'' دكتور... هل أنت بخير ؟..''
بقلم زروق طه
- حدثني عما تشعر به..
- أنا... أ.. أنا..
- حسنا.. حسنا.. سأغير شكل السؤال..
- أنظر.. فيما تذكرك هذه اللوحة ؟..
- لا.. لا شيء.. إنها.. حبر مسكوب على ورقة..
- أعرف، هذا واضح.. لكن ألا تذكرك بشيء إطلاقا..
- أبدا..
- غريب.. ربما هو تأزم نفسي.. سيتطلب الأمر وقتا طويلا إذن..
كوني طبيب للأمراض النفسية، فهذا يحتم علي أن أصادف عشرات الحالات من المتهمين المرضى أو الذين يدعون أنهم كذلك، لكن تبقى هذه الحالة الوحيدة التي استعصى علي علاجها..
(علي) و هو متهم بثلاث جرائم قتل بشعة.. لكنه يصر على أن لا علاقة له بها.. أما أنا فلا أستطيـع الإقرار إلا بأنه يعاني من اضطرابات عاطفية بالغة العمق.. وهذا لا يدينه بطبيعة الحال... لكنه سيظل قيد الاعتقال إلى حين تأكيد إدانته أو ظهور براءته.. و الثانية بعيدة المنال على ما يبدو..
صبيحة يوم الاثنين، ذهبت لزيارته في معتقله.. جالسته على انفراد، في غرفة حالكة الظلام، يتوسطها ضوء خافت أعلى طاولة الجلوس.. وجها لوجه.. كان يرمقني بعينين جاحظتين، متقعرتين في وجهه النحيف، جعل منه الظلام المتستر تحت أشعة الضوء شبحا ناطقا يكاد يفتك بي بين لحظة و أخرى..
بادرت بالسؤال، كوني المعني بذلك:
- ما رأيك فيما هو منسوب إليك ؟... عدم معرفتك ماذا كنت تفعل وقت حدوث الجريمة.. وحيث القتلى هم زوجتك و حماتك و قريبتك التي كانت ترافقك إلى مستوصفي.. فهذا قد..
وهنا، رأيت أسنانه تصطك غضبا، وإذا به يجهز على الطاولة بكلتا قبضتيه، وينطلق نحوي كوحش ثـائر، محاولا خنقي، وقد انتفخت أوداجه و احمر احمرارا شديدا.. حتى ظننتني هالكا.. ولم أذكر غير أن اثنين من الحرس كانا يصارعانه وقد انطلقت صافرة الإنذار..
يا للهول.. نجوت بأعجوبة.. لم أتوقع هذا من رجل نحيف مثله..
عدت أدراجي نحو المستوصف و أنا في غاية التعب.. ألقيت بالمحفظة فوق أول كرسي صادفته بمكتبي.. شرد ذهني طويلا... حتى أني لم أسمع قرع الباب إلا و السكرتيرة الممرضة دخلت حاملة ملفا لم أره من قبل بين ملفاتي، وهي تجاهر بصوتها:
- ما بك سيدي.. ألم تسمعني ؟.. كنت أقرع الباب منذ...
قاطعتها و أنا أنزع البذلة..
- أولا أنا لست سيدا.. أنا طبيب.. للتذكيـر فقط.. ثانيا، أدخلي صلب الموضوع..
- حسنا سيدي.. أقصد.. دكتور.. قدم مفتش الشرطة في غيابك وقد ترك لك هذا.. إنه يتعلق بعلي..
- شكرا... يمكنك الانصراف..
كـان ملفا كغيره، ممتلئا عن آخره بأدق التفـاصيل و أغبى الترجيحات.. لكن الجدير بالذكر.. أن القاتل كان يستعمل فأسا في جميـع جرائمه، ربما لأنه يريد التأكد من موتهم، و الغريب، كيف له أن يحمل فأسا و يتسلق عشرين طابقا بيد واحدة.. هذا محال... لا أظن هذا.. عموما.. أنا لست متحريا.. المعلومات حول حياة علي كانت عادية جدا.. لا أتوقع أن يؤثر فيه رفض من فتاة أحبها إلى هذه الدرجة... هذا روتين في حياة الإنسان..
علي العودة إلى البيت... يكفي هذا كبداية أسبوع..
***
منزل فـاخر لكن تعمه الفوضى.. فأنا عازب.. أقصد لم أفكر في الزواج مرة أخرى.. طليقتي لها الفضل في أن زرعت لدي هذا الاعتقـاد.. الزواج مصيبة..
أحب نفسي كما أنا.. حر.. رغم أني أعاني غالبا من ضيق الوقت... سأحـاول أن أرتب ما استطعت..
...عمل شاق بالفعل... لم يبق سوى أن أضع كومة الخردة هذه بالقبو.. على الأقل فقد حللت أزمة السكن لدى العناكب، فقد صار القبو من ممتلكاتهم الخاصة... المريع في الأمر.. من سيحل مشكلتي أنا غير الشرطة !!.. فماذا يعني أن وجدت فأسا ملطخة بالدماء.. طبعا شيء واحد فقط.. أنا الضحية التالية !..
هكذا إذن.. ذكي جدا، يضع الفأس مسبقا قبل الجريمة.. وكم صُدمت من شدة الهول لما أنبأني مفتش الشرطة أن (علي) فرّ اليوم بعد سـاعة من مقابلتي.. كل شيء صار واضحا..
عند حضور الشرطة، أخذوا الفأس لتحليل البصمات و لم أجرؤ أن أتوسل إليهم أن يحموني من القاتل المجنون... علي..
***
حل الظلام بسرعة... لأول مرة أحرص على التأكد من إغلاق النوافذ بإحكـام.. لا أريد الموت على يد مريض عاينته بكلتا يداي...
منتصف الليل تقريبا.. لازلت أخط شيئا على كومة الأوراق أمامي، فجأة ينقطع الكهرباء.. أتسمر في مكـاني.. أسمع قرع حذاء قادم.. لا، لا أظنه علي.. من أين سيدخل.. صرت أخرف في آخر أيامي.. لكن مازال يُسمع صوت قادم.. يا للهول.. ماذا لو كان مختبئا في القبو نفسه.. قرب الفأس.. و أمام عيون الشرطة التي لم تبصره وسط الظلام و الفوضى... كـان بإمكانه فعل هذا.. من كان سيفكر بالقبو... إنها النهاية..
أتصبب عرقا و أنا أنتظر ذاك الوجه النحيف ليطل علي في حلته السوداء... لعله وجد بديلا لفأسه المتواضع.. يوجد بالقبو سكاكين على اختلاف حجمها.. وسيعثر حتما على السكين اللائقة برأس كالتي أحملها فوق رقبتي.. رباه.. عفوك..
وفعلا... لم يخب ظني ولم يطل الأمر حتى وقف أمامي راسخا، شامخا.. و أنا منكمش حتى لا يراني كما فعلت أنا عندما لم أره.. ولحسن الحظ لمحني و أخذ يقترب ببطء.. علي أن أفعل شيئا.. و إذا بي أصرخ في وجهه:
- كن عاقلا يا علي... ماذا ستجني إن..
حينها قاطعني بصوت متكسر:
- أنا بريء.. صدقني.. أنا بريء..
ابتلعت ريقي بصعوبة و أردفت:
- أنت كذلك يا علي.. من قال غير هذا.. كل الدلائل في صالحك… صدقني.. نحتاج فقط لتعاونك… لكن ألا تظن أنه كان عليك الاستئذان قبل الدخول إلى بيتي ؟..
- ماذا ؟؟..
- لا شيء.. انس الأمر.. اجلس يا أخي.. اجلس..
لم يكد يجلس حتى سمعت دويا وسط البيت، و إذا بالشرطة قد اقتحمت المكـان.. وبسرعة البرق عادت الكهرباء لأرى بوضوح رجال الأمن يعتقلون علي.. كيف فعلوا هذا.. لقد كانوا يراقبون البيت طوال الوقت إذن… لن أشكرهم فهذا واجبهم بطبيعة الحال..
كانت ليلة حافلة بالمصائب.. و المصيبة الكبرى هي أنه علي دفع ثمن باهظ لإصلاح الباب..
***
صبيحة يوم الثلاثاء، غادرت البيت مسرعا نحو مركز الشرطة... لعله اعترف الآن.. لا يمكنه الإنكـار طويلا.. أنا متشوق لتحل هذه القضية الشنعـاء..
لحسن الحظ، أدركت مفتش الشرطة على وشك الخروج من مكتبه..
- مرحبا سيدي.. هل من جديـد بخصوص علي ؟..
- آآه.. دكتور.. مرحبا.. نعم يوجد..
- ماذا ؟..
- تفضل بالدخول... كنت متوجها لمكتبك..
- مكتبي أنا… لماذا ؟..
- الدماء الموجودة على حافة الفأس للضحايا الثلاث..
- هذا ممتـاز..
- بصماتك على الفأس أيضا..
ابتسمت قائلا.. '' أنا من سلمكم إياه..
- أشعل سيجارته ثم باشر بالقول:
- وضعية كفيك على الفأس.. وكأنك تحاول..
قاطعته في غضب:
- ماذا تحاول القول ؟؟..
حملقت في شاربه الضخم وهو يردف:
- عملي يقتضي مني الشك في نفسي..
- لا يمكن أن تكون أنت الآخر مصاب بالوسوسة.. لقد صارت شائعة هذه الأيـام..
واصل حديثه في عدم اكتراث:
- لم نجد بصمات علي على الفأس.. ولا توجد أوراق تُثبت علاقته بالضحايا الثلاث..
أردفت بسرعة:
- إذن !!..
أجاب وهو يسترخي فوق كرسيه الدوار..
- لا شيء.. لن أعلن عن شيء الآن..
هممت بالانصراف في غضب شديـد.. بدأت أشك في شخص واحد.. أعرفه منذ سنوات..
الملف.. أجل إنه الحل..
عدت مسرعا نحو مكتبي.. أقفلت الباب ورائي بقوة وشرعت في بحث هستيري عن الملف.. وجدته بصعوبة..
استرخيت و أخذت أتفحصه بتمعن…
يا للصدمة !!..
نفس الصور.. نفس الأسمــاء … عرفت الفـاعل..
***
آخر ما كنت أضعه في الحسبـان أن يكون القاتل هو شخصي المتواضع.. أنا.. الضحايا هم طليقتي و أختها و حماتي.. الشيء الذي يُفسر وجود بصماتي وحدي على الفأس.. لكن.. أنا لا أذكر هذا.. إلا إذا كنت.. نعم.. إلا إذا كنت أعاني من انفصـام في الشخصية.. أعرف عملي و أعرف نفسي.. لن أستغرب هذا بعد تلك الحياة السوداء مع طليقتي.. أكتب هذا و أحدهم يرمقني من خلف قضبـان الباب.. أعرفه جيدا كما يعرفني.. إنه حارس زنزانة المرضى.. يتأسف على حـالي.. حال دكتور المستوصف الذي يعمل به.. و الذي كنت أعمل به أنا الآخر و صرت الآن أحد نزلاءه.. سأعطيه هذه الأوراق ليحتفظ بها أو ينشرها.. فأنا لا أضمن الحفاظ عليها، فقد يُجن جنوني.. أقصد جنونه.. أي الآخر.. لكنه أنا.. إذن أنا مجنون.. لا.. لست مجنونا.. هو المجنون و أنا جزء منه.. جزء منه.. إذا أنا مجنون.. كلانا مجنون.. هذا هو الصواب..
تمت