• 0
  • مالي خلق
  • أتهاوش
  • متضايق
  • مريض
  • مستانس
  • مستغرب
  • مشتط
  • أسولف
  • مغرم
  • معصب
  • منحرج
  • آكل
  • ابكي
  • ارقص
  • اصلي
  • استهبل
  • اضحك
  • اضحك  2
  • تعجبني
  • بضبطلك
  • رايق
  • زعلان
  • عبقري
  • نايم
  • طبيعي
  • كشخة
  • صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة
    النتائج 16 إلى 30 من 39

    الموضوع: النظام الإقتصادي

    1. #16
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      وفوق ذلك فإن بناء الإجارة على البيع، والبيع على الإجارة، يؤدي إلى تحكم أثمان الحاجيات بأجرة الأجير، مع أن أثمان الحاجيات إنّما تتحكم بكفاية الأجير لا بأجرته، فإذا جُعلت أثمان الحاجيات تتحكم بأجرة الأجير أدت إلى جعل كفاية الأجير على المستأجِر يضمنها له، مع أن كفاية كل إنسان إنّما هي جزء من رعاية شؤونه، وهي على الدولة لا على المستأجِر، ولا يجوز ربط كفاية الأجير بإنتاجه مطلقاً، إذ قد يكون الأجير ضعيف البنية لا يقدر إلاّ على إنتاج القليل الذي هو دون حاجته، فإذا رُبطت أجرته بما يُنتَج أو بالحاجيات التي يحتاجها حُرِم من العيش الهنيء، وهذا لا يجوز، فحق العيش يجب أن يوفَّر لكل إنسان من رعايا الدولة سواء أنتج كثيراً أو قليلاً، وسواء أكان قادراً على الإنتاج أم غير قادر، فأجره يقدَّر بقيمة منفعته، سواء وَفَت بحاجاته أم لم تفِ. وعلى ذلك يكون من الخطأ تقدير أجرة العامل بأثمان السلع التي ينتجها أو بأثمان الحاجيات التي يحتاجها، فيكون من الخطأ بناء الإجارة على البيع، والبيع على الإجارة. فلا يجوز بناء أحدهما على الآخر. ولذلك لا يجوز بناء الثمن على الأجرة، ولا بناء الأجرة على الثمن. فتقدير الأجرة شيء وتقدير الثمن شيء آخر. وكلٌ له عوامل معينة واعتبارات خاصة تتحكم في التقدير. فالأجرة تقدَّر بمقدار المنفعة التي يعطيها الجهد، فالتقدير إنّما هو بالمنفعة أصالة لا بالجهد، وإن كانت المنفعة ناتجة عن الجهد الذي بُذل من الشخص، وهذه المنفعة يقدرها الخبراء بحسب الانتفاع بهذه المنفعة، وتقديرها ليس أبدياً، وإنما هو مربوط بالمدة التي اتُفق عليها، أو بالعمل الذي اتُفق على القيام به، فإذا انتهت المدة أو أُنجز العمل بدأ تقدير جديد للأجرة إما من المتعاقديْن وإما من الخبراء في بيان أجر المثل. والمدة قد تكون مياومة وقد تكون مشاهرة وقد تكون مسانهة. أمّا الثمن فهو نسبة المبادلة بين كمية النقود والكمية المقابلة لها من السلع، فالثمن هو ما يعطى من النقود مقابل وحدة من سلعة معينة في زمن معين. وأمّا تقديره فإنّما يكون بما تقرره السوق طبيعياً للسلعة باعتبار حاجة الناس إليها. نعم قد يُقدَّر الثمن بقدر حاجة المشتري للسلعة فيأخذها مهما كان ثمنها، وقد يكون بقدر حاجة البائع فيبيعها مهما كان ثمنها، ولكن ذلك لا يجوز، وهو أمر خطر على المجتمع ولا يُسمح به، وهو ما يسمى بالغبن. ولذلك فالاعتبار في هذه الحال إنّما هو للبائعين والمشترين في السوق وليس للبائع والمشتري المتعاقديْن. وبعبارة أخرى هو المقدار المقدر في السوق للسلعة. فقبول المشتري لثمن السوق كان جبرياً وكذلك قبول البائع لثمن السوق كان جبرياً، والذي حدد هذا الثمن وأجبر البائع والمشتري أن يخضع له هو الحاجة إلى منفعة السلعة في المجتمع الذي بيعت به بغض النظر عن نفقات إنتاجها. وعلى ذلك يختلف تقدير الثمن عن تقدير الأجرة، ولا علاقة بينهما. ولذلك لا يُبنى تقدير الأجرة على تقدير الثمن. والثمن إنّما تحدده الحاجة إلى السلعة وتكون الندرة عاملاً مؤثراً في تقديره، ولا يمكن أن يقاس الثمن بنفقات الإنتاج، فقد لا يتساوى الثمن مع نفقات الإنتاج، إذ قد يكون أقل وقد يكون أكثر حسب الظروف في المدى القصير. وأمّا في المدى الطويل فإنه يحصل طبيعياً تعادل بين ثمن السوق ونفقات الإنتاج، ولكن ذلك لا يجعل الأجر مربوطاً بثمن السلعة. فإن المشترين في المدى القصير والمدى الطويل لا ينظرون في شراء السلعة إلى تكاليفها، وإنما يقرر ثمنها في كلتا الحالتين الحاجة إلى السلعة مع مراعاة عامل الندرة.

      وقد اختلف الرأسماليون والشيوعيون في تقدير الأجرة للأجير اختلافاً جعلهما متباينين. فالرأسماليون يعطون العامل الأجر الطبيعي، والأجر الطبيعي عندهم هو ما يحتاج إليه العامل من أسباب المعيشة عند أدنى حدها، ويزيدون هذا الأجر إذا زادت تكاليف المعيشة عند أدنى حدها، وينقصونه إذا نقصت. وعلى ذلك فأجر العامل يقدَّر بحسب تكاليف المعيشة بغض النظر عن المنفعة التي أداها جهده للفرد والمجتمع. وأمّا ما يأخذه العمال في أوروبا وأمريكا من البلدان الرأسمالية فإنه تعديل للنظام الرأسمالي في إعطاء العامل حقوقاً تزيد عمّا له وعما تعطيه حرية الملكية، ومع ذلك فإنه بالرغم من هذا التعديل لا يزال ما يأخذه العامل هو مقدار أدنى حد من العيش الذي يستطيع أن يعيش به في مستوى لا يتضجر، وليس هو مقدار ما ينتِج من الصناعة. على أن رفع مستوى المعيشة في المجتمع في أوروبا وأمريكا يجعل أدنى حد يأخذه ممكِّناً له من أن يكون ظاهراً بالمظهر الطيب، ولكنه لا يأخذ مقدار ما ينتجه. فتقدير أجر العامل في أوروبا وأمريكا وإن كان لا يجعل العامل فقيراً بنسبتنا نحن، ويجعله مشبِعاً حاجاته الأساسية وبعض حاجاته الكمالية، ولكنه إذا قيس في مستوى معيشة الجماعة التي يعيش بينها هو يكون في مستوى منخفض نسبياً، وإن كان مرتفعاً بالنسبة لنا. وعلى أي حال فإنه بالرغم من رفع مستوى معيشة العمال في أوروبا وأمريكا فإن تقدير الأجر هناك وفي كل البلدان الرأسمالية لا يزال هو بمقدار أدنى حد من العيش بالنسبة لمجتمعه.

      وعلى أي حال فإنه ما دام التقدير هو بما يحتاج إليه العمال من وسائل المعيشة عند أدنى حدها، فإنه سيترتب على ذلك أن يظل العمال محدودي الملكية بحدود ما يحتاجونه لسد حاجاتهم عند أدنى حدها بالنسبة للجماعة التي يعيشون بينها. سواء أكانت معيشتهم لسد حاجاتهم الأساسية فقط كما هي حال العمال في البلدان المتأخرة فكرياً كالبلاد الإسلامية، أو لسد حاجاتهم الأساسية والكمالية كما هي حال العمال في البلدان المتقدمة فكرياً كأوروبا وأمريكا، فإن العامل فيها جميعها محدود الملكية بحدود أدنى حد لمعيشته بالنسبة للجماعة التي يعيش بينها مهما اختلف مستوى المعيشة ارتفاعاً وانخفاضاً. وما دام التقدير هو بما يحتاج إليه العامل من أسباب المعيشة عند أدنى حدها.

      أمّا الشيوعيون فإنهم يرون أن العمل الذي قام به العامل له الفضل الأول في إنتاج السلعة وإتمام صنعها، وأن العمل أو القدرة على العمل تلعب دوراً أساسياً في إنتاج السلعة. وعلى ذلك فالشيوعية ترى أن عمل العامل هو الأساس في الإنتاج، فيكون أجر العامل هو ما ينتجه، وأن جميع نفقات الإنتاج تُرَد إلى عنصر واحد هو العمل. وهذا طبعاً خطأ مخالف للواقع. فالواقع المحسوس هو أن المال الذي خلقه الله في الكون هو أساس قيمة السلعة، والنفقات التي بُذلَت في زيادة المنفعة لهذا المال أو إيجاد منفعة فيه مع العمل هي التي جعلته على الشكل الذي صار إليه، يؤدي منفعة معينة، فجعْل العمل هو الأساس خطأ مخالف للواقع، وجعْل السلعة المنتَجة أجرة للعامل إهدارٌ للمادة الخام وللنفقات التي بُذلَت، وقد يكون بَذَلها عامل آخر أخذ أجرها، فالعامل الحالي لم ينتج السلعة ولا يُرَد إنتاجه إلى عمله مطلقاً حتى يعطى السلعة أجراً له. على أنه لو فرضنا أن المقصود جنس العامل، فإنه تبقى المادة الخام وهي قد خلقها الله، فلا يصح أن تُهدر ولا يُحسب حسابها. على أن اعتبار العامل جنساً في تقدير الأجرة خطأ، لأن العمال أفراد معيّنون والأجر إنّما هو لهؤلاء الأفراد، فاعتبار جنس العامل لا يؤدي إلى تقدير أجر، وإنما يؤدي إلى إلغاء الأجر وإلغاء الملكية، وهذا يتناقض مع فطرة الإنسان، وهو فكر غلط وليس له واقع محسوس، فالواقع المحسوس يدل على أن الإنسان يندفع لإشباع حاجاته بنفسه، فيجعله اندفاعه هذا يسعى ليحوزها من الكون أو من إنسان آخر أو بإضافة جهد منه إلى ما في الكون ليصبح المال صالحاً لإشباع حاجاته. ولذلك كانت نظرية تقدير الأجر عند الشيوعيين بأنه السلعة التي أنتجها خاطئة، وكذلك كان تحديد الأجر بما أنتجه ناقصاً المادة الخام خاطئاً أيضاً، لأن الأدوات التي استعملها والنفقات التي بذلها قد ساهمت في تكوين السلعة وهي ليست جزءاً من عمل العامل. وإذا اعتُبرت جزءاً من عمل العامل على اعتبار أن العمل جنس، أدى ذلك إلى إلغاء الأجرة، وهذا خطأ لما تقدم. على أن أجرة العامل لا ترتبط بالسلعة، لا قيمةً ولا ثمناً، وإنما ترتبط بالمنفعة التي أداها هذا الجهد للفرد وللجماعة، سواء أكانت هذه المنفعة موجودة في المادة الخام كالفُطر والتفاحة أو موجودة في عمل العامل كالقاطرة البخارية، فإن تقدير الجهد إنّما هو في هذه المنفعة، وليس في السلعة التي أنتجها. ولذلك كان تحديد الأجر للعامل بحد معين، مهما كان قياسه، خطأ مخالف للواقع المحسوس، ويكفي أن يكون الأجر معلوماً لا محدداً بحد معين. وعليه فإن نظرية تقدير الأجرة عند الرأسماليين والشيوعيين والاشتراكيين خاطئة مخالفة للواقع وتسبب إفساد العلاقات التي يجب أن تقوم بين الناس لإشباع حاجاتهم.

      ويرجع هذا الخلاف في تقدير أجرة العامل إلى اختلافهم في معنى القيمة للسلعة أي في تحديد قيمة السلعة. وقد عرّف بعض الرأسماليين القيمة بأنها هي ما تتكلفه السلعة من وقت ومجهود ومواد أولية، كالقاطرة البخارية قيمتها أكثر من قيمة الدراجة. وهذه القيمة بحسب نُدرَتها عندهم. وقال آخرون إن قيمة الشيء تتوقف على منفعته أي على قوته في إشباع الحاجات. وقال آخرون بأن قيمة أي سلعة تتوقف على كمية العمل المبذول في إنتاجها ويضاف إليه مقدار العمل الذي بُذل في إنتاج المعدات والأدوات التي تستخدم في عملية الإنتاج. إلاّ أن النظرية الحديثة وهي التي تسمى النظرية الحدّيّة تنظر إلى القيمة من ناحية المنتِج والمستهلك معاً، أي من ناحية العرض والطلب، فهي تتوقف على كل من العرض والطلب. فالمنفعة الحدّيّة هي التي تحكم الطلب أي هي نهاية قوة الشيء في إشباع الحاجة بحيث تقل بعدها حدّة الإشباع أو تصبح ضرراً. وتكاليف الإنتاج الحدّيّة هي التي تتحكم في العرض، أي هي نهاية كمية العمل المبذول في إنتاج السلعة بحيث يصبح بذل كمية أخرى للإنتاج خسارة، وأن القيمة تتحول عند النقطة التي يتحقق عندها التوازن بين هاتين الظاهرتين.

      أمّا القيمة عند الشيوعيين فإن كارل ماركس ذكر أن المصدر الوحيد للقيمة هو العمل المبذول في إنتاجها، وأن الممول الرأسمالي يشتري قوة العامل بأجر لا يزيد عما هو ضروري لإبقائه حياً قادراً على العمل، ثم يستغل هذه القوة في إنتاج سلع تفوق في قيمتها كثيراً ما يدفعه للعامل. وقد أطلق ماركس على الفرق بين ما ينتجه العامل وما يدفعه له فعلاً اسم "القيمة الفائضة" وقرر أنها تمثل ما يغتصبه الملاك وأصحاب الأعمال من حقوق العمال باسم الريع والربح وفائدة رأس المال التي لم يعترف طبعاً بمشروعيتها.

      والحقيقة التي هي فكر له واقع في الحس، هي أن قيمة أي سلعة هي مقدار ما فيها من منفعة مع ملاحظة عامل الندرة. ومع أن هذه المنفعة يكون العمل وسيلة للحصول عليها، وقد يكون وسيلة لإنتاجها ولكنه لا يلاحَظ مطلقاً عند تبادلها ولا عند الانتفاع بها. ولذلك كانت النظرة الحقيقية لأي سلعة هي النظرة إلى المنفعة مع ملاحظة عامل الندرة، سواء ملكها الإنسان ابتداءً كالصيد مثلاً أو مبادلةً كالبيع. ولا فرق في ذلك بين المجتمع في موسكو والمجتمع في باريس والمجتمع في المدينة المنوّرة، فإن الإنسان في كل مكان حين يسعى للحصول على السلعة يقدّر ما فيها من منفعة مع ملاحظة الندرة. هذه هي قيمتها من حيث هي عند الإنسان، وهي القيمة الحقيقية للسلعة. أمّا القيمة الفعلية للسلعة فإنها تقدَّر بمقدار بدلها بشيء آخر من سلعة أو نقد، وتبقى قيمتها هذه على هذا الوجه ثابتة مهما تغير الزمان والمكان والظروف. أمّا ثمن السلعة فهو ما يعطى من النقود مقابل وحدة من سلعة معينة في زمن معين ومكان معين وظروف معينة. ويتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والظروف وبعبارة أخرى هو نصبة المبادلة بين كمية النقود والكمية المقابلة لها من السلع.

    2. #17
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي



      فلو تزوج رجل امرأة وجعل من مهرها خزانة معينة موصوفة وذكر أن قيمتها خمسون ديناراً وسلمها الخزانة بالفعل، تعينت قيمة الخزانة بتسلمها لها عيناً. فلو أنه أخذها منها بعد ذلك وادّعت عليه بها فإن عليه تسليم عين الخزانة لا ثمنها فإن ثبت هلاك الخزانة أو ادعى هلاكها دفع لها خمسين ديناراً لأنها قيمة الخزانة سواء أكان مثل الخزانة عند الدعوى يساوي أكثر من خمسين ديناراً أو أقل، لأنها القيمة المقدرة فعلاً ولا يعتبر ثمن مثل الخزانة، بخلاف ما لو ذكر في العقد أن ثمنها خمسون ديناراً وسلمها الخزانة بالفعل ثم أخذها منها وادعت عليه بها فإن له تسليم الخزانة، وله دفع ثمنها خمسين ديناراً، وله أن يشتري لها خزانة بخمسين ديناراً سواء أكانت الخزانة عند الدعوى تساوي أكثر من خمسين أو أقل، فإن الواجب عليه دفع خزانة ثمنها خمسين ديناراً في كل وقت.

      وذلك لأن القيمة لا تتغير والثمن يتغير. فالقيمة الفعلية للسلعة هي مقدار بدلها حين التقدير، وثمن السلعة هو ما يُدفع مقابلها مبادَلةً في السوق. وهذا التفريق بين القيمة والثمن إنّما هو في البيع وسائر أنواع المبادلة، أمّا إجارة الأجير فهي المقدار الذي تقدَّر فيه منفعة جهده عند العقد، وتقدَّر مرة أخرى عند انتهاء مدة الإجارة. ومن هنا يظهر أنه لا توجد علاقة بين أجرة الأجير وقيمة السلعة، ولا بين أجرة الأجير وتكاليف الإنتاج، ولا بين أجرة الأجير ومستوى المعيشة، وإنما هي شيء آخر منفصل، إذ هي مقدار ما تستحقه المنفعة التي يحصل منها عليه مستأجره، ويكون تقدير هذه المنفعة ليس راجعاً للمستأجِر بل راجعاً للحاجة لهذه المنفعة. فوحدة تقدير أجرة الأجير هي هذه المنفعة الموصوفة بهذا الوصف. وهذه الأجرة تختلف باختلاف الأعمال، وتتفاوت بتفاوت الإتقان في العمل الواحد، فأجرة المهندس تختلف عن أجرة النجار، وأجرة النجار الماهر تختلف عن أجرة النجار العادي، وإنما يرتفع أجر الناس في العمل الواحد بحسب ما يؤدّون من إتقان لمنفعة الجهـد، ولا يعتبر هذا ترقية لهم وإنما هو أجرهم الذي استحقوه بتحسينهم لمنفعتـه.



      السبب الثاني من أسباب التملك



      الإرث



      ومن أسباب التملك للمال الإرث، وهو ثابت بنص القرآن القطعي، وله أحكام معينة توقيفية ولم تُعلَّل، وهو وإن كان قد نص على الجزئيات ولكن هذه الجزئيات خطوط عريضة، فالله تعالى حين يقول: )يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيَيْن فإن كُنّ نساءً فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك(، نفهم من قوله هذا عدة أحكام، نفهم منها أن الذكر من الأولاد يأخذ ضعف الأنثى، ونفهم منها أن ابن الابن يعامل معاملة الابن في حالة عدم وجود الأبناء، لأن أولاد الابن الذكر يندرجون تحت كلمة الأولاد، بخلاف ابن البنت فلا يعامَل معاملة ابن الابن في حالة عدم وجود الأبناء، لأن أولاد البنت لا يندرجون تحت كلمة أولاد في اللغة. ونفهم أيضاً أن الأولاد إن كانوا نساء فوق اثنتين فإنهن يشتركن في ثلثي التركة. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم للاثنتين حكم ما فوقهما، وأجمع الصحابة على ذلك فيكون للاثنتين حكم ما فوقهما. فهذه أحكام فُهمت من المعنى العام الذي ذكرته الآية. وبهذه الأحكام يستحق الوارث نصيبه من التركة. وعلى ذلك كان من أسباب التملك الإرث بحسب أحكامه المفصَّلة في الكتاب والسنّة وإجماع الصحابة.

      والإرث وسيلة من وسائل تفتيت الثروة، وليس تفتيت الثروة علة له بل هي بيان لواقعه، وذلك أن الثروة وقد أبيحت ملكيتها، قد تتجمع في يد أفراد حال حياتهم، ولكي لا يستمر هذا التجمع بعد مماتهم كان لا بد من وسيلة لتفتيتها بين الناس. وقد شوهد في الواقع أن وسيلة تفتيت الثروة هذه طبيعياً هي الميراث. ومن الاستقراء تبين أن الأحوال التي تعتري تفتيت الثروة في الإرث ثلاث أحوال هي:

      أ- الحالة الأولى أن يكون الورثة يستغرقون جميع المال حسب أحكام الإرث، وحينئذ يوزَّع عليهم المال كله.

      ب- الحالة الثانية أن لا يكون هنالك ورثة يستغرقون جميع المال حسب أحكام الإرث، كما إذا توفي الميت عن زوجة فقط أو عن زوج فقط فإن الزوجة تأخذ الربع فقط ويكون باقي الميراث لبيت المال، وإن كان الزوج فإنه يأخذ النصف فقط ويكون باقي الميراث لبيت المال.

      ج- أن لا يكون هنالك وارث مطلقاً، وفي هذه الحال يكون المال كله لبيت المال أي للدولة.

      وبذلك تتفتت الثروة وينتقل المال إلى الورثة ويُستأنَف تبادل المال في دورة اقتصادية بين الناس ولا يُحفظ في شخص معين تتجمع لديه الثروات.

      والإرث سبب مشروع للملكية، فمن ورث شيئاً مَلَكَه ملكاً مشروعاً. فيكون الإرث سبباً من أسباب التملك التي أذِنَ الشرع الإسلامي بها.



      السبب الثالث من أسباب التملك



      الحاجة للمال لأجل الحياة


      من أسباب التملك الحاجة للمال لأجل الحياة. وذلك أن العيش حق لكل إنسان فيجب أن ينال هذا العيش حقاً لا مِنحةً ولا عطفاً. والسبب الذي يضمن للفرد من رعايا الدولة الإسلامية الحصول على قُوتِه هو العمل. فإذا تعذر عليه العمل كان على الدولة أن تهيئه له لأنها الراعي لهذه الرعية، والمسؤولة عن توفير حاجاتها، قال عليه الصلاة والسلام: {الإمام راعٍ وهو مسؤول عن رعيته}، فإذا تعذر إيجاد عمل له أو عجز عن القيام بالعمل لمرض أو كِبَر سن أو أي سبب من أسباب العجز كان عيشه واجباً على من أوجب عليه الشرع الإنفاق عليه، فإن لم يوجَد من تجب عليه نفقته، أو وُجد وكان غير قادر على الإنفاق، كانت نفقته على بيت المال، أي على الدولة. وفوق ذلك كان له في بيت المال حق آخر وهو الزكاة، قال تعالى: )وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم(. وهذا الحق فرضٌ على الأغنياء أن يدفعوه، قال تعالى في آية: )إنّما الصدقات للفقراء والمساكين( من سورة التوبة )فريضة من الله( أي حقاً مفروضاً. وإن قصّرت الدولة في ذلك وقصّرت جماعة المسلمين في جماعتها وفي كفالة المحتاجين، وليس متوقعاً في جماعة المسلمين أن تقصّر، كان لهذا الفرد أن يأخذ ما يقيم به أَوَدَه من أي مكان يجده سواء أكان ملك الأفراد أو ملك الدولة. وفي هذه الحال لا يباح للجائع أن يأكل لحم الميتة ما دام هنالك أكلٌ عند أحد من الناس، لأنه لا يُعدّ مضطراً لأكل الميتة مع وجود ما يأكله في يد أي إنسان. أمّا إذا لم يستطع الحصول على الأكل فإن عليه أن يأكل لحم الميتة لإنقاذ حياته. ولمّا كان العيش سبباً من أسباب الحصول على المال لم يعتبِر الشارع أخذ الطعام المهيأ للأكل سرقة تُقطع اليد عليها، ولا اعتبر أخذ الطعام في عام المجاعة سرقة كذلك، فقد رُوي عن الحسن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا قطعٌ في الطعام المهيأ للأكل}، ورُوي عن مكحول رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا قطعٌ في مجاعة مُضطَر}. وكما ضمن الشرع حق الفرد في ملكية المال لأجل الحياة بالتشريع ضَمِنَ إعطاءه هذا الحق بالتوجيه، قال صلى الله عليه وسلم: {أيّما أهل عَرَصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى}، وقال: {ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم}.



      السبب الرابع من أسباب التملك



      إعطاء الدولة من أموالها للرعية



      ومن أسباب التملك إعطاء الدولة من أموال بيت المال للرعية، لسد حاجتهم أو للانتفاع بملكيتهم. أمّا سد حاجتهم فكإعطائهم أموالاً لزراعة أراضيهم أو لسد ديونهم. فقد أعطى عمر بن الخطاب من بيت المال للفلاحين في العراق أموالاً أعانهم بها على زراعة أرضهم وسدّ بها حاجتهم دون أن يستردها منهم. وقد جعل الشرع للمدينين حقاً في مال الزكاة يُعطَوْن منه لسد ديونهم إذا عجزوا عنها، قال تعالى: )والغارمين(، أي المدينين.

      وأمّا حاجة الجماعة للانتفاع بملكية الفرد، فتكون في تمليك الدولة لأفراد الأمّة من أملاكها وأموالها المعطلة المنفعة، بأن تُقطِع الدولة بعض الأرض التي لا مالك لها، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقطع أبا بكر وعمر أرضاً، وكما أقطع الخلفاء الراشدون من بعده المسلمين أرضاً. فهذا الذي تُقطِعه الدولة للفرد يصبح ملكاً له بهذا الإقطاع لأن الجماعة في حاجة إلى هذه الملكية للانتفاع بها ولتسخير الفرد لهذا الانتفاع واستخدام نشاطه الذهني أو الجسمي للجماعة بسبب هذه الملكية. واستعمال لفظ الإقطاع هنا استعمال لغوي وفقهي ولا علاقة له بالنظام الإقطاعي الخاص الذي لم يعرفه الإسلام.

      ويلحق بما تعطيه الدولة للأفراد ما توزعه على المحاربين من الغنائم، وما يأذن به الإمام بالاستيلاء عليه من الأسلاب.



      السبب الخامس من أسباب التملك



      الأموال التي يأخذها الأفراد دون مقابل مال أو جهد


      ومن أسباب التملك أخذ الأفراد بعضهم من بعض مالاً دون مقابل مال أو جهد. وهذا يشمل خمسة أشياء:

      1- صلة الأفراد بعضهم بعضاً، سواء أكانت الصلة في حياتهم كالهبة والهدية أو بعد وفاتهم كالوصية، فقد رُوي أن وفد هوازن لما جاؤوا يطلبون من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يردّ عليهم ما غنمه منهم قال رسول الله: {ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم} أي فهو هبة مني إليكم، وقال عليه الصلاة والسلام: {تهادوا تحابّوا}، وقال صلى الله عليه وسلم: {ليس لنا مَثَلُ السوء الذي يعود في هِبَته كالكلب يعود في قيئه}. ولا فرق في الهبة والهدية بين الكافر والمسلم، فإعطاء الكافر مباح وقبول ما أعطى هو كقبول ما أعطى المسلم، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: قَدِمَت أمّي عليّ وهي مشركة فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {صِلي أمك}، ورُوي عن أبي حميد الساعدي قال: {غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك وأهدى ملك أيلة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه برداً}. وكما أن الهبة والهدية هي التبرع بالمال حال الحياة فكذلك الوصية هي التبرع بالمال بعد الموت، قال تعالى: )كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصية(، ورُوي عن سعد بن مالك قال: مرضتُ مرضاً فعادني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: {أوْصَيتَ؟} فقلت: نعم، أوصيت بمالي كله للفقراء وفي سبيل الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أوصِ بالعشرة}. فقلت: يا رسول الله إن مالي كثير وورثتي أغنياء. فلم يزل رسول الله يناقصني وأناقصه حتى قال: {أوصِ بالثلث والثلث كثير}. ويملك الفرد بسبب الهدية أو الهبة أو الوصية العين الموهوبة أو المهداة أو الموصى بها.

      2- استحقاق المال عِوَضاً عن ضرر من الأضرار التي لحقته، وذلك كدية القتيل وديات الجِراح، قال تعالى: )ومَن قَتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودِيَة مسلمة إلى أهله(، وقال صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {في النفس المؤمنة مائة من الإبل}، وأمّا ديات الجِراح فقد رُوي عن الزهري عن أبي بكر بن محمد بن عمر بن حزم عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب له في كتاب {وفي الأنف إذا أوعب جدعه الدية وفي اللسان الدية وفي الشفتين الدية وفي البيضتين الدية وفي الذكر الدية وفي الصلب الدية وفي العينين الدية وفي الرجل الواحدة نصف الدية}.

      وفي دية المقتول يستحق ورثته ديته على القاتل في القتل العمد، قال عليه الصلاة والسلام: {لا يجنِ جانٍ إلاّ على نفسه}، وأمّا في غير العمد كشبه العمد والخطأ فيستحق ورثة المقتول الدية على العاقلة، فقد روى أبو هريرة قال: {اقتتلت امرأتان من هذيل فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بدية المرأة على عاقلتها}، والعاقلة من يحمل العقل، والعقل هنا هو الدية، والعاقلة هي كل العَصَبة ويدخل فيها آباء القاتل وأبناؤه واخوته وعمومته وأبناؤهم. وإذا لم تكن للقاتل عاقلة أُخذت الدية من بيت المال، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ودى الأنصاري الذي قُتل بخيبر من بيت المال. ورُوي أن رجلاً قُتل في زحام في زمان عمر فلم يُعرف قاتله فقال عليّ لعمر: يا أمير المؤمنين لا يُطلُّ دم امرئ مسلم، فأدَّى ديته من بيت المال.

      وأمّا ديات الجِراح وهي الشجاج في رأس أو وجه أو قطع عضو أو قطع لحم أو تفويت منفعة كتفويت السمع والبصر والعقل، فإذا حصل لإنسان جرح من هذه الجراح استحق الدية على هذا الجرح بحسب الأحكام المفصلة لكل عضو من الأعضاء ولكل حالة من الحالات. ويملك الفرد بسبب الدية المال الذي يخصه من دية المقتول أو دية العضو الذي تلف أو المنفعة التي فُوّتت.

      3- استحقاق المهر وتوابعه بعقد النكاح، فإن المرأة تملك هذا المال على الوجه المفصل في أحكام الزواج، وليس هذا المال بدل منفعة، فإن المنفعة متبادلة بين الزوجين، وإنما هو مستحَق بنص الشرع، قال تعالى: )وآتوا النساء صَدُقاتهن نِحْلة( أي عن طيب نفس بالفريضة التي فرض الله تعالى، والنِحْلة العطيّة أيُّ عطيّة، لأن كل واحد من الزوجين يستمتع بصاحبه، و{روى أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف رِدْعَ زعفران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مَهيَم؟ فقال: يا رسول الله تزوجت امرأة. فقال: ما أصدقتَ؟ قال: وزن نواة من ذهب، فقال: بارك الله لك، أوْلِم ولو بشاة}.

      4- اللُّقَطة: إذا وجد شخص لُقَطة، يُنظر فإن كان يمكن حفظها وتعريفها كالذهب والفضة والجواهر والثياب وكان ذلك في غير الحَرَم جاز التقاطه للتملك، لِما روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: {ما كان منها في طريق ميثاء (أي مسلوكة) فعرّفها حولاً فإن جاء صاحبها وإلاّ فهي لك}. أمّا إن كانت اللقطة في الحَرَم فلا تعتبر لقطة لأن لقطة الحَرَم حرام كما جاء في الحديث، ولا يجوز أن يأخذها إلاّ للحفظ على صاحبها.

      أمّا إن كانت مما لا يمكن حفظها بأن كانت مالاً يبقى كالأكل والبطيخ وما شاكله فهو مخيَّر بين أن يأكله ويغرَم ثمنه لصاحبه إن وُجد، وبين أن يبيعه ويحفظ ثمنه مدة الحول. وهذا كله إذا كانت اللقطة مما يُطلب عادة بأن كان لها ثمن لا يتركه صاحبه إن ضاع. أمّا إن كانت من التوافه كالثمرة واللقمة وما شاكل ذلك فإنه لا يعرَّف عليه وإنما يملكه في الحال.

    3. #18
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      5- تعويض الخليفة ومن يُعتبر عملهم حكماً، فإنه لا يكون مقابل عملهم وإنما هو مقابل حبسهم عن القيام بأعمالهم. وهؤلاء يملكون المال بمجرد أخذه لأن الله أحله لهم. فقد أخذ أبو بكر مالاً تعويضاً عن حبسه عن التجارة حين طُلب منه أن يتفرغ لشؤون المسلمين، وأقره الصحابة على ذلك.

      فهذه الأموال الخمسة -الصلة، والتعويض على الضرر، والمهر، واللقطة، وتعويض الحكام- مال أخذه الفرد بغير مقابل من مال أو جهد، وهذا الأخذ على هذا الوجه من أسباب التملك المشروعة يملك الشخص به المال المأخوذ.



      حق التصرف


      لقد عُرفت الملكية بأنها حكم شرعي مقدَّر بالعين أو المنفعة يقتضي تمكين من يضاف إليه من انتفاعه بالشيء وأخذ العِوَض عنه. وعلى هذا تكون الملكية هي الحكم الشرعي المقدَّر بالعين أو المنفعة، أي هي إذن الشارع، فيكون التصرف هو ما ترتب على هذا الحكم الشرعي أي على الإذن من تمكين المالك من الانتفاع بالشيء وأخذ العِوَض عنه. فالتصرف بالملكية مقيَّد بإذن الشارع لأن الملكية هي إذن الشارع بالانتفاع، والتصرف هو الانتفاع بالعين. ولمّا كان المال لله، والله قد استخلف العبد فيه بإذن منه، كانت حيازة الفرد للمال أشبه بوظيفة يقوم بها للانتفاع بالمال وتنميته، منها بالامتلاك. لأن الفرد حين يملك المال إنّما يملكه للانتفاع به وهو مقيد فيه بحدود الشرع وليس مطلق التصرف فيه. كما أنه ليس مطلق التصرف في نفس العين ولو ملكها ملكية عينية. بدليل أنه لو تصرف بالانتفاع بهذا المال تصرفاً غير شرعي بالسفه والتبذير كان على الدولة أن تَحْجُر عليه وتمنعه من هذا التصرف وأن تسلبه هذه الصلاحية التي منحته إياها. وعلى ذلك يكون التصرف بالعين والانتفاع بها هو المعنى المراد من ملكيتها أو هو أثر هذه الملكية. وحق التصرف في العين المملوكة يشمل حق التصرف في تنمية الملك وحق التصرف بالإنفاق صلةً ونفقةً.



      تنمية الملك



      تنمية المال مربوطة بالأساليب والوسائل التي تستخدم لإنتاجه. أمّا تنمية ملكية هذا المال فإنها تتعلق بالكيفية التي يحصل فيها الفرد على ازدياد هذه الملكية. ولذلك كان لا دخل للنظام الاقتصادي في تنمية المال، وإنما يتدخل في تنمية الملك. ولم يتعرض الإسلام لتنمية المال وتَرَكه للإنسان يُنمّيه بالأساليب والوسائل التي يرى أنها تؤدي إلى تنميته، وتعرّض لتنمية ملكية هذا المال وبيّن أحكامها. ومن هنا كانت تنمية الملك مقيدة بالحدود التي وضعها الشارع لا يجوز تعديها. والشارع قد بيّن خطوطاً عريضة للكيفيات التي تنمَّى بها الملكية وترك التفصيلات للمجتهدين يستنبطون أحكامها من هذه الخطوط العريضة بحسب فهم الوقائع، ثم نص على كيفيات معينة حرمها ومنعها، فبيّن المعاملات والعقود التي ينمّي فيها الملك، ومنع الفرد من تنمية الملك بطرق معينة.

      والناظر في الأموال الموجودة في الحياة الدنيا يجدها بعد الاستقراء محصورة في ثلاثة أشياء هي: الأرض، وما ينتج عن تبادل الأشياء، وما ينتج عن تحويل أشكال الأشياء من وضع إلى أوضاع أخرى. ومن هنا كانت الأشياء التي يشتغل فيها الإنسان للحصول على المال أو تنميته هي الزراعة، والتجارة، والصناعة، فكان لا بد أن تكون الكيفيات التي تزيد فيها ملكية هذا الفرد لهذا المال هي موضع البحث في النظام الاقتصادي. فالزراعة والتجارة والصناعة هي الأساليب والوسائل التي تستخدم لإنتاج المال والأحكام المتعلقة بالزراعة والتجارة والصناعة هي التي تبيّن الكيفية التي ينمي بها الفرد ملكيته للمال.

      وقد بيّن الشرع أحكام الزراعة في بيان أحكام الأرض وما يتعلق بها، وبيّن أحكام التجارة في بيان أحكام البيع والشركة وما يتعلق بها، وبيّن أحكام الصناعة في بيان أحكام الأجير والاستصناع. أما إنتاج الصناعة أي ما تنتجه، فهو داخل في التجارة، ولذلك كانت تنمية الملكية مقيدة بالأحكام التي جاء الشرع بها، وهي أحكام الأراضي وما يتعلق بها، وأحكام البيع والشركة وما يتعلق بها، وأحكام الأجير والاستصناع.



      أحكام الأراضي



      للأرض رقبة ومنفعة. فرقبتها هي أصلها، ومنفعتها هي استعمالها في الزراعة وغيرها. وقد أباح الإسلام ملكية رقبة الأرض كما أباح ملكية منفعتها، ووضع أحكاماً لكل منها. أمّا ملكية رقبة الأرض فيُنظر فيها، فإن كانت البلاد التي منها هذه الأرض قد فتحت فتحاً سواء أكان ذلك صلحاً أم حرباً كانت رقبة الأرض ملكاً للدولة واعتبرت أرضاً خراجية، ما عدا جزيرة العرب، وإن كانت البلاد قد أسلم أهلها عليها مثل إندونيسيا أو كانت من جزيرة العرب كانت رقبة الأرض ملكاً لأهلها واعتبرت أرضاً عشرية. والسبب في ذلك أن الأرض بمنزلة المال تعتبر غنيمة من الغنائم التي تكسب في الحرب، فهي حلال، وهي ملك لبيت المال، فقد حَدّث حفص بن غياث عم أبي ذئب عن الزهري قال: {قضى رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فيمن أسلم من أهل البحرين أنه قد أحرز دمه وماله إلاّ أرضه، فإنها فيء للمسلمين لأنهم لم يسلموا وهم ممتنعون}. والفرق بين الأرض وبين غيرها من الغنائم من الأموال أن الأموال تُقسم ويُتصرف بها وتُعطى للناس، وأمّا الأرض فتبقى رقبتها تحت تصرف بيت المال حكماً، ولكنها تظل تحت يد أهلها ينتفعون بها. وكون الأرض باقية لبيت المال لا تقسم رقبتها –وإنما يمكَّن الناس من الانتفاع بها- ظاهر في كونها غنائم عامة لجميع المسلمين سواء من وُجدوا حين الفتح أو من وُجد بعدهم.

      أمّا جزيرة العرب فإن أرضها كلها عشرية لأن النبي صلى الله عليه وسلم فتح مكة عنوة وتركها لأهلها ولم يوظف عليها الخراج، ولأن الخراج على الأرض بمنزلة الجزية على الرؤوس فلا يثبت في أرض العرب، كما لا تثبت الجزية في رقابهم، وذلك لأن وضع الخراج على البلاد من شرطه أن يترك أهلها وما يعتقدون وما يعبدون كما في سواد العراق، ومشركو العرب لا يقبل منهم إلاّ الإسلام أو السيف، قال تعالى: )فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم( وقال: )ستُدعَوْن إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون(، وما دام لم تؤخذ جزية منهم فكذلك لا يؤخذ خراج على أرضهم.

      وعلى هذا تكون رقبة الأرض في جميع البلاد التي افتتحها الإسلام ملكاً للدولة، وتعتبر أرضاً خراجية سواء أكانت لا تزال تحت يد الأمة الإسلامية كمصر والعراق والهند وتركيا أم أصبحت تحت يد الكفار كإسبانيا وأوكرانيا والقرم وألبانيا ويوغوسلافيا ونحوها، وكل أرض أسلم عليها أهلها كأندونيسيا وكل أرض في جزيرة العرب هي ملك لأهلها وتعتبر أرض عشرية.

      أما منفعة الأرض فهي من الأملاك الفردية سواء أكانت أرضاً خراجية أم أرضاً عشرية، وسواء أقطَعَتهم إياها الدولة أو تبادلوها بينهم أو أحيوها أو احتجروها. وهذه المنفعة تعطي المتصرف بالأرض من الحقوق ما يعطى لمالك العين وله أن يبيعها ويهبها وتورَّث عنه، وذلك لأن للدولة أن تُقطِع (أي تعطي) الأراضي للأفراد سواء أكانت الأرض عشرية أم خراجية. إلاّ أن الإقطاع في الأرض الخراجية هو تمليك منفعة الأرض مع بقاء رقبتها لبيت المال، وأما في الأرض العشرية فهو تمليك لرقبة الأرض ومنفعتها.

      والفرق بين العشر والخراج هو أن العشر على ناتج الأرض وهو أن تأخذ الدولة من الزراعة للأرض عشر الناتج الفعلي إن كانت تسقى بماء المطر سقياً طبيعياً، وتأخذ نصف العشر عن الناتج الفعلي إن كانت الأرض تسقى بالساقية أو غيرها سقياً اصطناعياً، قال عليه الصلاة والسلام: {فيما سقت الأنهار والغيم العشر وفيما سقي بالساقية نصف العشر}، وهذا العشر يعتبر زكاة ويوضع في بيت المال ولا يصرف إلاّ لأحد الأصناف الثمانية المذكورين في آية )إنما الصدقات للفقراء والمساكين... ( الآية. قال عليه الصلاة والسلام: {الزكاة في الحنطة والشعير والتمر والزبيب} وقال: {والعشر في التمر والزبيب والحنطة والشعير}.

      وأمّا الخراج على الأرض فهو أن تأخذ الدولة من صاحب الأرض قدراً معيناً تقدر وتحدده بحسب إنتاج الأرض التقديري عادة، لا الإنتاج الفعلي، ويقدر على الأرض بقدر احتمالها حتى لا يظلم صاحب الأرض ولا بيت المال. ويحصَّل الخراج كل سنة من صاحب الأرض سواء زُرعت الأرض أم لم تزرع وسواء أخْصَبت أم أجْدَبت. {بعث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عثمان بن حنيف على السواد وأمره أن يمسحه فوضع على كل جريب عامر أو غامر مما يعمل مثله درهماً وقفيزاً}، وحدّث الحجاج بن أرطاة عن ابن عون {أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مسح السواد ما دون جبل حلوان فوضع على كل جريب عامر أو غامر يناله الماء بدلو أو بغيره زرع أو عطل درهماً وقفيزاً واحداً}، ويوضع الخراج في بيت المال في غير باب الزكاة، ويصرف على جميع الوجوه التي تراها الدولة كما يصرف سائر المال.



      إحياء المَوات



      مَوات الأرض: هي الأرض التي لم يظهر عليها أنه جرى عليها ملك أحد فلم يظهر فيها تأثير شيء من إحاطة أو زرع أو عمارة أو نحو ذلك، وإحياؤها هو إعمارها؛ أي جعلها صالحة للزراعة في الحال، فكل أرض مَوات إذا أحياها إنسان أصبحت ملكاً له، فالشرع يملِّكها من يحييها لما روى البخاري عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَن عمر أرضاً ليست لأحد فهو أحق بها}، وقد روى أبو داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أحاط حائطاً على أرض فهي له}، ورُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أحيا أرضاً ميتة فهي له}، وقال عليه السلام: {أيما قوم أحيوا شيئاً من الأرض أو عمروه فهم أحق به}، ويكون المسلم والذمي سواء لإطلاق الحديث.

      والإحياء غير الإقطاع، والفرق بينهما هو أن الإحياء يتعلق بمَوات الأرض التي لم يظهر عليها أنه جرى عليها ملك أحد فلم يظهر فيها تأثير شيء من إحاطة أو زرع أو عمارة أو نحو ذلك، وإحياء هذه الأرض هو عمارتها بأي شيء يدل على العمارة، وأمّا الإقطاع فهو إعطاء الأرض العامرة الصالحة للزراعة في الحال -أي التي يظهر عليها أنه سبق أن جرى عليها ملك أحد-، أمّا تحجير الأرض فهو كالإحياء سواء بسواء، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: {من أحاط حائطاً على أرض فهي له}، وقوله: {من أحاط حائطاً على شيء فهو له}، وقوله: {من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحق به}، ولأن التحجير يملك به المحجِر التصرف بنص الحديث، وللمحجر منع من يروم إحياء ما حجره، فإن قهره غيره فأحيا الأرض التي حجرها لم يملك ذلك ورُدت إلى المحجِر. ولأن التحجير مثل الإحياء في التصرف بالأرض ووضع اليد عليها، فإن باع المحجِر الأرض التي حجرها مَلَك بيعها لأنه حق مقابَل بمال، فتجوز المعاوضة عليه، ولو مات المحجِر، فإن ملكها ينتقل إلى ورثته كسائر الأملاك يتصرفون بها، وتُقسم عليهم حسب الفريضة الشرعية كما تُقسم سائر الأموال، وليس المراد من التحجير وضع أحجار عليها، بل المراد وضع ما يدل على أنه وضع يده عليها –أي ملكها-، فيكون التحجير بوضع أحجار على حدودها، ويكون التحجير بغير الحجر بأن غرز حولها أغصاناً يابسة، أو نقى الأرض وأحرق ما فيها من شوك، أو خضد ما فيها من الحشيش أو الشوك وجعلها حولها ليمنع الناس من الدخول، أو حفر أنهاراً ولم يسقها أو ما شاكل ذلك، يكون كله تحجيراً.

      والظاهر من الحديث أن التحجير كالإحياء إنّما يكون في الأرض الميتة ولا يكون في غيرها، فقول الرسول: {عاديّ الأرض لله وللرسول ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين} أي ليس لمحتجر في الأرض الميتة، أمّا الأرض غير الميتة فلا تملك بالتحجير ولا بالإحياء، بل تملك بإقطاع الإمام، لأن الإحياء والتحجير قد ورد بالأرض الميتة، فقال: {من أحيا أرضاً ميتة}، وميتة صفة يكون لها مفهوم معمول به فتكون قيداً، ومعنى ذلك أن غير الميتة من الأراضي لا تملك بالتحجير أو الإحياء.

      وهذا التفريق بين الأرض الميتة وغير الميتة يدل على أن الرسول أباح للناس أن يملكوا الأرض الميتة بالإحياء والتحجير، فأصبحت من المباحات، ولذلك لا تحتاج إلى إذن الإمام بالإحياء أو التحجير لأن المباحات لا تحتاج إلى إذن الإمام. أمّا الأراضي غير الميتة فلا تملك إلاّ إذا أقطعها الإمام، لأنها ليست من المباحات، وإنما هي مما يضع الإمام يده عليه، وهو ما يسمى بأراضي الدولة، ويدل على ذلك أن بلالاً المزني استقطع رسول الله أرضاً فلم يملكها حتى أقطعه إياها، فلو كانت تُملك بالإحياء أو التحجير لأحاطها بعلامة تدل على تملكه إياها، ولكان مَلَكها دون أن يطلب إقطاعه إياها.

    4. #19
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي





      التصرف في الأرض



      يُجبر كل من ملك أرضاً على استغلالها، ويُعطى المحتاج من بيت المال ما يمكّنه من هذا الاستغلال، ولكن إذا أهمل ذلك ثلاث سنين تؤخذ منه وتعطى لغيره، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {عاديّ الأرض لله ولرسوله ثم لكم من بعد، فمن أحيا أرضاً ميتة فهي له، وليس لمحتجر حق بعد ثلاث سنين}، وأخرج يحيى بن آدم من طريق عمرو بين شعيب قال: {أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ناساً من مزينة أو جهينة أرضاً فعطلوها فجاء قوم فأحيوها، فقال عمر: لو كانت قطيعة مني أو من أبي بكر لرددتها، ولكن من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وقال عمر: من عطل أرضنا ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له}، والمراد أنه قد مضى عليها أكثر من ثلاث سنين؛ أي لو كانت من أبي بكر لما مضى عليها ثلاث سنين، أو مني لما مضى عليها ثلاث سنين كذلك، ولكن من رسول الله، فقد مضت مدة تزيد على ثلاث سنين، فلا يمكن إرجاعها، وأخرج أبو عبيدة في الأموال عن بلال بن الحارث المزني: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطعه العقيق أجمع، قال: فلما كان زمان عمر قال لبلال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره على الناس، إنّما أقطعك لتعمل فخذ منها ما قدرت على عمارته ورُدّ الباقي}، وعلى هذا فلمالك الأرض أن يزرع أرضه بآلته وبذره وحيوانه وعماله وأن يستخدم لزراعتها عمالاً يستأجرهم للعمل بها، وإذا لم يقدر على ذلك تعينه الدولة، وإن لم يزرعها المالك أعطاها لغيره ليزرعها منحة دون مقابل، فإن لم يفعل وأمسكها يُمهل مدة ثلاث سنوات، فإن أهملها مدة ثلاث سنوات أخذتها الدولة منه وأقطعتها لغيره، فقد حدّث يونس عن محمد بن إسحاق عن عبد الله بن أبي بكر قال: {جاء بلال بن الحارث المزني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستقطعه أرضاً فأقطعها له طويلة عريضة، فلما ولي عمر قال له: يا بلال، إنك استقطعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضاً طويلة عريضة فقطعها لك، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يَمنع شيئاً يُسأله، وأنت لا تطيق ما في يديك، فقال: أجل، فقال: فانظر ما قويت عليها منه فأمسكه، وما لم تطق وما لم تقوَ عليه فادفعه إلينا نقسمه بين المسلمين، فقال: لا أفعل والله شيئاً أقطعنيه رسول الله، فقال عمر: والله لتفعلن، فأخذ منه ما عجز عن عمارته فقسمه بين المسلمين}، فهذا صريح في أن الأرض إذا لم يُطِق صاحبها زرعها وأهملها ثلاث سنوات أخذتها الدولة منه وأعطتها لغيره كما فعل عمر بن الخطاب مع بلال المزني في معادن القبلية.

      والحاصل أن الأرض تملك بالتحجير وتملك بإقطاع الخليفة وتملك بالإحياء وتملك بالميراث وتملك بالشراء، والنصوص التي وردت في أخذ الأرض ممن عطلها ثلاث سنين ذَكرت المحتجر وذَكرت من أقطعها له الخليفة ولم تذكر غيرهما من مالكي الأرض، وهم الوارث والمحيي والمشتري، فهل تعطيل كل أرض يملكها مالك مدة ثلاث سنين يجعل الخليفة يأخذها منه ويعطيها لغيره؟ أم أن ذلك خاص بالمحتجر ومن أقطعها له الخليفة؟ والجواب على ذلك أن الناظر في المحجر يجد أن التحجير للأرض مثل شرائها أو إرثها أو أي سبب من أسباب تملكها في التصرف بالأرض ووضع اليد عليها، فإن باع المحجر الأرض التي حجرها مَلَك بيعها لأنه حق مقابَل بمال، فتجوز المعاوضة عليه، ولو مات المحجر انتقل ملك الأرض إلى ورثته كسائر الأملاك يتصرفون بها وتقسم عليهم حسب الفريضة الشرعية، وكذلك شأن من يُقطعه الخليفة أرضاً، فليس إذن في المحتجر والمقطَع أرضاً أية صفة خاصة عن باقي المالكين تجعل أخذ الأرض إذا عطلت ثلاث سنين خاصاً بهما دون باقي المالكين بأسباب أخرى من أسباب التملك للأرض، أو تجعل المحتجر والمقطَع كلاً منهما قيداً لأخذ الأرض إذا عطلت ثلاث سنين، أمّا كونه نص عليهما دون غيرهما فلا يُفهم معنى القيدية لأنه ليس وصفاً مفهماً لكون الأخذ لمن عطل، إنّما هو لأنه محتجر أو لأنه أقطع، بل هو من قبيل النص على فرد من أفراد المطلق، وهو أخذ الأرض من مالكها إذا عطلها، فيكون النص عاماً، ويكون ذكر المحتجر والمقطَع ذكراً لفرد من الأفراد لا قيداً يمنع غيرهما، على أنه إذا ورد النص في حادثة يُنظر فيه، فإن وردت فيه العلّيّة كان نصاً عاماً فيما عُلّل فيه، والنص هنا تُفهم منه العلّيّة، وهو أن أخذ الأرض بعد ثلاث سنين لتعطيلها عن الزراعة، فيكون تعطيل الأرض ثلاث سنين هو علة أخذها، وعلى ذلك تكون علة أخذ الأرض من المحتجر هي كونه عطلها ثلاث سنين وليس كونه محتجراً، ولا كونه محتجراً عطلها، لأن التحجير للأرض لا يفيد علية أخذها لا منفرداً ولا مقروناً مع التعطيل، بل تعطيلها وحده هو الذي يفيد علية أخذها، فيكون تعطيل الأرض علة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً، فحيثما حصل تعطيل الأرض من مالكها ثلاث سنين أُخذت منه، سواء أكان ملكها بالتحجير أم بالإقطاع أم بالإرث أم غير ذلك، وإذا لم يعطلها المحتجر ثلاث سنين لا تؤخذ منه، على أن احتجار الأرض في قوله عليه السلام: {وليس لمحتجر} هو كناية عن تملكها، إذ جرت عادة مالك الأرض أن يحجر الأرض –أي يحيط حدودها بحجارة لتُعرف أنها ملكه وتُميّز عن ملك غيره، ولا يشترط أن يضع حجارة حتى يقال محتجر، بل لو وضع زرعاً أو شجراً على حدود الأرض أو حفر حدودها أو قام بأي عمل يدل على أنه وضع يده عليها فإن ذلك كله يقال له احتجار، ويقال لمن يفعله بالأرض محتجر، ولهذا يقول الرسول في حديث آخر: {من أحاط حائطاً على أرض}، والذي يدل على أن احتجار الأرض هو كناية عن تملكها ما يرشد إليه معنى كلمة (احتجر) لغة، فإن اللغة تقول: احتجر الشيء: وضعه في حجره –أي حضنه-، فاحتجر الأرض يعني حضنها بمعنى مَلَكها. وعلى هذا يكون معنى الحديث: ليس لمن حضن أرضاً –أي مَلَكها- حق بعد ثلاث سنين، سواء وضع على حدودها حجارة أو أحاط عليها حائطاً أو فعل أي شيء يدل على ملكيتها.

      هذا بالنسبة للنص. أمّا بالنسبة لما سار عليه عمر وسكت عنه باقي الصحابة فإن عمر قد حكم بالأرض التي أقطعها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مزينة وعمرها غيرهم لمن عمرها، ومنع مزين من أخذها وقال: {من عطل أرضاً ثلاث سنين لم يعمرها فجاء غيره فعمرها فهي له}، فهذا الكلام من عمر عام، إذ قال: {من عطل أرضاً}، وقال لبلال بن حارث المزني: {إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقطعك لتحجره على الناس، إنّما أقطعك لتعمل، فخذ منها ما قدرت على عمارته ورُدّ الباقي}، وأخذ منه بالفعل ما عجز عن عمارته. وتخصيص هذا بالإقطاع وحده دون مخصص صريح لا يجوز، بل يبقى عاماً، وأمّا كون الحادثة حصلت مع من أقطعها فهي تعبير عن واقعة وليست قيداً في هذه الحادثة.

      وعلى هذا فإن كل مالك للأرض إذا عطلها ثلاث سنين تؤخذ منه وتعطى لغيره مهما كان سبب ملكه للأرض، إذ العبرة بتعطيل الأرض لا بسبب ملكيتها، ولا يقال إن هذا أخذٌ لأموال الناس بغير حق، لأن الشرع جعل لملكية الأرض معنى غير معنى ملكية الأموال المنقولة، وغير معنى ملكية العقار، فجعل ملكيتها لزراعتها، فإذا عطلت المدة التي نص الشرع عليها ذهب معنى ملكيتها عن مالكها، وقد جعل الشرع تمليك الأرض للزراعة بالإعمار وتملكها بالإقطاع والميراث والشراء وغير ذلك، وجعل تجريدها من صاحبها بالإهمال، كل ذلك من أجل دوام زراعة الأرض واستغلالها.



      منع إجارة الأرض



      لا يجوز لمالك الأرض أن يؤجر أرضه للزراعة مطلقاً سواء أكان مالكاً لرقبتها ومنفعتها معاً أم مالكاً لمنفعتها فقط، أي سواء أكانت الأرض عشرية أم خَراجية، وسواء أكان الأجر نقوداً أم غيرها، كما أنه لا يجوز أن يؤجر الأرض للزراعة بشيء مما تنبته من الطعام أو غيره، ولا بشيء مما يخرج منها مطلقاً، لأنه كله إجارة، وإجارة الأرض للزراعة غير جائزة مطلقاً. فقد جاء في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من كانت له أرض فليزرعها أو ليمنحها فإنْ أبى فليُمسك أرضه}، وجاء في صحيح مسلم {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ للأرض أجراً وحظ}، وجاء في سنن النسائي {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كِراء الأرض، قلنا: يا رسول الله إذَن نكريها بشيء من الحب. قال: لا. قال: نكريها بالتبن. فقال: لا. قال: كنا نكريها على الربيع. قال: لا. ازرعها أو امنحها أخاك}، والربيع النهر الصغير أي الوادي، أي كنا نكريها على زراعة القِسم الذي على الربيع أي على جانب الماء. وصحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم {أنه نهى عن أن يؤخذ للأرض أجر أو حظ، وعن أن تُكرى بثلث أو بربع}، وقال صلى الله عليه وسلم: {من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه ولا يكاريها بثلث ولا بربع ولا بطعام مسمى}، ورُوي أن عبد الله بن عمر لقي رافع بن خديج فسأله فقال رافع: سمعت عَمَّيَّ، وكانا قد شهدا بدراً، يحدثان {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن كراء الأرض} وذكر الحديث وفيه أن ابن عمر ترك كراء الأرض.

      فهذه الأحاديث صريحة في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن تأجير الأرض. والنهي وإن كان يدل على مجرد طلب الترك غير أن القرينة هنا تدل على أن الطلب للجزم، فقد قالوا للرسول: نكريها بشيء من الحب، قال: لا. ثم قالوا له: نكريها بالتبن، فقال: لا. ثم قالوا: كنا نكريها على الربيع، فقال: لا. ثم أكد ذلك بقوله: {ازرعها أو امنحها أخاك}. وهذا واضح فيه الإصرار على النهي وهو للتأكيد. علاوة على أن التوكيد في العربية إما لفظياً بتكرار اللفظ وإما معنوياً، وهنا قد تكرر لفظ النهي فدل على التأكيد. وأمّا تأجير الرسول لأرض خيبر على النصف فليس من هذا الباب، لأن أرض خيبر كانت شجراً وليست أرضاً ملساء، بدليل ما رُوي عن عبد الله بن أبي بكر {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبعث إلى أهل خيبر عبد الله بن رواحة خارصاً بين المسلمين ويهود فيخرص عليهم}، وبعد أن أصيب عبد الله بن رواحة بمؤتة كان جبار بن صخر بن أمية بن خنساء أخو بني سلمة هو الذي يخرص عليهم بعد عبد الله بن رواحة، والخارص هو الذي يقدّر التمر وهو على أصوله قبل أن يجدّ. فهذا صريح بأن أرض خيبر شجر وليست أرضاً ملساء. وأمّا ما فيها من زرع فهو أقل من مساحة الشجر فيكون تابعاً له. وعليه فليست أرض خيبر من باب تأجير الأرض، بل هي من باب المساقاة، والمساقاة جائزة. وفوق ذلك فإنه بعد نهي الرسول صلى الله عليه وسلم امتنع الصحابة عن تأجير الأرض ومنهم عبد الله بن عمر، فدل على أنهم فهموا تحريم إجارة الأرض. غير أن تحريم إجارة الأرض إنّما هو إذا كانت إجارتها للزراعة، أمّا إن كانت إجارتها لغير الزراعة فيجوز، إذ يجوز أن يستأجر المرء الأرض لتكون مراحاً أو مقيلاً أو مخزناً لبضاعته أو للانتفاع بها بشيء معين غير الزراعة، لأن النهي عن تأجير الأرض مُنصَبّ على تأجيرها للزراعة كما يؤخذ من الأحاديث الصحيحة. فهذه الأحكام للأراضي وما يتعلق بها تُبين الكيفية التي قيّد بها الشارع المسلم حين يعمل لتنمية ملكيته عن طريق الزراعة.



      البيــــــع


      إن الله سبحانه وتعالى جعل المال سبباً لإقامة مصالح العباد في الدنيا، وشَرَع طريق التجارة لاكتساب تلك المصالح، لأن ما يحتاج إليه كل أحد لا يوجد ميسوراً في كل موضع، ولأن أخذَه عن طريق القوة والتغالب فساد، فلا بد أن يكون هنالك نظام يمكّن كل واحد من أخذ ما يحتاج إليه عن غير طريق القوة والتغالب، فكانت التجارة، وكانت أحكام البيع، قال الله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم(، والتجارة نوعان: حلالٌ يسمى في الشرع بيعاً، وحرامٌ يسمى ربا، كل واحد منهما تجارة، فإن الله أخبر عن الكَفَرة إنكارهم الفرق بين البيع والربا عقلاً، فقال عزّ وجلّ: )ذلك بأنهم قالوا إنّما البيع مثل الربا( ثم فرّق بينهما في الحِلّ والحُرمة بقوله تعالى: )وأحل الله البيع وحرّم الربا(، فعرفنا أن كل واحد منهما تجارة وأن الحلال الجائز منهما شرعاً هو البيع. وانعقاد هذا البيع يكون بلفظين، أحدهما يدل على الإيجاب والآخر يدل على القبول، وهما: بعتُ واشتريتُ، وما في معناهما قولاً وعملاً. ويجوز أن يتولى صاحب السلعة البيع وأن ينيب عنه وكيلاً أو رسولاً ليقوم بالبيع عنه، ويجوز أن يستأجر أجيراً ليقوم بالبيع عنه على أن يكون أجره معلوماً، فإن استأجره على جزء من الربح كان شريكاً مضارباً وانطبق عليه حكم المضارِب لا حكم الأجير، وكذلك يجوز أن يشتري المال بنفسه أو بواسطة وكيله أو رسوله أو أن يستأجر من يشتري له بنفسه.

      والحاصل أن التجارة جائزة، وهي نوع من أنواع تنمية الملك وواضحة في أحكام البيع والشركة. وقد وردت التجارة في القرآن والحديث، قال تعالى: )إلاّ أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألاّ تكتبوها(، وروى رفاعة {أنه خرج مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المصلى فرأى الناس يتبايعون، فقال: يا معشر التجار. فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم وأبصارهم إليه. فقال: إن التجار يُبعثون يوم القيامة فجاراً إلاّ من بَرّ وصَدَق}، وروى أبو سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء}.

      والتجارة نوعان: التجارة الداخلية والتجارة الخارجية. أمّا التجارة الداخلية فهي البيع والشراء الجاري بين الناس في السلع الموجودة لديهم، سواء أكانت من منتوجاتهم، زراعية كانت أم صناعية، أم من منتوجات غيرهم، ولكنها أصبحت في بلادهم يتبادلونها. أمّا التجارة الخارجية فهي شراء السلع من خارج البلاد وبيع سلع البلاد إلى خارجها، سواء أكانت هذه السلع زراعية أم صناعية. والتجارة الداخلية لا شيء فيها ولا قيود عليها إلاّ ما ورد من الأحكام المتعلقة بالبيع. أمّا السلع ونوع السلع ونقلها داخل البلاد من بلد إلى بلد فهو متروك لكل إنسان أن يتاجر ضمن أحكام الشرع وليس للدولة على التجارة الداخلية إلاّ حق الإشراف فقط.



      الاستصناع



      هو أن يستصنع الرجل عند آخر آنية أو سيارة أو أي شيء يدخل في الصناعة. والاستصناع جائز وثابت بالسنّة، فقد استصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتماً، واستصنع المنبر. وقد كان الناس يستصنعون في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسكت عنهم، فسكوته تقرير لهم على الاستصناع، وتقرير الرسول وعمله كقوله، دليل شرعي. والمعقود عليه هو المستصنَع فيه أي الخاتم والمنبر والخزانة والسيارة وغير ذلك. وهو على هذا الوجه من قبيل البيع وليس من قبيل الإجارة. أمّا لو أحضر الشخص للصانع المادة الخام وطلب منه أن يصنعها له شيئاً معيناً فإنه يكون حينئذ من قبيل الإجارة.

      والصناعة من حيث هي أساس هام من أسس الحياة الاقتصادية لأية أمّة وأي شعب في أي مجتمع، وقد كانت الصناعة مقتصرة على المصنع اليدوي وحده، فلمّا اهتدى الإنسان إلى استخدام البخار في تسيير الآلات، أخذ المصنع الآلي يحل تدريجياً محل المصنع اليدوي، ولماّ جاءت الاختراعات الحديثة حصل انقلاب خطير في الصناعة فزاد الإنتاج زيادة لم تكن تخطر ببال، وغدا المصنع الآلي أساساً من أسس الحياة الاقتصادية.

      والأحكام المتعلقة بالمصانع الآلية لا تخلو عن أن تكون من أحكام الشركة أو أحكام الإجارة أو أحكام البيع والتجارة الخارجية. فمن حيث إنشاء المصنع قد يكون بمال فرد، وهذا نادر. والغالب أن يكون بمال عدة أفراد يشتركون في إنشائه، وحينئذ تطبَّق عليه أحكام الشركات الإسلامية. وأمّا من حيث العمل فيه من إدارة أو عمل أو صنع أو غير ذلك فتطبَّق عليه أحكام إجارة الأجير. وأمّا من حيث تصريف إنتاجه فتطبَّق عليه أحكام البيع والتجارة الخارجية ويُمنع فيه التدليس والغبن والاحتكار، كما يُمنع التسعير، إلى غير ذلك من أحكام البيع. وأمّا التوصية على ما ينتجه من إنتاج صغير أو كبير قبل صنعه فإنه يطبَّق فيه أحكام الاستصناع سواء أكانت المادة الخام من الصانع أو من المستصنِع. ويحكم الشرع في إلزام المستصنِع بما صنع له أو عدم إلزامه.

    5. #20
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي



      الشركة في الإسلام



      الشركة في اللغة خلط النصيبيْن فصاعداً بحيث لا يتميز الواحد عن الآخر. والشركة شرعاً هي عقد بين اثنين فأكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي بقصد الربح. وعقد الشركة يقتضي وجود الإيجاب والقبول فيه معاً كسائر العقود. والإيجاب أن يقول أحدهما للآخر: شاركتك في كذا، ويقول الآخر: قبلت. إلاّ أنه ليس اللفظ المذكور بلازم بل المعنى، أي لا بد أن يتحقق في الإيجاب والقبول معنىً يفيد أن أحدهما خاطَب الآخر، مشافهة أو كتابة، بالشركة على شيء والآخر يقبل ذلك. فالاتفاق على مجرد الاشتراك لا يعتبر عقداً، والاتفاق على دفع المال للاشتراك لا يعتبر عقداً، بل لا بد أن يتضمن العقد معنى المشاركة على شيء، وشرط صحة عقد الشركة أن يكون المعقود عليه تصرفاً، وأن يكون هذا التصرف المعقود عليه عقد الشركة قابلاً للوكالة ليكون ما يستفاد بالتصرف مشتركاً بينهما.

      والشركة جائزة لأنه صلى الله عليه وسلم بُعث والناس يتعاملون بها فقررهم الرسول عليها فكان إقراره عليه السلام لتعامل الناس بها دليلاً شرعياً على جوازها. وروي أن البَراء بن عازب وزيد بن أرقم كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرهما {أنّ ما كان بنقد فأجيزوه وما كان نسيئة فردوه}، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {قال الله تعالى أنا ثالث الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه، فإن خان خرجتُ من بينهما}، ورواه الدارقطني بلفظ {يد الله على الشريكين ما لم يَخُن أحدهما صاحبه، فإذا خان أحدهما صاحبه رفعاه عنهما}.

      وتجوز الشركة بين المسلمين مع بعضهم وبين الذميين مع بعضهم وبين المسلمين والذميين، فيصح أن يشارك المسلم النصراني والمجوسي وغيرهم من الذميين. فقد عامَل رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر –وهم يهود- بنصف ما يخرج من الأرض على أن يعملوها بأموالهم وأنفسهم. وقد ابتاع الرسول صلى الله عليه وسلم طعاماً من يهودي بالمدينة ورهنه درعه، فمات عليه السلام وهي رهنٌ عنده. وأرسل إلى يهودي يطلب منه ثوبين إلى الميسرة. ولهذا فإن شراكة اليهود والنصارى وغيرهم من الذميين جائزة لأن معاملتهم جائزة. إلاّ أن الذميين لا يجوز لهم بيع الخمر والخنزير وهم في شركة مع المسلم، أمّا ما باعوه من الخمر والخنزير قبل مشاركتهم المسلم فثمنه حلال في الشركة. ولا تصح الشركة إلاّ من جائز التصرف لأنها عقد على التصرف في المال فلم يصح من غير جائز التصرف في المال، ولذلك لا تجوز شركة المحجور عليه ولا شركة كل من لا يجوز تصرفه.

      والشركة إما شركة أملاك أو شركة عقود. فشركة الأملاك هي شركة العين، كالشركة في عين يرثها رجلان أو يشتريانها أو يهبها لهما أحدٌ أو ما شاكل ذلك. وتعتبر شركة العقود هي موضع البحث في تنمية الملك. ويتبين من استقراء شركات العقود في الإسلام وتتبعها وتتبع الأحكام الشرعية المتعلقة بها والأدلة الشرعية الواردة في شأنها أن شركات العقود تندرج تحت خمسة أنواع هي: شركة العنان، وشركة الأبدان، وشركة المضاربة، وشركة الوجوه، وشركة المفاوضة. وهذه هي مجمل أحكامها:



      شركة العنان



      وهي أن يشترك بدنان بماليهما أي أن يشترك شخصان بماليهما على أن يعملا فيه بأبدانهما والربح بينهما. وسمّيت شركة عنان لأنهما يتساويان بالتصرف كالفارسين إذا سوَّيا بين فارسيهما وتساويا في السير فإن عنانيْهما يكونان سواء. وهذه الشركة جائزة بالسنّة وإجماع الصحابة، والناس يشتركون بها منذ أيام النبي صلى الله عليه وسلم وأيام الصحابة.

      وهذا النوع من الشركة يُجعل فيه رأس المال نقوداً، لأن النقود هي قيم الأموال وأثمان المبيعات. أمّا العروض فلا تجوز الشركة عليها إلاّ إذا قُوِّمَت وقت العقد وجُعلت قيمتها وقت العقد رأس المال. ويُشترط أن يكون رأس المال معلوماً يمكن التصرف به في الحال. فلا تجوز الشركة على رأس مال مجهول، ولا تجوز بمال غائب، أو بديْن، لأنه لا بد من الرجوع برأس المال عند المفاصلة، ولأن الديْن لا يمكن التصرف به في الحال، وهو مقصود الشركة. ولا يشترط تساوي المالية في القدر ولا أن يكون المالان من نوع واحد، إلاّ أنه يجب أن يقوّما بقيمة واحدة حتى يصبح المالان مالاً واحداً، فيصح أن يشتركا بنقود مصرية وسورية ولكن يجب أن يقوَّما بقيمة واحدة تقويماً يُذهب انفصالهما ويجعلهما شيئاً واحداً، لأنه يشترط أن يكن رأس مال الشركة مالاً واحداً شائعاً للجميع لا يَعرف أحد الشريكين ماله من مال الآخر. ويشترط أن تكون أيدي الشريكين على المال. وشركة العنان مبنية على الوكالة والأمانة لأن كل واحد منهما يكون بدفعه المال إلى صاحبه قد أمّنه، وبإذنه له في التصرف قد وكّله. ومتى تمت الشركة صارت شيئاً واحداً وصار واجباً على الشركاء أن يباشروا العمل بأنفسهم لأن الشركة وقَعَت على أبدانهم، فلا يجوز لأحدهم أن يوكل عنه من يقوم ببدنه مقامه في الشركة وفي التصرف، بل الشركة كلها تؤجِّر من تشاء وتستخدم بدن من تشاء أجيراً عندها لا عند أحد الشركاء.

      ويجوز لكل واحد من الشريكين أو الشركاء أن يبيع ويشتري على الوجه الذي يراه مصلحة للشركة، وله أن يقبض الثمن والمبيع ويخاصم في الديْن ويطالب به، وأن يحيل ويحال عليه، ويرد بالعيب، وله أن يستأجر من رأس مال الشركة ويؤجر لأن المنافع أجريت مجرى الأعيان فصار كالشراء والبيع، فله أن يبيع السلعة، كالسيارة مثلاً، وله أن يؤجرها باعتبارها سلعة للبيع، فصارت منفعتها في الشركة كالعين نفسها فأُجرِيَت مجراها. ولا يشترط تساوي الشريكين في المال بل يشترط تساويهما في التصرف. أمّا المال فيصح أن يتفاضلا في المال ويصح أن يتساويا، والربح يكون على ما شرطا، فيصح أن يشترطا التساوي في الربح ويصح أن يشترطا التفاضل فيه لقوله صلى الله عليه وسلم: {الربح على ما شرط العاقدان}. أمّا الخسارة في شركة العنان فإنها تكون على قدر المال فقط، فإن كان مالهما متساوياً في القدر فالخسارة بينهما مناصفة، وإن كان أثلاثاً فالخسران أثلاثاً، وإذا شرطا غير ذلك لا قيمة لشرطهما وينفذ حكم الخسارة دون شرطهما، وهو أن توزع الخسارة على نسبة المال. لأن البدن لا يخسر مالاً وإنما يخسر ما بذله من جهد فقط، فتبقى الخسارة على المال وتوزَّع عليه بنسبة حصص الشركاء لقوله صلى الله عليه وسلم: {الربح على ما شرط العاقدان والوضيعة على قدر المال}.





      شركة الأبدان



      وهي أن يشترك اثنان أو أكثر بأبدانهما فقط دون مالهما، أي فيما يكتسبانه بأيديهما أي بجهدهما من عمل معين، سواء أكان فكرياً أو جسدياً، وذلك كالصُنّاع يشتركون على أن يعملوا في صناعاتهم، فما يربحونه فهو بينهم. وكالمهندسين والأطباء والصيادين والحمالين والنجارين وسائقي السيارات وأمثالهم. ولا يُشترط اتفاق الصنائع بين الشركاء ولا أن يكونوا جميعاً صُنّاعاً. فلو اشترك صناع مختلفو الصنائع جاز لأنهم اشتركوا في مكسب مباح فَصَحّ، كما لو اتفقت الصنائع بينهم. ولو اشتركوا في عمل معين على أن يدير أحدهم الشركة والآخر يقبض المال والثالث يعمل بيده صحّت الشركة. وعلى ذلك يجوز أن يشترك عمال في مصنع سواء أكانوا كلهم يعرفون الصناعة أو بعضهم يعرف والبعض الآخر لا يعرف فيشتركون صناعاً وعمالاً وكتّاباً وحراساً، يكونون جميعاً شركاء في المصنع. إلاّ أنه يشترط أن يكون العمل الذي اشتركوا بالقيام به بقصد الربح عملاً مباحاً، أمّا إذا كان العمل محرماً فلا تجوز الشركة فيه.

      والربح في شركة الأبدان يكون بحسب ما اتفقوا عليه من مساواة أو تفاضل، لأن العمل يستحق به الربح ويجوز تفاضل الشريكين في العمل فجاز تفاضلهما في الربح الحاصل به، ولكل واحد منهما المطالبة بالأجرة كلها ممن استأجرهما، وبثمن البضاعة التي صنعوها ممن يشتريها. وللمستأجَر لهم أو المشتري منهم ما صنعوا من بضاعة دفع الأجرة جميعها أو دفع ثمن البضاعة جميعه إلى أي واحد منهما، وإلى أيهما دفعها برئ. وإنْ عمل أحد الشركاء دون شركائه فالكسب بينهم لأن العمل مضمون عليهم معاً. وبتضامنهم له وجبت الأجرة، فيكون لهم، كما كان الضمان عليهم. وليس لأحدهم أن يوكِّل عنه غيره شريكاً ببدنه، كما أنه ليس لأحدهم أن يستأجر أجيراً عنه شريكاً ببدنه لأن العقد وقع على ذاته فيجب أن يكون هو المباشر للعمل لأن الشريك بدنه هو، وهو المتعين في الشركة، ولكن يجوز أن يستأجر أحدهم أجراء، والاستئجار حينئذ يكون من الشركة وللشركة، ولو باشره واحد من الشركاء، ولا يكون نيابة عنه ولا وكالة ولا أجيراً عنه، ويكون تصرف كل شريك تصرفاً عن الشركة، ويَلزم كل واحد منهم ما يتقبله شريكه من أعمال.

      وهذه الشركة جائزة لِما روى أبو داود والأثرم بإسنادهما عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود: {اشتركتُ أنا وعمار بن ياسر وسعد بن أبي وقاص فيما نُصيب يوم بدر، فجاء سعد بأسيرين ولم اجيء أنا وعمار بشيء} وقد أقرهما الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك. وقال أحمد بن حنبل: أشرك بينهم النبي صلى الله عليه وسلم. فهذا الحديث صحيح، وهو صريح في اشتراك جماعة من الصحابة في أبدانهم في عمل يقومون به وهو قتال الأعداء ويقسمون ما ينالون من غنائم إن ربحوا المعركة. أمّا ما يقال من أن حكم الغنائم يخالف هذه الشركة، فإنه غير وارد على هذا الحديث، لأن حكم الغنائم نزل بعد معركة بدر هذه، فحين حصلت هذه الشركة بأبدانهم لم يكن حكم الغنائم موجوداً، وحكم الغنائم الذي نزل فيما بعد لا ينسخ الشركة التي حصلت وإنما يبين نصيب الغانمين ويبقى حكم شركة الأبدان ثابتاً بهذا الحديث ما دام الحديث قد ثبتت صحته.



      شركة المضاربة



      وتسمى قراضاً وهي أن يشترك بدن ومال. ومعناها أن يدفع رجل ماله إلى آخر يتّجر له فيه، على أن ما حصل من الربح بينهما حسب ما يشترطانه. إلاّ أن الخسارة في المضاربة لا تخضع لاتفاق الشريكين، بل لما ورد في الشرع. والخسارة في المضاربة تكون شرعاً على المال خاصة ليس على المضارِب منها شيء، حتى لو اتفق رب المال والمضارِب على أن الربح بينهما والخسارة عليهما، كان الربح بينهما والخسارة على المال لقوله صلى الله عليه وسلم: {الربح على ما شرط العاقدان والوضيعة على قدر المال}، والبدن لا يخسر مالاً وإنما يخسر ما بذله من جهد فقط فتبقى الخسارة على المال.

      ولا تصح المضاربة حتى يسلَّم المال إلى العامل ويُخلى بينه وبينه، لأن المضاربة تقتضي تسليم المال إلى المضارِب. ويجب في المضاربة تقدير نصيب العامل، وأن يكون المال الذي تجري المضاربة عليه قدراً معلوماً. ولا يصح أن يعمل رب المال مع المضارِب ولو شرط عليه لم يصح، لأنه لا يملك التصرف بالمال الذي صار للشركة، ولا يملك رب المال التصرف بالشركة مطلقاً، بل المضارِب هو الذي يتصرف، وهو الذي يعمل، وهو صاحب اليد على المال. وذلك لأن عقد الشركة حصل على بدن المضارب ومال رب المال ولم يقع العقد على بدن رب المال، فصار كالأجنبي عن الشركة لا يملك أن يتصرف فيها بشيء. إلاّ أن المضارِب مقيّد بما أذِن له رب المال من تصرف، ولا يجوز له أن يخالفه لأنه متصرف بالإذن، فإذا أذن له أن يتاجر بالصوف فقط أو منعه من أن يشحن البضاعة في البحر فإن له ذلك، لكن ليس معنى هذا أن يتصرف رب المال بالشركة، بل معناه أن المضارِب مقيّد في حدود ما أذن له رب المال، ولكن مع ذلك فالتصرف في الشركة محصور بالعامل فقط وليس لرب المال أية صلاحية في التصرف.

      ومن المضاربة أن يشترك مالان وبدن أحدهما. فلو كان بين رجلين ثلاثة آلاف لأحدهما ألف وللآخر ألفان، فأذِنَ صاحب الألفين لصاحب الألف أن يتصرف فيها على أن يكون الربح بينهما نصفين صحّت الشركة ويكون العامل هو صاحب الألف مضارباً عند صاحب الألفين وشريكاً له. وكذلك من المضاربة أن يشترك مالان وبدن غيرهما، فإنها كلها تدخل في باب المضاربة.

      والمضاربة جائزة شرعاً لما رُوي أن العباس بن عبد المطلب كان يدفع مال المضاربة ويشترط على المضارِب شروطاً معينة، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فاستحسنه. وانعقد إجماع الصحابة على جواز المضاربة، فقد رُوي عن حميد بن عبد الله عن أبيه عن جده {أن عمر بن الخطاب أعطاه مال يتيم مضاربة يعمل به في العراق}، وعن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده {أن عثمان قارضه}، وعن ابن مسعود وحكيم بن حزام {أنهما قارضا}، وقد كان ذلك على مرأى من الصحابة ولم يُروَ مخالف له ولم ينكِر أحد فكان ذلك إجماعاً منهم على المضاربة.



      شركة الوجوه



      وهي أن يشترك بدنان بمال غيرهما. أي أن يدفع واحد ماله إلى اثنين أو أكثر مضاربة فيكون المضاربان شريكيْن في الربح بمال غيرهما. فقد يتفقان على قسمة الربح أثلاثاً لكل واحد منهما الثلث وللمال الثلث، وقد يتفقان على قسمته أرباعاً للمال الربع ولأحدهما الربع وللآخر النصف، وقد يتفقان على غير ذلك من الشروط. وبهذه الشروط الممكنة الحصول يمكن أن يحصل تفاضل بين العامليْن في الربح فصار اشتراكهما مع تفاضل حصصهما مبنياً على وجاهة أحدهما أو وجاهتهما، إمّا من ناحية المهارة في العمل وإما من ناحية حسن التصرف في الإدارة مع أن التصرف الشرعي الذي يملكانه في المال واحد. ومن أجل ذلك صارت هذه الشركة قسماً من نوع آخر غير شركة المضاربة مع أنها في حقيقتها ترجع إلى المضاربة.

      ومن شركة الوجوه أن يشترك اثنان فأكثر فيما يشتريانه بثقة التجار بهما وجاههما المبني على هذه الثقة من غير أن يكون لهما رأس مال. ويشترطان على أن يكون ملكهما فيما يشتريانه نصفين أو ثلاثاً أو أرباعاً أو نحو ذلك، ويبيعان ذلك، فما يكسبانه من ربح فهو بينهما مناصفةً أو أثلاثاً أو أرباعاً أو نحو ذلك حسب ما يتفقان عليه، لا حسب ما يملكان في البضاعة. أمّا الخسارة فتكون على قدر ملكيْهما في المشتريات لأنه بمقام مالهما، لا على حسب ما يشترطان من خسارة ولا على حسب الربح سواء أكان الربح بينهما بقدر مشترياتهما أو مختلفاً عنهما، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام: {الربح على ما شرط العاقدان والوضيعة على قدر المال}.

      وشركة الوجوه بقسميها جائزة، لأنهما إذا اشتركا بمال غيرهما كانت من قبيل شركة المضاربة الثابتة بالسنّة والإجماع. وإن اشتركا فيما يأخذانه من مال غيرهما، أي فيما يشتريانه بجاههما وثقة التجار بهما فهي من قبيل شركة الأبدان الثابتة بالسنّة، فتكون شركة الوجوه ثابتة بالسنّة والإجماع.

      إلاّ أنه ينبغي أن يُعلم أن المراد بالثقة هنا الثقة المالية وهي الثقة بالسداد وليس الجاه والوجاهة. لأن الثقة إذا أُطلِقَت في موضوع التجارة والشركة ونحو ذلك فإنّما يُقصد منها الثقة بالسداد، وهي الثقة المالية. وعلى ذلك قد يكون الشخص وجيهاً ولكنه غير موثوق بالسداد، فلا توجد فيه ثقة مالية ولا يعتبر أن لديه ثقة تعتبر في موضوع التجارة والشراكة، فقد يكون وزيراً أو غنياً أو تاجراً كبيراً ولكن لا توجد به ثقة بالسداد فلا تكون به ثقة مالية ولا يؤمَّن على شيء، فإنه لا يستطيع أن يشتري من السوق أية بضاعة دون أن يدفع ثمنها. وقد يكون شخص فقيراً ولكن التجار يثقون بسداده ما عليه من المال، فإنه يستطيع أن يشتري بضاعة دون أن يدفع ثمنها. وعلى هذا فشركة الوجوه تتركز فيها الثقة بالسداد لا الوجاهة. وعلى ذلك فإن ما يحصل في بعض الشركات من إدخال وزير عضواً في شركة ويُجعل له نصيباً معيناً من الربح دون أن يدفع أي مال أو يشترك بأي جهد، وإنما أُشرِك لمنزلته في المجتمع حتى يسهّل للشركة معاملاتها، فإن ذلك ليس من قبيل شركة الوجوه ولا ينطبق عليه تعريف الشركة في الإسلام، فلا يجوز هذا النوع من الاشتراك ولا يكون هذا الشخص شريكاً ولا يحل له أن يأخذ شيئاً من هذه الشركة.

      وما يحصل في بعض البلدان كالسعودية والكويت من أن غير السعودي أو غير الكويتي لا يُسمح له برخصة للتجارة أو للعمل، فيُدخِل معه سعودياً في السعودية أو كويتياً في الكويت ويجعل له حصة من الربح دون أن يدفع هذا السعودي أو هذا الكويتي أي مال، ودون أن تُعقد الشركة على بدنه وإنما اعتُبِر شريكاً من أجل أن الرخصة أُخِذَت باسمه وجُعلت له حصـة من الربح مقابل ذلك، فهذا أيضاً ليس من شركة الوجوه ولا هو من الشركة الجائزة شرعاً، ولا يعتبَر هذا السعودي أو الكويتي شريكاً، ولا يحل له أن يأخذ شيئاً من هذه الشركة لأنه لا تنطبق عليه الشروط التي أوجب الشرع أن تتوفر في الشريك حتى يكون شريكاً شرعاً، وهي الاشتراك بالمال أو البدن أو الثقة التجارية بالسداد ليباشِر هـو العمل بما يأخذه من بضاعة بهذه الثقة.



      شركة المفاوضة



      وهي أن يشترك الشريكان في جميع أنواع الشركة المار ذكرها مثل أن يجمعا بين شركة العنان والأبدان والمضاربة والوجوه، وذلك كأن يدفع شخص مالاً لمهندسيْن شراكة مع مالهما مضاربة ليبنيا دُوراً لبيعها والتجارة فيها، واتفقا على أن يشتغلا بأكثر مما بين يديهم من مال وصارا يأخذان بضاعة من غير دفع ثمنها حالاً بناء على ثقة التجار بهما، فاشتراك المهندسيْن معاً ببدنهما شركة أبدان باعتبار صناعتهما، ودفعهما مالاً منهما يشتغلان به معاً شركة عنان، وأخذهما مالاً من غيرهما مضاربة شركة مضاربة، واشتراكهما في البضاعة التي يشتريانها بناء على ثقة التجار بهما شركة وجوه. فهذه الشركة جمعت جميع أنواع الشركات في الإسلام فيصحّ ذلك، لأن كل نوع منها يصح على انفراده فيصح مع غيره، والربح على ما اصطلحا عليه، فيجوز أن يُجعل الربح على قدر المالين ويجوز أن يتساويا مع تفاضلهما في المال، وأن يتفاضلا مع تساويهما في المال.

      هذا النوع من شركة المفاوضة جائز لورود النص بها. أمّا ما يذكره بعض الفقهاء من أنواع شركة المفاوضة الأخرى، وهي أن يشترك الرجلان فيتساويان في ماليهما وتصرفهما وديْنهما يفوض كل واحد منهما إلى صاحبه على الإطلاق فلا يجوز مطلقاً، لأنه لم يرد نص شرعي دليلاً عليها، ولأن الحديث الذي يستشهدون به وهو {إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة} أو حديث {فاوضوا فإنه أعظم للبركة}، لم يصح شيء من هذين الحديثين ولا في معناهما على فرض صحة دلالتهما، ولأن هذه الشركة شركة على مال مجهول وعمل مجهول وهذا وحده كاف لعدم صحة هذه الشركة، ولأن من مالهما الإرث الذي يصير إليهما بعد وفاة المورِّث وقد يكون أحدهما ذمياً فكيف يُجعل له نصيب في الإرث؟ ولأن الشركة تتضمن معنى الوكالة، والوكالة بمجهول الجنس لا تجوز. فكان كله دالاً على عدم صحة هذا النوع من شركة المفاوضة.



      فسخ الشركة



      والشركة من العقود الجائزة شرعاً وتبطل بموت أحد الشريكين أو جنونه أو الحجر عليه لسفه، أو بالفسخ من أحدهما، لأنها عقد جائز فبطلت بذلك كالوكالة، فإن مات أحد الشريكين وله وارث رشيد فله أن يقيم على الشركة ويَأذن له الشريك في التصرف، وله المطالبة بالقسمة. وإذا طلب أحد الشريكين الفسخ وجب على الشريك الآخر إجابة طلبه. وإذا كانوا شركاء وطلب أحدهم فسخ الشراكة ورضي الباقون ببقائها فُسخت الشركة التي كانت قائمة وجُددت بين الباقين. إلاّ أنه يفرَّق في الفسخ بين شركة المضاربة وغيرها، ففي شركة المضاربة إذا طلب العامل البيع وطلب المضارِب القسمة، أُجيب طلب العامل لأن حقه في الربح ولا يظهر الربح إلاّ في البيع. أمّا في باقي أنواع الشركة إذا طلب أحدهما القسمة والآخر البيع أُجيب طلب القسمة دون طلب البيع.

    6. #21
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي



      الشركات الرأسمالية



      الشركة في النظام الرأسمالي عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهما في مشروع مالي بتقديم حصة من مال أو عمل لاقتسام ما قد ينشأ عن هذا المشروع من ربح أو خسارة. وهي قسمان: شركات الأشخاص وشركات الأموال.

      أمّا شركات الأشخاص فهي التي يدخل فيها العنصر الشخصي، ويكون له أثر في الشركة وفي تقدير الحصص، وذلك كشركات التضامن وشركات التوصية البسيطة، بخلاف شركات الأموال فإنه لا يكون فيها للعنصر الشخصي أي وجود ولا أي اعتبار أو أي أثر، بل هي قائمة على انتفاء وجود العنصر الشخصي وانفراد العنصر المالي فقط في تكوين الشركة وفي سيرها، وذلك كشركات المساهمة وشركات التوصية بالأسهم.



      شركة التضامن



      هي عقد بين شخصين أو أكثر يتفقان فيه على الاتجار معاً بعنوان مخصوص، ويلتزم جميع أعضائها بديون الشركة على جميع أموالهم بالتضامن من غير قيد وحدّ، لذلك لا يمكن أن يتنازل أي شريك عن حقوقه في الشركة لغيره إلاّ بإذن باقي الشركاء، وتنحلّ الشركة بموت أحد الشركاء أو الحجر عليه أو إفلاسه، ما لم يوجد اتفاق يخالف ذلك. وأعضاء هذه الشركة متضامنون في تعهداتها قِبَل الغير في تنفيذ جميع تعهدات الشركة، ومسؤوليتهم في ذلك غير محدودة، فكل شريك مطالَب بأداء جميع ديون الشركة لا من أموال الشركة فحسب بل من أمواله أيضاً، فعليه أن يوفي بأمواله هو ما نقص من ديون الشركة بعد نفاد مالها. ولا تسمح هذه الشركة باتساع المشروع، ويتم تكوينها من أشخاص قلائل يثق كل منهم بالآخر ويعرفه معرفة جيدة، وأهم اعتبار فيها شخصية الشركاء لا من حيث كونه بدناً فقط بل من حيث مركزه وتأثيره في المجتمع.

      وهذه الشركة فاسدة لأن الشروط التي تنص عليها تخالف شروط الشركات في الإسلام، لأن الحكم الشرعي أنه لا يُشترَط في الشريك إلاّ كونه جائز التصرف فقط، وأن للشركة أن توسِّع أعمالها، فإذا اتفق الشركاء على توسيع الشركة إما بزيادة رأسمالهم أو بإضافة شركاء، فهم مطلَقو التصرف يفعلون ما يشاؤون، ولأن الشريك غير مسؤول في الشركة شخصياً إلاّ بنسبة ما له من حصة فيها، ولأن له الحق أن يترك الشركة في أي وقت يريد دون حاجة لموافقة الشركاء؛ والشركة لا تنحل بموت أحد الشركاء أو الحجر عليه بل تنفسخ شراكته هو وحده وتبقى شراكة باقي الشركاء إذا كانت الشركة مؤلفة من أكثر من اثنين. هذه هي الشروط الشرعية، فاشتراط شركة التضامن بخلاف هذه الشروط، بل نقيضها، يجعلها شركة فاسدة ولا يجوز الاشتراك بها شرعاً.



      شركات المساهمة



      شركات المساهمة هي شركة مكوَّنة من شركاء يجهلهم الجمهور. والمؤسِّس في شركة المساهمة هو كل من وَقَّع العقد الابتدائي لأن العقد الابتدائي هو الذي يوجِد بين موقِّعيه التزامات بالعمل على تحقيق الهدف المشترك وهو الشركة. ويكون الاكتتاب في الشركة بالتزام الشخص بشراء سهم أو أكثر في مشروع الشركة مقابل قيمتها الاسمية. وهو ضرب من ضروب التصرف بإرادة منفردة، أي يكفي الشخص أن يشتري الأسهم ليصبح شريكاً، رَضِيَ به باقي الشركاء أم لا. ويحصل الاكتتاب بوسيلتين: الأولى يختص فيها المؤسسون بأسهم الشركة ويوزعونها فيما بينهم دون عرضها على الجمهور، وذلك بتحرير القانون النظامي للشركة المتضمن الشروط التي ستسير عليها الشركة ثم توقيعه من قِبلهم، فكل من يوقّع القانون يعتبر مؤسساً وشريكاً، ومتى تم توقيع الجميع فقد تأسست الشركة. والوسيلة الثانية التي يحصل فيها الاكتتاب وهي المنتشرة في العالم، هي أن يقوم بضعة أشخاص في تأسيس الشركة ويضعون نظامها ثم تُطرح الأسهم مباشرة على الجمهور للاكتتاب العام فيها وحين ينتهي أجل الاكتتاب في الشركة تدعى الجمعية التأسيسية للشركة للنظر في التصديق على نظام الشركة وتعيين مجلس الإدارة لها. ويجوز لكل مساهم مهما كان عدد أسهمه حق الحضور في الجمعية التأسيسية ولو كان مالكاً لسهم واحد. وتبدأ الشركة أعمالها عند انتهاء الزمن المحدد لإقفال الاكتتاب.

      وكلتا الوسيلتين شكل واحد هو دفع الأموال. ولا تُعتبر الشركة قد انعقدت إلاّ بانتهاء توقيع المؤسسين في الوسيلة الأولى، وانتهاء أجل الاكتتاب في الوسيلة الثانية. فعقد الشركة عقد بين أموال فحسب ولا وجود للعنصر الشخصي فيها مطلقاً، فالأموال هي التي اشتركت لا أصحابها. وهذه الأموال اشتركت مع بعضها دون وجود أي شخص، ولذلك لا صلاحية لأي شريك مهما بلغت أسهمه بأن يتولى أعمال الشركة بوصفه شريكاً، ولا حق له بأن يعمل بها أو يسيّر أي شيء من أعمالها باعتباره شريكاً، وإنما الذي يتولى أعمال الشركة ويعمل بها ويسيّرها ويشرف على كل أعمالها شخص يطلق عليه اسم المدير المنتدب، ينيط به ذلك مجلس الإدارة. ومجلس الإدارة هذا يُنتخب من الجمعية العمومية التي يكون فيها لكل شخص من الأصوات بمقدار ما يملك من الأموال، لا بمقدار شخصيته، لأن الشريك هو المال، فهو الذي يحدد عدد الأصوات، فلكل سهم صوت وليس لكل شخص صوت، فلا يوجد في شركة المساهمة أي اعتبار لشخص المساهم، وإنما الاعتبار هو لرؤوس الأموال فقط. وشركة المساهمة دائمية، ولا تتقيد بحياة الأشخاص، فقد يموت الشريك فلا تنحلّ الشركة، وقد يُحجر عليه ويبقى في الشركة. وأمّا رأس مال الشركة فإنه يُقسَم إلى عدد من الحصص متساوية القيمة يطلق عليها اسم الأسهم. والمساهم شريك لا تُستقصى صفاته الشخصية، ومسؤوليته محدودة بقدر حصته في رأس المال، فلا يلزم الشركاء من الخسارة إلاّ بمقدار أسهمهم فيها، وحصته قابلة للتداول، فله أن يبيعها، أو يشرك معه فيها غيره، دون إجازة بقية الشركاء. والأسهم التي يملكها كل شخص أوراق مالية تمثل رؤوس أموال، فقد تكون اسمية وقد تكون لحاملها، وهي تنتقل من ملكية شخص إلى آخر. والمتموِّل الذي يكتتب في الأسهم لا يُلزم إلاّ بدفع قيمتها الاسمية، فالسهم جزء من كيان الشركة غير قابل للتجزئة وليس هو جزءاً من رأس مالها. وأوراق الأسهم هي بمثابة ورقة تسجيل في هذه الحصة وقيمتها ليست واحدة وإنما تتغير حسب أرباح الشركة أو خسارتها، وهذا الربح أو الخسارة ليس واحداً في كل السنين فقد يختلف أو يتفاوت. فالأسهم إذن لا تمثل رأس المال المدفوع عند تأسيس الشركة وإنما تمثل رأس مال الشركة حين البيع، أي في وقت معين، فهي كورقة النقد يهبط سعرها إذا كانت سوق الأسهم منخفضة ويرتفع حين تكون سوق الأسهم مرتفعة، وتنخفض قيمة الأسهم حين خسارة الشركة وترتفع حين ربحها. فالسهم بعد بدء الشركة بالعمل انسلخ عن كونه رأس مال وصار ورقة مالية لها قيمة معينة ترتفع وتنزل حسب السوق بحسب أرباح الشركة وخسارتها أو بحسب إقبال الناس عليها وإدبارهم عنها، فهو سلعة تخضع للعرض والطلب. والأسهم تنتقل من يد لأخرى كانتقال الأوراق المالية بين الناس دون أدنى إجراءات كتابية في دفاتر الشركة إذا كانت الأسهم لحاملها، وبإجراءات كتابية في الشركة إذا كانت تحمل إسم المساهم.

      وتعتبر الشركة رابحة إذا زادت قيمة موجودات الشركة على قيمة مطلوباتها عند الجرد السنوي، فما زاد فهو الربح، وتوزع الأرباح سنوياً في تمام السنّة المالية للشركة، فإذا ارتفعت قيمة موجودات الشركة بسبب ظروف فجائية دون أن تكون هناك أرباح فلا مانع من إجراء توزيع هذه الزيادة. أمّا إذا حدث العكس فانخفضت قيمة موجودات الشركة ولكن الشركة ربحت، إلاّ أن أرباحها إذا ضُمت إلى انخفاض قيمة الموجودات ولم يزد على قيمة مطلوباتها، فلا محل لتوزيع الأرباح. وحين توزيع الربح تخصص حصة من الأرباح للاحتياطي ويُصرف الباقي بعد ذلك على المساهمين. وتعتبر الشركة شخصاً معنوياً لها أن تقاضي ويُتقاضى باسمها أمام المحاكم كما أن لها محل إقامة خاص وجنسية خاصة. ولا يسد مسدها أي مساهم فيها ولا أي عضو إدارة بوصفه شريكاً أو بوصفه الشخصي، وإنما يملك ذلك من يفوض له أن ينطق باسم الشركة فيكون المتصرف هو الشركة أي الشخصية المعنوية لا الشخص المباشر للتصرف.

      هذه هي شركة المساهمة وهي من الشركات الباطلة شرعاً، ومن المعاملات التي لا يجوز للمسلم أن يقوم بها. أمّا وجه بطلانها وحرمة الاشتراك بها فيتبين مما يلي:

      1- أن تعريف الشركة في الإسلام هو: أنها عقد بين اثنين أو أكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي بقصد الربح. فهي عقد بين اثنين أو أكثر فلا تصح فيها الموافقة من جانب واحد بل لا بد أن تحصل الموافقة من جانبين أو أكثر. والعقد فيها يجب أن يكون منصباً على القيام بعمل مالي بقصد الربح. فلا يصح أن يكون منصباً على دفع المال فقط، ولا يكفي أن يكون الهدف مجرد الاشتراك فحسب. فالقيام بالعمل المالي هو أساس عقد الشركة، والقيام بالعمل المالي إما من المتعاقديْن، وإما من أحدهما ومال الآخر، ولا يتأتى أن يكون عقد بينهما على قيام غيرهما بعمل مالي، لأنه لا يكون عقداً، ولا يلزم به أحد. فالعقد إنّما يلتزم به العاقد، ويجري على تصرفاته هو لا على غيره، فيحتم أن يكون القيام بالعمل المالي محصوراً بين العاقديْن، إما منهما أو من أحدهما ومال الآخر. وكون القيام بالعمل المالي من أحد العاقديْن أمراً حتمياً حتى يتم قيام الشركة ووجودها، يحتم أنه لا بد أن يكون في الشركة بدن يجري العقد عليه. فيُشترط في الشركة في الإسلام وجود البدن فيها، فهو عنصر أساسي في انعقاد الشركة، فإذا وُجد البدن انعقدت الشركة وإذا لم يوجد البدن في الشركة لم تنعقد شركة ولم توجد من أساسها.

      وقد عَرّف الرأسماليون شركة المساهمة بأنها عقد بمقتضاه يلتزم شخصان أو أكثر بأن يساهم كل منهما في مشروع مالي بتقديم حصة من مال لاقتسام ما قد ينشأ من هذا المشروع من ربح أو خسارة، ومن هذا التعريف ومن واقع تأسيس الشركة بوسيلتيها السابقتين يتبين أنها ليست عقداً بين شخصين أو أكثر حسب أحكام الشرع الإسلامي. لأن العقد شرعاً هو إيجاب وقبول بين طرفين شخصين أو أكثر، أي أنه لا بد أن يكون هنالك طرفان في العقد: أحدهما يتولى الإيجاب بأن يبدأ بعرض العقد كأن يقول: زوجتك أو بعتك أو أجرتك أو شاركتك أو وهبتك أو ما شاكل ذلك، والآخر يتولى القبول كأن يقول: قبلتُ أو رضيت أو ما شاكل ذلك، فإن خلا العقد من وجود طرفين أو من الإيجاب والقبول لم ينعقد ولا يسمى عقداً شرعاً. وأمّا في شركة المساهمة فإن المؤسسين يتفقون على شروط الاشتراك ولا يباشرون الاشتراك بالفعل حين يتفقون على شروط الشركة، بل يتفاوضون ويتفقون على الشروط فقط، ثم يضعون صكاً هو نظام الشركة، ثم بعد ذلك يجري التوقيع على هذا الصك من كل من يريد الاشتراك. فيُعتبر توقيعه فقط قبولاً به. وحينئذ يعتبر مؤسساً ويُعتبر شريكاً، أي يتم اشتراكه حين يتم التوقيع أو حين ينتهي أجل الاكتتاب. وهذا واضح فيه أنه لم يوجد فيه طرفان أجرَيا العقد معاً، ولا يوجد فيه إيجاب وقبول، وإنما هو طرف واحد يوافق على الشروط فيصبح بموافقته شريكاً. فشركة المساهمة ليست اتفاقاً بين اثنين وإنما هي موافقة من شخص واحد على شروط. ولذلك قال عنها علماء الاقتصاد الرأسمالي وعلماء القانون الغربي بأن الالتزام فيها ضرب من ضروب التصرف بالإرادة المنفردة. والإرادة المنفردة هي كل شخص يَلتزم أمراً من جانبه للجمهور أو لشخص آخر بغض النظر عن موافقة الجمهور أو الشخص الآخر أو عدم موافقته، كالوعد بجائزة. وشركة المساهمة عندهم وفي حقيقتها يلتزم المساهم أو المؤسس أو أي موقِّع على الصك بالشروط التي يتضمنها بغض النظر عما إذا وافق غيره أم لا، وقد اعتبروها من أنواع التصرف بالإرادة المنفردة. وعلى هذا يكون عقد شركة المساهمة بالإرادة المنفردة عقداً باطلاً شرعاً لأن العقد شرعاً هو ارتباط الإيجاب الصادر من أحد العاقديْن بقبول الآخر على وجه يَظهر أثره في المعقود عليه. وعقد شركة المساهمة لم يحصل فيه ذلك، فهو لم يجرِ فيه اتفاق بين شخصين أو أكثر وإنما التزم بموجبه شخص واحد بالمساهمة في مشروع مالي. ومهما تعدد الملتزمون والشركاء فيعتبر الملتزم شخصاً واحداً.

      قد يقال إن الشركاء اتفقوا بينهم على شروط الشركة فيعتبر اتفاقهم إيجاباً وقبولاً وكتابة الصك أمر شكلي لتسجيل العقد الذي اتفقوا عليه فلماذا لا يسمى هذا عقداً؟

      والجواب على ذلك هو أن الشركاء اتفقوا بينهم على شروط الشركة ولكنهم حسب اتفاقهم لا يَعتبرون أنفسهم اشتركوا فعلاً، ولا يلتزمون بهذا الاتفاق على الشروط، بل يجوز لكل منهم أن يترك وأن لا يشترك بعد الاتفاق على الشروط، وبعد كتابة الصك. فهو غير ملزَم بالاتفاق على الشروط حسب اصطلاحهم واتفاقهم إلاّ بعد توقيعه للصك، فإذا وقّع الصك أصبح ملتزماً. وأمّا قبل ذلك فهو غير ملزَم وغير مرتبط بشيء. وعلى ذلك فاتفاقهم على الشروط قبل توقيع الصك لا يعتبر عقداً عندهم، وهو أيضاً ليس عقداً شرعاً لأن الاتفاق على شروط الاشتراك وعلى الاشتراك لا يعتبر عقد شركة، لأنهم حسب اتفاقهم غير ملزَمين به قبل التوقيع. والعقد ما التزم به العاقدان، ولهذا لا يعتبر اتفاقهم على شروط الشركة وعلى الاشتراك إيجاباً وقبولاً، فلا يعتبر حسب أحكام الشرع عقداً فضلاً عن كونه عندهم لا يعتبر عقداً.

      وقد يقال إن قبول الشريك بتوقيعه على العقد يعتبر إيجاباً منه لغيره، وتوقيعُ مَن بعده يعتبر قبولاً فلِمَ لا يعتبر عرض الصك بتوقيعه على العقد إيجاباً وتوقيعه قبولاً؟

      والجواب على ذلك أن كل شريك يوقع يكون قد قَبِل فقط، فهو قبول، والعرض لم يصدر عن أحد معين، أي أن الإيجاب لم يصدر عن أحد معين، فلا يوجد عارض، لا المؤسسون ولا الموقِّع الأول، وإنما يوجد قبول من كل شريك. فالموقِّع يقبل الشروط ويلتزم بها من نفسه دون عرضها عرض تصرف من أحد، أي دون أن يقول له أحد: شاركتك. أمّا إعطاؤه الصك للتوقيع فلا يعتبر عرض تصرف. وعلى هذا فواقع شركة المساهمة أن كل شريك فيها يقبل فقط، والقبول مع القبول لا يعتبر شرعاً عقداً، بل لا بد من الإيجاب بلفظ يدل على الإيجاب لا على القبول. ثم يأتي القبول بلفظ يدل على القبول. وعليه لا يعتبر أي شخص وقّع صك الشركة موجِباً بل الكل يعتبر قابلاً. فيكون قد صدر في الشركة قبول دون إيجاب، فلَمْ تنعقد.

      والرأسماليون يُطلقون على صك الشركة، أي نظامها، عقداً، ويقولون وقّع العقد. وأما شرعاً فلا يعتبر هذا الصك عقداً، وإنما العقد هو إيجاب وقبول بين طرفين، ومن هنا لا تعتبر شركة المساهمة عقداً شرعاً.

      على أن هذا العقد لم يحصل الاتفاق فيه على القيام بعقد مالي بقصد الربح، وإنما وافق فيه المؤسس أو المكتتب على أن يدفع مالاً في مشروع مالي، فهو خالٍ من عنصر الاتفاق على القيام بعمل، وإنما فيه الالتزام المفرد من الشخص بتقديم المال فقط دون أي اعتبار للعمل في الالتزام. وبما أن القيام بالعمل المالي هو الهدف من الشركة، وليس مجرد الاشتراك، فخلو العقد من الاتفاق على القيام بالعمل مُبطِل للعقد. وبذلك لم توجَد شركة بمجرد الموافقة على دفع المال لعدم وجود الاتفاق على القيام بالعمل المالي. ومن هنا كانت الشركة باطلة أيضاً.

      وقد يقال إن صك الشركة قد تضمّن نوع العمل الذي تقوم به، كمعمل سكّر أو تجارة أو ما شاكل ذلك فيكون قد حصل فيه الاتفاق على القيام بعمل مالي.

      والجواب على ذلك هو أن نوع العمل الذي ذُكِر إنّما هو العمل الذي ستقوم به الشركة ولكن لم يحصل الاتفاق على القيام به من طرف الشركاء. وإنما حصل الاتفاق على الاشتراك وعلى شروط الشركة فقط، وتُرك القيام بالعمل للشخصية المعنوية التي ستكون للشركة بعد تأسيسها. وعليه لم يحصل الاتفاق بين الشركاء على أن يقوموا هم بعمل مالي.

      وعلاوة على ذلك فإن الشركة في الإسلام يُشترط فيها وجود البدن أي وجود الشخص المتصرف، لأن المراد بالبدن في الشركة والبيع والإجارة وسائر العقود هو الشخص المتصرف وليس الجسم والجهد، فوجود البدن عنصر أساسي في انعقاد الشركة، فإذا وُجد البدن انعقدت الشركة، وإذا لم يوجد البدن في الشركة لم تنعقد شركة ولم توجَد من أساسها. وشركة المساهمة لا يوجد فيها بدن مطلقاً، بل تتعمد إبعاد العنصر الشخصي من الشركة، ولا تجعل له أي اعتبار، لأن عقد شركة المساهمة عقد بين أموال فحسب، ولا وجود للعنصر الشخصي فيها، فالأموال هي التي اشتركت مع بعضها لا أصحابها. وهذه الأموال اشتركت مع بعضها دون وجود بدن شريك معها. فعدم وجود البدن يجعل الشركة لم تنعقد، فهي باطلة شرعاً، لأن البدن هو الذي يتصرف بالمال وإليه وحده يستند التصرف بالمال، فإذا لم يوجد البدن لم يوجد التصرف.

    7. #22
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      وأمّا كون الأشخاص أصحاب المال هم الذين يباشرون الموافقة على المساهمة بالمال، وكونهم هم الذين يختارون مجلس الإدارة الذي يباشر العمل في الشركة، فلا يدل على أن هناك بدناً في الشركة، لأن موافقتهم كانت على جعل المال شريكاً لا على أن يكونوا هم شركاء. فالمال هو الشريك وليس صاحبه. وأمّا كونهم هم الذين يختارون مجلس الإدارة فليس معناه أنهم وكّلوا عنهم، بل إن أموالهم هي التي جرى التوكيل عنها من قِبلهم ولم يجر التوكيل عنهم بدليل أن المساهم له أصوات بقدر ما يملك, فالذي يملك سهماً واحداً له صوت واحد أي وكالة واحدة، والذي له ألف سهم له ألف صوت أي ألف وكالة، فتكون الوكالة عن المال لا عن الشخص، وهذا يدل على أن عنصر البدن مفقود منها وهي مؤلفة من عنصر المال فحسب.

      وبهذا يكون تعريف شركة المساهمة دالاً على أنه لم تتوفر فيها الشروط التي لا بد منها حتى تنعقد الشركة في الإسلام، إذ لم يحصل فيها اتفاق بين اثنين أو أكثر، وإنما هي التزام بإرادة منفردة من جانب واحد. ولم يُتّفَق فيها على القيام بعمل، وإنما التزَم فيها شخص بتقديم مال. وليس فيها بدن يباشر هو التصرفات بوصفه الشخصي في الشركة، وإنما فيها مال فقط دون وجود أي بدن. وبهذا يكون عقد شركة المساهمة من هذه الجهة باطلاً شرعاً، فتكون شركة المساهمة باطلة لأنها لم تنعقد شركة، ولا ينطبق عليها تعريف الشركة في الإسلام.

      2- الشركة عقد على التصرف بمال، وتنمية المال بها هي تنمية للملك، وتنمية الملك هي تصرف من التصرفات الشرعية، والتصرفات الشرعية كلها إنّما هي تصرفات قولية، وهي إنّما تصدر عن شخص لا عن مال، فلا بد أن تكون تنمية الملك من مالك التصرف أي من شخص لا من مال. وشركة المساهمة تجعل المال ينمو من نفسه دون بدن شريك، ودون شخص متصرف يملك حق التصرف، وتجعل التصرف للأموال، لأن شركة المساهمة إنّما هي أموال تجمعت وصارت لها قوة التصرف. ولذلك تُعتبر الشركة شخصاً معنوياً يكون لها وحدها حق التصرفات الشرعية من بيع وشراء وصناعة وشكوى وغير ذلك. ولا يملك الشركاء أي تصرف وإنما التصرف خاص بشخصية الشركة، مع أن الشركة في الإسلام إنّما يصدر فيها التصرف عن الشركاء فقط، ويتصرف أحدهما بإذن من الآخر ولا يكون لأموال الشركاء في مجموعها أي واقع يصدر عنه تصرف، بل التصرف محصور بشخص الشريك. وعلى ذلك تكون التصرفات التي تحصل من الشركة بوصفها شخصية معنوية باطلة شرعاً، لأن التصرفات يجب أن تصدر عن شخص معين، أي عن إنسان مشخَّص، وأن يكون هذا الشخص ممن يملكون التصرف، ولم يتحقق ذلك في شركة المساهمة.

      ولا يقال هنا إن الذي يباشر العمل في الشركة هم العمال وهم أجراء لأصحاب الأموال، وهم المساهمون، والذي يباشر الإدارة والتصرفات هم المدير ومجلس الإدارة، وهم وكلاء عن المساهمين.

      لا يقال ذلك، لأن الشريك متعين ذاتاً في الشركة، وعقد الشركة وقَع عليه بذاته، فلا يجوز له أن يوكِّل أحداً عنه ليقوم بأعمال الشركة، ولا أن يستأجر أحداً عنه ليقوم بأعمال الشركة، بل يتعين أن يقوم بنفسه في أعمال الشركة، فلا يجوز للشركاء أن يؤجروا عنهم أجراء للقيام عنهم ولا أن يوكّلوا مجلس إدارة عنهم. على أن مجلس الإدارة ليس وكيلاً عن أشخاص المساهمين، وإنما هو وكيل عن أموالهم، لأن الذي يجعله في الإدارة الأصوات التي ينالها في الانتخاب، وهي بحسب الأموال المساهمة في الشركة لا بحسب أشخاص الشركاء. وفضلاً عن ذلك فإن المدير ومجلس الإدارة لا يملكون التصرف في الشركة لثلاثة أسباب:

      أولاً: لأنهم يتصرفون بوكالتهم عن المساهمين، أي عن الشركاء بانتخابهم لهم، ولا يجوز للشريك أن يوكِّل عنه، لأن الشركة وقعت على ذاته. فكما لا يجوز أن يوكّل من يتزوج عنه- بل يجوز أن يوكّل عنه من يعقد له عقد الزواج- كذلك لا يجوز لا يوكّل من يتشارك عنه، بل يجوز أن يوكّل من يعقد له عقد الشركة لا من يكون شريكاً عنه.

      ثانياً: إن المساهمين أي الشركاء قد وكّلوا عن أموالهم لا عن أنفسهم، بدليل أن أصوات الانتخاب هي التي تعتبر في التوكيل وهي تعتبر حسب الأموال لا حسب الأشخاص. فيكون التوكيل عن أموالهم لا عن أشخاصهم.

      ثالثاً: إن المساهمين هم شركاء أموال فقط وليسوا شركاء بدن، وشريك المال لا يملك التصرف في الشركة مطلقاً فلا يصح أن يوكل عنه من تصرف في الشركة نيابة عنه.

      وعليه يكون تصرف مدير الشركة ومجلس الإدارة تصرفاً باطلاً شرعاً.

      3- إن كون الشركة المساهمة دائمية يخالف الشرع، فالشركة من العقود الجائزة شرعاً تَبطُل بموت أحد الشريكين وجنونه والحجر عليه وبالفسخ من أحد الشركاء، وإذا مات أحد الشركاء وله وارث يُنظر، فإن كان غير رشيد فليس له أن يستمر في الشركة، وإن كان رشيداً، له أن يقيم على الشركة ويَأذَن له الشريك في التصرف وله المطالبة بالقسمة. وإذا حُجِر على الشريك انفسخت الشركة لأنه لا بد أن يكون الشريك جائز التصرف. فكوْن شركة المساهمة دائمية وتستمر بالرغم من موت أحد الشركاء أو الحجر عليه يجعلها شركة فاسدة، لأنها اشتملت على شرط فاسد يتعلق بكيان الشركة وماهية العقد. وخلاصة الأمر أن شركة المساهمة لم تنعقد شركة أصلاً، لأن الذين وُجدوا هم شركاء المال فقط، ولم يوجد شريك البدن مع أن شريك البدن شرط أساسي، لأنه به تنعقد الشركة شركة، وبغيره لا تنعقد شركة، ولا تحصل بتاتاً. وفي شركات المساهمة يتم عندهم الاشتراك بوجود شركاء المال ليس غير. وتشتغل الشركة وتباشر أعمالها قبل أن يوجَد شريك البدن، ودون أن يكون له أي اعتبار. ومن هنا كانت شركة باطلة لأنها لم تنعقد شركة شرعاً. ثم إن الذين يباشِرون التصرفات في الشركة هم مجلس الإدارة، وهم وكلاء عن المساهمين، أي عن شركاء المال، والشريك لا يجوز له شرعاً أن يوكّل عنه وكيلاً يتصرف في الشركة نيابة عنه، سواء أكان شريك مال أم شريك بدن، لأن عقد الشركة وقع عليه بذاته فيجب أن يقوم هو بالتصرف. فلا يصح أن يوكّل عنه، أو يؤجر عنه من يقوم بالتصرف والعمل بالشركة. على أن شريك المال فقط لا يملك شرعاً التصرف في الشركة، ولا العمل فيها كشريك مطلقاً، بل التصرف في الشركة والعمل فيها محصور بشريك البدن ليس غير. وأيضاً فإن شركة المساهمة تصبح شخصية معنوية ويكون لهذه الشخصية حق التصرف، والتصرفات شرعاً لا تصح إلاّ من إنسان مشخّص له أهلية التصرف بأن يكون بالغاً عاقلاً أو مميزاً عاقلاً، وكل تصرف لم يصدر على هذا الوجه فهو باطل شرعاً. فإسناد التصرف إلى شخصية معنوية لا يجوز بل لا بد من إسناده إلى من يحوز أهلية التصرف من بني الإنسان. لذلك كانت شركات المساهمة باطلة، وكانت جميع تصرفاتها باطلة، وجميع الأموال التي كُسبت بواسطتها أموال باطلة كُسبت بتصرفات باطلة، فلا يحل ملكها.

    8. #23
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي



      أسهم شركة المساهمة



      أسهم الشركة هي أوراق مالية تمثل ثمن الشركة في وقت تقديرها، ولا تمثل رأس مال الشركة عند إنشائها. فالسهم جزء لا يتجزأ من كيان الشركة وليس هو جزءاً من رأس مالها، فهو بمثابة سند لقيمة موجودات الشركة. وقيمة الأسهم ليست واحدة وإنما تتغير بحسب أرباح الشركة أو خسارتها، وهي ليست واحدة في كل السنين بل تتفاوت قيمتها وتتغير. وعلى ذلك فالسهم لا يمثل رأس المال المدفوع عند تأسيس الشركة، وإنما هي –أي الأسهم- تمثل رأس مال الشركة حين البيع أي في وقت معين، فهي كورقة النقد يهبط سعرها إذا كانت سوق الأسهم منخفضة، ويرتفع حين تكون مرتفعة. فالسهم بعد بدء الشركة في العمل انسلخ عن كونه رأس مال وصار ورقة مالية لها قيمة معيّنة.

      والحكم الشرعي في الأوراق المالية هو أنه يُنظر فيها، فإن كانت سندات تتضمن مبالغ من المال الحلال كالنقد الورقي الذي له مقابل من الذهب أو الفضة يساويه أو ما شاكل ذلك فإن شراءها وبيعها يكون حلالاً لأن المال الذي تتضمنه حلال، وإن كانت سندات تتضمن مبالغ من المال الحرام كسندات الدين التي يستثمر فيها المال بالربا وكأسهم البنوك أو ما شاكل ذلك فإن شراءها وبيعها يكون حراماً لأن المال الذي تتضمنه مال حرام. وأسهم شركات المساهمة هي سندات تتضمن مبالغ المخلوط من رأس مال حلال ومن ربح حرام، في عقد باطل ومعاملة باطلة، دون أي تمييز بين المال الأصلي والربح، وهي في نفس الوقت سند بقيمة حصة من موجودات الشركة الباطلة، وقد اكتُسبت هذه الموجودات بمعاملة باطلة نهى الشرع عنها فكانت مالاً حراماً، فتكون أسهم شركة المساهمة متضمنة مبالغ من المال الحرام. وبذلك صارت هذه الأوراق المالية التي هي الأسهم مالاً حراماً لا يجوز بيعها ولا شراؤها ولا التعامل بها.

      بقيت مسألة ما وقع فيه المسلمون من شراء أسهم شركات المساهمة واشتراكهم في تأسيسها، ومن وجود أسهم لهم يملكونها بحكم مساهمتهم في هذه الشركات. هل كان عملهم هذا حراماً عليهم مع أنهم كانوا يجهلون الحكم الشرعي حين مساهمتهم أو أفتاهم مشايخ لم يدركوا واقع شركات المساهمة ما هي؟ وهل هذه الأسهم التي تحت تصرفهم ملك لهم وأموال حلال عليهم ولو كُسبت بمعاملة باطلة شرعاً؟ أم حرام عليهم ولا يملكونها ؟ وهل يجوز لهم بيع هذه الأسهم للناس أم لا يجوز؟

      والجواب على ذلك هو أن الجهل بالحكم الشرعي ليس عذراً. لأنه فرض عين على كل مسلم أن يتعلم ما يلزمه في حياته من الأحكام الشرعية حتى يتأتى له القيام بالعمل حسب الحكم الشرعي، إلا أنه إذا كان الحكم مما يُجهَل مثله على مثل الفاعل فلا يؤاخَذ في الفعل ويكون عمله صحيحاً، ولو كان حكم الشرع فيه أنه باطل، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع معاوية بن الحكم يشمِّت عاطساً وهو في الصلاة، فبعد أن فرغوا من الصلاة علّمه الرسول أن الكلام يُبطل الصلاة، وتشميت العاطس يُبطل الصلاة، ولم يأمره بإعادة الصلاة، لأن هذا الحكم، وهو كون الكلام يُبطل الصلاة كان مما يُجهَل عادة لمثل ذلك الشخص فعَذَرَه الرسول فيه واعتبر صلاته صحيحة. وشركات المساهمة كونها حراماً شرعاً من الأحكام التي يُجهَل مثلها على كثير من المسلمين، ولذلك يُعذَر فيها الجهل، فيكون عمل الذين اشتركوا صحيحاً ولو كانت الشركات باطلة، كصلاة معاوية بن الحكم فإنها صلاة صحيحة مع أنه عمل فيها ما يُبطل الصلاة ولكنه كان يجهل أن الكلام يُبطِل الصلاة. وإفتاء المشايخ أيضاً يجري عليه حكم الجهل بالنسبة للمستفتي، أمّا المفتي فليس معذوراً لأنه لم يبذل الوُسع في فهم واقع شركات المساهمة قبل أن يعطي الحكم فيها. وأمّا ملكية هؤلاء المساهمين للأسهم فهي ملكية صحيحة، وهي أموال حلال لهم ما دام حكم الشرع في عملهم أنه عمل صحيح وليس بباطل، لجهلهم ببطلانه جهلاً يُعذَرون فيه. وأمّا بيع هذه الأسهم لمسلمين فلا يجوز لأنها أوراق مالية باطلة شرعاً، وحلِّيّة ملكيتها جاءت طارئة من كون الجهل يُعذَر فيها، أمّا إذا عُرف الحكم الشرعي فيها أو أصبح مما لا يُجهَل مثله عند الشخص فإنه حينئذ يكون مالاً حراماً لا يباع ولا يشترى، ولا أن يَجعل غيره يلي بيعه له.

      وكيفية التخلص من هذه الأسهم التي مُلكت بسبب جهل الحكم الشرعي فيها تكون بحَلّ الشركة، أو تحويلها إلى شركة إسلامية، أو لينظروا شخصاً غير مسلم ممن يستحل أسهم شركات المساهمة فيولوه بيعها عنهم، ويأخذوا ثمنها. فعن سويد بن غفلة {أن بلالاً قال لعمر بن الخطاب إن عمالك يأخذون الخمر والخنازير في الخراج. فقال: لا تأخذوها منهم ولكن ولوهم بيعها، وخذوا أنتم الثمن}، ولم ينكِر أحد على عمر ذلك مع أنه مما يُنكَر لو كان يخالف الشرع، فكان إجماعاً. فالخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة، ولا تكون مالاً للمسلمين، فلما أرادوا إعطائها للمسلمين بدل جزية أمرهم عمر أن لا يقبلوها وأن يولوهم بيعها ويأخذوا ثمنها. ولماّ كانت الأسهم مالاً من أموال الرأسماليين الغربيين، ولا تكون مالاً للمسلمين، وقد آلت للمسلمين، فلا يصح أن يأخذوها، ولِيَلوهم بيعها. فكما أن حق المسلمين في الجزية والخراج قد استقر في الخمر والخنازير، وأباح لهم عمر أن يجعلوا الذميين يلون بيعها لهم، فكذلك حق المسلمين في هذه الأسهم يجوز لهم أن يجعلوا الذميين يلون بيعها لهم.



      الجمعيات التعاونية



      التعاونية هي نوع من أنواع الشركات الرأسمالية، فهي شركة وإن سمّيت جمعية تعاونية، فهي مساهمة بين مجموعة أشخاص اتفقوا فيما بينهم على القيام مشتركين بمقتضى فعاليتهم الخاصة.

      وتنشأ التعاونية في الشكل التجاري المألوف هادفة إلى مساعدة أعضائها أو ضمان مصالحهم الاقتصادية المحددة، وتكتسب التعاونية الشخصية المعنوية للشركة. وبذلك تختلف عن الجمعيات الأخرى بأن تلك الجمعيات مجردة أصلاً عن الأغراض الاقتصادية. فالتعاونية تعمل على تنمية ربح أعضائها وليس مصالح الغير مما يستدعي خلق رباط متين بين نشاطها الاقتصادي واقتصاديات كل من الأعضاء.

      وتؤلف الجمعية التعاونية بين عدد من الأعضاء قد يكون سبعة وقد يكون أقل وقد يكون أكثر، ولكنها لا تؤلف من شخصين اثنين فقط. وهي على نوعين: أحدهما شركة ذات حصص تأسيسية يمكن فيها لأي فرد اتخاذ صفة الشريك بحيازة هذه الحصص. وثانيها شركة بدون حصص تأسيسية يكون الانتساب إليها بدفع بدل اشتراك سنوي تحدده الجمعية العامة لها في كل دورة سنوية.

      ويجب أن تتوفر في التعاونية خمسة شروط:

      أحدها- حريّة الاشتراك في التعاونية: فيبقى باب الانتساب مفتوحاً أمام أي شخص بنفس الشروط السارية على الأعضاء السابقين، وأن تكون أنظمة التعاونية والقيود والتحفظات التي فيها منطبقة عليه سواء أكانت هذه القيود ذات طابع محلي كأهل القرية مثلاً أو ذات طابع مهني كالحلاقين مثلاً.

      ثانيها- تَساوي التعاونيين في الحقوق: وأهم هذه الحقوق التصويت، فيُمنح كل شريك صوتاً واحداً.

      ثالثها- تحديد فائدة معينة للحصص: تَدفع بعض الشركات التعاونية للمساهمين الدائمين فائدة محدودة، إذا ما سمحت أرباحها بذلك.

      رابعها- إعادة فائض أرباح الاستثمار: تعاد الأرباح الصافية إلى الأعضاء بنسبة العمليات التي أجْروها مع التعاونية من مشتريات أو استعمال خدمات التعاونية وأجهزتها.

      خامسها- وجوب تشكيل ثروة تعاونية بترحيل الاحتياطي.

      والذي يتولى التصرف بالشركة بإدارتها ومباشرة أعمالها هو مجلس الإدارة المنتخَب من الجمعية العمومية التي تتألف من المساهمين، على أن يكون لكل مساهم صوت بغض النظر عن أسهمه. فمَن له مائة سهم ومن له سهم واحد، لكل منهم صوت واحد في انتخاب الإدارة.

      والجمعيات التعاونية عدة أنواع: منها تعاونية الحِرَف، ومنها التعاونية الاستهلاكية، ومنها التعاونية الزراعية، ومنها التعاونية الإنتاجية، وهي في جملتها إما أن تكون تعاونية استهلاكية فيُقسَم فيها الربح بحسب المشتريات، أو تعاونية إنتاجية فيُقسَم فيها الربح بحسب الإنتاج.

      هذه هي الجمعيات التعاونية، وهي جمعيات باطلة تناقض أحكام الإسلام، وذلك لما يلي:

      1- إن الجمعية التعاونية شركة، فيجب أن تستكمل شروط الشركة التي نص عليها الشرع حتى تصح، والشركة في الإسلام هي عقد بين اثنين أو أكثر يتفقان فيه على القيام بعمل مالي بقصد الربح. وعلى ذلك فلا بد أن يكون في الشركة بدن حتى يتأتى القيام بعمل من قِبل الشركاء، أي لا بد أن يكون في الشركة بدن تكون له حصة حتى تسمى شركة شرعاً، فإن لم يكن في الشركة من يملك ويتصرف فيقوم بالعمل الذي وُجدت الشركة لأجله لم تحصل شركة. وإذا طبقنا هذا على الجمعية التعاونية وجدنا أنه لم تحصل بها شركة شرعاً لأنها شركة قائمة على الأموال وحدها وليس فيها بدن شريك، بل الأموال وحدها هي التي وقعت الشـراكة عليها، فلم يحصل فيها الاتفاق على القيام بعمل وإنما حصل الاتفاق على وضع أموال معينة من أجل أن يوجِدوا إدارة تبحث عمن يقوم بالعمل. فالأشخاص الذين ساهموا في الشركة اشتركت أموالهم فقط، فخَلَت بذلك الشركة من بدن. وعلى ذلك فإن الجمعية لم توجَد بوجودها شركة شرعية لخلوّها من شراكة البدن، فهي لا تعتبر موجودة من الأساس لأن الشركة عقد على التصرف بمـال، ولا يتأتى التصرف إلاّ من بدن، فإذا خلت منه لم تكن شركة شرعاً.

      2- ان قسمة الربح بنسبة المشتريات أو بحسب الإنتاج لا بنسبة رأس المال أو العمل، لا تجوز، لأن الشركة إذا وقعت على المال كان الربح تابعاً له، وإذا وقعت على العمل كان تابعاً له. فالربح إما أن يكون تابعاً للمال أو العمل أو لهما معاً. أمّا اشتراط قسمة الربح على حسب المبيعات أو حسب الإنتاج فلا يجوز لمخالفة العقد شرعاً، وكل شرط ينافي مقتضى العقد أو ليس من مصلحة العقد ولا مقتضاه فهو شرط فاسد. وتقسيم الربح حسب المشتريات وحسب الإنتاج ينافي مقتضى العقد لأن العقد يقع شرعاً على المال أو العمل، فالربح يكون بنسبة المال أو العمل، فإذا شُرِط الربح بنسبة المشتريات والإنتاج، كان الشرط فاسداً.



      التأميـن



      التأمين على الحياة أو على البضاعة أو على الممتلكات أو على أي نوع من أنواعه المتعددة هو عقد من العقود. فهو عقد بين شركة التأمين وبين الشخص المؤمِّن، يطلب فيه المؤمِّن من شركة التأمين أن تعطيه تعهداً بأن تعوّض عليه إما عين ما خسره أو ثمنه، بالنسبة للبضاعة أو الممتلكات، وإما مبلغاً من المال بالنسبة للحياة ومثلها، وذلك حين حصول حادث ما يعيّنانه خلال مدة معينة، مقابل مبلغ معين، فتقبل الشركة ذلك. وبناء على هذا الإيجاب والقبول تتعهد شركة التأمين بأن تعوّض على المؤمِّن ضمن شروط معينة يتفق عليها الفريقان، إما عين ما خسره أو ثمنه حين حصول الحادث، أو مبلغاً من المال يُتفق عليه، مثل إذا ما تلفت بضاعته أو تضررت سيارته أو احترق بيته أو سُرقت ممتلكاته أو مات أو ما شاكل ذلك خلال مدة معينة، مقابل أن يدفع لها المؤمِّن مبلغاً معيناً من المال خلال مدة معينة.

      ومن هذا يتبين أن التأمين هو اتفاق بين شركة التأمين والمؤمِّن على نوع التأمين وشروطه، فهو عقد. غير أنه بناء على هذا الذي تم بينهما –وهو الاتفاق- تعطي الشركة تعهداً بالتعويض أو دفع مبلغ معين ضمن الشروط التي جرى الاتفاق عليها. فإذا حصل للمؤمِّن حادث ينطبق على بنود العقد صارت الشركة ملزَمة بأن تعوّض العين المتلَفة أو ثمنها حسب سعر السوق حين حصول الحادث. والشركة هي المخيَّرة بين دفع الثمن أو تعويض العين إلى المؤمِّن أو للغير. وصار هذا التعويض حقاً من حقوق المؤمِّن في ذمة الشركة بمجرد حصول ما ذُكر في العقد إذا اقتنعت الشركة بالاستحقاق أو حكمت المحكمة بذلك.

      وقد اصطُلح على هذا اسم التأمين. وقد يكون التأمين لمصلحة المؤمِّن وقد يكون لمصلحة غيره كأولاده وزوجته وسائر ورثته أو أي شخص أو جماعة يعيّنهم المؤمِّن. وإطلاق اسم التأمين على الحياة أو على البضاعة أو على الصوت أو غير ذلك إنّما هو لتحبيب هذه المعاملة للناس، وإلاّ فالحقيقة أنه لا يؤمِّن على الحياة وإنما يؤمِّن على الحصول على مبلغ معين لأولاده أو لزوجته أو لسائر ورثته أو لأي شخص أو جماعة يعيّنهم المؤمِّن إذا حصل له الموت. وهو لا يؤمِّن على البضاعة ولا على السيارة ولا على الممتلكات أو غير ذلك وإنما يؤمِّن على تعويض العين أو ثمنها من المال إذا حصل لبضاعته أو لسيارته أو لممتلكاته أو لأي شيء يملكه ضرر أو تلف. فهو في الحقيقة ضمانة للحصول على مبلغ من المال له أو لغيره، أو على تعويض إذا حصل له شيء مما يفقده نفسه أو يتلف ماله، وليس ضماناً لحياته أو ممتلكاته. هذا هو واقع التأمين. وبالتدقيق فيه يتبين أنه باطل من وجهين:

      أحدهما: أنه عقد لأنه اتفاق بين طرفين ويشتمل على الإيجاب والقبول، الإيجاب من المؤمِّن والقبول من الشركة. فحتى يصح هذا العقد شرعاً يجب أن يتضمن شروط العقد الشرعية، فإن تضمّنها صحّ وإلاّ فلا. والعقد شرعاً يجب أن يقع على عين أو منفعة، فإن لم يقع على عين أو لم يقع على منفعة كان باطلاً لأنه لم يقع على شيء يجعله عقداً شرعاً، لأن العقد شرعاً يقع إما على عين بعِوَض كالبيع والسَلَم والشركة وما شاكل ذلك، وإما على عين بغير عِوَض كالهبة، وإما على منفعة بعِوَض كالإجارة، وإما على منفعة بغير عِوَض كالعارية. فلا بد أن يقع العقد شرعاً على شيء. وعقد التأمين ليس عقداً وَقَع على عين ولا على منفعة وإنما هو عقد وقع على تعهد أي على ضمانة. والتعهد أو الضمانة لا يعتبر عيناً لأنه لا يُستهلك ولا تؤخذ منفعته ولا يعتبر منفعة، لأنه لا ينتفع بذات التعهد لا بالأجرة ولا بالإعارة. وأمّا حصول المال بناء على هذا التعهد فلا يعتبر منفعة له وإنما هو أثر من آثار معاملة من المعاملات. ومن هنا لا يعتبر أن عقد التأمين وقع على عين ولا على منفعة، فهو عقد باطل لأنه عقد لم يستوف الشروط الواجب توفرها في العقد شرعاً حتى يتم اعتباره عقداً.

      ثانيهما: أن الشركة أعطت تعهداً للمؤمِّن ضمن شروط مخصوصة، فهو من قبيل الضمان، فلا بد أن تطبق عليه الشروط التي يتطلبها الشرع في الضمان حتى يكون ضماناً شرعياً، فإن تضمّنها صحّ وإلاّ فلا. وبالرجوع إلى الضمان شرعاً يتبين ما يلي:

      ان الضمان هو ضم ذمة الضامن إلى ذمة المضمون عنه في التزام الحق، فلا بد فيه من ضم ذمة إلى ذمة، ولا بد فيه من ضامن ومضمون عنه ومضمون له. وهو –أي الضمان- التزام حق في الذمة من غير معاوضة. ويشترط في صحة الضمان أن يكون في حق من الحقوق المالية الواجبة أو التي تؤول إلى الوجوب. فإذا لم يكن في حق واجب أو يؤول إلى الوجوب لا يصح الضمان، وذلك لأن الضمان ضم ذمة إلى ذمة في التزام الحق، فإذا لم يكن على المضمون عنه شيء فلا ضمّ فيه. وهذا ظاهر في الحق الواجب. أمّا في الحق الذي يؤول إلى الوجوب مثل قول رجل لامرأة: تزوجي فلاناً وأنا ضامن لك مهرك، فإن الضامن فيه قد ضم ذمته إلى ذمة المضمون عنه في أنه يلزمه ما يلزمه، وأن ما يثبت في ذمة مضمونه يثبت في ذمته. أمّا إذا لم يكن هنا حق واجب على أحد، أو حق يؤول إلى الوجوب، فلا يتحقق فيه معنى الضمان، إذ لا يوجد فيه ضم ذمة إلى ذمة، فلا يصح الضمان. وعلى هذا إذا لم يكن الحق واجباً للمضمون له على المضمون عنه أو لا يؤول إلى الوجوب على المضمون عنه لا يصح الضمان، إذ يشترط أن يكون من يضمن عنه ضامناً للعين إذا تلفت أو هلكت، أو ضامناً للديْن سواء أكان ضامناً بالفعل إذا كان الحق واجباً وثابتاً في الذمة، أو ضامناً بالقوة إذا كان الحق يؤول إلى الوجوب والثبوت في الذمة. فإن لم يكن من يضمن عنه ضامناً لا بالفعل ولا بالقوة، لا يصح الضمان لأنه متى لم يجب على المضمون عنه لم يجب على الضامن. فمثلاً رجل يتقبل من الناس الثياب، فقال رجل لآخر: ادفع إليه ثيابك وأنا ضامن. فتلِفَت الثياب، هل يضمن الضامن عمن يتقبل الثياب ثمنها؟

      والجواب على ذلك أنه إن تَلِفَت الثياب بغير فعله ولا تفريط منه لم يلزم الضامن شيء لأنه من الأصل لم يلزم المضمون عنه شيء، فإذا لم يلزم الأصيل فالضامن أولى أن لا يلزمه. وعليه لا بد أن يكون الحق واجباً للمضمون له على آخرين أو يؤول إلى الوجوب حتى يصح الضمان. فثبوت الحق في الذمة حالاً أو مآلاً شرط في صحة الضمان. إلاّ أنه لا يشترط أن يكون المضمون عنه معلوماً، ولا يشترط أن يكون المضمون له معلوماً، فيصح الضمان لو كان مجهولاً. فلو قال شخص لآخر: اعط ثيابك لغسال، فقال أخاف أن يتلفها، فقال له: اعط ثيابك لغسال وأنا ضامنها لك إن تلفت، ولم يعين غسالاً صح، فلو أعطاها لغسال ثم تلفت يضمن، ولو كان المضمون عنه مجهولاً. وكذلك لو قال إن فلاناً غسال ماهر وكل من يضع عنده ثياباً فأنا ضامن الغسال من كل تلف، صحّ، ولو كان المضمون له مجهولاً.

      ودليل الضمان واضح فيه أنه ضم ذمة إلى ذمة، وأنه ضمان لحق ثابت في الذمة، وواضح فيه أن فيه ضامناً ومضموناً عنه ومضموناً له، وواضح فيه أنه بدون معاوضة، وفيه المضمون عنه مجهول والمضمون له مجهول. فإن دليله –أي الضمان- ما رواه أبو سعيد الخُدْريّ قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فلما وُضعَت قال: {هل على صاحبكم من ديْن؟ قالوا: نعم، درهمان. فقال: صلوا على صاحبكم. فقال عليّ: هما عليّ يا رسول الله وأنا لهما ضامن. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى عليه ثم أقبل على عليّ فقال: جزاك الله خيراً عن الإسلام وفك رهانك كما فككت رهان أخيك. فقيل: يا رسول الله، هذا لعليّ أم للناس عامة؟ فقال: للناس عامة}، وعن جابر قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يصلي على رجل مات عليه ديْن. فأُتِيَ بميت فسأل: عليه دين؟ قالوا: نعم، ديناران. قال: صلوا على صاحبكم. فقال أبو قتادة: هما عليّ يا رسول الله. فصلى عليه. فلما فتح الله على رسوله صلى الله عليه وسلم قال: أنا أولى بكل مؤمن من نفسه، فمن ترك ديْناً فعليّ، ومن ترك مالاً فلورثته}. فهذان الحديثان واضح فيهما أن علياً وقتادة قد ضم كل منهما ذمته إلى ذمة الميت في التزام حق مالي قد وجب للدائن. وواضح فيهما أن في الضمان ضامناً ومضموناً عنه ومضموناً له، وأنه –أي الضمان الذي ضمنه كل منهما- التزام حق في الذمة من غير معاوضة. وواضح فيه أن المضمون عنه وهو الميت والمضمون له وهو صاحب الديْن كان مجهولاً عند الضمان. فالحديثان قد تضمنا شروط صحة الضمان، وشروط انعقاده.

    9. #24
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      هذا هو الضمان شرعاً. وبتطبيق تعهد التأمين عليه –وهو ضمان قطعاً- نجد أن التأمين خالٍ من جميع الشروط التي نص عليها الشرع لصحة الضمان وانعقاده. فإن التأمين ليس فيه ضم ذمة إلى ذمة مطلقاً. فشركة التأمين لم تضم ذمتها إلى ذمة أحد في التزام مال للمؤمن، فلم يوجد ضمان، فكان التأمين باطلاً. والتأمين لا يوجد فيه حق مالي للمؤمن عند أحد قد التزمته شركة التأمين، إذ ليس للمؤمِّن أي حق مالي عند أحد وجاءت الشركة وضمنته، فهو خالٍ من وجود الحق المالي، فتكون الشركة لم تلتزم أي حق مالي حتى يصح أن يقال إنه ضمان شرعاً. وأيضاً فإن ما التزمته الشركة من التعويض أو الثمن أو دفع المال لم يجب للمضمون له عند عقد التأمين تجاه آخرين لا حالاً ولا مآلاً حتى يصح ضمانه. فتكون شركة التأمين قد ضمنت ما لا يجب في الحال ولا يجب في المآل، فيكون الضمان غير صحيح، وبالتالي يكون التأمين باطلاً. علاوة على أن التأمين لا يوجد فيه مضمون عنه لأن شركة التأمين لم تضمن عند أحد استحق عليه حق حتى يسمى ضماناً، فيكون عقد التأمين قد خلا من عنصر أساسي من عناصر الضمان اللازمة شرعاً وهو وجود مضمون عنه، لأنه لا بد في الضمان من وجود ضامن ومضمون عنه ومضمون له. وبما أن عقد التأمين لم يوجَد فيه مضمون عنه، فهو باطل شرعاً. وأيضاً فإن شركة التأمين حين تعهدت بتعويض العين أو دفع ثمنها إذا تضررت أو دفع مال عند حصول الحادث، قد التزمت هذا الدفع مقابل مبلغ من المال فهو التزام بمعاوضة، وهو لا يصح لأن شرط صحة الضمان أن يكون بدون معاوضة. فكان التأمين بوجود المعاوضة فيه ضماناً باطلاً.

      وبهذا يظهر مقدار خلو تعهد التأمين من شروط الضمان التي نص عليها الشرع, وعدم استيفائه لشروط انعقاد الضمان وشروط صحته. وبذلك يكون سند التعهد الذي أعطته الشركة وضَمِنَت التعويض والثمن، أو ضمنت المال، باطلاً من أساسه، فيكون التأمين كله باطلاً شرعاً.

      وعلى هذا فإن التأمين كله حرام شرعاً سواء أكان التأمين على الحياة أو على البضاعة، أو على الممتلكات، أو على غير ذلك. ووجه حرمته أن عقده عقد باطل شرعاً. وأن التعهد الذي تعطيه شركة التأمين بموجب العقد تعهد باطلاً شرعاً. فكان أخذ المال بحسب هذا العقد وهذا التعهد حرام، وهو أكل مال بالباطل، ويدخل في مال السحت.

    10. #25
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي





      الطرق الممنوع تنمية الملك بها



      جعل الشرع الإسلامي تنمية الملك مقيدة في حدود لا يجوز تعدّيها. فمنع الفرد من تنمية المال بطرق معينة منها:



      القمــــــــار



      مَنع الشرع القمار منعاً باتاً، واعتبر المال الذي يؤخذ بسببه غير مملوك، قال الله تعالى: )يا أيها الذين آمنوا إنّما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. إنّما يريد الشيطان أن يوقِع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة فهل أنتم منتهون(، أكد تحريم الخمر والميسر وجوهاً من التأكيد، منها تصدير الجملة بإنما، ومنها أنه قرنهما بعبادة الأصنام، ومنها أنه جعلهما رجساً، كما قال تعالى: )فاجتنبوا الرجس من الأوثان(، ومنها أنه جعلهما من عمل الشيطان، والشيطان لا يأتي منه إلاّ الشر البحت، ومنها أنه أَمَرَ بالاجتناب، ومنها أنه جعل الاجتناب من الفلاح. وإذا كان الاجتناب فلاحاً كان الارتكاب خيبة ومحقة. ومنها أنه ذكر ما يَنتُج منهما من الوبال وهو وقوع التعادي والتباغض من أصحاب الخمر والقمار، وما يؤديان إليه من الصد عن ذكر الله، وعن مراعاة أوقات الصلاة، وقوله: )فهل أنتم منتهون( من ابلغ ما يُنهى به، كأنه قيل: قد تُلِيَ عليكم ما فيها من أنواع الصوارف والموانع، فهل أنتم مع هذه الصوارف والموانع منتهون؟ ومن القمار أوراق اليانصيب مهما كان نوعها ومهما كان السبب الذي وُضعَت له. ومن القمار الرهان في سباق الخيل. ومال القمار حرام لا يجوز تملكه.



      الربـــــــــا



      منع الشرع الربا منعاً باتاً مهما كانت نسبته سواء أكانت كثيرة أم قليلة. ومال الربا حرام قطعاً، ولا حق لأحد في ملكيته، ويُرَد لأهله إن كانوا معروفين، قال الله تعالى: )الذين يأكلون الربا لا يقومون إلاّ كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المَسّ ذلك بأنهم قالوا إنّما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرّم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون(، وقال: )يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون(.

      والوصف الواقع للربا هو أن هذه الفائدة التي يأخذها المرابي استغلال لجهد الناس وهي جزاء من غير بذل جهد. ولأن المال الذي يؤخذ عليه ربا هو مضمون الفائدة غير معرض للخسارة، وهذا يخالف قاعدة "الغُرْم بالغُنْم"، ولذلك كان استغلال المال بالشركة والمضاربة والمساقاة بشروطها جائزاً لأنه تنتفع به الجماعة ولا يَستغل جهد آخرين، بل يكون وسيلة تمكّنهم من الانتفاع بجهد أنفسهم وهو معرض للخسارة كما هو معرَّض للربح، وهذا بخلاف الربا. على أن تحريم الربا إنّما كان بالنص ولم يعلَّل هذا النص بعلّة، وقد جاءت السنّة مبيّنة الأموال الربوية.

      غير أنه قد يتبادر للذهن أن صاحب المال محتفظ بماله وقد لا يسخو بإقراض المحتاج لقضاء حاجته، وهذه الحاجة تُلِح على صاحبها، فلا بد من وسيلة لسد هذه الحاجة. على أن الحاجة اليوم تعددت وتنوعت وصار الربا قَوام التجارة والزراعة والصناعة، ولذلك وُجدت المصارف (البنوك) للتعامل بالربا، ولا وسيلة غيرها، كما لا وسيلة بغير المرابين لسد الحاجات.

      والجواب على ذلك أننا نتحدث عن المجتمع الذي يطبَّق فيه الإسلام جميعه ومنه الناحية الاقتصادية، لا عن المجتمع بوضعه الحاضر، لأن هذا المجتمع بوضعه الحاضر يعيش على النظام الرأسمالي، ولذلك برز فيه كون المصرف (البنك) من ضروريات الحياة. فصاحب المال الذي يرى نفسه حراً في ملكه، والذي يرى أن له حرية الاستغلال بالغش والاحتكار والقمار والربا وغير ذلك دون رقابة من دولة أو تقيُّد بقانون، لا شك أن مثل هذا يرى أن الربا والمصرف ضرورة من ضروريات الحياة.

      ولذلك وجب أن يغيَّر النظام الاقتصادي الحالي برمّته وأن يوضع مكانه –وضعاً انقلابياً شاملاً- النظام الإسلامي للاقتصاد. فإذا أزيل هذا النظام وطُبق النظام الإسلامي برز للناس أن المجتمع الذي يطبِّق الإسلام لا تظهر فيه الضرورة إلى الربا، لأن المحتاج إلى الاستقراض إما أن يحتاجه لأجل العيش أو يحتاجه لأجل الزراعة. أمّا الحاجة الأولى فقد سدّها الإسلام بضمان العيش لكل فرد من أفراد الرعية. وأمّا الحاجة الثانية فقد سدّها الإسلام بقرض المحتاج دون ربا، قال عليه الصلاة والسلام: {ما من مسلم يُقرِض مسلماً قرضاً مرتين إلاّ كان كصدقة مرّة}. وإقراض المحتاج مندوب، ولا يُكره الاستقراض بل يُندَب أيضاً، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يستقرِض. وما دام الاستقراض موجوداً وهو مندوب للمقرِض والمستقرِض فقد برز للناس أن الربا ضرر من أشد الأضرار على الحياة الاقتصادية، بل برز للعيان أن الضرورة تقضي باستبعاد الربا وإيجاد الحوائل الكثيفة بينه وبين المجتمع بالتشريع والتوجيه وفق نظام الإسلام.

      وإذا عَدِم الربا لم تبق حاجة للمصارف (البنوك) الموجودة الآن. ويبقى بيت المال وحده يقوم بإقراض المال بلا فائدة، بعد التحقق من إمكانية الانتفاع بالمال. وقد أعطى عمر بن الخطاب من بيت المال للفلاحين في العراق أموالاً لاستغلال أرضهم. والحكم الشرعي أن يعطى الفلاحون من بيت المال ما يتمكنون به من استغلال أراضيهم إلى أن تخرج الغِلال. وعن الإمام أبي يوسف "ويعطى للعاجز كفايته من بيت المال قرضاً ليعمل فيها" أي الأرض. وكما يُقرِض بيت المال الفلاحين للزراعة يُقرِض من هم مثلهم ممن يقومون بالأعمال الفردية التي يحتاجون إليها لكفاية أنفسهم. وإنما أعطى عمر الفلاحين لأنهم في حاجة لكفاية أنفسهم في العيش فأُعطوا لهذه الكفاية، ولذلك لا يعطى الفلاحون الأغنياء من بيت المال شيئاً لزيادة إنتاجهم. ويقاس على الفلاحين من هم مثلهم فيما هم في حاجة إليه لكفاية أنفسهم في العيش، فقد أعطى الرسول رجلاً حبلاً وفأساً ليحتطب من أجل أن يأكل.

      على أن ترك الربا لا يتوقف على وجود المجتمع الإسلامي أو وجود الدولة الإسلامية أو وجود من يُقرِض المال، بل الربا حرام ويجب تركه سواء وُجدت دولة إسلامية أم لم توجَد، ووُجد مجتمع إسلامي أم لم يوجد، ووُجد من يُقرِض المال أم لم يوجد.



      الغُبن الفاحش



      الغبن في اللغة الخداع، يقال: غبنه غبناً في البيع والشراء خَدَعَه وغَلَبَه، وغَبَن فلاناً نَقَصَه في الثمن وغيّره، فهو غابِن وذاك مغبون. والغُبن هو بيع الشيء بأكثر مما يساوي أو بأقل مما يساوي. والغبن الفاحش حرام شرعاً لأنه ثبت في الحديث الصحيح طلب ترك الغبن طلباً جازماً، فقد رُوي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رجلاً ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه يُخدَع في البيوع، فقال: {إذا بايعت فقل لا خِلابة}، وعن أنس {أن رجلاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبتاع وكان في عقدته -يعني في عقله- ضعف فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله احجر على فلان فإنه يبتاع وفي عقله ضعف. فدعاه ونهاه، فقال: يا نبي الله إني لا أصبر عن البيع. فقال: إن كنت غير تارك البيع فقُل: ها وها ولا خِلابة}، وروى ابن ماجه في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بيع المحفّلات خلابة ولا تحل الخلابة لمسلم}، والخِلابة –بكسر الخاء- الخديعة. فهذه الأحاديث قد طُلب فيها ترك الخلابة وأُكِّد هذا الطلب بقول الرسول: {لا تحل} أي تحرم، فدل على أن طلب ترك الخديعة كان طلباً جازماً، ومن هنا كان الغبن حراما، إلاّ أن الغبن الحرام هو الغبن الفاحش لأن علة تحريم الغبن هو كونه خديعة في الثمن، ولا يسمى خديعة إذا كان يسيراً، لأنه يكون مهارة في المساومة، وإنما يكون الغبن خديعة إذا كان فاحشاً. فإذا ثبت الغبن فإن للمغبون الخَيار إن شاء فسخ البيع وإن شاء أمضاه، أي إذا ظهرت خديعة في البيع جاز للمخدوع أن يرد الثمن، ويأخذ السلعة إذا كان بائعاً، وأن يرد المبيع ويأخذ الثمن إذا كان مشترياً، وليس أخذ الأَرَش، أي ليس له أن يأخذ الفرق بين ثمن السلعة الحقيقي وبين الثمن الذي بيعت به، لأن الرسول جعل له الخَيار بين أن يفسخ البيع أو يرفضه فقط ولم يجعل له غير ذلك، قال عليه الصلاة والسلام: {إذا أنت بايعت فقُل: لا خلابة، ثم أنت في كل سلعة ابتعتها بالخيار ثلاث ليال إن رضيت فأمسِك وإن سخطتَ فارددها على صاحبها}، وهذا يدل على أن المغبون يثبت له الخَيار، إلاّ أن هذا الخَيار يثبت بشرطين، أحدهما عدم العلم وقت العقد، والثاني الزيادة أو النقصان الفاحش الذي لا يتغابن الناس بمثلهما وقت العقد. والغبن الفاحش هو ما اصطَلح التجار على كونه غبناً فاحشاً. ولا يقدّر ذلك بثلث ولا ربع بل يُترك لاصطلاح التجار في البلد وقت إجراء العقد، لأن ذلك يختلف باختلاف السلع والأسواق.



      التدليس في البيع



      الأصل في عقد البيع اللزوم، فمتى تم العقد بالإيجاب والقبول بين البائع والمشتري وانتهى مجلس البيع فقد لزم عقد البيع ووجب نفاذه على المتبايعيْن. إلاّ أنه لَمّا كان عقد المعاملة يجب أن يتم على وجه يرفع المنازعات بين الناس، فقد حرَّم الشرع على الناس التدليس في البيع، وجعله إثماً سواء حصل التدليس من البائع أو المشتري في السلعة أو العملة، فكله حرام. لأن التدليس قد يحصل من البائع وقد يحصل من المشتري. ومعنى تدليس البائع السلعة هو أن يكتم العيب عن المشتري مع علمه به، أو يغطي العيب عنه بما يوهم المشتري عدمه، أو يغطي السلعة بما يُظهرها كلها حسنة. ومعنى تدليس المشتري الثمن هو أن يزيف العملة أو يكتم ما فيها من زيف مع علمه به. وقد يختلف الثمن باختلاف المبيع لأجل التدليس، وقد يرغب المشتري بالسلعة بسبب التدليس. فهذا التدليس بجميع أنواعه حرام، لما روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تَصُرّوا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها، إن شاء أمسكها وإن شاء ردّها وصاعاً من تمر}، ولِما روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ابتاع محفَلة فهو بالخيار ثلاثة أيام، إن ردّها ردّ معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً}، والمراد ردّ ثمن لبنها الذي حلبه. ولِما روى ابن ماجه في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بيع المحفلات خِلابة ولا تحل الخلابة لمسلم}. فهذه الأحاديث صريحة في النهي عن تصرية الإبل والغنم، وفي النهي عن بيع المحفلات، وهي التي لم تُحلَب حتى يظهر ضرعها كبيراً أو يُتوهم أنها حلوب، وصريح في اعتبار بيع المحفلات خديعة وأن ذلك حرام. ومثل ذلك كل عمل يغطي العيب أو يكتم العيب، فإن ذلك كله تدليس يحرم فعله، سواء أكان ذلك في السلعة أو العملة لأنه غبن. ولا يجوز للمسلم أن يغش في السلعة أو العملة بل يجب عليه أن يبين ما في السلعة من عيب، وعليه أن يوضح ما في العملة من زيف، وأن لا يغش السلعة من أجل أن تروَّج أو تباع بثمن أغلى، ولا يغش العملة من أجل أن تُقبل ثمناً للسلعة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك نهياً جازماً، فقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {المسلم أخو المسلم، لا يحل لمسلم باع من أخيه بيعاً إلاّ بيّنه له}، وقال: {من باع عيباً لم يبيِّنه لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه}، وقال: {البَيِّعان بالخَيار ما لم يتفرقا، فإن تفرّقا وبيّنا بورك لهما في بيعهما وإن كتما وكذبا مُحقت بركة بيعهما}، وقال: {ليس منا من غشّ}. ومن حاز شيئاً بالتدليس والغش لا يملكه لأنه ليس من وسائل التملك، بل من الوسائل المنهي عنها، وهو مال حرام ومال السحت، قال عليه الصلاة والسلام: {لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت، وكل لحم نبت من السحت كانت النار أولى به}. وإذا حصل التدليس سواء أكان بالسلعة أو بالعملة صار للمدلَّس عليه الخَيار، إما أن يفسخ العقد أو يمضي، وليس له غير ذلك. فإذا أراد المشتري إمساك السلعة المعيبة أو المدلَّسة وأخْذ الأرش أي الفرق بين ثمنها من غير عيب وثمنها بالعيب فليس له ذلك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يجعل له أرشاً وإنما خيّره في شيئين {إن شاء أمسكها وإن شاء ردّها}.

      ولا يُشترط أن يكون البائع عالماً بالتدليس أو العيب حتى يثبُت الخَيار بل يثبُت الخَيار للمدلَّس عليه بمجرد حصول التدليس، سواء أكان البائع عالماً أو غير عالم، لأن الأحاديث عامة ولأن واقع البيع يكون قد حصل على ما نهي عنه، وهذا بخلاف الغُبن فإنه يُشترط فيه العلم بالغبن لأنه إن لم يكن عالماً لم يكن الواقع أنه غابن حتى يكون هناك حق للمغبون، كأن ينزل سعر السوق ويكون البائع غير عالم بذلك فيبيع ثم يتبين أنه باع بأكثر مما يساوي، فإنه لا يعتبر غبناً ولا يخيَّر فيه المشتري، لأن البائع وهو غير عالم بنزول السعر لا يَصدُق عليه أنه غابن.



      الاحتكـار



      ويُمنع الاحتكار مطلقاً وهو حرام شرعاً لورود النهي الجازم عنه في صريح الحديث، فقد رُوي في صحيح مسلم عن سعيد بن المسيب عن معمر بن عبد الله العدوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يحتكر إلاّ خاطئ}، ولِما رُوي عن الأثرم عن أبي أمامة قال: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُحتكر الطعام}، ورُوي أيضاً بإسناده عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من احتكر فهو خاطئ}، فالنهي في الحديث يفيد طلب الترك، وذم المحتكر بوصفه أنه خاطئ، والخاطئ المذنب العاصي، قرينة تدل على أن هذا الطلب للترك يفيد الجزم، ومن هنا دلت الأحاديث على حرمة الاحتكار. والمحتكر هو من يجمع السلع انتظاراً لغلائها حتى يبيعها بأسعار غالية بحيث يضيق على أهل البلد شراؤها. أمّا كون المحتكر هو من يجمع السلع انتظاراً للغلاء فلأن معنى كلمة حكر في اللغة استبد، ومنه الاستبداد بحبس البضاعة كي تباع بالكثير، واحتكر الشيء في اللغة جمعه واحتبسه انتظاراً لغلائه فيبيعه بالكثير. وأما كون شرط انطباق الاحتكار كونه يبلغ حداً يضيق على أهل البلد شراء السلعة المحتكَرة، فلأن واقع الاحتكار لا يحصل إلاّ في هذه الحال، فلو لم يضق على الناس شراء السلعة لا يحصل جمع البضاعة ولا الاستبداد بها كي تباع بالكثير. وعلى هذا فليس شرط الاحتكار أن يشتري السلعة بل مجرد جمعها انتظاراً للغلاء حتى بيعها بالكثير يعتبر احتكاراً سواء جمعها بالشراء أو جمعها من غلة أراضيه الواسعة لانفراده بهذا النوع من الغلة أو لندرة زراعتها أو جمعها من مصانعه لانفراده بهذه الصناعة أو لندرة هذه الصناعة كما هي حال الاحتكارات الرأسمالية، فإنهم يحتكرون صناعة شيء بقتل جميع المصانع إلاّ صناعتهم ثم يتحكمون في السوق، فإن ذلك كله احتكار لأنه يصدق عليها منطوق كلمة احتكر ويحتكر لغة، فالحكرة والاحتكار هو حصر السلعة أو السلع عن البيع انتظاراً لغلائها فيبيعها بالكثير.
      .

    11. #26
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      والاحتكار حرام في جميع الأشياء من غير فرق بين قوت الآدمي أو قوت الدواب وغيره، ومن غير فرق بين الطعام وغيره، ومن غير فرق بين ما هو من ضروريات الناس أو من كمالياتهم، وذلك لأن معنى احتكر في اللغة جمع الشيء مطلقاً ولم تأت بمعنى جمع الطعام أو القوت أو ضروريات الناس بل جمع الشيء، فلا يصح أن تخصص بغير معناها اللغوي. ولأن ظاهر الأحاديث التي وردت في الاحتكار يدل على تحريم الاحتكار في كل شيء وذلك لأن الأحاديث جاءت مطلقة من غير قيد، وعامة من غير تخصيص فتبقى على إطلاقها وعمومها. وأما ما ورد في بعض الروايات لأحاديث الاحتكار من تسليط الاحتكار على الطعام كحديث {نهى رسول الله أن يحتكر الطعام} وغير ذلك من الروايات، فإن ذكر الطعام في الحديث لا يجعل الاحتكار خاصاً بالطعام، ولا يقال في ذلك أن النهي عن الاحتكار ورد في بعض الروايات مطلقاً وبعض الروايات التي ذكرتها لا تصح لتقييد الروايات المطلقة بل هو من التنصيص على فرد من الأفراد التي يطلق عليها المطلق. وذلك لأن نفي الحكم عن غير الطعام إنما هو لمفهوم اللقب وهو غير معمول به، وما كان كذلك لا يصلح للتقييد ولا للتخصيص؛ أي أن ذكر الطعام في بعض روايات أحاديث الاحتكار تنصيص على نوع من أنواع الاحتكار كمثال عليها وليست هي قيداً للاحتكار ولا وصفاً له مفهوم يُعمل به، بل هو اسم جامد لمسمى معين، أي هو لقب وليس نعتاً فلا يُعمل بمفهومه. والذي يصلح قيداً أو مخصصاً هو ما له مفهوم يُعمل به، وهنا ليس كذلك، فدل على أن الروايات التي نهت عن الاحتكار، حتى الروايات التي ذكرت الطعام، هي أحاديث مطلقة وعامة، فيشمل النهي عن احتكار كل شيء مطلقاً، وواقع المحتكر أنه يتحكم في السوق ويفرض على الناس ما يشاء من أسعار باحتكاره السلعة عنده، فيضطر الناس لشرائها منه بالثمن الغالي لعدم وجودها عند غيره، فالمحتكر في حقيقته يريد أن يغلي السعر على المسلمين، وهذا حرام لما رُوي عن معقل بن يسار قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من دخل في شيء من أسعار المسلمين ليُغليه عليهم كان حقاً على الله أن يقعده بعُظم من النار يوم القيامة}.



      التسعيـــر



      جعل الله لكل شخص أن يبيع سلعته بالسعر الذي يرضاه، قال عليه السلام: {إنّما البيع عن تراضٍ}، ولكن لمّا كانت الدولة مظنة التسعير على الناس فقد حرم الله عليها أن تضع أسعاراً معينة للسلع تجبر الناس على البيع والشراء بحسبها، ولذلك جاء النهي عن التسعير.

      والتسعير هو أن يأمر السلطان أو نوابه أو كل من ولي من أمور المسلمين أمراً، أهل السوق أن لا يبيعوا السلع إلاّ بسعر كذا، فيُمنعوا من الزيادة عليه حتى لا يُغَلّوا الأسعار، أو النقصان عنه حتى لا يضارِبوا غيرهم، أي يُمنعون من الزيادة أو النقص عن السعر المقرر لمصلحة الناس، بأن تتدخل الدولة في الأسعار وتضع للسلع أو لبعضها أسعاراً معينة وتمنع كل واحد من أن يبيع بأكثر من السعر الذي عيّنته أو بأقل منه، لِما ترى في ذلك من مصلحة المجموع. وقد حرّم الإسلام التسعير مطلقاً لِما رُوي عن أنس قال: {غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله لو سعَّرتَ. فقال: إن الله هو القابض الباسط الرازق المسعِّر وإني لأرجو أن ألقى الله عزّ وجلّ ولا يطلبني أحد بمظلمة ظلمتها إياه في دم ولا مال}، ولِما رُوي عن أبي هريرة قال: {جاء رجل فقال: يا رسول الله، سعِّر؛ فقال: بل أدعوا الله. ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله سعِّر؛ فقال: بل الله يخفض ويرفع}، وهذه الأحاديث تدل على تحريم التسعير وأنه مظلمة من المظالم التي تُرفع الشكوى على الحاكم لإزالتها، وإذا فعلها الحاكم أثِم عند الله لأنه فعل حراماً. وكان لكل شخص من رعيته أن يرفع الشكوى إلى محكمة المظالم على هذا الحاكم الذي سعَّر، سواء أكان والياً أم خليفة، يشكو لها هذه المظلمة لتحكم عليه وتقوم بإزالة هذه المظلمة.

      وتحريم التسعير عام لجميع السلع، لا فرق في ذلك بين ما كان قوتاً وما لم يكن كذلك، لأن الأحاديث تنهى عن التسعير مطلقاً، فهي عامة ولا يوجد ما يخصصه بالقوت أو بغيره، فكانت حرمة التسعير عامة تشمل تسعير كل شيء.

      وواقع التسعير أنه ضرر من أشد الأضرار على الأمّة في جميع الظروف، سواء أكان ذلك في حالة الحرب أم في حالة السلم، لأنه يفتح سوقاً خفية يبيع الناس فيها بيعاً مستوراً عن الدولة بعيداً عن مراقبتها، وهي ما يسمونها السوق السوداء، فترتفع الأسعار ويحوز السلعة الأغنياء دون الفقراء، ولأن تحديد الثمن يؤثر على الاستهلاك، فيؤثر على الإنتاج وربما سبّب أزمة اقتصادية. وفوق ذلك فإن الناس مسلَّطون على أموالهم لأن معنى ملكيتهم لها أن يكون لهم سلطان عليها، والتسعير حجر عليهم، وهو لا يجوز إلاّ بنص شرعي، ولم يَرِد نص بذلك، فلا يجوز الحجر على الناس بوضع ثمن معين لسلعهم، ومنعهم من الزيادة عليه أو النقص عنه. أمّا ما يحصل من غلاء الأسعار في أيام الحروب، أو الأزمات السياسية، فإنه ناتج إما من عدم توفرها في السوق بسبب احتكارها، أو بسبب ندرتها. فإن كان عدم وجودها ناتجاً عن الاحتكار فقد حرّمه الله، وإن كان ناتجاً عن ندرتها فإن الخليفة مأمور برعاية مصالح الناس، فعليه أن يسعى لتوفيرها في السوق في جلبها من أمكنتها. وبهذا يكون قد مُنِع الغلاء. وعمر بن الخطاب في عام المجاعة الذي سمي عام الرمادة إنّما حصلت المجاعة في الحجاز فقط لندرة الطعام في تلك السنّة، وقد غلا من جراء ندرته فلم يضع أسعاراً معينة للطعام بل أرسل وجلب الطعام من مصر وبلاد الشام إلى الحجاز، فرَخُص دون حاجة إلى التسعير

    12. #27
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي





      حق التصرف بالإنفاق صلةً ونفقة



      ومن حق التصرف الإنفاق. وإنفاق المال هو بذله بلا عِوَض. أمّا بذله بعِوَض فلا يسمى إنفاقاً، قال تعالى: )وأنفقوا في سبيل الله( وقال: )ومما رزقناهم يُنفِقون( وقال: )لِيُنْفِق ذو سَعَةٍ مِن سَعَتِه(. وقد جرى الإسلام على طريقته فحدد طرق الإنفاق ووضع لها ضوابط ولم يترك صاحب المال مطلق التصرف ينفق المال كما يشاء بل حدد كيفية التصرف بماله في حياته وبعد مماته. وتصرُّف الفرد بماله بنقل ملكيته لغيره بلا عِوَض إما أن يكون بإعطائه للناس وإما بإنفاقه على نفسه وعلى من تجب عليه نفقته. ونفاذ هذا الإنفاق إما أن يكون حال حياته كالهبة والهدية والصدقة والنفقة، وإما أن يكون بعد وفاته كالوصية. وقد تدخّل الإسلام في هذ التصرف فمنع الفرد من أن يهب أو يهدي للعدو في حالة الحرب ما يتقوى به على المسلمين، ومنعه من أن يتصدق عليه في هذه الحالة، ومنع الفرد من أن يَهَب أو يُهدي أو يتصدق إلاّ فيما أبقى له ولعياله غنى، فإن أعطى ما لا يبقي لنفسه وعياله بعده غنى فُسِخ كله؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول}، وعن جابر بن عبد الله {أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من الذهب فقال: يا رسول الله هذه صدقة ما تركتُ لي مالاً غيرها. فحذفه بها النبي صلى الله عليه وسلم فلو أصابه لأوجعه ثم قال: ينطلق أحدكم فينخلع من ماله ثم يصير عيالاً على الناس}. والغنى الذي يبقيه الإنسان له ولعياله هو إبقاء ما يكفيه من الحاجات الضرورية وهي المأكل والملبس والمسكن والحاجات الكمالية التي تعتبر من لوازم مثله حسب معيشته العادية؛ أي ما يكفيه بالمعروف بين الناس، ويقدّر ذلك بحسب حاجته المعتادة مع المحافظة على مستوى معيشته التي يعيش عليها هو وعياله ويعيش عليها أمثاله من الناس. وأما قوله تعالى: )ويؤثِرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة( فليس معناه ولو كان بهم فقر كما يُتَوَهَّم، بل معناه ولو كان بهم حاجة أكثر مما يسد حاجاتهم الأساسية، بدليل أن الذين فيهم فقر أعطاهم الرسول ولم يمنع إلاّ الذين ليس بهم فقر إلى المال. وخصاصة هنا معناها خلّة وأصلها خصاص البيت وهي فروجه، فالآية كلها )ولا يجدون في أنفسهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة(، أي أن الأنصار لم تتبع نفوسهم ما أعطي المهاجرون، ولم تطمح إلى شيء يحتاج إليه ولو كانت لديهم حاجة إلى المال لإنفاقه في شؤونهم لا لسد فقرهم وعوزهم. والمراد من النهي عن الصدقة في قوله عليه السلام: {خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى}، وقوله: {ينطلق أحدكم فينخلع من ماله ثم يصير عيالاً على الناس}، هو أن الفقير الذي لم يشبع حاجاته الأساسية لا يجوز له أن يتصدق بما هو ضروري له لسد حاجاته الأساسية، لأن الصدقة إنّما تكون عن ظهر غنىً؛ أي عن ظهر استغناء عن الناس في إشباع الحاجات الأساسية. أمّا الذي لديه مال يزيد عن حاجته الأساسية وبعد أن أشبع حاجاته الأساسية هذه، يرى أنه به حاجة إلى قضاء مصالح تزيد على حاجاته الأساسية -أي إلى حاجات كمالية- فيُندَب لهذا أن يفضل الفقراء على نفسه؛ أي يؤثر الفقراء على نفسه ولو كان في حاجة إلى ماله ليشبع حاجاته الكمالية.

      وكذلك منع الإسلام الفرد من أن يهب أو يهدي أو يوصي وهو في مرض الموت، وإذا وَهب أو أهدى أو أوصى وهو في مرض الموت لا تنفذ إلاّ في ثلث ما وهب أو أوصى أو أهدى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله تصدّق عليكم عند وفاتكم بثلث أموالكم زيادة لكم في أعمالكم}، وروى عمران بن حصين أن رجلاً من الأنصار أعتق ستة أعبد له في مرضه لا مال له غيرهم فاستدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فجزّأهم ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم فأعتق اثنين وأرَقّ أربعة}. وإذا لم ينفذ تصرف الإنسان بالعِتق مع حث الشارع عليه فغيره من التصرفات لا ينفذ من باب أولى.

      هذا كله في تصرف الفرد بإعطائه للناس. أمّا تصرفه بإنفاقه على نفسه وعلى من تجب عليه نفقته فقد تدخَّل الإسلام في هذه النفقة ورسم لها سبيلاً سوياً، فمَنع الفرد من أمور منها:

      أ- مَنع الفرد من الإسراف في الإنفاق، واعتبره سفهاً يوجِب منع السفيه والمبذر من التصرف بأمواله بالحجر عليه، وإقامة غيره وصياً عليه ليتولى عنه التصرف بأمواله لمصلحته، قال تعالى: )ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم(، فنهى عزّ وجلّ عن إيتاء السفهاء المال، ولم يجعل لهم إلاّ أن يرزقوهم فيها من الأكل والكسوة. وقال تعالى: )فإن كان الذي عليه الحق سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يُملِل هو فليُملِل وليُّه بالعدل(، فأوجب الولاية على السفيه. وعن المغيرة بن شعبة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم {نهى عن إضاعة المال}.

      والإسراف والتبذير كلمتان لهما معنى لغوي، ومعنى شرعي، وقد غلب على الناس المعنى اللغوي وبعدوا عن المعنى الشرعي فصاروا يفسرونها بغير ما أراد الشرع منهما. أمّا معناهما اللغوي فإن السرف والإسراف معناه تجاوز الحد والاعتدال، ضد القصد. والتبذير يقال: بذَّر المال تبذيراً فرَّقه إسرافاً وبدَّده. هذا هو معناهما اللغوي، أمّا معناهما الشرعي فإن الإسراف والتبذير هو إنفاق المال فيما نهى الله عنه. فكل نفقة أباحها الله تعالى وأمر بها كثرت أم قلت فليست إسرافاً ولا تبذيراً. وكل نفقة نهى الله عنها قلّت أم كثُرت فهي الإسراف والتبذير. وقد رُوي عن الزهري أنه كان يقول في قوله تعالى: )ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط(، قال: لا تمنعه من حق ولا تنفقه في باطل. وقد وردت كلمة الإسراف في القرآن الكريم في عدة آيات )والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً(، فالإسراف هنا إنّما هو الإنفاق في المعاصي، أمّا القُرَب فلا إسراف فيها. ومعنى الآية: لا تنفقوا أموالكم في المعاصي ولا تبخلوا بها حتى عن المباحات، بل أنفقوها فيما هو أكثر من المباحات؛ أي على الطاعات. فالإنفاق على غير المباحات مذموم، والبخل عن المباحات مذموم، والممدوح هو الإنفاق على المباحات والطاعات. وقال تعالى: )ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين(، وهذا ذم من الله للإسراف وهو الإنفاق في المعاصي، وقد وردت كلمة المسرفين بمعنى المُعرِضين عن ذكر الله، قال تعالى: )فلما كشفنا عنه ضُرَّه مرَّ كأن لم يَدْعُنا إلى ضُرّ مَسَّه كذلك زُيِّن للمسرفين ما كانوا يعملون(، أي زيّن الشيطان بوسوسته ما كان يعمله المسرفون من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات، فسمّى المعرضين عن ذكر الله المسرفين. ووردت كلمة المسرفين بمعنى الذين غلب شرّهم على خيرهم، قال تعالى: )لا جَرَم أنّما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة وأن مردّنا إلى الله وأن المسرفين هم أصحاب النار(، عن قتادة: أن المراد بالمسرفين هنا هم المشركون. وعن مجاهد: المسرفين السفاكين الدماء بغير حلها. وقيل: الذين غلب شرّهم خيرهم هم المسرفون. وقد وردت كلمة مسرفين بمعنى المفسدين، قال تعالى: )فاتقوا الله وأطيعون ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون(. فهذه الآيات كلها ليس المراد من الاسراف فيها المعنى اللغوي مطلقاً بل المراد معانٍ شرعية. وهي حين تُذكَر بجانب الإنفاق يراد منها إنفاق المال في المعاصي، فتفسيرها بالمعنى اللغوي لا يجوز، لأن الله أراد بها معنىً شرعياً معيناً. وأمّا التبذير فمعناه الشرعي أيضاً هو إنفاق المال في المحرمات، قال تعالى: )ولا تبذِّر تبذيراً إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين(، أي أمثالهم في الشر، وهي غاية المذمّة، لأنه لا يوجد شر من الشيطان. والتبذير هنا تفريق المال فيما لا ينبغي، عن عبد الله: أن التبذير هو إنفاق المال في غير حقه. وعن مجاهد: لو أنفق مُدّاً في باطل كان تبذيراً. ورُوي عن ابن عباس أنه قال في المبذر: هو الذي ينفق في غير حق. وعن ابن مسعود في قوله تعالى: )ولا تبذِّر تبذيراً( قال: الإنفاق في غير حقه. فهذا كله يدل على أن المراد بالإسراف والتبذير هو الإنفاق على ما حرم الله. فكل ما حرّمه الشرع يعتبر إنفاقاً بغير حق يجب الحجر على فاعله. ومن يُحجَر عليه لا ينفذ له صدقة ولا بيع ولا هبة ولا نكاح. وكل ما أخذه قرضاً لم يلزمه أداؤه، ولا قضي عليه به. أمّا ما فعله قبل أن يُحجَر عليه ففِعْلُه نافذ غير محدود إلى أن يَحجُر عليه القاضي. وأمّا قوله تعالى: )ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعُدَ ملوماً محسوراً(، فإن النهي منصبّ على كل البسط لا على البسط، فبسطُ اليد لم ينه عنه الله وهو الإنفاق الكثير في الحلال، وأمّا المنهيّ عنه فهو كل البسط، وهو الإنفاق في الحرام. فعدم النهي عن البسط -ومعروف أنه إنفاق المال بكثرة لأنه بسطٌ لليد، دليل على أنه الإنفاق في الحلال- وانصباب النهي عن كل البسط دليل على أن النهي منصبّ على ما زاد على البسط الذي أباحه فيكون منصباً على الإنفاق في الحرام.

      هذه من ناحية الدليل، أمّا من ناحية واقع الإنفاق، فإنه يختلف تقدير أن المنفِق قد أكثر الإنفاق أو لم يُكثِر بالنسبة لمستوى المعيشة في بلده. فهناك بلاد لا يُشبع الفرد فيها حاجاته الأساسية إشباعاً كلياً فيُعتبر إنفاقه على إشباع الحاجات الكمالية إنفاقاً كثيراً، كما هي الحال في كثير من البلدان الإسلامية. وهناك بلاد يُشبع الفرد حاجاته الأساسية إشباعاً كلياً، ويُشبِع أيضاً حاجاته الكمالية التي أصبحت مع تقدم المدنية حاجات ضرورية بالنسبة له كالبرّاد والغسالة والسيارة ونحو ذلك، فلا يعتبر إنفاقه على هذه الحاجات الكمالية إنفاقاً كثيراً. فإذا اعتُبر الإسراف والتبذير كما يدل عليهما معناهما اللغوي فإن ذلك يعني أن الحكم الشرعي هو أن كل إنفاق على ما يزيد على إشباع الحاجات الأساسية حرام، فيكون شراء البرّاد والغسالة والسيارة حرام لأنها تزيد على الحاجات الأساسية، أو يَعتبر الحكم الشرعي أن الإنفاق على هذه الحاجات حرام في بلدان أو على أناس، وحلال في بلدان أخرى أو على أناس آخرين، وبذلك يكون الحكم الشرعي اختلف في الشيء الواحد دون علة، وهذا لا يجوز. لأن الحكم الشرعي في المسألة الواحدة هو هو لا يتغير. وفوق ذلك فإن إباحة الله الأشياء في استعمالها واستهلاكها كان مطلقاً ولم يقيَّد بالإنفاق الكثير أو القليل، فكيف يعتبر الإنفاق الكثير حراما؟ ولو أن الله حرّم الإنفاق الكثير على الأشياء الحلال وأحل هذه الأشياء لكان معناه أحل الشيء وحرّمه في آن واحد، فيكون الله يُحِل استعمال الطائرة الخصوصية، ويحرّمها إذا كان شراؤها للشخص يعتبر إنفاقاً كثيراً، وهو تناقض لا يجوز. وعليه فإن تفسير الإسراف والتبذير بمعناهما اللغوي لا يجوز بل يجب أن يفسرا بمعناهما الشرعي الوارد في نصوص الآيات والوارد في أقوال بعض الصحابة وبعض العلماء الموثوق بأقوالهم.

      ب- مَنَع الإسلام الفرد من الترف واعتبره إثماً، وأوعد المُترَفين بالعذاب، قال تعالى: )وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سَموم وحميم وظلّ من يحموم لا بارد ولا كريم إنهم كانوا قبل ذلك مُترَفين( أي كانوا بَطِرين يفعلون ما يشاؤون. وقال تعالى: )حتى إذا أخذنا مُترَفيهم بالعذاب إذا هم يجأرون( ومترفيهم هنا جبابرتهم البطرين، وقال تعالى: )وما أرسلنا من رسول في قرية إلاّ قال مُترَفوها إنا بما أُرسِلتُم به كافرون( أي إلاّ قال المتكبرون على المؤمنين بكثرة الأموال والأولاد. وقال تعالى: )واتَّبَع الذين ظلموا ما أُترِفوا فيه( والمراد هنا من قوله )ما أُترِفوا فيه( هو الانصراف إلى شهواتهم، أي اتبَعوا شهواتهم. وقال تعالى: )وإذا أردنا أن نُهلِك قرية أمَرْنا مُترَفيها ففسقوا فيها( ومترفيها هنا جبابرتها المتنعمين. وقال تعالى: )وأترفناهم في الحياة الدنيا( أي جعلناهم يصرون على البغي من بطرهم، أي جعلناهم بطرين.

      والترف في اللغة البطر والغطرسة من التنعم، يقال: ترفَّه وأترفه المال أي أبطره، أفسده. أترف الرجل أصر على البغي. استترف: بغى، تغطرس. وعلى ذلك يتبين أن الترف الذي ذمّه القرآن وحرّمه الله وجعله إثماً هو الترف الذي ورد معناه في اللغة وهو البطر من التنعم، والغطرسة من التنعم، وليس هو التنعم فقط. ولذلك كان من الخطأ أن يفسَّر الترف بأنه هو التمتع بالمال والتنعم بما رزق الله، لأن هذا التنعم والتمتع بما رزق الله لم يذمّه الشرع، قال تعالى: )قُل مَن حرّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(، وقال عليه السلام: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده}، أي يحب من عبده أن يتنعم بنعمة الله، ويتمتع بالطيبات التي رزقه إياها رب العالمين. ولكن الله يكره البَطَر من التنعم، والغطرسة من التنعم، والبغي من التنعم، أي يكره التنعم إذا نتج عنه بطر وبغي وغطرسة وتجبر. ولماّ كان التنعم بالمال قد يُنتج عند بعض الناس تكبُّراً وتجبراً وبَطَراً، أي قد يُحدث عنده ترفاً، مَنَع الإسلام هذا الترف وحرّمه، أي منع الفساد إذا نجم عن كثرة الأموال والأولاد، فجعل الشخص بطراً متغطرساً متجبراً، وحرّم ذلك أشد التحريم. فحين يقال إن الترف حرام لا يعني أن التنعم حرام، وإنما يعني أن البطر الذي ينجم عن التنعم بالمال حرام كما هو معنى الترف لغة، وكما هو معنى الترف كما يُفهم من آيات القرآن.

      ج- مَنَع الفرد من التقتير على نفسه، ومن حرمانها المتاع المشروع، وأحلّ التمتع بالطيبات من الرزق، وأخْذ الزينة اللائقة، قال الله تعالى: )ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسُطها كل البسط فتقعُد ملوماً محسوراً(، وقال الله تعالى: )والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواماً(، وقال: )قُل مَن حَرَّم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق(، وقال عليه الصلاة والسلام: {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده}، وقال: {إذا آتاك الله مالاً فليَرَ أثر نعمته وكرامته عليك}. فإذا كان للفرد مال وبخل به على نفسه فإنه يكون آثماً عند الله تعالى. أمّا إذا بخل به على من تجب عليه نفقتهم فإنه فوق إثمه على ذلك عند الله تعالى لا بد من إجباره من قِبل الدولة على الإنفاق على أهله ممن تجب عليه نفقتهم، وأن يُضمن أن يكون هذا الإنفاق عن سَعة حتى يتوفر لهم المستوى الطيب من العيش، قال الله تعالى: )لِيُنفِق ذو سَعَةٍ مِن سَعَتِه(، وقال: )أسكِنوهن من حيث سكنتم من وُجْدِكُم ولا تُضارّوهن لتُضَيِّقوا عليهن(. وإذا بخل من تجب عليه نفقتهم كان لمن لهم النفقة أن يأخذوا من المال قدر كفايتهم بالمعروف. {جاءت هند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن ابا سفيان رجل شحيح، وليس يعطيني من النفقة ما يكفيني وولدي. فقال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف}، فجَعَل لها الحق أن تأخذ ذلك بنفسها من غير علمه إن لم يُعطِها، لأنها فرضٌ عليه. وعلى القاضي أن يفرض لها هذه النفقة. وكما يجب على من تجب عليه النفقة أداؤها، كذلك يجب على من يأخذ النفقة إنفاقها فيما فُرضَت له. فإذا فُرضَت نفقة إلى الأولاد وأمر بدفعها إلى من يحضنهم من أم أو جدّة أو غيرهما فإنه يجب عليها إنفاقها. فلو لم تنفقها يجبرها القاضي على إنفاقها.

    13. #28
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي



      الفقـــــــــر



      الفقر في اللغة الاحتياج. يقال: فقر وافتقر ضد استغنى، وافتقر إليه احتاج، فهو فقير، جمعه فقراء. أفقره ضد أغناه. والفقر مصدر ضد الغِنى. وذلك أن يصبح الإنسان محتاجاً وليس له ما يكفيه. والفقير في الشرع هو المحتاج الضعيف الحال الذي لا يَسأل. عن مجاهد قال: الفقير الذي لا يَسأل. وعن جابر بن زيد مثل ذلك قال: الفقير الذي لا يَسأل. وعن عكرمة: الفقير الضعيف. وقال تعالى: )ربِّ إني لِما أنزلتَ إليّ من خيرٍ فقير(، أي إني لأي شيء أنزلتَ إليّ قليل أو كثير من خيرٍ فقير، أي محتاج. وقال تعالى: )وأطعِموا البائس الفقير(، والبائس الذي أصابه بؤس أي شدّة، والفقير الذي أضعفه الإعسار. فمجموع الآيات والآثار تدل على أن الفقر هو الاحتياج. والذي يُحتاج إلى تفصيله هو معنى الاحتياج.

      وفي النظام الاقتصادي الرأسمالي يجعلون الفقر شيئاً نسبياً، وليس هو مسمى لشيء معين ثابت لا يتغير، فيقولون إن الفقر هو عدم القدرة على إشباع الحاجات من سلع وخدمات. وبما أن الحاجات تنمو وتتجدد كلما تقدمت المدنية لذلك كان إشباع الحاجات يختلف باختلاف الأشخاص والأمم. فالأمم المنحطة تكون حاجات أفرادها محدودة فيمكن إشباعها بالسلع والخدمات الضرورية، ولكن الأمم الراقية المتمدنة المتقدمة مادياً تكون حاجاتها كثيرة ولذلك يحتاج إشباعها إلى سلع وخدمات أكثر فيكون اعتبار الفقر فيها غير اعتباره في البلدان المتأخرة. فمثلاً يعتبر عدم إشباع الحاجة من الكماليات في أوروبا وأمريكا فقراً، ولكن عدم إشباع الحاجات الكمالية في مصر أو العراق مثلاً مع إشباع الحاجات الأساسية لا يعتبر فقراً. وهذا الاعتبار في النظام الاقتصادي الرأسمالي خطأ لأنه يجعل معنى الأشياء اعتبارياً وليس حقيقياً. وهذا خطأ لأن الشيء له واقع حقيقي فيُعرف بواقعه، وليس هو شيئاً اعتبارياً ولا واقع له، ولأن التشريع الموضوع للإنسان لا يجعل النظام مختلفاً باختلاف الأفراد، ما دام قد جاء للإنسان بوصفه إنساناً لا بوصفه فرداً. فلو كانت الدولة تحكم أفراداً في اسبانيا وأفراداً في اليمن لا يصح أن تختلف نظرتها للفقر في بلد عن بلد آخر لأن كلاً منهم إنسان قد وُضع العلاج لمشاكله.

      وقد اعتبر الإسلام الفقر اعتباراً واحداً للإنسان في أي بلد وفي أي جيل. فالفقر في نظر الإسلام هو عدم إشباع الحاجات الأساسية إشباعاً كاملاً. وقد حدد الشرع هذه الحاجات الأساسية بثلاثة أشياء هي المأكل والملبس والمسكن. قال تعالى: )وعلى المولودِ له زرقُهُنّ وكسوَتُهُنّ بالمعروف(، وقال: )أسكنوهنّ من حيث سكنتُم مِن وُجدِكُم(، وقال عليه الصلاة والسلام: {ألا وحَقُّهُنّ عليكم أن تُحسِنوا إليهن في كسوتهن وطعامهن}، مما يدل على أن الحاجات الأساسية التي يعتبر عدم إشباعها فقراً هي الطعام والكسوة والمسكن. أمّا ما عدا ذلك فيعتبر من الحاجات الكمالية. فلا يكون من لم يُشبِع الحاجات الكمالية مع إشباعه الحاجات الأساسية فقيراً. والفقر بالمعنى الإسلامي وهو فقدان ما يُشبِع الحاجات الأساسية، من الأمور التي تكون سبباً لانحطاط الأمّة وهلاكها. وقد جعله الإسلام من وعد الشيطان، قال الله تعالى: )الشيطان يعدكم الفقر(. واعتبر الإسلام الفقر ضعفاً وأمر بالعطف على الفقراء، قال تعالى: )إنْ تُبدوا الصدقات فنِعِمّا هِي وإن تُخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم(، وقال: )وأطعِموا البائس الفقير(. وقد جعل الإسلام إشباع هذه الحاجات الأساسية وتوفيرها لمن لم يجدها فرضاً. فإذا وفرها الفرد لنفسه كان بها، وإذا لم يوفرها لنفسه لعدم وجود مال كاف بين يديه أو لعدم إمكانه تحصيل المال الكافي، جعل الشرع إعانته على غيره حتى يتوفر له ما يُشبع هذه الحاجات الأساسية. وقد فصّل الشرع كيفية إعانة الفرد في هذه الأشياء، فأوجبها على الأقارب الذين يكونون رحماً محرماً له، قال تعالى: )وعلى المولود له رزقُهُن وكِسوَتُهن بالمعروف لا تُكلَّف نفس إلاّ وُسعَها ولا تُضارَّ والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك( أي على الوارث مثل المولود له من حيث الرزق والكسوة، وليس المراد بالوارث أن يكون وارثاً بالفعل بل أن يكون ممن يستحق الميراث، فإن لم يكن له أقارب ممن أوجب الله عليهم نفقة قريبهم انتقلت نفقته على بيت المال في باب الزكاة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ترك كَلاً فإلينا ومن ترك مالاً فلورثته}، والكَلّ الضعيف الذي لا ولد له ولا والد: اليتيم. وقال تعالى: )إنّما الصدقات للفقراء والمساكين( الآية. فإن لم يَفِ قسم الزكاة من بيت المال في حاجات الفقراء والمساكين كان واجباً على الدولة أن تنفق عليهم من أبواب أخرى من بيت المال. فإن لم يوجد في بيت المال مال يجب على الدولة أن تفرض ضريبة على أموال الأغنياء وتحصّلها لتنفق على الفقراء والمساكين منها، لأن النفقة فرض على الأقارب، فإن لم يجدوا فعلى واردات الزكاة، فإن لم يوجد منها واردات ففرضٌ على بيت المال، فإن لم يوجد فيه مال كانت فرضاً على كافة المسلمين. قال عليه الصلاة والسلام: {أيُّما أهل عَرَصة أصبح فيهم امرؤ جائعاً فقد برئت منهم ذمة الله تبارك وتعالى}، وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع وهو يعلم}، وقال تعالى: )وفي أموالهم حق للسائل والمحروم(. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم ألزم الأنصار بإعالة المهاجرين الفقراء، مما يدل على أنه فرض على كافة المسلمين حتى يَكفوهم. وما كان فرضاً على كافة المسلمين كان على الخليفة بما عليه من واجب رعاية شؤون الأمّة أن يحصّل المال من المسلمين ليقوم بما هو فرض عليهم. فينتقل حينئذ الفرض من على المسلمين إلى أن يصبح فرضاً على بيت المال فيقوم بأدائه بإطعام الفقير والمسكين.

      هذا من ناحية من تجب له النفقة من الفقراء والمساكين يُجبَر هو بتحصيلها، فإن لم يستطع فيُجبَر قريبه بالإنفاق عليه إذا كان رحماً محرماً أي في درجة من القرابة التي ذكرها القرآن لوجوب النفقة. فإن لم يستطع القريب أو لم توجد القرابة، فعلى باب الزكاة من بيت المال، ثم على بيت المال، ثم على كافة المسلمين حتى تحصل الكفاية للفقراء والمساكين.

      أمّا بالنسبة لمن تجب عليه النفقة للفقير والمسكين من الأقارب فإنها لا تجب إلاّ على من كان في غِناء، أي من استغنى عن غيره. ويعتبر الشخص في غناء إذا كان ممن تُطلب منه الصدقة، أمّا من نُهي عن الصدقة فلا. عن سعيد بن المسيب أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خير الصدقة ما كان عن ظهر غِنى} والغِنى هنا ما يستغني به الإنسان مما هو قدر كفايته لإشباع حاجاته. ويقول الفقهاء: والغِنى هو ما يقوم بقوت المرء وأهله على الشبع من قوت مثله وبكسوتهم كذلك وسكناهم، وبمثل حاله من مركب وزي. فهذا يقع عليه في اللغة اسم غِنى لاستغنائه عن الناس. ويقال في اللغة: أغنى غناءً الرجل: أجزأه وكفاه. وعلى هذا لا تجب النفقة للفقير والمسكين إلاّ على من كان مستغنياً عن غيره أي من كان في سَعة، قال تعالى: )وليُنفِق ذو سَعة من سَعَته. ومن قُدِر عليه رزقه فليُنفق مما آتاه الله(، وروى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا كان أحدكم فقيراً فليبدأ بنفسه فإن فَضُلَ فعلى عياله فإن كان فَضْل فعلى قرابته}، وفي لفظ {ابدأ بنفسك ثم بمن تعول}. ونفقة الإنسان على نفسه هي سده لكفاية حاجاته التي تتطلب إشباعاً وليست كفاية حاجاته الأساسية فحسب. وذلك لأن الشرع أوجب عليه نفقة زوجته بالمعروف. وقد فُسّر بأنها حسب حالها وأمثالها. قال تعالى: )رزقُهُن وكِسوَتُهُن بالمعروف( فتكون نفقته على نفسه أيضاً بالمعروف، وليس الكفاية. وقال عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان: {خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف} فلم يقل: {ما يكفيك} فقط بل زاد كلمة {بالمعروف} مما يدل على أن المراد ما يكفيها حسب المتعارف عليه من كفايتها وكفاية ولدها بالنسبة لحالهما وأمثالهما. فلا يُقدر إذن غناؤه الذي لا بد من توفره حتى تجب عليه النفقة بما يكفي حاجاته الأساسية فحسب، بل بما يكفي حاجاته الأساسية وبما يكفي حاجاته الأخرى التي يُعرف بين الناس أنها من حاجاته، وذلك لا يُقدَّر بمقدار وإنما يُترك للشخص ومستوى المعيشة الذي يعيش عليه. وقد قَدّر بعض الفقهاء الحاجات التي يُعتبر ما زاد عليها غِنى خمسة أشياء هي: المأكل والملبس والمسكن والزواج وما يركبه لقضاء حاجاته البعيدة. غير أن ذلك لم يَرِد به نص صريح وإنما حسب ما كان يعتبر أنه بالمعروف. ولذلك يقدَّر الغِنى بما يَفضُل عن إشباع حاجاته بالمعروف فإن زاد وجبت النفقة عليه للفقير والمسكين، وإن لم تزِد لا تجب عليه. والحاصل أن الفقير الذي تجب له النفقة هو مَن عَدِم إشباع حاجاته الأساسية، أي من احتاج إلى الطعام والكسوة والسكنى، وأمّا الغني الذي تجب عليه النفقة ويجب عليه ما يجب على كافة المسلمين من التكاليف المالية هو من ملك ما يَفضُل عن إشباع حاجاته بالمعروف، لا حاجاته الأساسية فقط، ويقدَّر ذلك بحسب حاله وأمثاله من الناس.



      الملكية العامة



      الملكية العامة هي إذْن الشارع للجماعة بالاشتراك في الانتفاع بالعين. والأعيان التي تتحقق فيها الملكية العامة هي الأعيان التي نص الشارع على أنها للجماعة مشترِكة بينهم، ومَنَع من أن يحوزها الفرد وحده، وهذه تتحقق في ثلاثة أنواع هي:

      1- ما هو من مرافق الجماعة بحيث إذا لم تتوفر لبلدة أو جماعة تفرقوا في طلبها.

      2- المعادن التي لا تنقطع.

      3- الأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها.

      أمّا ما هو من مرافق الجماعة فهو كل شيء يعتبر من مرافق الناس عموماً. وقد بيّنها الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث من حيث صفتها لا من حيث عددها. فعن أبي خراش عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المسلمون شركاء في ثلاث في الماء والكلأ والنار}، ورواه أنس من حديث ابن عباس وزاد فيه {وثمنه حرام}. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يُمنع الماء والنار والكلأ}. وفي هذا دليل على أن الناس شركة في الماء والكلأ والنار، وأن الفرد يُمنع من ملكيتها. إلاّ أن الملاحَظ أن الحديث ذكرها ثلاثاً وهي أسماء جامدة ولم تَرِد عِلّة للحديث. فالحديث لم يتضمن علة، وهذا يوهم أن هذه الأشياء الثلاثة هي التي تكون ملكية عامة لا وصفها من حيث الاحتياج إليها. ولكن المدقق يجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم أباح الماء في الطائف وخيبر للأفراد أن يمتلكوه، وامتلكوه بالفعل لسقي زروعهم وبساتينهم، فلو كانت الشركة للماء من حيث هو لا من حيث صفة الاحتياج إليه لَما سمح للأفراد أن يمتلكوه. فمن قول الرسول: {المسلمون شركاء في ثلاث: الماء...} الخ، ومن إباحته عليه السلام للأفراد أن يمتلكوا تُستنبَط علة الشراكة في الماء والكلأ والنار، وهي كونه من مرافق الجماعة التي لا تستغني عنها الجماعة. فيكون الحديث ذَكَر الثلاث ولكنها معلَّلة لكونها من مرافق الجماعة. وعلى ذلك فإن هذه العلة تدور مع المعلول وجوداً وعدماً. فكل شيء يتحقق فيه كونه من مرافق الجماعة يعتبر ملكاً عاماً سواء أكان الماء والكلأ والنار أم لا، أي ما ذُكر في الحديث وما لم يُذكر. وإذا فقد كونه من مرافق الجماعة ولو كان قد ذُكر في الحديث كالماء فإنه لا يكون ملكاً عاماً بل يكون من الأعيان التي تُملك ملكاً فردياً. وضابط ما هو من مرافق الجماعة هو أنه كل شيء إذا لم يتوفر للجماعة أياً كانت الجماعة كمجموعة بيوت شعر أو قرية أو مدينة أو دولة تفرقت في طلبه، يعتبر من مرافق الجماعة كمنابع المياه وأحراش الاحتطاب ومراعي الماشية وما شابه ذلك.

      أمّا المعادن فهي قسمان، قسم محدود المقدار بكمية لا تعتبر كبيرة بالنسبة للفرد، وقسم غير محدود المقدار. أمّا القسم المحدود المقدار فإنه من الملكية الفردية ويملك ملكاً فردياً ويعامَل معاملة الركاز وفيه الخُمس. فعن عمرو بن شعيب {أن المُزني سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اللُّقَطة توجد في الطريق العامر أو قال: الميثاء (أي طريق مسلوكة يأتيها الناس)، فقال: {عرِّفها سنة فإن جاء صاحبها وإلاّ فهي لك. قال: يا رسول الله فما يوجَد في الخراب العادي قال: فيه وفي الركاز الخُمس}.

      وأمّا القِسم غير المحدود المقدار الذي لا يمكن أن ينفد فإنه ملكية عامة ولا يجوز أن يُملك فردياً، لِما رُوي عن أبيض بن حمال {أنه استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم الملح بمأرب، فلما ولّى قيل: يا رسول الله أتدري ما أقطعته له؟ إنّما أقطعت له الماء العَدّ. قال فرَجَعَه منه}. وفي رواية عن عمرو بن قيس المأربي قال: {استقطعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم معدن الملح بمأرب فأقطعنيه. فقيل: يا رسول الله إنه بمنزلة الماء العَدّ –يعني أنه لا ينقطع- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فلا، إذن}. والماء العد: الذي لا ينقطع. شبّه الملح بالماء العد لعدم انقطاعه. فهذا الحديث يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع ملح الجبل الأبيض بن حمال مما يدل على أنه يجوز إقطاع معدن الملح. فلمّا علم أنه من المعدن الدائم الذي لا ينقطع رجع عن إقطاعه وأرجعه ومنع ملكية الفرد له، لأنه ملكية الجماعة. وليس المراد هنا الملح، وإنما المراد المعدن بدليل لمّا علمه أنه لا ينقطع منعه، مع أنه يعلم أنه ملح وأقطعه من أول الأمر، فالمنع لكونه معدناً لا ينقطع. قال أبو عبيد: "وما إقطاعه صلى الله عليه وسلم أبيض بن حمال المأربي الملح الذي بمأرب ثم ارتجاعه منه، فإنّما أقطعه وهو عنده أرض مَوات يحييها أبيض ويعمرها فلما تبين للنبي صلى الله عليه وسلم أنه ماء عد –وهو الذي له مادة لا تنقطع مثل ماء العيون والآبار- ارتجعه منه لأنه سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكلأ والنار والماء أن الناس جميعاً فيه شركاء فكَرِه أن يجعله لرجل يحوزه دون الناس". ولماّ كان الملح من المعادن فإن إرجاع الرسول عن إقطاعه لأبيض يعتبر علة لعدم ملكية الفرد، وهو كونه معدناً لا ينقطع وليس كونه ملحاً لا ينقطع. ومن هذا الحديث يتبين أن علة المنع في عدم إقطاع معدن الملح كونه عداً، أي لا ينقطع. ويتبين من رواية عمرو بن قيس أن الملح هنا معدن حيث قال: "معدن الملح"، ويتبين من استقراء كلام الفقهاء أنهم جعلوا الملح من المعادن فيكون الحديث متعلقاً بالمعادن لا بالملح خاصة.

      وأمّا ما رُوي من أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقطع لبلال بن الحارث معادن القبلية، وما روي عن أبي عكرمة أنه قال: {أقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً أرض كذا من مكان كذا وما فيها من جبل ومعدن} فإنه لا يعارض حديث أبيض بل يُحمل على أن هذه المعادن التي أقطعها الرسول لبلال كانت محدودة فجاز إقطاعها، كما أقطع الرسول أبيض معدن الملح أولاً، ولا يصح أن يُحمل على إقطاع المعادن مطلقاً، لأنه حينئذ يتعارض مع إرجاع الرسول المعدن الذي أقطعه حين تبين له أنه عد لا ينقطع، فيتعين حمل المعادن التي أقطعها الرسول على كونها محدودة تنقطع وتنفد.

    14. #29
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي

      وهذا الحكم، وهو كون المعدن الذي لا ينقطع ملكاً عاماً، يشمل المعادن كلها سواء المعادن الظاهرة التي يوصَل إليها من غيرمؤونة ينتابها الناس ينتفعون بها كالملح والكحل والياقوت وما شابهها، أو كان من المعادن الباطنة التي لا يوصَل إليها إلاّ بالعمل والمؤونة كمعادن الذهب والفضة والحديد والنحاس والرصاص وما شاكلها. وسواء أكانت جامدة كالبلور أو سائلة كالنفط، فإنها كلها معادن تدخل تحت الحديث.

      أمّا الأشياء التي طبيعة تكوينها تمنع اختصاص الفرد بحيازتها، فهي الأعيان التي تشتمل على المنافع العامة. وهي وإن كانت تدخل في القسم الأول لأنها من مرافق الجماعة، ولكنها تختلف عن القسم الأول من حيث أن طبيعتها أنه لا يتأتى فيها أن يملكها الفرد، بخلاف القسم الأول فإنه يتأتى أن يملكه الفرد، فعين الماء يمكن أن يملكها الفرد ولكنه يُمنع من ملكيتها إذا كانت الجماعة لا تستغني عنها، بخلاف الطريق فإنه لا يمكن أن يملكها الفرد. ولهذا فإن هذا القسم وإن كان دليله انطباق العلة الشرعية عليه وهي كونه من مرافق الجماعة فإن حقيقة واقعه تدل على أنه ملكية عامة. وهذا يشمل الطرق والأنهار والبحار والبحيرات والأقنية العامة والخلجان والمضايق ونحوها، كما يشمل المساجد ومدارس الدولة ومستشفياتها والملاعب والملاجئ ونحوها.



      ملكية الدولة



      هناك أموال لا تدخل في الملكية العامة بل هي داخلة في الملكية الفردية لأنها أعيان تقبل الملك الفردي كالأرض والأشياء المنقولة، ولكنه قد تعلَّق فيها حق لعامة المسلمين فصارت بذلك ليست من الملكية الفردية، وهي لا تدخل في الملكية العامة، فتكون حينئذ ملكاً للدولة، لأن ما كان الحق فيه لعامة المسلمين فالتدبير فيه للخليفة يخص بعضهم بشيء من ذلك حسب ما يرى. ومعنى تدبيره هذا هو أن يكون له سلطان عليه يتصرف فيه، وهذه هي الملكية، لأن معنى الملكية أن يكون للفرد سلطان على ما يملك. وعلى ذلك فكل مال مصرفه موقوف على رأي الخليفة واجتهاده يعتبر ملكاً للدولة. وقد جعل الشارع أموالاً معينة ملكاً للدولة، للخليفة أن يصرفها حسب رأيه واجتهاده مثل الفيء والخَراج والجزية وما شابهها لأن الشرع لم يعين الجهة التي تُصرف فيها. أمّا إذا عيّن الشرع الجهة التي تُصرف فيها ولم يتركها لرأيه واجتهاده لا تكون ملكاً للدولة وإنما تكون ملكاً للجهة التي عيّنها الشرع، ولذلك لا تعتبر الزكاة ملكاً للدولة بل هي ملك للأصناف الثمانية الذين عيّنهم الشرع، وبيت المال إنّما هو محل إحرازها من أجل صرفها على جهاتها.

      وإنه وإن كانت الدولة هي التي تقوم بتدبير الملكية العامة وتقوم بتدبير ملكية الدولة إلاّ أن هنالك فرقاً بينهما، وهو أن ما كان داخلاً في الملكية العامة فلا يجوز للدولة أن تعطي أصله لأحد وإن كان لها أن تبيح للناس أن يأخذوا منه بناء على تدبير يمكّنهم جميعاً من الانتفاع به، بخلاف ملكية الدولة فإن للدولة أن تعطيها كلها لأفراد معينين ولا تعطي الآخرين، ولها أن تمنعه عن الأفراد إذا رأت في ذلك رعاية لشؤونهم من ناحية أخرى غير إعطائهم. فالماء والملح والمراعي وساحات البلدة لا يجوز أن تعطيها لأفراد مطلقاً وإن كان يجوز للجميع الانتفاع بها بحيث يكون النفع لهم جميعاً دون تخصيص أحد دون الآخر. والخَراج يجوز أن تنفقه على الزرّاع فقط دون غيرهم لمعالجة شؤون الزراعة، ويجوز أن تنفقه على شراء السلاح فقط ولا تعطي أحداً منه شيئاً فهي تتصرف به كما ترى مصلحة للرعية.



      التأميم ليس من الملكية العامة ولا من ملكية الدولة



      التأميم هو من ترقيعات النظام الرأسمالي، وهو تحويل الملكية الفردية إلى ملكية الدولة إذا رأت أن هناك مصلحة عامة تقتضي ملكية هذا المال المملوك فردياً، وليست الدولة مجبَرة على التأميم بل هي مخيرة إن شاءت أمّمت وإن شاءت تركت المال دون تأميم. وهذا بخلاف الملكية العامة وملكية الدولة فإنها حسب أحكام الإسلام ثابتة في طبيعة المال وصِفَته بغض النظر عن رأي الدولة. فيُنظر إلى واقع المال فإن كان في المال حق لعامة المسلمين كان ملكاً للدولة يجب أن تملكه، وإن لم يكن فيه حق لعامة المسلمين كان ملكاً للأفراد فلا يصح أن تملكه. وإن كان المال من مرافق الجماعة أو من المعادن أو من طبيعته أن لا يُملك فردياً كان ملكاً عاماً طبيعياً، ولا تستطيع الدولة إبقاءه ملكاً فردياً. وإن لم يكن هذا المال من نوع الملكية العامة يبقى ملكاً فردياً ولا تستطيع الدولة أن تؤممه ولا أن تملكه جبراً عن صاحبه مطلقاً، إلاّ إذا رضي صاحبه أن يبيعه لها كما يبيعه لأي فرد، فتشتريه كما يشتريه سائر الأفراد. ولهذا لا تستطيع الدولة أن تمتلك ملك الأفراد جبراً بحجة المصلحة العامة كلما بدا لها ذلك ولو دفعت ثمنها، لأن أملاك الأفراد محترمة ومصونة لا يجوز أن يتعدى أحد عليها حتى ولا الدولة. ويعتبر التعدي عليها مظلمة يُشكى إلى محكمة المظالم على الحاكم إذا فعلها لترفع مظلمته، إذ ليس للخليفة أن يُخرج شيئاً من يد أحد إلاّ بحق ثابت معروف. وكذلك لا تستطيع الدولة أن تبقي مالاً مما هو داخل في الملكية العامة أو ملكية الدولة في يد فرد بحجة المصلحة، لأن المصلحة في هذه الأموال قد قدّرها الشرع في بيانه ما هي الملكية العامة وما هي ملكية الدولة وما هي الملكية الفردية.

      وبذلك يظهر أن التأميم ليس من الملكية العامة ولا من ملكية الدولة ولا هو من الأحكام الشرعية بل هو من ترقيعات النظام الرأسمالي.



      الحِمى في المنافع العامة



      لجميع الناس حق الانتفاع بالمنافع العامة على الوجه الذي وُجدت من أجله، ولا يجوز استعمالها إلاّ بما وُجدت من أجله. فلا يجوز الانتفاع بالطريق للوقوف للاستراحة أو الوقوف لإجراء معاملات البيع والشراء أو لغير ذلك مما لم توجَد الطريق لأجله. لأن الطريق وُجدت للاستطراق، إلاّ أن يكون استعمالها يسيراً بحيث لا يؤثر على الاستطراق. ويقدَّر ذلك بالقدر الذي لا يحصل فيه الإضرار والتضييق على المارة. وكذلك لا يجوز استعمال الأنهار إلاّ بما وُجدت من أجله، فإن وُجد النهر للسقي كالنهر الصغير، لا يستعمل للملاحة، وإن وُجد للاثنين كالنيل ودجلة والفرات يُستعمَل لهما.

      وكذلك ليس لأحد أن يختص بحِمى شيء مما هو من المنافع العامة كالمراعي والمساجد والبحار. قال عليه الصلاة والسلام: {لا حِمى إلاّ لله ولرسوله}. وأصل الحِمى عند العرب أن الرئيس منهم كان إذا نزل منزلاً مخصباً استعوى كلباً على مكان عالٍ، فإلى حيث انتهى صوته حماه من كل جانب فلا يرعى فيه غيره، ويرعى هو مع غيره فيما سواه. والحمى هو المكان المحمي وهو خلاف المباح. فجاء الإسلام فمنع الناس أن يحموا أي شيء من الأشياء العامة لهم وحدهم دون غيرهم. ومعنى الحديث ليس لأحد أن يحمي ما هو لعموم المسلمين إلاّ لله ولرسوله، فإن لهم أن يحموا أي شيء يرونه. وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فحمى بعض الأمكنة. فعن ابن عمر {أن النبي صلى الله عليه وسلم حَمى النقيع للخيل، خيل المسلمين} أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم حَمى مكاناً يقال له النقيع وهو موضع ينتقع فيه الماء فيكثر فيه الخصب وكان على بُعد عشرين فرسخاً من المدينة، فقد منع الناس من الإحياء في ذلك المَوات ليتوفر فيه الكلأ وترعاه مواشٍ مخصوصة ويُمنع غيرها. والمراد هنا أنه حماها للخيل الغازية في سبيل الله. وقد كان خلفاء النبي من بعده يحمون بعض الأمكنة، فإن عمر وعثمان حميا بعض الأموال العامة واشتهر ذلك في الصحابة فلم ينكِر عليهما منكِر فكان إجماعاً. وروي عن عامر بن عبيد الله بن الزبير عن أبيه قال: {أتى أعرابي عمر فقال: يا أمير المؤمنين بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية وأسلمنا عليها في الإسلام، علامَ تحميها؟ فأطرق عمر وجعل ينفخ ويفتل شاربه –وكان إذا كَرَبه أمر فتل شاربه ونفخ- فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك فقال عمر: المال مال الله والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت شبراً من الأرض في شبر}.

      والحِمى المنهي عنه في الحديث يشتمل أمرين: الأول الأرض الميتة التي لكل واحد من الناس أن يحييها ويأخذ منها، والثاني أن تُحمى الأشياء التي جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فيها شركاء، وهي مثل الماء والكلأ والنار، كأن يختص بقناة الماء فيسقي زرعه ثم يمنعها عن غيره حتى لا يسقي زرعه. عن هشام عن الحسن، قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من منع فضل الماء ليمنع به فضل الكلأ منعه الله فضله يوم القيامة}. وبذلك يتبين أنه يجوز للدولة أن تحمي من الأرض الموات ومما هو داخل في الملكية العامة، لأية مصلحة تراها من مصالح المسلمين على شرط أن يكون ذلك على وجه لا يُلحق الضرر
      بأحد

    15. #30
      التسجيل
      01-05-2005
      المشاركات
      411
      المواضيع
      166
      شكر / اعجاب مشاركة

      مشاركة: النظام الإقتصادي





      المصانـع



      المصنع من حيث هو، من الأملاك الفردية. فهو من الأعيان التي تقبل الملك الفردي. وقد ثبت أن الأفراد كانوا يملكون مصانع في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم كصناعة الأحذية وصناعة الثياب وصناعة السيوف وغيرها. وقد أقرهم الرسول عليها واستصنع عندهم المنبر، مما يدل على جواز ملكية الأفراد للمصانع. غير أن المواد التي تصنعها المصانع تحوِّل المصنع إلى أن يأخذ حكم هذه المواد، بدليل أن مصنع الخمر يحرم على المسلم اقتناؤه بنص الحديث الذي ذكر أن الله لعن عاصر الخمر ومعتصرها. فالنهي عن عصر الخمر ليس نهياً عن العصر وإنما هو نهي عن عصر الخمر، فالعصر ليس حراماً، ولكن عصر الخمر هو الحرام، فجاءت حرمة مصنع الخمر من حرمة المواد التي يصنعها. وبذلك يتبين أن المصنع قد أخذ حكم المادة التي يصنعها. وعلى ذلك يُنظر في المصانع، فإن كانت المواد التي تُصنع فيها ليست من المواد الداخلة في الملكية العامة كانت هذه المصانع أملاكاً فردية، كمصانع الحلويات ومصانع النسيج ومصانع النجارة وما شاكل ذلك. وإن كانت المصانع لصنع المواد الداخلة في الملكية العامة كمصانع المعادن التي تَستخرج المعادن التي لا تنقطع، فإنها تكون ملكاً عاماً ولا تدخل في الملكية الفردية ويُمنع الأفراد من تملكها. وعلى هذا فإن مصانع استخراج البترول واستخراج الحديد والذهب وما شاكلها من المعادن على شرط أن يكون المنجم من العدّ الذي لا ينقطع، هي ملك عام. أمّا مصانع قطع الحديد وطَرْقه ومصانع السيارات وما شاكل ذلك مما تكون مواده داخلة في الملكية الفردية فإنه يجوز للأفراد أن يملكوها لأن المادة التي تصنعها ليست من المواد الداخلة في الملكية العامة. وعلى ذلك فكل مصنع تكون مادة صنعه مما هو داخل في الملكية العامة يعتبر ملكاً عاماً ولا يجوز للأفراد أن يمتلكوه. وكل مصنع تكون مادة صنعه مما هو داخل في الملكية الفردية فإنه يجوز للأفراد أن يمتلكوه لأنه من نوع الملكية الفردية.



      بيت المـال



      بيت المال هو الجهة التي تختص بكل دخل أو خرج لما يستحقه المسلمون من مال. وعلى ذلك فكل مال استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه منهم فهو من حقوق بيت المال حتى ولو تعين مالكه جهة. فإذا قُبض صار بالقبض مضافاً إلى حقوق بيت المال سواء أدخل إلى حرزه أم لم يدخل، لأن بيت المال عبارة عن الجهة لا عن المكان. وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال. فإذا صُرف في جهته صار مضافاً إلى الخرج من بيت المال سواء خرج من حرزه أم لم يخرج، لأن ما صار إلى ولاة المسلمين وعمالهم أو خرج من أيديهم فحُكْم بيت المال جارٍ عليه في دخله إليه وخرجه.



      واردات بيت المال



      واردات بيت المال الدائمة هي الفيء كله، والجزية، والخَراج، وخُمس الركاز، والزكاة، والأملاك الخاصة بالدولة. إلاّ أن الزكاة وخُمس الركاز توضع في حرز خاص بها من بيت المال، ولا تُصرف إلاّ للأصناف الثمانية الذين ذُكروا في القرآن، ولا يجوز أن يُصرف منها شيء لغير الأصناف الثمانية، سواء أكان من شؤون الدولة أو من شؤون الأمّة. إلاّ أن يجوز للإمام صرفها على رأيه واجتهاده لمن يشاء من الأصناف الثمانية. فله أن يعطيها لصنف منهم أو أكثر، وله أن يعطيها لهم جميعاً. أمّا باقي الأموال التي من حقوق بيت المال فهي الأموال الأخرى. وتوضع في بيت المال مع بعضها وينفق منها على شؤون الدولة والأمّة وعلى الأصناف الثمانية وعلى كل شيء تراه الدولة. فإن وَفَت هذه الأموال بحاجات الرعية كان بها، وإلاّ فإن الدولة تفرض ضرائب على المسلمين لتقوم بقضاء ما يُطلب منها من رعاية الشؤون. أمّا كيفية فرض هذه الضرائب فإنه يسير على حسب ما فرضه الشرع على المسلمين، فإنّ ما كان فرضاً على المسلمين القيام به من الأعمال واحتاج إلى نفقات حتى تقوم به الدولة، فإن للدولة أن تفرض على المسلمين ضرائب لتقوم بأعبائه، وما لم يكن واجباً على المسلمين كسداد دين الميت، فإنه لا يجوز للدولة أن تفرض ضرائب للقيام بها، فإن كان لديها في بيت المال مال قامت به وإلاّ فيسقط القيام به عن الدولة. وعلى هذا فللدولة أن تحصّل الضرائب في هذه الحال وعليها أن تسير على الوجه التالي:

      1- لسد النفقات الواجبة على بيت المال للفقراء والمساكين وابن السبيل وللقيام بفرض الجهاد.

      2- لسد النفقات الواجبة على بيت المال على سبيل البدل كنفقات الموظفين وأرزاق الجند وما شاكل ذلك.

      3- لسد النفقات الواجبة على بيت المال على وجه المصلحة والإرفاق دون بدل كإنشاء الطرقات واستخراج المياه وبناء المساجد والمدارس والمستشفيات وغير ذلك من الأمور التي يعتبر إيجادها من الضروريات وينال الأمّة ضرر من عدم وجودها.

      4- لسد النفقات الواجبة على بيت المال على وجه الضرورة كحادث طرأ على المسلمين من مجاعة أو طوفان أو زلزال أو هجوم عدو أو ما شاكل ذلك.

      5- أن تفرض ضرائب لتسديد ديون اقترضتها للقيام بما هو واجب على كافة المسلمين من كل ما هو داخل في أية حالة من الحالات الأربع، أو ما تفرع عنها أو أية حالة أوجبها الشرع على المسلمين.

      ومن الواردات التي توضع في بيت المال وتُنفق على مصالح الرعية ما يأخذه العاشر من الحربيين والمعاهدين والأموال الناتجة مما هو من الملكية العامة أو من ملكية الدولة، والأموال الموروثة عمن لا وارث له. وإذا فَضُلت حقوق بيت المال على مصرفها بأن زادت الأموال التي في بيت المال عن النفقات المطلوبة منه يُنظر، فإن كان الزائد آتياً من الفيء صُرف للناس في أعطيات، وإن كان الزائد من الجزية والخراج أبقاه لما ينوب المسلمين من حادث ولا ينزل عنهم، لأن الحكم الشرعي أن تُفرض الجزية عن يدٍ وأن يُفرض الخَراج على الأرض بقدر احتمالها. وإن كان الزائد من الزكاة والركاز حُفظ في بيت المال حتى يوجد من الأصناف الثمانية من تُصرف له فتُصرف له حينئذ. وإن كان الزائد مما هو مفروض على المسلمين حَطَّه عنهم وأعفاهم من دفعه.



      نفقات بيت المال



      وُضعت نفقات بيت المال على ست قواعد:

      1- ما كان بيت المال له حرزاً، وهو أموال الزكاة، فإن استحقاقه لمن يُصرف لهم معتبَر بالوجود. فإن كان المال موجوداً فيه من ناحية الزكاة كان صرفه في جهاته –وهي الأصناف الثمانية المذكورة في القرآن- مستحقاً، ويجب أن يُصرف لهم، وعدم وجود المال مسقِط لاستحقاقه لمن يُصرف لهم، أي إن لم يكن المال موجوداً في بيت المال من ناحية الزكاة فلا يُصرف لأي واحد من الأشخاص الثمانية شيء من مخصصات الزكاة ولا يستدان على الزكاة لبينما تحصل جبايتها.

      2- أن يكون بيت المال مستحقاً له على وجه الإعالة وعلى وجه القيام بفرض الجهاد. وذلك كالإنفاق على الفقراء والمساكين وابن السبيل، وكالإنفاق على الجهاد. فاستحقاق الصرف لهذه الأمور غير معتبر بالوجود، وهو من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم، أي سواء أكان المال موجوداً في بيت المال أم لم يكن. فإن كان المال موجوداً وجب صرفه في الحال، وإن لم يكن موجوداً فإن خيف مفسدة من تأخير الصرف اقترضت الدولة المال لصرفه في الحال لبينما تجمعه من المسلمين ثم تسده، وإن لم تَخَف مفسدة طبقت فيه قاعدة )فنَظِرة إلى ميسرة(، فيؤخَّر حتى يُجمع المال ثم يعطى مستحقيه.

      3- أن يكون بيت المال له مستحقاً على وجه البدل، أي أن يكون المال مستحَقاً لأشخاص أدوا خدمة فأخذوا بدل هذه الخدمة مالاً، وذلك كأرزاق الجند ورواتب الموظفين والقضاة والمعلمين، وما شاكل ذلك. فاستحقاق الصرف لهذه الأمور غير معتبر بالوجود. وهو من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم، أي سواء أكان المال موجوداً في بيت المال أم لم يكن. فإن كان المال موجوداً وجب صرفه في الحال، وإن لم يكن موجوداً وجب على الدولة توفيره في أخذ ما يلزم له من المسلمين. فإن خيف مفسدة من تأخير الصرف اقترضت الدولة المال لصرفه في الحال لبينما تجمعه من المسلمين ثم تسده، وإن لم تَخَف مفسدة طبقت فيه قاعدة )فنَظِرة إلى ميسرة( فيؤخَّر حتى يجمع المال ثم يعطى لمستحقيه.

      4- أن يكون بيت المال مستحقاً، وأن يكون مصرفه مستحقاً على وجه المصلحة والإرفاق دون البدل، أي أن يكون مصرفه على أشياء دون أن يكون مقابلها أموال تحصل، وذلك كالطرقات والمياه وبناء المساجد والمدارس والمستشفيات وما شاكل ذلك من الأمور التي يعتبر إيجادها ضرورة من الضرورات، وينال الأمّة ضرر من عدم وجودها. فاستحقاق الصرف لهذه الأمور يعتبَر بالوجود، فإن وُجد في بيت المال وجب صرفه لهذه الأشياء، وإن لم يوجد في بيت المال انتقل وجوبه على الأمّة فيُجمع منها قدر الكفاية لسد صرف النفقات اللازمة ثم يجري الصرف عليها من بيت المال، لأن ما كان مصرفه مستحقاً على وجه المصلحة دون البدل، وعدم صرفه يوجِد الضرر، يكون استحقاقه معتَبراَ بالوجود دون العدم. فإن كان موجوداً في بيت المال وجب فيه وسقط فرضه عن المسلمين، وإن كان معدوماً سقط وجوبه في بيت المال، ووجب فرضه على المسلمين حتى تحصل الكفاية بتوفيره في بيت المال، فيصير واجباً على بيت المال.

      5- أن يكون بيت المال له مستحَقاً، وأن يكون مصرفه مستحقاً على وجه المصلحة والإرفاق دون البدل، إلاّ أنه لا ينال الأمّة ضرر من عدم وجوده. وذلك كفتح طريق ثانية مع وجود غيرها، أو فتح مستشفى ثان مع وجود غيره كافٍ يمكن الاكتفاء به، أو تعمير طريق يجد الناس غيرها طريقاً بعيدة، أو ما شاكل ذلك. فاستحقاق الصرف لهذه الأمور معتبَر بالوجود دون العدم. فإن وُجد في بيت المال مال وجب صرفه لهذه الأشياء، وإن لم يوجد في بيت المال مال سقط وجوبه عن بيت المال، ولا يجب على المسلمين دفع مال لأجله لأنه من الأساس لا يجب على المسلمين.

      6- أن يكون مصرفه مستحقاً على وجه الضرورة كحادث طرأ على المسلمين في مجاعة أو طوفان أو زلزال أو هجوم عدو، فاستحقاقه غير معتبر بالوجود، وهو من الحقوق اللازمة مع الوجود والعدم. فإن كان موجوداً وجب صرفه في الحال، وإن كان معدوماً صار فرضه على المسلمين، فيجب أن يُجمع من المسلمين في الحال، ويوضع في بيت المال ليصرفه عليه. وإن خيف الضرر من تأخير الصرف إلى الانتهاء من الجمع وجب على الدولة أن تقترض المال اللازم، وتضعه في بيت المال، وتصرفه في الحال على وجه استحقاقه ثم تسُد هذا الدين مما تجمعه من المسلمين.



      ميزانية الدولة



      الدول الديمقراطية تضع ميزانية عامة للدولة كل سنة. وواقع الميزانية للدولة الديمقراطية هو أن الميزانية تصدر في قانون اسمه قانون الميزانية لسنة كذا، يصدّقه البرلمان ويسنّه قانوناً بعد مناقشته ومناقشة فصول الميزانية فصلاً فصلاً والمبالغ التي يتضمنها كل فصل، ويعتبر كل فصل كلاً لا يتجزأ يجري التصويت عليه ككل لا على كل جزء منه فيقبله أو يرفضه جملة، وإنْ كان عند المناقشة له أن يناقش كل جزء من أجزائه وكل مبلغ من المبالغ التي يشتمل عليها. وقانون الميزانية يكون مؤلفاً من بضع مواد، منها مادة توضع لتبين المبلغ الذي يُرصد لنفقات الدولة خلال السنّة المالية التي وُضعت لها الميزانية، وتوضع مادة لتبين المبلغ الذي تخمَّن إيرادات الدولة به خلال السنّة المالية التي وُضعت لها الميزانية، وتوضع مواد لرصد مصروفات لبعض المؤسسات كما توضع مواد لتخمين واردات بعض المؤسسات، وتوضع مواد لإعطاء وزير المالية بعض الصلاحيات، وتوضع في كل مادة إشارة إلى جدول يتضمن أبواب الميزانية لما تتضمنه المادة سواء أكانت للواردات أو المصروفات، ثم توضع في كل جدول مفرداته، أي الفصول التي يتضمنها الباب، ثم يوضع في كل فصل المبالغ الإجمالية لمفردات الفصل جميعها. وعلى هذا الأساس توضع الميزانية كل سنة مع بعض اختلافات فرعية في بعض السنين حسب الوقائع المختلفة، أو مع بعض اختلافات فرعية بين الدول حسب الوقائع المختلفة.

      أمّا الدولة الإسلامية فلا توضع لها ميزانية سنوية حتى يحتاج الأمر سنوياً إلى سن قانون بها، ولا تُعرض على مجلس الشورى، ولا يؤخذ فيها رأي منه. وذلك لأن الميزانية في النظام الديمقراطي قانون في أبوابها وفصولها والمبالغ التي تتضمنها، وهو قانون لسنة واحدة. والقانون عندهم إنّما يسنّه البرلمان، ولذلك يحتاج الأمر إلى عرضها على مجلس البرلمان. وهذا كله لا تحتاج إليه الدولة الإسلامية، لأن واردات بيت المال تحصّل بحسب الأحكام الشرعية المنصوص عنها، وتُصرف بحسب أحكام شرعية منصوص عنها. وهي كلها أحكام شرعية دائمية، فلا مجال للرأي في أبواب الواردات ولا في أبواب النفقات مطلقاً، وإنما هي أبواب دائمية قررتها أحكام شرعية دائمية. هذا من ناحية أبواب الميزانية، أمّا من ناحية فصول الميزانية والمبالغ التي يتضمنها كل فصل، والأمور التي تخصص لها هذه المبالغ في كل فصل، فإن ذلك كله موكول لرأي الخليفة واجتهاده لأنه من رعاية الشؤون التي تركها الشرع للخليفة يقرر فيها ما يراه، وأمْرُه واجب التنفيذ.

      وعلى هذا لا يوجد أي مجال في الإسلام لوضع ميزانية سنوية للدولة كما هي الحال في النظام الديمقراطي لا بالنسبة لأبوابها ولا لفصولها ولا لمفردات الفصول، أو المبالغ التي تحتاجها تلك المفردات أو الفصول. ومن هنا لا توضع ميزانية سنوية للدولة الإسلامية، وإن كانت لها ميزانية دائمية قد حدد الشرع أبوابها بالنسبة للواردات والنفقات، وجعل للخليفة أمر تقرير الفصول ومفرداتها والمبالغ اللازمة لها حينما تدعو المصلحة، دون نظر إلى مدة معينة.



      الزكــاة



      يُعتبر مال الزكاة أحد أنواع الأموال التي توضع في بيت المال، ولكنها تختلف عن باقي الأنواع من الأموال من ناحية جبايتها، ومن ناحية المقدار الذي يجبى، ومن ناحية إنفاقها. فهي من حيث الجباية لا تجبى إلاّ من أموال المسلمين ولا تجبى من غيرهم، وهي ليست ضريبة عامة، وإنما هي عبادة من العبادات وتعتبر ركناً من أركان الإسلام. وهي مع كونها مالاً فإن دفعها يحقق قيمة روحية كالصلاة والصيام والحج، وأداؤها فرض عين على المسلم، ولا تعتبر جبايتها مسايرة لاحتياجات الدولة وحسب مصلحة الجماعة كباقي الأموال التي تجبى من الأمّة، بل هي نوع خاص من المال يجب أن يدفع لبيت المال، سواء أكانت هناك حاجة أم لم تكن، ولا تسقط عن المسلم متى وجبت في ماله، وتجب على المسلم المالك للنصاب فاضلاً عن ديونه وحاجته ولا تجب على غير المسلم، وتجب على الصبي والمجنون لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من ولي يتيماً فليتجر له ولا يتركه حتى تأكله الصدقة}؛ أي لا يتركه حتى لا يذهب ماله كله من دفع الزكاة عليه ولأنها تجب على المال المملوك للشخص فهي عبادة مالية لا عبادة جسدية.

      وأمّا من حيث المقدار الذي يجبى فإنه مقدار معين لا يزيد ولا ينقص، وقُدِّر بربع العشر في الذهب والفضة وعروض التجارة. ويؤخذ من مقدار معين من المال هو النصاب فما فوقه. وقدرُ النصاب مائتا درهم فضة وعشرون مثقالاً من الذهب، والمثقال من الذهب يساوي ديناراً شرعياً ووزنه عشرون قيراطاً. فإذا نقص المقدار عن النصاب فلا يؤخذ منه شيء. وأمّا الركاز ففيه الخُمس. وأمّا الحبوب كالقمح ونحوه، والمواشي كالإبل والبقر والغنم، فقد بيّن الفقهاء مقدار نصابها وما يؤخذ منها مفصلاً.

      وأمّا مصارف الزكاة ووجوه إنفاقها فهي محددة كذلك بحد معروف فلا تُصرف إلاّ للأصناف الثمانية الذين ذكرهم الله في القرآن الكريم في سورة التوبة )إنّما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلَّفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل(. أمّا الفقراء فهم الذين يملكون أموالاً ولكن نفقاتهم أكثر مما يملكون. والمساكين هم الذين لا يملكون أموالاً وليست لهم واردات، قال تعالى: )أو مسكيناً ذا متربة(. والعاملون عليها هم الذين يعملون بجبايتها وتوزيعها. والمؤلفة قلوبهم هم الذين ترى الدولة أن في إعطائهم من الزكاة مصلحة في تثبيتهم على الإسلام. وفي الرقاب وهم الأرقاء يُعطَون من مال الزكاة ليُعتقوا، وهذا الصنف غير موجود الآن إلاّ نادراً. والغارمون هم المدينون العاجزون عن سداد ديونهم. وفي سبيل الله أي الجهاد. وما ذُكرَت )في سبيل الله( مع الإنفاق في القرآن إلاّ وكان معناها الجهاد. وابن السبيل هو المسافر المنقطع. وما عدا هؤلاء الثمانية لا يجوز أن تُصرف لهم الزكاة. وكذلك لا يجوز أن تُصرف في شؤون الدولة الاقتصادية. وإذا لم يوجَد أحد من الأصناف الثمانية لا تُصرف الزكاة في باب آخر، وتُحفظ في بيت المال لتُصرف عند الحاجة إلى صرفها في وجوهها الثمانية وتُدفع للإمام أو نائبه لقوله الله تعالى: )خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها(، ولأن أبا بكر طالبهم بالزكاة ووافقه الصحابة على هذا، ولم يسألهم هل تدفعون للفقراء أم لا، وحين مَنعوا دفع الزكاة إليه قاتلهم عليها. والإمام هو الذي يعطيها لمستحقيها. حتى ولو كان الولاة ظلمة تُدفع لهم. رُوي عن سهب بن أبي صالح قال: {أتيت سعد بن أبي وقاص فقلت: عندي مال أريد أن أُخرج زكاته، وهؤلاء القوم على ما ترى فما تأمرني؟ قال: ادفعها إليهم. فأتيت ابن عمر فقال مثل ذلك فأتيت أبا هريرة فقال مثل ذلك فأتيت أبا سعيد فقال مثل ذلك}. ولا تعطى الزكاة لكافر مطلقاً سواء أكان ذمياً أم غير ذمي لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن: {فأعلِمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وتُرَد على فقرائهم} فخصّهم بصرفها على فقرائهم لمّا خصّهم بوجوبها على أغنيائهم. كما يجوز إعطاء الكافر صدقة التطوع مطلقاً، قال تعالى: )ويُطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً( ولم يكن الأسير يومئذ إلاّ كافراً.

    صفحة 2 من 3 الأولىالأولى 123 الأخيرةالأخيرة

    ضوابط المشاركة

    • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
    • لا تستطيع الرد على المواضيع
    • لا تستطيع إرفاق ملفات
    • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
    •