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا لقيتُم عاشراً فاقتلوه} يعني الصدقة يأخذها من غير حقها. وعن مسلم بن المصبح {أنه سأل ابن عمر أَعَلِمتَ أن عمر أخذ من المسلمين العُشر؟ قال: لا. لم أعلم}. وعن إبراهيم بن مهاجر قال: سمعت زياد بن حدير يقول: {أنا أول عاشر عشّر في الإسلام. قلت: من كنتم تعشرون؟ قال: ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. كنا نعشر نصارى بني تغلب}. وعن عبد الرحمن بن معقل قال: سألت زياد بن حدير: من كنتم تعشرون؟ قال: {ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. قلت فمن كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب كما كانوا يعشرونا إذا أتيناهم}. وعن يعقوب بن عبد الرحمن القاري عن أبيه قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطأة {أنْ ضع عن الناس الفدية وضعْ عن الناس المائدة وضعْ عن الناس المُكس. وليس المكس ولكنه البُخس الذي قال فيه الله تعالى: )ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين( فمن جاءك بصدقة فاقبلها ومن لم يأتك بها فالله حسيبه}. وعن كريز بن سليمان قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عبد الله بن عوف القاري قال: {أنِ اركب إلى البيت الذي برفح الذي يقال له بيت المُكس فاهدمه ثم احمله إلى البحر فانسفه نسفاً}، قال أبو عبيد: "وجوه هذه الأحاديث التي ذكرنا فيها العاشر وكراهة المكس والتغليظ فيه أنه قد كان له أصل في الجاهلية يفعله ملوك العرب والعجم جميعاً فكان سنّتهم أن يأخذوا من التجار عُشر أموالهم إذا مرّوا بها عليهم. يبين ذلك ما ذكرنا من كتب النبي صلى الله عليه وسلم لمن كَتَب من أهل الأمصار مثل ثقيف والبحرين ودومة الجندل وغيرهم ممن أسلم {أنهم لا يحشرون ولا يعشرون}، فعلمنا بهذا أنه قد كان من سنّة الجاهلية مع أحاديث فيه كثيرة فأبطل الله ذلك برسوله صلى الله عليه وسلم بالإسلام". أي أنه كان من سنّة الجاهلية أن يأخذوا العشور أي المكوس فأبطل الله ذلك بالإسلام.
فهذه الأحاديث المطلقة المروية عن الرسول صلى الله عليه وسلم تدل على أنه لا يؤخذ من المسلم ولا من الذمي شيء من المكس على تجارته، لا التجارة التي يُدخلها لبلاد الإسلام ولا التجارة التي يُخرجها إلى دار الحرب. وقد فعل ذلك عمر بن الخطاب فلم يأخذ من التجار المسلمين ولا الذميين شيئاً من المكس وأقرّه الصحابة على ذلك فكان إجماعاً سكوتياً، وهو دليل شرعي. والمكس هو المال الذي يؤخذ على التجارة حين تمُر على حدود البلاد فتعبُرها لتخرج منها أو لتدخل إليها. والبيت الذي يوضع على الحدود هو بيت المكس، إذ المكس في السلعة دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهلية، وما يأخذه أعوان الدولة من أشياء معينة عند بيعها أو عند إدخالها المدن، جمعه مكوس، يقال: مكس، جبى مال المكس، فهو إذاً خاص بما يؤخذ على التجارة. والنهي عن أخذ المكس عام فيشمل الذمي والمسلم.
وأمّا ما رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ليس على المسلمين عشور وإنما العشور على اليهود والنصارى} فإن هذا الحديث رُوي من ثلاث طرق، منها طريقان رُوي فيهما عن مجهول، ورواية حرب بن عبيد الله الثقفي الذي رواها عن جده أبي أمه لم يقل فيها رواة الحديث شيئاً وسكتوا عنها، علاوة على ذلك فإنه لم يأخذ بها أحد من المجتهدين ولم يُر أحد يَستدل بها، لا ممن يقولون بعدم أخذ شيء على التجارة، ولا من الذين يقولون بأخذ ربع العُشر من المسلم زكاة ونصف العشر من الذمي سياسة. ولو صحّت عندهم لأخذوا بها واستدلوا بالحديث، فالحديث لم يقل أحد بتصحيحه فلا يؤخذ به.
وأمّا ما رُوي عن عمر بأنه كان يأخذ من المسلمين ربع العشر ومن الذميين نصف العشر ومن الحربيين العشر، فإن ذلك لا بد أن يُقرن في حكم كل من المسلم والذمي والحربي في بيعه وشرائه. أمّا المسلم والذمي فإن الأحاديث صريحة في تحريم الأخذ منهما حين نصت على تحريم المكس وهو أخذ مال على التجارة نصاً عاماً فيكون ما أخذه عمر من المسلم زكاة وما أخذه من الحربي من قبيل المعاملة بالمثل لأنهم كانوا يأخذون من تجارنا العشر، وما أخذه من الذمي هو بناء على أنه صالَحَهم على ذلك. فيكون قد أُخِذ عملاً بمعاهدة الصلح ولم يؤخذ مكساً، لأن الله أوجب على الكفار الجزية فقط، فإن كان ربع العشر يؤخذ منهم صلحاً مع الجزية فهو حق وعهد صحيح، وإلاّ فلا يحل أخذ شيء من أموالهم بعد صحة عقد الذمة بالجزية والصَغار ما لم يَنقُضوا العهد. قال أبو عبيد: "وكان الذي يشكُل علىّ وجهه أخْذَه (يعني عمر) من أهل الذمة (يعني ربع العشر) فجعلت أقول: ليسوا بمسلمين فتؤخذ منهم الصدقة ولا من أهل الحرب فيؤخذ منهم مثل ما أخذوا منا. فلم أدرِ ما هو حتى تدبّرتُ حديثاً له فوجدته إنّما صالحهم على ذلك صلحاً. سوى جزية الرؤوس وخراج الأرضين".
هذا بالنسبة للتاجر المسلم أو الذمي، أمّا بالنسبة للتاجر المعاهِد فإنه يؤخذ منه بحسب ما نصت عليه المعاهدة التي بيننا وبينهم، فإن نصت على إعفائه من أخذ شيء، يُعفى من ذلك، وإن نصت على مقدار معين، يؤخذ المقدار، فيطبَّق في حقه ما نصت عليه المعاهدة.
وأمّا التاجر الحربي فحكمه أن نأخذ منه كما تأخذ دولته من تجارنا. فإذا دخل إلينا منهم تاجر حربي بأمان أخذنا منه مثل ما يأخذون من تجار الدولة الإسلامية، سواء أكانوا مسلمين أو ذميين، لِما رُوي عن أبي مجاز لاحق بن حميد قال: {قالوا لعمر: كيف تأخذ من أهل الحرب إذا قَدِموا علينا؟ قال: كيف يأخذون منكم إذا دخلتم عليهم؟ قالوا: العشر. قال: فكذلك خذوا منهم}. وعن زياد بن حدير قال: {ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. قال: من كنتم تعشرون؟ قال: كفار أهل الحرب، فنأخذ منهم كما يأخذون منا}. وقد فعل عمر ذلك على مرأى ومسمع من الصحابة، ولم ينكِر عليه أحد بل سكتوا عن ذلك فكان إجماعاً. إلاّ أن الأخذ من تجار أهل الحرب مثل ما يأخذون منا إنّما هو جائز وليس بواجب، أي هو للدولة أن تأخذ وليس واجباً عليها أن تأخذ، بل يجوز لها أن تعفي تجارة الحربي من المكس ويجوز لها أن تأخذ عليها مكساً أقل مما يأخذون منا، ولكن ليس لها أن تأخذ منهم أكثر مما يأخذون منا، لأن أخذ المكس ليس لجباية المال وإنما هو سياسة المعاملة بالمثل. ويراعي الخليفة في ذلك مصلحة المسلمين. فعن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه قال: {كان عمر يأخذ من النبط من الزيت والحنطة نصف العشر لكي يُكثر الحَمْل إلى المدينة، ويأخذ من القطنية العشر}. والعشر هو ما كانوا يأخذون من تجارنا في ذلك الوقت. وعلى ذلك فإن المكس الذي يؤخذ على تجارة الحربيين يُتبَع فيها ما تقتضيه مصلحة الدولة من إعفاء أو أخذ مكس قليل أو كثير، على أن لا يزيد ذلك على مثل ما يأخذون من تجارنا.
-
مشاركة: النظام الإقتصادي
واقع التجارة الخارجية
للتجارة الدولية فائدة كبرى، لِما ينجُم عنها من ربح حقيقي عظيم. ومما يزيد المرء يقيناً بأهمية التجارة الدولية هو التطاحن الشديد والتنافس الحاد بين الدول الكبرى في سبيل اكتساب الأسواق الجديدة والاحتفاظ بالأسواق القديمة التي كانت تُصرف فيها بضائعها وتستورِد منها المواد الخام دون عائق. وللتجارة الدولية خصائص وميزات ونتائج خاصة. والسبب الرئيسي لقيام التجارة الدولية هو الاختلاف في نسب تكاليف السلع المختلفة بين دولة وأخرى. ومِن صالح الدول أن تقوم التجارة الدولية بينها متى اختلفت فيها التكاليف النسبية.
الميزان التجاري
الميزان التجاري هو المقارنة بين قيمة الصادرات المنظورة والواردات المنظورة. فلو وضعنا قيمة الصادرات في جهة ثم وضعنا قيمة الواردات في جهة أخرى لحصلنا على الميزان التجاري، فإن فاقت قيمة الصادرات قيمة الواردات كان الميزان التجاري في صالحنا، لأن الدول تكون مدينة لنا بالفرق بين قيمة صادراتنا وقيمة وارداتنا. فيكون طلب الخارج على عملتنا لتسديد قيمة البضائع، يفوق طلبنا على العملات الأجنبية لنفس الغرض. إلاّ أن الميزان التجاري لا يعطي الصورة الصحيحة عن الاقتصاد الأهلي لأن الدخل الأهلي ليس مقصوراً على أرباح التجارة الخارجية، بل هناك أشياء أخرى تُدِرّ واردات وتعتبَر من الدخل الأهلي. ولكن الميزان التجاري يعطي الصورة الصحيحة عن تجارتنا الخارجية. ولا يصح أن يُحرص على أن يكون الميزان التجاري لصالحنا، إلاّ إذا لم تكن للدولة أغراض أخرى. أمّا إذا كان لها أغراض أخرى تتعلق بالمبدأ أو الدعوة له، أو تتعلق بالإعداد الصناعي، أو تتعلق بسد الحاجات، أو تتعلق بأمور سياسية بالنسبة لموقف الدولة التي نتعامل معها تجارياً وما نريده أن يكون عليه، أو بالنسبة للموقف الدولي وما يؤثر عليه، فإنه يَتبع الغرض المقصود ويُضحَّى بأن يكون الميزان التجاري في غير صالحنا. فالنظرة التجارية وإن كانت نظرة ربح ولكنها في نفس الوقت نظرة دولة لا نظرة فرد، فيراعى فيها هدف الدولة وكيانها قبل الربح التجاري.
العلاقة النقدية بين الدول
التجارة الخارجية توجِد علاقة نقدية بين الدول، لأنه لا بد من أن تدفع الدولة ثمن البضائع بعملة البلد التي تستورد منها أو بالعملة التي تقبلها. ولا بد من أن تقبض ثمن البضاعة التي تبيعها بعملتها أو بالعملة التي تريدها، وبذلك توجد العلاقة النقدية بين الدول.
وهناك تبادل السلع أو الصادرات والواردات المنظورة. وهناك تبادل الخدمات أو ما يسمى بالصادرات والواردات غير المنظورة، وهي تشمل خدمات النقل كنقل الركاب وشحن البضائع بين الدول وأجور البريد والتلغراف والتلفون الدولي والخدمات التجارية وما تستلزمه من دفع عمولة أو سمسرة للوكلاء والسماسرة، وكذلك جميع الخدمات المرتبطة بحركة السياحة. فعندما يذهب السائح إلى بلد أجنبي وينفق فيه بعض دخله فإنه يأخذ أموالاً من أمواله، ولكنه يأخذ من دولته ما يمكّنه من الإنفاق في البلاد الذي يذهب إليه، إما إذناً بإنفاق مبلغ معين من عملة ذلك البلد لتغطيه دولته من عملتها، أو إذناً بعملة مقبولة في تلك البلد مما توفَّر لدى الدولة من هذه العملة. وإننا لأجل أن ندفع قيمة الواردات نعرض عملتنا الأهلية طالبين العملة الأجنبية، أو نعرض بضاعتنا في البلاد الأجنبية من أجل الحصول على عملتها. فالحصول على عملات أجنبية أمر ضروري للدولة ليتأتى لها إيجاد علاقة تجارية أو علاقة اقتصادية مع الدول. إلاّ أنه لا يجوز أن نضحي في عملتنا فنعرّضها للاضطراب وزعزعة الثقة بها في سبيل إيجاد علاقة تجارية أو اقتصادية، بل يجب أن نجعل تحكّمنا نحن في العلاقات الاقتصادية الخارجية –تجارية كانت أو غير تجارية- أساساً من أسس هذه العلاقات. وبذلك يتيسر لنا المحافظة على عملتنا مع حصولنا على العملات الأجنبية التي نريدها. وللمساعدة على ذلك يجب أن تتجنب الدولة أخذ القروض، سواء أكانت قصيرة الأجل أو طويلة الأجل، لأنها من الأشياء التي تسبب اضطراباً في سوق عملتنا كما قد تسبب هبوطاً في قيمة نقدنا.
سياسة التجارة الخارجية
التجارة الخارجية هي علاقة الدولة بغيرها من الدول والشعوب والأمم من ناحية تجارية، أي هي رعاية شؤون الأمّة التجارية من ناحية خارجية. ولا بد أن تكون هذه السياسة مبنية على أسس معينة، تتقيد بحسب هذه الأسس. وتختلف نظرة الأمم للتجارة الخارجية تبعاً لاختلاف وجهة نظرها للحياة، فتعيّن بحسبها علاقاتها مع الأمم الخارجية. كما تختلف أيضاً باختلاف نظرتها لمصلحتها الخاصة اقتصادياً لتحقيق الربح الاقتصادي. ومن هنا نجد سياسة التجارة الخارجية لدى الاشتراكيين مبنية على نظرتهم الاشتراكية في تطوير العالم. فهم مع ملاحظتهم للربح الاقتصادي يصنّفون السلع بالنسبة للبلدان، فيحاولون أن يبيعوا سوريا أدوات زراعية وسماداً وأدوية وأدوات صناعية للصناعات التي تنتِج ما يُستهلك كصناعات الجبن والثياب وأدوات الحراثة وما شابهها، مما يساعد في نظرهم على تطويرها للرأسمالية. وحين يستوردون بضاعة لا يستوردون إلاّ ما يزيد الإنتاج، وما هم في حاجة إليه فحسب. بخلاف البلدان الرأسمالية –كانكلترا مثلاً- فإنها تسير وراء الربح المادي، جاعلة النفعية أساساً لسياسة التجارة الخارجية، فتبيع كل شيء لجميع الشعوب والأمم ما دام يحقق ربحاً اقتصادياً. أمّا ما تفعله أمريكا من تقييد التجارة مع روسيا والصين في أصناف معينة، ومنع التجارة معهما في أصناف أخرى، فإن ذلك ليس تابعاً لوجهة النظر، بل تابِع للسياسة الحربية، باعتبار أنهما تعاملهما كدولتين محاربتين حُكماً، وإن لم تكونا محارِبتين لها فعلاً. وما عدا ذلك فإن أساس سياسة التجارة عند أمريكا قائم على النفعية.
إلاّ أن الاقتصاديين الغربيين اختلفوا في النظرة إلى التجارة الخارجية وكانت لهم فيها مذاهب مختلفة، منها المذاهب التالية:
1- حرية المبادلة
ونظرية حرية المبادلة تقضي بأن تجري المبادلات التجارية بين الدول دون أي قيد، وبعدم فرض أي رسم جمركي أو أي حاجز يواجه الاستيراد. وهذا المذهب يعني زوال رقابة الدولة، فإنها لا تعود مكلَّفة لا بمراقبة التصدير ولا بمراقبة الاستيراد، باعتبار أن التوازن بين التصدير والاستيراد تؤمّنه القوانين الطبيعية، فهو توازن طبيعي وآلي.
وهذه النظرية تخالف الإسلام، لأن التجارة الخارجية علاقة من علاقات الدولة مع غيرها من الدول والشعوب والأمم، وهذه العلاقات كلها خاضعة لسيطرة الدولة، فهي التي تقوم بتنظيمها وتشرف مباشرة عليها، سواء أكانت علاقات بين أفراد أو علاقات اقتصادية أو تجارية. ولذلك لا يصح الأخذ بنظرية حرية المبادلة مطلقاً، لأن الدولة الإسلامية تباشِر منع إخراج بعض التجارات وإباحة بعضها، وتباشر موضوع التجار الحربيين والمعاهِدين، وإن كانت تكتفي بالإشراف على رعاياها في تجارتهم الخارجية كتجارتهم الداخلية.
2- الحماية التجارية
ونظرية الحماية التجارية تقضي بأن تتدخل الدولة لتحقيق توازن المبادلات مع الخارج. والقصد من الحماية التجارية هو التأثير على الميزان التجاري ومعالجة العجز. لأن التوازن العفوي بين التصدير والاستيراد لا يمكن أن يحقق أي توازن، ولا يسُد أي عجز، فلا بد من الحماية التجارية، ولذلك توضع رسوم جمركية وقيود للتصدير والاستيراد.
وهذه النظرية كما وردت قاصِرة لأنها تجعل تدخّل الدولة من أجل تحقيق توازن المبادلات مع الخارج أو سد العجز، وتقتصر على ذلك، وهذا غير صحيح، فإنّ تدخّل الدولة الإسلامية إنّما يكون لمعاملة الدول الأخرى بالمثل، ويكون لسد حاجات البلاد، ويكون لتوفير أرباح مالية، ويكون لإيجاد عملات صعبة، ويكون لأجل الدعوة الإسلامية. فحصْر التدخل لتحقيق توازن المبادلات وسد العجز فقط غير صحيح، بل تدخّل الدولة يكون من أجل أغراض سياسية واقتصادية وتجارية، ومن أجل حمل الدعوة الإسلامية.
3- الاقتصاد القومي
ونظرية الاقتصاد القومي مرتبطة بفكرة "الحماية التربوية" المشتقة من نظرية الصناعات الثقيلة. وأصحاب نظرية الاقتصاد القومي يرون أن النمو الاقتصادي للأمّة يجب أن يَهدف إلى إعطائها السلطان السياسي مع السلطان الاقتصادي. ويرون أن نمو أي بلد يمر بمراحل ثلاث: الرعوية الزراعية، ثم الزراعية الصناعية، ثم الزراعية الصناعية التجارية. وأن البلاد لا تكون ذات سلطان حقيقي إلاّ عندما تملك أسطولاً ومستعمَرات وسكاناً ذوي مواهب مختلفة. ولا بد من انسجام القوى المنتِجة والنمو الاقتصادي كشرط أساسي للسلطان السياسي. ويرون أنه وإن كانت الصِلات الاقتصادية الدولية تستفيد من حرية المزاحمة، ولكن يُشترط في ذلك أن يبلغ كل من البلدان المتنافسة درجة الكمال في نمو قواه، وتنشيطاً لهذا النمو يجب حماية الصناعة. أمّا الزراعة فلا تحصل لها أي حماية وإنما يجوز تصدير منتجاتها دون قيد أو شرط، ويُترك سعرها حراً بحسب شرائط السوق الحرة.
وعلى هذا فإن نظرية الاقتصاد القومي صناعية في جوهرها. وهي تقول إن الأمم التي تطمح أن تكون قوية يهمها أن تجتاز المرحلة الزراعية إلى الصناعة، فإنّ في البلد الزراعي يبقى جزء هام من القوى المنتِجة وهي الأيدي العاملة، وجزء هام من الموارد الطبيعية وهو المواد الأولية، يبقى ذلك عاطلاً وغير مستعمَل، فيجب إذاً في سبيل استثمار هذه القوى وهذه الموارد، أي الأيدي العاملة والموارد الأولية، ضم مجال صناعي إلى جانب الزراعة، والبلاد التي تَنذر نفسها للزراعة وحدها لا تملك الإمكانيات الاقتصادية، ولا مستوى المعيشة التي يملكها البلد الزراعي الصناعي في آن واحد. فالاقتصاد القومي يفرض ضرورة وجود الصناعة مع الزراعة حتى تقف البلاد على رجليها اقتصادياً. فهو يأخذ الحماية التجارية للصناعة، ويفرض القيود اللازمة على الصادرات والواردات الصناعية وحدها. ويأخذ حرية المبادلة للزراعة، ويجعلها حرة دون أي قيد.
وهذه النظرية لا يقول بها الإسلام، لأن ترك الحرية للمبادلات الزراعية مع الخارج يعني عدم مراقبة الدولة لتجارة المنتجات الزراعية مع الخارج، وهذا لا يجوز، لأن الدولة تتولى تنظيم كل ما يخرج ويدخل للبلاد من مواد زراعية أو صناعية وغيرها، فتَمنع خروج بعض المواد، وتبيح بعضها، وتتولى مباشرة موضوع التجار الحربيين والمعاهِدين، وإن كانت تكتفي بالإشراف على رعاياها. أمّا تدخّل الدولة في الشؤون الصناعية بحسب مصلحة البلاد لتنشيط الصناعة، فإنه من هذه الجهة يكون أمراً من أمور رعاية شؤون الأمّة، وهو ما يأمر به الإسلام، إلاّ أن ذلك مقيَّد بمصلحة الدعوة، مع تنشيط الصناعة، لا لتنشيط الصناعة وحدها. ويتبين من هذا أن الاقتصاد القومي وإن كان في جزء من الصناعة يدخُل فيما هو من رعاية شؤون الأمّة التي يقول بها الإسلام، ولكنه في هذا يخالف الإسلام لعدم ربطه بمصلحة الدعوة، والنظرية كلها إجمالاً تخالف الإسلام للحرية الزراعية المطلقة. ولهذا لا يأخذ المسلمون بهذه النظرية.
4- السياسة الاكتفائية
يُقصد بالسياسة الاكتفائية طموح بلد من البلاد إلى كفاية نفسه بنفسه، وتأليفه وحدة اقتصادية مغلَقة تستغني عما سواها، فلا تستورِد ولا تُصدّر. فغايتها تتجاوز سياسة الحماية، وتختلف عن الاقتصاد القومي، وتغاير نظرية حرية المبادلة.
والسياسة الاكتفائية التي طُبّقت بين الحربين الأخيرتين قد تجلّت بشكلين، أحدهما: الاكتفائية الانعزالية، والثانية: الاكتفائية التوسعية. وكانت ألمانيا النازية نموذج البلاد التي أخذت بالسياسة الاكتفائية، وكانت فيها عبارة عن تدبير ألجأتها إليه السياسة الألمانية الداخلية والخارجية التي لم تعد تتلاءم مع قواعد المبادلة العالمية.
والسياسة الاكتفائية وإن كانت عبارة عن تدابير تستهدف أهدافاً سياسية، فإن لها في نظرهم أساساً اقتصادياً للنظام، يتلخص في أن البلد الذي يملك مواد أولية وكيماوية وآلات وأيدي عاملة يجب أن يستطيع العيش. فالمهم بالأمر هو التنظيم، أمّا رؤوس المال فتأتي في المقام الثاني. فالحكومة التي تأخذ في السياسة الاكتفائية تكون قد وضعت لنفسها هدفاً سياسياً أخضعت له التنظيم الاقتصادي والمالي. وحتى تصل السياسة الاكتفائية إلى هدفها وهو جعْل الاقتصاد الأهلي قادراً على كفاية نفسه بنفسه، فلا بد أن تستعد للاستغناء عن كثير من الحاجات، لأن السياسة الاكتفائية تجعل البلد عاجزاً عن كفاية جميع الحاجات، والمهم هو أن توفر هذه السياسة من الاقتصاد الأهلي الحاجات الأساسية للفرد، وللأمّة، وللدولة، توفيراً يجعلها سائرة في طريق تصاعدي. ومن هنا يتحتم على الدولة التي تسير على السياسة الاكتفائية في التجارة الخارجية أن تعمل بطريقة ما إلى ضم البلاد التي تحتاج إليها لحوز المواد الأولية، أو الأسواق، أو الأيدي العاملة، أو الفنيين، وغير ذلك مما تحتاجه إليها. وذلك الضم يكون إما بالاندماج وإما بعقد معاهدات تجارية. أمّا إلغاء الحدود الاقتصادية فإنه يعني ضم البلاد، أي يعني إلغاء الحدود السياسية، إذ لا يمكن إلغاء الحدود الاقتصادية من غير إلغاء الحدود السياسية. وإذا لم تستطع ضم الأقطار التي تحتاجها لحوز المواد الناقصة لديها، فإنها يجب أن تصبر على عدم إشباع بعض حاجاتها، وتسعى لعدم الاحتياج إلى ما يُشبع الحاجات الأساسية، إذ فقدان ما يُشبع هذه الحاجات الأساسية لا يمكن الصبر عليه، أمّا فقدان ما يُشبع الحاجات غير الأساسية فيمكن الصبر عليه.
هذا هو ملخص السياسة الاكتفائية الانعزالية والتوسعية. فالانعزالية هي التي تكون فيها الحاجات الأساسية متوفرة. والتوسعية في مدى معين تكون بالضم أو المعاهدات من أجل توفير الحاجات اللازمة، سواء أكانت حاجات أساسية أو كمالية.
والناظر في السياسة الاكتفائية لا يجدها معالَجة تجارية، ولا معالَجة اقتصادية، وإنما هي تدبير وقائي مؤقت لما يَعترِض الدولة من حصار اقتصادي أو تجاري. فهي ليست معالَجة للعلاقات الخارجية وإنما هي دفاع عن البلاد حين تُغزى من الخارج بالحصار الاقتصادي والتجاري، فهي داخلة في بحث الأساليب وليست في بحث الأحكام. ولذلك لا يقال ما هو الحكم الشرعي في شأنها، ولا يقال إنها تناقض الإسلام أو تخالفه، بل هي أسلوب من الأساليب التي تُتَّبَع، فتؤخذ هذه السياسة كأسلوب إذا كانت واقعية عملية، أي إذا كان هناك واقع في الحصار، وكان ممكناً الاكتفاء باقتصاديات البلاد لإشباع الحاجات الأساسية. ولا تؤخذ هذه السياسة إذا كان ليس لها واقع، ولا يمكن الاستغناء عن الحاجات الأساسية للدولة أو الأمّة أو الأفراد. فهي تدخل في باب رعاية المصالح التي يتولاها الخليفة، والتي جَعل الشرع له أن يقرر ما يراه مناسباً من الأساليب، وما يرى فيه مصلحة المسلمين.
-
مشاركة: النظام الإقتصادي
فهرست الكتاب
الموضـــــوع الصفحة
المقدمـة ...................................... 3
الاقتصاد ............................ 37
أساس النظام الاقتصادي ........................ ........ 38
نظرة الإسلام إلى الاقتصاد ................................ 39
سياسة الاقتصاد في الإسلام ............................... 41
القواعد الاقتصادية العامة ................................ 46
الملكية الفردية ........................................... 48
تعريف الملكية الفردية .................................... 49
معنى الملكية .............................................. 50
أسباب تملك المال ........................... 51
* السبب الأول من أسباب التملك:
- العمل ............................................ 53
- إحياء المَوات .......................................... 54
- استخراج ما في باطن الأرض .......................... 54
- الصيد ................................................. 55
- السمسرة والدلالة ................................. 56
- المضارَبة ............................................. 56
- المساقاة .............................................. 57
- إجارة الأجير ........................................ 58
تحديد العمل ........................................ 59
نوع العمل ............................................. 59
مدة العمل .............................................. 62
أجرة العمل............................................. 62
الجهد الذي يُبذل في العمل ............................ 63
حكم إجارة المنافع المحرَّمة وغير المسلِم ............. 64
الإجارة على العبادات والمنافع العامة ................ 67
من هو الأجير؟ ....................................... 70
الأساس الذي يقوم عليه تقدير الأجرة ................... 70
تقدير أجر الأجير ....................................... 72
* السبب الثاني من أسباب التملك:
الإرث ......................................... 80
* السبب الثالث من أسباب التملك:
الحاجة للمال لأجل الحياة .................. 82
* السبب الرابع من أسباب التملك:
إعطاء الدولة من أموالها للرعية ................... 83
* السبب الخامس من أسباب التملك:
الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد .. 84
حق التصرف ............................................ 86
تنمية الملك ............................................... 87
أحكام الأراضي .................................. 88
- إحياء المَوات .................................. 91
- التصرف في الأرض ................................ 92
- منع إجارة الأرض .................................. 96
البيـع .................................................. 98
الاستصناع ......................................... 99
الشركة في الإسلام .................................. 100
- شركة العنان .......................................... 102
- شركة الأبدان .......................................... 103
- شركة المضارَبة ................................ 105
- شركة الوجوه ......................................... 106
- شركة المفاوضة ................................ 108
فسخ الشركة ........................................ 109
الشركات الرأسمالية ................................. 110
- شركة التضامن .................................. 110
- شركة المساهمة ................................. 111
- أسهم شركة المساهمة ................................. 121
- الجمعيات التعاونية ............................... 123
- التأمين ....................................... 126
الطرق الممنوع تنمية الملك بها ........................ 131
- القمار ....................................... 131
- الربا ............................................... 132
- الغُبن الفاحش ........................................ 134
- التدليس في البيع ................................. 135
- الاحتكار ....................................... 137
- التسعير ....................................... 139
حق التصرف بالإنفاق صلةً ونفقة ................. 141
الفقر ................................................ 147
الملكية العامة ......................................... 151
ملكية الدولة ......................................... 155
التأميم ليس من الملكية العامة ولا من ملكية الدولة .......... 156
الحِمى في المنافع العامة .................................. 157
المصانع .......................................... 159
بيت المال .......................................... 160
- واردات بيت المال ................................ 160
- نفقات بيت المال .............................. 162
- ميزانية الدولة ......................................... 164
- الزكاة ........................................ 165
- الجزية ....................................... 167
- الخَراج ........................................ 168
- الضرائب ......................................... 169
توزيع الثروة بين الناس ................................ 171
التوازن الاقتصادي في المجتمع ....................... 172
منع كنز الذهب والفضة ................................ 174
الربا والصرف ....................................... 179
الصرف ............................................... 182
معاملات الصرف ............................... 185
النقـود ............................................... 187
- نظام الذهب ........................................ 191
- فوائد نظام الذهب ................................. 192
- مشاكل نظام الذهب ............................... 194
- نظام الفضة ....................................... 195
- النقود المعدنية ............................... 196
- النقود الورقية ....................................... 196
- إصدار النقود ......................................... 198
- سعر الصرف ....................................... 203
التجارة الخارجية ............................... 209
- واقع التجارة الخارجية ....................... 219
- الميزان التجاري ............................... 219
- العلاقة النقدية بين الدول ....................... 220
- سياسة التجارة الخارجية ....................... 221
تم بحمد الله تعالى