صعد المعلم والطالبان الى الحافلة,عائدين الى مخيمهم والفرحة تملأ جوانحم وهمس خالد:
- اين سنضعها يا ترى؟هل نضعها في البيت عندي ام عندك يا عيسى؟
قال سعيد بكل حماس:
- بل عندي..لا اكاد اصدق اننا سنحصل على واحدة سأتدبر امرها جيدا وسأنظفها صباح مساء,واطمئن عليها كل دقيقة..
قال عيسى:
- بل ارى ان لا نضعها عندكما ولا عندي..نحتفظ بها خارج البيوت
وبدت الدهشة على وجوه الشابين وهما يتسائلان:
واين سنضعها؟
قال عيسى:هنا...
كانت الحافلة تمر في تلك اللحظة قرب المنطقة الجبلية الحرجية التي تمتد الى مدينة بيت لحم,وكانت المغارات المنتشرة فيها قائلا:
- هنا في اي مغارة من المغارات نخبئها الى حين استعمالها ثم نعود الى وضعها فيها بعد استعمال..
بعد ثوان كانت الحافلة تمر من امام مقبرة مخيم الدهيشة فأشار خالد وكأنه قد وجدها وقال:
-بل هنا..هنا المكان المناسب يا شباب..وهو اكثر امنا لنا حين نضعها ولا احد يشك في فرد يأتي لزيارة احد امواته!لا تزور والدك يا عيسى باستمرار؟وانت يا سعيد الا تزور اقاربك الاموات رحمهم الله جميعا؟؟
واتفق الثلاثة على ما سيكون!ولكن المشكلة كانت الان في الحصول على ثمن البندقية,من اين سيوفرون مبلغ الخمسمائة دولار وكل منهم يحصل على قوته اليومي بشق النفس!
قال عيسى:اما بالنسبة للنقود فاستطيع تأمين 75 دولار حالا كنت قد دفعتها ثمن اكياس رز وسكر وبضاعة اوصيت عليها للدكان..ويمكنني ان الغي الصفقة واسترجع المبلغ ..طبعا عدا عن اللي وفرته عندك يا معلم من قبل..
قال خالد:
نعم وفرت عندي ثلاثين دينارا اردني اي ما يعادل مئة دولار..انا املك مائتي دولار وفرتها خصيصا,واستطيع ان احصل من زوجتي على خمسين دولار ايضا وهنا يصبخ معنا ثلاثمئة وخمسون دولار.
صمت سعيد ونظر الى الشابين ثم قال:
اما انا فأعتقد انني سأشحد المبلغ..سأقف شحادا في باب التخيم او باب الجامع امد يدي واقول"لله يا محسنسن لله..من يدفع دولارا لله"..
وانطلقت ضحكات عيسى وخالد على منظر سعيد وملأ صوتهم الحافلة والتف الركاب اليهم.
سكت سعيد قليلا ثم عاد يقول:انت يا معلم خالد اقوى منا.."عظمك قوي ومدهن"!معك مبلغ مئتي دولار تضعها كما اتصورك تحت المخدة..اما انا يا حسرة فمن اين لي؟؟طول عمره والدي يتعب ويشقى عتى استطاع ان يمتلك محطة بنزين في الطريق الرئيسي الى المخيم..ولعلمك لم يكن يمتلكها وحده,لقد كان شريكا مع اعمامي..ثم اصبح يتردد عليه كل ليلة رجال غرباء من المستوطنين حيث يسكنون قوب المخيم ويبعثون فيه فسادا وطلبوا من والدي اقفال محطته نهائيا والتوقف عن العمل..لما؟لان وجود والدي مرفوض ووجود مخيم الدهيشة كله مرفوض..كان يقول لامي وهو مهموم وحزين:لمن اشكو همي يا ترى وغريمي هو القاضي..لقد قالوا في المثل قديما لا يلام الثعلب في عدوانه لو كان الراعي عدو الغنم..ونحن الغنم والراعي هو ما يسمى"دولة اسرائيل" والثعلب هو هؤلاء المستوطنين حيث يسكنون حول المخيم.
كان سعيد يتحدث وكأنه يروي قصة محطة الوقود لاول مرة,وبينما كان خالد وعيسى يسمعانها للمرة العشرين..وعندما انتبه سعيد استدرك نفسه وقال:
- بالنسبة لي سوف اعمل على تأمين المبلغ خلال اليومين القادمين.
قال المعلم خالد:
شريطة ان لا تقول لاحد.
قال سعيد:طبعا..طبعا..انه سر يجب ان لا يطلع عليه احد سوانا ولكنني ساطلب المساعدة من امي واختي سناء على اساس اننا نجمع لعائلة احد السجناء واهلهم,مهما كان وضعهم المالي,وسناء اصبح لها خبرة الان!!
فجأة وحين نطق سعيد باسم اخته سناء اضطرب قلب عيسى اضطرابا كبيرا,واحس به يدق بعنف,حتى خشي ام يكون ظاهرا على صدره ووجهه,بل الحقيقة ان وجهه قد احمر كالفتاة الخجلى فأراد ان لا يكتشف احد امره فقال بسرعة:
- وهل تساعدك سناء دوما في امورك؟
بدل ان يبتعد عيسى في الحديث عما يكشف امره,وجد نفسه دون ان يدري يتحدث عن سناء.
لقد كان في قرارة نفسه يتمنى ان يتحدث ويتحدث عنها.. وكان يحلو له ان يسمع من اخيها اخبارها في كل لحظة وكل يوم..
حملت سناء قدر النحاس بينما حمل سعيد طشت النحاس وانطلقا الى السوق وقالت سناء لاخيها:
ثمن القدر"الطنجرة"والطشت النحاس سوف يدفع عن عائلة صديقك السجين الجوع والفقر لمدة شهر او شهرين..فأنا في غيابك وغياب امي لم اكن اصرف اكثر من بضعة قروش كل يوم..الضروريات فقط..ثم ان خالتي ام عيسى كانت لا تتركنا اطلاقا.
كانت سناء هي الاخرى تريد بشكل او باّخر التحرش باخيها عله يخبرها خبرا ولو صغيرا عن صديقه عيسى حيث لم تعد تراه كثيرا.
اردفت سناء:حقيقة ان الصديق وقت الضيق يا سعيد.وان وقوف عيسى وخالتي ام عيسى قربنا في عز الامة اثناء غيابك وغياب امي كان يشد من ازرنا ويقوي من عزيمتنا..
سكتت سناء فجأة وقد خطر في بالها خاطر جرئ..لما لا تزور اليوم مساء خالتها ام عيسى تطلب منها المساعدة للعائلة التي يجمع لها اخوها سعيد بعض النقود..ان عيسى وامه لن يتوانيا عن تقديم المساعدة..ولغريب الصدف التي لم تحصل الا في القصص كان عيسى يقف امامها يحمل قدرا من النحاس ايضا ويتجه الى السوق..واتجه الثلاثة معا..كان سعيد وعيسى لا يتكلمان معا لان كليهما يحمل نفس السر في صدره..وكان عيسى وسناء لا يتحدثان لان في صدريهما نفس الاشواق والحنين..و..الحب..
السبت..الساعة الثالثة عصرا..كان الثلاثة يقفون دون حديث ايضا على محطة الحافلة في اول طريق الشيخ جراح في القدس..خالد يحمل مبلغ الخممائة دولار وعيسى وسعيد يراقبان الطريق..هل يتراجع الصهيوني في اخر لحظة عن البيع؟هل يتركهم ينتظرونه ولا يحضر ابدا؟..هل كانت مجرد مزحة او فخ يريد ان يوقعهم به..ولما يبيع بندقيته التي يحرس بها؟ولما تساهل في ثمن البيع رأسا من الف الى خمسمائة,هل هو مضطر حقيقة لقبض الثمن؟؟
ومن بعيد ظهر الشاب الاسرائيلي..يحمل كيسا من النايلون متوسط الحجم ويمشي مشيته السابقة يتمايل الى الجنبين..وعادت التساؤلات الكبيرة الى رؤوس الشباب..لما يمشي بتلك الطريقة؟؟ولما تعلو الصفرة وجهه؟؟..هل يتعاطى المخدرات يا ترى؟؟ام تراه مدمنا على شرب الكحول؟..وهل يريد النقود لسد احتياجه من المخدرات والكحول؟..
دقائق وانتهى الامر..تم الاستلام والتسليم..وفتح خالد كيس النايلون للتأكد مما بداخله..واتجه كل في الاتجاه الاخر..هو الى القدس ليتزود بما ينقصه من المخدرات,وهم الى مقبرة مخيم الدهيشة..
ركب الشباب الثلاثة الحافلة..لم يفتحاحد فاه بكلمة واحدة..شاهدوا معا المنتزه يعج بالشباب والشابات اليهوديات من رجال ونساء المستوطنات القريبة من مخيم الدهيشة..كان كل شاب يعانق فتاته ويهمس لها كل احاديث العشق.
ولما كان اليوم السبت فقد كان عددهم اكثر من اي يوم اخر..ووصلت الحافلة قرب المقبرة فنزل الشبان الثلاثة كي يكملوا المشوار مشيا على الاقدام..ولان اليوم السبت فلقد كانت المقبرة خالية الا من ارواح الاموات..
اشار المعلم خالد الى مكان قريب من مدخل المقبرة نبتت حوله شجيرات الصبار وبدأ عيسى يحفر بيديه قبرا موازيا للقبر الموجود واصغر منه قليلا ..كأنه قبر طفل,بينما ابتدأخالد يفتح كيس النايلون ليرى البندقية ويتأكد من يلامتها للمرة الثانية..وسعيد يراقب الطريق...
يتبع...































