الحقيقة
وصلت عربة الشيخ الى مدخل المدينة الشمالية .. بعد رحلة شاقة وطويلة من المدينة الوسطى ..
فإستوقفه احد حراس البوابة وقال :
ماذا تحمل داخل العربة أيها الشيخ ؟
أخرج الشيخ وثيقة عليها ختم ملكي .. فتراجع الحارس وضرب قدمه بالأرض .. وضم قبضته نحو صدره
وأذن للشيخ بالدخول .
أكملت العربة طريقها نحو القلعة القديمة .. والشيخ يترقب تلك الشرفة التي توشحت بعلم كبير .. بعين قلقة ..
وعندما توقفت العربة أمام القلعة .. لمح الشيخ شبح رجل ينسحب من الشرفة ..
ترجّل الشيخ من العربة .. وأمر الحراس بحماية العربة ريثما يعود ..
ومن ثم أمضى الى الداخل بخطواته البطيئة المعتادة ..
" الملك عماد الدين في إنتظارك..تفضل من هنا يا سيدي "
تبع الشيخ الخادم الى غرفة في الدور العلوي ..إنصرف الخادم بعد أن دلف الشيخ إلى الغرفة ..
التي كانت مظلمة بعض الشيء .. وفي نهايتها وقف ذلك الرجل أمام الشرفة التي أسدل عليها ستار داكن ..
وبعد أن أغلق الشيخ الباب ..خيّم الصمت على المكان لعدة ثواني ..ومن ثم توجه الملك عماد الدين نحو الشيخ مرحباً به :
" مرحباً بالشيخ ياسين ..كيف حالك بعد رحلتك المضنية إلى هنا .. ؟ "
لم يجب الشيخ ياسين .. بل ظل صامتاً ..محدقاً في الملك عماد الدين بنظرة ذات مغزى ..وبدا القلق واضحاً على وجه الملك الشاحب
فقال :
" ..لقد شعرت بإن خطباً ما أصابه ..أخبرني هل مات في ساحة القتال ..أم في فراشه .. ؟ "
أجاب الشيخ بغضب :
" هل هذا ما كنت تتمناه منذ البداية ..؟! "
ومن ثم إستطرد الشيخ كلامه بحسرة :
" هل هذا الثمن الذي حددته ليظفر بإعترافك به .. ؟ أن يموت بطريقة ترضي كبريائك لتفتخر به ؟! "
إنقلبت سحنة الملك .. وكأنما تلبسه شيطان يشتعل غضباً وأجاب بعنف :
" لقد كان منهم ...وأنت تعلم ذلك ..وتعلم أيضاً أني لو أبقيته هنا وكشف أمره .. ستكون نهايتنا جميعاً ..
و ...
" .. لقد رفع عنه القلم .. "
قالها الشيخ ياسين .. وأطرق برأسه .. وإنتفض الرجل غير مصدقاً لما سمعه وقال :
" .. ماذا ؟ ..هل هذا يعني بإنه لم يمت !؟ .. هل أتيت لتخبرني بإن إبني قد فقد عقله ؟ "
رفع الشيخ ياسين رأسه وقال بنبرة غاضبة حادة :
" .. لا ! .. قدمت لأخبرك بإنه .. لم يتحمل الألم بعد أن تذكر كل شيء ..منذ تلك الليلة .. التي نبذته فيها ..
وتبرأت منه ونسبته إلى الشيطان .. "
تراجع الملك الى الخلف .. وهوى على مقعده .. وهو يتمتم .. بذهول :
" .. تذكر كل شيء .."
أكمل الشيخ ياسين حديثه .. :
" .. لقد عاش وحيداً .. إلى أن دخلت سارة في حياته .. لم أرى شخصاً أكثر سعادة منه .. آنذاك ..ولكن .. بعد وفاة سارة ..تغير كل شيء .."
لقد كانت آخر ليلة في علاجه .. لم يكن من المفترض أن تراه سارة في هذه الحالة ..
لكن منذ أن حملت بطفلهم الأول .. إزداد قلقها تجاه غياب زوجها بعد منتصف كل ليلة لمدة ساعة أو أكثر ..
ظنت بإنها رأت مسخاً .. جن جنونها .. وهربت إلى السطح ..لحق بها سيف الدين .. حاولت إيقافه ولكن..
إرادة الله أقوى من كل شيء .. "
ونظر الشيخ ياسين الى الرجل .. نظرة باردة وأكمل :
" دفع ثمن ذنباً لم يقترفه .. نزوة ملك جبان "
وهم الشيخ ياسين بالخروج بخطواته البطيئة ..وإستوقفه الملك عماد الدين بصوت مختنق :
" مهلاً .. هل ستأخذه إليها ..؟ "
لم يجب الشيخ ياسين .. وغادر الغرفة .
قلب فارس
عاد فارس الى مفترق الطرق .. وإنتظر عودة سيف الدين ..
اذا لم أجدك فهذا يعني بإنك وجدت احدهم .. وسألحق بك .. وكذلك ستفعل انت
تذكر فارس كلمات سيف الدين وأسرع الى الطريق الأوسط على الفور ..
عندما وصل الى نهاية الطريق .. لم يجد شيئاً .. سوى بقعة كبيرة من الدماء ..
وقال محدثاً نفسه : " يا ترى مالذي حدث هنا " ..!
عاد فارس الى مفترق الطرق مرة أخرى ..وسلك الطريق الأيمن ..وبينما هو يقطع الطريق جرياً .. لفت إنتباهه
ألسنة من النار .. تخرج من المدينة .. توقف قليلاً ..وفكر بالأمر .. " مالذي يحصل في المدينة ..
هل داهمها جيش الظلام .. وماذا حدث للحاكم سيف الدين ..هل عثروا عليه الجنود .." قرر فارس أن يكمل طريقه ..
لم يأخذ وصول فارس إلى المغارة وقتاً كثيراً .. وكانت الرؤية شبه منعدمة ..بسبب الظلام الحالك ..
إتجه فارس الى المدخل بسرعة .. وأرتطمت قدمه اليسرى بشيء ما على الأرض ..فتعثر وكاد أن يسقط ..
خيل لفارس بإنه سمع صوت أنة .. لكنه واصل نحو المدخل .. وسمع من خلفه صوت أنثوي خافت :
" ..س .. ساعد .. ني .."
تعرف فارس على الصوت فوراً .. إنه صوت أوثولينا ..فعاد الى مصدر الصوت بسرعة وأمسك بها وإذا هي غارقة في دمائها الباردة
فقال فارس بهلع : " أوثولينا مالذي حدث .. من فعل بك هذا .. "
كانت أوثولينا تعلم بإنه لم يتبقى لها وقت كثير فقالت بصوت متقطع :
" أنا آسفة .. لم يكن بيدي أي خيار .. كل ما أردته لنا أن نعيش جميعاً بسلام.."
صمتت أوثولينا قليلاً .. وإستجمعت ماتبقى من قواها ثم قالت بنبرة دافئة وهي تتحسس وجه فارس :
" ..كنت أحسد أمك يا فارس ..كيف كانت بالقرب منك طوال الوقت ..وكيف كانت تفاخر بك أمام نساء المدينة..
لم أتصور يوماً .. بإنك ستلتفت إلى فتاة مهجّنة مثلي .. لكن .. أن أفارق هذه الدنيا وأنا بين يديك ..هو شيء يفوق كل ما تمنيته ...
فارس ..أرجوك..سامحني ..."
تراخت أصابع أوثولينا ..وهي تودع فارس بإبتسامة دافئة .. وتهمس له : " ..الود............." .
وأطبقت أوثولينا شفتيها .. إلى الأبد ..
لم يتمالك فارس نفسه ..وبدأت الدموع تنهمر من عينيه .. وقال متوسلاً :
" لا .. أرجوك لا ترحلي .. لا أريد أن أخسرك مرتين ..".
أخذ فارس يهز جسدها بلا جدوى .. ومن ثم إحتضنها .. وبكى جرحه الغائر .
بلا أثر ...
تتبع مالك الضوء الخافت في آخر المغارة فوصل الى نهاية الطريق .. وكان مصدر الضوء .. باب عليه نقوش غامضة ..
حاول مالك أن يفتح الباب الموصد بإحكام .. بدون فائدة .. ومن ثم ..تراءى لمالك بإن النقوش تشتعل بشدة .. وصوت همسات من حوله تتصاعد ..
وإذا بالباب ينزاح ببطئ ..إلى اليسار ..ومن خلف الباب ظهرت قاعة مستديرة ضخمة تنيرها شعلة هائلة في منتصفها ..
تردد مالك في الدخول إلى القاعة .. ولكن عندما رأى الباب يغلق مجدداً .. أسرع الى الداخل ..وبدأت الشعلة تخبو .. وكأنما هناك شيء يهيم فوقها ..
فإنطفأت النيران فوراً .. مما أثار خوف مالك .. الذي قال بتوتر واضح :
" .. من هناك ..؟؟ "
ولم يسمع مالك سوى صدى صوته يتردد في القاعة ..وأعاد سؤاله مرة أخرى .. وكانت الإجابة مجدداً .. صدى صوته فقط .. ولا شيء غيره ..
فأعاد مالك السؤال مرات عديدة .. ولم تكن هناك إجابة ..
تعالى من جديد .. صوت الهمسات التي سمعها مالك خارج القاعة ..فإزداد شعور مالك بالرهبة والفزع ..
فأخذ يضرب الجدران بيديه ..صارخاً .. يطلب الخروج ..
توقف صوت الهمسات ..وإرتفع صوت عزف للناي ..لمدة ليست بالقصيرة ..
عزفاً .. مبهماً ..مريباً ..لم يسمع شيء مثله من قبل ..وبعد إنتهاء المعزوفة ..
عصفت رياح قوية في القاعة .. تلاها صوت غليظ .. قادم من مكان سحيق ..
" .. أتخشى الظلام يا هذا ..ام أنك جبلت على ملاحقة الضوء كالفراشة البائسة التي تستجير بالضوء من الظلام حتى لو كانت نارً لأحرقتها .."
تراجع مالك إلى الخلف .. إلى أن إلتصق ظهره بالباب البارد ..فقال مرتعشاً :
" .. من .. من .. أنت .. "
إزداد عصف الرياح .. وقال صاحب الصوت الغليظ :
" .. أنا الحارس الأبدي .. لقرية السلام ..من أنت .. وماذا تريد ؟ .. "
لم يسمع مالك بقرية السلام هذه من قبل ..لكن موقفه لا يساعده على تقصي حقيقتها ..
فأجاب مالك بنبرة مترددة :
" ..إسمي مالك ..وجئت بحثاً .. عن زوجتي ..بسمة .. "
هدأت الرياح قليلاً .. وقال الحارس :
" ..أسرع يا مالك قبل فوات الآوان ..أدخل من الباب الأيسر ..هيا بسرعة .."
توقفت الرياح بشكل كلي ..وإضطرمت النيران من جديد في الشعلة الكبيرة ..فتوجه مالك الى الباب الأيسر ..
غادر مالك القاعة التي إهتزت بضربات عنيفة على الباب الأمامي ..وكانت الجهة الأخرى قد زينت بالشموع التي تقود الى المخرج ..
خرج مالك من الجهة الأخرى للمغارة ..الى طريق محاط بالأشجار الكثيفة ..يقود إلى قرية السلام ..
وصل مالك الى مدخل القرية المحاطة بسور أبيض يقف عند بوابتها .. حارس غطى نفسه برداء أبيض ..
إقترب مالك من الحارس .. وقبل أن يقول شيئاً .. أشار له الحارس بالدخول قائلاً :
" .. السيدة فلورا في إنتظارك .. تفضل "
صمت مالك قليلاً ..وبدت الحيرة على وجهه وهو يحاول أن يتذكر أين سمع هذا الإسم من قبل .. فإتسعت عيناه من الدهشة ..