الناجون
الآن أفهم لم ينتحر المنتحرون ولم يتكلم بذلك الكلام المحترق المحتضرون.. إنها ضربة الحياة القاضية بعد جولات طويلة مضنية، يتساقط خلالها المتنافسون.
فالحياة الدنيا تُحيل إلى الشقاء والتعاسة ولابد، وهي ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الرحمن، أو كما أخبر الرسول عليه الصلاة والسلام.. فالنقص يجري منها مجرى الدماء، والنكد مخـيّم فيها على كل الأحياء.. في الدراسة نقص وفي العمل نقص، وكذلك في الزوجة والجيب والأخ والأصدقاء.. وإن لم يكن بكل هذه نقص، ففي مئات الأمور الأخرى ما يكفي لتحطيم الأعصاب وتمزيق الأمعاء..
والمعلّق قلبه بالحياة لن يسلم من طعناتها أبدا وستُنهكه وتوهن قوته كلما تساقطت الأيام والليالي، وإن أضحكته كثيرا فستُبكيه أكثر، ولو تقلّد مقاليد الدنيا، ولو كان من المُترفين، فسيجد وحشة في صدره وضيقا رهيبا ولو بعد حين..
ولكن الموحّدون لربّ الأنام، الذين يمرّون فيها مرّ الكرام، وقد أعرضوا عن اللهو وكثرة الكلام، وترفّعوا عن الشرّ وأذى اللئام.. هؤلاء هم الناجون من حربها، الهاربون من عذابها، الآمنون من سهامها..
تراهم قد ائتمروا بالأوامر الإلهية حين عزّ المؤتمرون، واستنوا بسنة الحبيب ورفعوها عاليا وغيرهم مبتدعون.. وجاهدوا في ترك ما حُذروا منه وقد كثر المخالفون، ومشوا على البيضاء التي تركنا عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع ثلة من السالكين.. طريق بيضاء، كأنها فارغة، لقلة الماشين فيها.. لا يمشي فيها إلا من رحمه الله، لا يمشي فيها إلا ذو حظ عظيم.. فهي طريق الحق وحدها، وهي الصراط المستقيم.. ودونها الباطل مهما فتّشت، وأنّى ذهبت، وحيثما نقّبتَ.. ولن ترى في غيرها إلا ما يسوءك ويجرّك إلى الخسران المبين.. اللهم اجعلنا من أهلك وخاصّتك واجعلنا من عبادك المُخلَصين.
وكتب
رفعت خالد المزوضي
عفا الله عنه وستر عيوبه في الدنيا والآخرة