من القضايا التي شغلت وما تزال تشغل الأذهان هو نزول المرأة المتزوجة إلى ميدان العمل .
وهذه القضية لم تكن مثارة قديماً ، إذ كانت العادات تقتضي بأن يسعى الرجل لكسب رزق عياله ، أما المرأة فهي متفرغة لبيتها وتربية أولادها . بيد أن الأمر مع التقدم الصناعي أضحى قضية تشغل المجتمعات في أيامنا هذه لسببين :
الأول : أن المرأة قد ارتقت جميع مراحل التعليم وأنواعه ، وحصلت من الإجازات العلمية مايحصله الرجل فبدأت تتطلع إلى العمل .
الثاني : التشبه بدور المرأة في الغرب بتولي الوظائف التي كانت حكراً على الرجل ، حيث اختلفت الأراء في هذا الشأن وانقسمت بين مؤيد ورافض ، حتى لدى المجتمعات الغربية التي ينصح بعضها بعدم تولي المرأة أي عمل خارج منزلها ، خاصة إذا لايتلائم وطبيعتها ويحفظ كرامتها كأنثى .
وقد أبدى أحد أعلام النهضة الإنكليزية العلامة " صمويل سمايل " رأيه في هذا الشأن في تقديره لأهمية دور المرأة في بناء الإسرة والمجتمع ، بالقول :
" إن النظام الذي يقضي بتشغيل المرأة في المعامل ، مهما نشأ عنه من ثروة للبلاد ، فإن نتيجته كانت هادمة لبناء الحياة المنزلية ، لأنه هاجم هيكل المنزل ، وقوض أركان الإسرة وفرق الروابط الإجتماعية ؛ فإنه بسلبه الزوجة من زوجها والأولاد من أقاربهم صار بنوع خاص لانتيجة له إلا تسفيل أخلاق المرأة ، إذ أن وظيفة المرأة الحقيقية هي القيام بالواجبات المنزلية مثل ترتيب مسكنها وتربية أولادها والإقتصاد في وسائل معشيتها مع الإحتياجات البيتية ، ولكن المعامل تسلخها عن كل هذه الواجبات بحيث تصبح المنازل غير منازل ، وأضحت الأولاد تشب على عدم التربية وتلقى زوايا الإهمال ، وأطفئت المحبة الزوجية وصارت زميلته في العمل والمشاق ، وباتت معرضة للتأثيرات التي تمحو غالباً التواضع الفكري والأخلاقي الذي عليه مدار حفظ الفضيلة ".
وفي مقال للإستاذ علي أمين في هذا الشأن كتب يقول :
" كنت دائماً من أنصار إشتراك المرأة في الحياة العامة ، وكنت أنادي أن على الزوجة أن تبحث عن عمل تكتسب منه حتى تضاعف دخل الإسرة وترفع من مستوى المعيشة في البلاد ، ولكني قرأت اليوم بحثاً للدكتورة "أيد ايلين" أن سبب الأزمات العائلية في أمريكا وسر كثرة الجرائم في المجتمع ، أن المرأة تركت بيتها لتضاعف دخل الإسرة ، فزاد الدخل وانخفض مستوى الأخلاق .. فنادت بضرورة عودة الأمهات فوراً إلى البيت .. حتى تعود للأخلاق حرمتها وللأبناء والأولاد الرعاية التي حرمتهم منها رغبة الأم في أن ترفع مستواها الإقتصادي . وتابعت أن التجارب أثبتت أن عودة المراة إلى الحريم هو الطريقة الوحيدة لإنقاذ الجيل الجديد من التدهور الذي يسير فيه " .
بعد تأمل نجد أن منع المراة عن العمل ، خاصة إذا كانت غير متزوجة أو متفرغة بما لايتعارض وواجباتها الأسرية ، أمر غير منطقي شرط عدم امتهانها أو استغلالها ، كما نرى في بعض الفضائيات والإعلانات التجارية ، بما يحفظ شرفها وأخلاقها ويصونها كأنثى مقبلة عن تأسيس الحياة الزوجية وتربية أجيال المستقبل كما أراد لها الإسلام .
إلا أنه من الضروري أن تعمل النساء في مواقع معينة لأن هناك أعمالاً ربما لاتصلح فيها إلا المرأة كطب النساء حتى لا تلقى النسوة المريضات حرجاً عند الكشف بين يدي رجل طبيب . وكذلك تعليم الأطفال لما لهن من قوة تحمل معهن ، إلى غير ذلك مما يصلحن له . كذلك قد تحتاج الدولة إلى عمل النساء وذلك في حالة الحروب حيث يكون الرجال القادرون في ساحة القتال ولا تجد المرافق الداخلية العدد الكافي من الرجال ليتولوا ذلك .
وقد روت كتب السيرة أن النساء على عهد النبيۖكن يخرجن مع الجيوش يسقين الجرحى ويمرضن المرضى . وقد روى عن أنس بن مالك أنه قال يوم أحد عندما انهزم الناس (رأيت عائشة بنت أبي بكر وأم سُـليم وأنهما لمشمرتان تنقلان القرب مليئة بالماء تفرغانها في أفواه القوم ثم ترجعان فتملآنها ثم تجيئان فتفرغانها) . كما روي عن ربيع بنت معوّذ أنها قالت (كنا مع النبيۖنسقي ونداوي الجرحى).
ولما كان دين الإسلام دين الوسطية شرعه الحكيم الخبير فقط ، اختط في القضية خطة وسطى . فهو قد لاحظ أموراً أهمها أن المسالة الأولى للمرأة هي تربية أبنائها . وهي ليست أمراً هيناً فأطفال اليوم هم رجال الغد ونساؤه ، هم جيل المستقبل وتربيتهم في سني الطفولة من أهم الركائز التي ترتكز عليها الأمة فيما بعد . كذلك فإن للمرأة طبيعة معينة فطرها الله عليها لتقوم بالدور المنوط فيها بالحياة ، فهي مسيرة للقيام بهذا الدور ولايصلح له غيرها. فهي تغلب عليها عاطفتها أكثر من تحكيم عقلها بالنظر إلى مابنيت عليه ، وبهذه العاطفة تتمكن من تحمل أعباء الأطفال ، وبهذه العاطفة قد تسيىء إلى نفسها في تقلدها أعمالاً معينة على حساب إساءتها لواجباتها بإهمالها .
ولعلنا نتساءل : أيها أهم أن تتولى المراة عملاً ما وتهمل في مقابل ذلك تربية أبنائها ولايصلح لهذا العمل غيرها ، أم الأصلح أن تترك العمل لمن يتولاه من الرجال وتحسن تربية أبنائها؟ والجواب لايختلف عليه رجل أو إمر اة .
ومن أجل ذلك قال أهل العلم أخذا من أسس الشريعة وروحها أنه لابأس أن تتولى الزوجة الأعمال بشروط أهمها: أن يكون العمل مناسباً لطبيعتها ، وليس كما نرى الآن من طبيبات تخصصن في معالجة الرجال مع توفر الأطباء ! والثاني ، أن تكن هناك ضرورة لعملها ، وقد تكون عامة كأن تحتاج الدولة لعمل المرأة في شأن معين ، أو تكون خاصة كاحتياج المرأة أو إسرتها للعمل ؛ والثالث ، ألا يترتب على عملها ضياع لإبنائها ؛ والرابع ، أن تمارس عملها بزيها الإسلامي ؛ والخامس ألا تختلط بالرجال إلا بما يلزم لإداء العمل وذلك حفظاً لها ، شأن المجتمعات الإسلامية كافة .
ولاريب أن مافعلته المجتمعات غير الإسلامية من فتح أبواب العمل على مصاريعها للنساء ، لتدني أجورهن عن الرجال ، ترتب عليه أضرار هم يكابدونها . فقد ترتب عليه كثرة العاطلين عن العمل من الذكور مما هدد الأمن الداخلي . كما ترتب عليه التسيب في العلاقات بين الرجل والمرأة وما نادوا من التوسع في العلاقات الإجتماعية كالصداقة بين الرجل والمرأة وما يتبع ذلك من إنهيار لروابط الإسرة حتى ضجت النساء أنفسهن من ذلك .
وقد كتبت الكاتبة الإنكليزية "أنا رود " تقول :
".. لأن تعمل بناتنا في البيوت خادمات أو كالخادمات خير وأخف بلاء من إشتغالهن في المصنع .. حيث تصبح البنت ملوثة بأدران تذهب برونق حياتها إلى الأبد .. ألا ليت بلادنا كبلاد المسلمين حيث العفة والحشمة ، إنه لعار على بلاد الإنكليز أن تجعل البنت من بناتها مثلاً للرذائل بكثرة مخالطتها للرجال .. فمالنا لانسعى وراء مايجعل الفتاة تعمل بما يوافق فطرتها من القيام بشؤون البيت وترك أعمال الرجال حفظاً لشرفها "
..................................................................................
المراجع:
1- المراة بين الفقه والقانون . د. مصطفى السباعي
2- صجيح البخاري – فتح الباري الحافظ ابن الحجر العسقلاني .
3- كتاب إلى الشباب للإستاذ الدكتور عبد المنعم النمر .
4- الإسرة المسلمة وتحديات العصر . للدكتور حسن الحفناوي .